إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [60]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ركب الله تعالى في النوع الإنساني غريزة النكاح لتكون سبباً في التناسل وبقاء جنس الإنسان، ولكن هذه الغريزة قد تكون سبباً لاختلاط الأنساب وضياعها إن ترك لها العنان، فجاء الشرع الحكيم لينظم هذه الغريزة بعلاقة شرعية لها ضوابط وشروط تحقق حاجة الإنسان ومقصد الشرع من بقاء التناسل في بني آدم استمراراً للخلافة في الأرض.

    1.   

    مشروعية النكاح والحث عليه

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [كتاب النكاح:

    عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).

    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). التبتل: ترك النكاح، ومنه قيل لمريم: البتول.].

    تتعلق هذه الأحاديث بالترغيب في النكاح وبأفضليته، وسبب ذلك معروف:

    أولاً: الله سبحانه وتعالى جعل في البشر شهوة وميلاً إلى هذا النكاح، وجعل ذلك سبباً لبقاء النوع البشري والجنس الإنساني، فجعل في الرجل شهوة تدفعه إلى المرأة، وجعل في المرأة أيضاً شهوة تدفعها إلى الرجل، وجعل بين الزوجين مودةً ورحمة، كما أخبر بذلك في قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].

    وكثيراً ما يخبر الله تعالى بأنه خلق الأزواج لنسكن إليها، فأول ما خلق الله حواء لآدم قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، خلق الله زوج آدم من ضلع من أضلاعه ليسكن إليها، فلما وجد منها الأولاد بعد ذلك صاروا يتوالدون فيما بينهم، ثم بعد أن حصلت منهم هذه الولادة حرم نكاح الأخ لأخته بعد أولاد آدم، وأصبح النكاح فيما بينهم مشروعاً، فهذه سنة الله تعالى.

    ولا شك -أيضاً- أن الزواج قد يكون ضرورياً وواجباً، وذكر العلماء أن الزواج قد تتعلق به أكثر الأحكام، فيجب تارةً، ويسن تارةً، ويكره تارة، ويحرم تارة، فيقولون: إذا كان الإنسان قوي الشهوة يخشى على نفسه أن يقع في الفاحشة ويقدر على مئونة النكاح فإنه يجب عليه، فإذا لم يفعل فإنه يأثم، وذلك لأنه ترك واجباً، ولأنه إذا لم يفعل فلا بد أن يقع منه الحرام الذي هو الزنا أو مقدمات الزنا، والشيء الذي يوقع في الحرام يجب أن يبتعد عنه.

    فمن خاف على نفسه الزنا وكان قادراً قلنا: واجب عليك أن تتزوج، أما من لم يخف على نفسه ولكن عنده قوة وشهوة، وهو مع ذلك يملك نفسه ويقدر على إقناعها فهذا مستحب في حقه، ولكن لا يصل إلى حد الوجوب.

    فالحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام؛ فإنه له وجاء).

    فالنداء هنا للشباب، وخصهم لأنهم غالباً أقوى شهوة، ولأن غريزة الشهوة الجنسية فيهم تدفعهم إلى فعل الفاحشة أو إلى مقدماتها، ولأنهم أقل تجربة أو أقل معرفة أو أقل تأثراً، فلأجل ذلك يؤكد على الشباب يؤكد عليهم في الزواج المبكر ويرغبهم فيه.

    والشباب يكون ما بين العاشرة إلى الثلاثين سنة، أما ما قبل العاشرة فإنه صبي أو غلام، فإذا بلغ العاشرة سمي شاباً حتى سن الثلاثين، ثم من بعدها يصير كهلاً إلى الستين، ثم يبدأ بالشيخوخة بعد الستين.

    ومعلوم أن هذه السن التي بين البلوغ وبين الثلاثين سنة أن الشاب فيها عنده قوة الشهوة وقوة الغلمة والشبق الذي يكون غالباً يدفعه ويندفع به، فلأجل ذلك يؤكد عليه أن يتزوج في هذه السن حتى يحفظ نفسه.

    والباءة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي مئونة النكاح، وليست الباءة الشهوة؛ لأنه لو لم يكن له شهوة لم يحتج إلى ما يهونها أو يخففها، بل الباءة هي مئونة النكاح، يعني: من استطاع منكم مئونة النكاح كالمهر والنفقة والسكنى والحاجات التي يتطلبها إذا كان متزوجاً وما أشبه ذلك. فهذه تسمى (باءة) من المباءة التي هي التبوء، يقال: تبوء منزلاً مباءة. وباء بكذا بمعنى: حصل عليه.

    بمعنى أن من قدر منكم على المهر وعلى التكلفة وعلى النفقة وعلى التأثيث وعلى السكنى فإن عليه أن لا يتأخر عن الزواج، سواء أكانت قدرته من نفسه أم من ولي أمره الذي يتولى أمره كأبيه أو وصيه أو نحو ذلك، فليبادر بالزواج.

    فوائد النكاح

    ثم ذكر فائدتين للنكاح:

    الأولى: غض البصر.

    والثانية: تحصين الفرج.

    وغض البصر يعني خفضه عن النظر إلى النساء، وذلك لأنه إذا كان متزوجاً فإنه في الأصل يقتصر على النكاح الحلال، يقتصر على زوجته ولا ينظر إلى غيرها، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه في الغالب يهوى أن ينظر ويقلب نظره، ومعلوم أن تقليب النظر في النساء يورث الفتنه، فكم نظرة أورثت حسرة، فلأجل ذلك أمر الله بغض البصر، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

    فالزواج سبب في غض البصر، فالمرأة تغض بصرها فلا تنظر إلا إلى زوجها، والرجل يغض بصره لا ينظر إلا إلى زوجته، فيحصل بذلك مصلحة للطرفين، وأما مع عدمه فإن النظر قد يجره إلى ما وراءه، ولأجل ذلك ورد في الحديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس)، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك) يعني: إذا نظرت نظر فجأة من دون قصد فلا تتمادى بل اصرف بصرك، وقال في حديث آخر: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة).

    وقد تكاثرت الأدلة في أن النظر يسبب الوقوع في الفاحشة أو في مقدماتها، كما قال بعضهم:

    نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

    يعني أن أولها نظرة، ثم بعد النظرة تكون هناك ابتسامة بين الناظر والمنظور، أي: بين الرجل والمرأة، ثم بعد ذلك يأتي بسلام، ثم يعقب السلامَ كلامٌ، ثم بعد ذلك يكون هناك موعد يتفقان عليه، ثم يحصل اللقاء الذي لا تحمد عاقبته.

    ولا شك أن هذا مبدؤه من النظر، ولذلك يقول بعضهم:

    كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

    فلا شك أن الكثير من الناس قد يطلقون أبصارهم وينظرون إلى النساء وإن كانوا متزوجين، ولكن لا يفكرون في العاقبة السيئة التي تورثها تلك النظرة، وذلك لأن الذي ينظر إلى النساء ويقلب أحداقه نحوهن ليس قادراً على أن يشبع نهمته، وليس قادراً أيضاً على أن يحصل على كل من نظر إليها من النساء، فإذاً الأولى أن يغض بصره كما أمره الله بقوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30].

    وقد قال بعضهم:

    وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً عذبتك المناظر

    رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

    فهل تقدر على أن تتصل بكل من رأيتها من النساء، إذا رأيت هذه فأعجبتك ثم هذه ثم هذه فرأيت عشراً أو عشرين هل تستطيع أن تأتيهن كلهن وأن تتحصل عليهن كلهن بالطريق الحرام؟! لا تستطيع، إذاً فما عليك إلا أن تغض بصرك وأن لا تنظر إلا إلى ما أباح الله لك.

    فقوله عليه الصلاة السلام: (فإنه أغض للبصر) فيه الحث على غض البصر.

    الفائدة الثانية: تحصين الفرج، ومعناه: حفظه عن فعل الفاحشة التي هي الزنا ونحوه.

    فقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحصن للفرج) فيه حث أيضاً على حفظ الفرج عن الحرام.

    التحصين أصله: الحفظ، ومنه قوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [التحريم:12] يعني: حفظته. ومنه سميت المحصنات في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24] وقوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5] أي: المحصنات اللاتي أحصن أنفسهن وحفظن فروجهن.

    فلا شك أن الإنسان المؤمن إذا رزقه الله امرأة حلالاً اقتصر عليها وحفظ فرجه ولم يتعد إلى غيرها وكان معه إيمان يمنعه، أما إذا كان ضعيف الإيمان فإنه قد لا يقنع بما أباح الله له، ويشاهد في هذه الأزمنة كثير من الناس -والعياذ بالله- يكون عند أحدهم زوجة حلال ولكنه لا يقنع بزوجته، فتراه يذهب إلى الأسواق ومجتمعات النساء ويعاكس هذه ويغازل هذه ويتكلم مع تلك.

    وتراه أيضاً يتصل هاتفياً بفلانة وبابنة فلان ويعقد معها موعداً، يتصل بها اتصالاً محرماً والعياذ بالله، فلم يقنع بما أباحه الله له لأنه لم يكن معه حاجز إيماني، لم يكن معه تحصين إيماني، فالتحصين الإيماني هو الذي يحفظ الإنسان ويمنعه من اقتراف الحرام، لكن إذا كان شاباً ولم يكن معه زوجة فقد يكون عذره أخف إذا أطلق بصره أو نظره وإن كان ملوماً، لكن إذا رزقه الله إيماناً ورزقه نكاحاً حلالاً حصن فرجه وحفظه ولم يطلق بصره إلى ما حرم الله عليه.

    فهذا بلا شك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم رفيق بأمته، فلما علم أن الشباب هم أقوى شهوة وميلاً إلى النكاح حثهم عليه ورغبهم فيه، ونحن كذلك نحث شباب المسلمين على أن يبادروا بالزواج وأن لا يؤخروه، نحثهم كما حثهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول لهم: تزوجوا بحسب قدرتكم. ونقول أيضاً للأولياء: لا تحبسوا النساء ولا تؤخروهن، فإذا بلغن النكاح وأتاكم من هو كفءٌ كريم فلا تردوه فتحصل المفسدة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)، فهو عليه الصلاة والسلام حذر من رده إذا كان كفئاً مخافة أن تتعطل النساء إذا رد هذا الكفء، وكذلك يتعطل هذا الكفء، ويتعطل الشباب إذا رد هؤلاء وأولئك، فتحصل مفسدة عظيمة وهي انتشار الفاحشة أو مقدمات الفاحشة.

    1.   

    أعذار الشباب والفتيات في التأخر عن الزواج بين القبول والرد

    في هذه الأزمنة يكثر تعلل كثير من الشباب إذا عذلهم عاذل عن التأخر في الزواج، فمنهم من يعتذر بالحاجة وبالفقر، وأنه لا يجد مئونة، وهو معذور بقوله: (من استطاع منكم الباءة)، ولكن نقول له: ابذل السبب وتزوج، والله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب، قال الله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] أي: لا تردوه وتقولوا: هذا فقير. أو: ابن فقير أو ليس له وظيفة. أو: ليس له عمل. أو: ليس عنده تجارة أو نحو ذلك. بل ثقوا بأن الله تعالى سيرزقه وسيوسع عليه كما وعد بذلك، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.

    وقد شاهدنا كثيراً كانوا فقراء، ولما تزوجوا ورزقوا أولاداً جاءهم الرزق من كل جهة، يسر الله لهم أسبابه، وحصل لهم الرزق الذي يقوم بكفايتهم، وقد نهى الله تعالى عن قتل الأولاد خشية الفقر، فقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، فتكفل برزق الأولاد وبرزق الآباء، وهو لا يخلف ما وعده سبحانه، ولكن على الإنسان أن يبذل السبب.

    وكذلك الذين يؤخرون الزواج بسبب الحصول على مؤهل كما يقولون، ويقولون: إن الزواج قد يمنع من مواصلة الدراسة أو نحو ذلك فالجواب أن هذا ليس بصحيح، بل في إمكانه أن يدرس ويواصل الدراسة ولو كان متزوجاً، وإذا احتاج مثلاً فله أن يعمل، فإن ذلك أيضاً يخفف عنه مئونة النكاح ونحوه.

    وكذلك أيضاً لو تزوج وليس له وظيفة، فالله تعالى ييسر له أسباب الرزق، وهذا بالنسبة إلى الشباب والأزواج.

    أما بالنسبة إلى أولياء النساء فلا شك أن كثيراً من النساء الشابات تمتنع من الزواج بسبب الدراسة كما تزعم، وتدعي أنها إذا تزوجت حرمت من مواصلة الدراسة، وتعد ذلك فضيلة لها وشرفاً، فتترك الزواج من الأكفياء الكرام الذين يتقدمون لها ولا تقبلهم، وتقبل على دراستها، وبعد ما تنتهي من الدراسة لا يتقدم لها من هو كفء كريم، وقد تطعن في السن فتبقى محبوسة في دارها لا يأتيها من ترغب فيه ونحو ذلك.

    فنقول: لا شك أن هذا خطأ، وأن الأولى بالولي أن يزوج موليته، وأن يمنعها من الدراسة التي تكون سبباً في عنوستها وتأخر زواجها التأخر الكثير.

    كذلك أيضاً قد يكون الذي يمنع من النكاح للرجل أو للولي هو المهر؛ لأن كثيراً من الآباء يشترطون مهوراً زائدة، ويكلفون الأزواج شيئاً قد لا يطيقونه، وهذا أيضاً خطأ، فعلى الأولياء أن لا يكلفوا الأزواج ما لا يطيقونه، وأن يقتصروا على ما يسر الله، وأن يقنعوا بالشيء الذي يكون مسمى في النكاح كما سيأتي، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء أيسرهن مئونة) يعني: أيسرهن تكلفه.

    فرغب في أن لا يتكلف الإنسان في النكاح، وروي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل وقد تزوج فطلب منه الإعانة فقال: (على كم تزوجت؟ فقال: باثني عشر أوقية. فأنكر عليه وقال: كأنما تنحتون الفضة من هذا الجبل! ليس عندي ما أعينك به) واثنا عشر أوقية شيء قليل، قد تساوي -مثلاً- خمسمائة درهم أو نحوها، فهذا شيء يسير.

    وثبت أيضاً أن امرأة تزوجت على نعلين، دفع لها زوجها نعلين فرضيت بذلك، وقيل لها: رضيت من نفسكِ بنعلين؟ فقالت: نعم. وثبت أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل لما خطب امرأة: (التمس ولو خاتماً من حديد) يعني: لو وجده لجعله مهراً لتلك المرأة. ولما لم يكن عنده شيء قال: هذا إزاري. لم يكن عنده إلا إزار قد شد به على عورته، وأراد أن تجعله مهراً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل ذلك منه وقال: (ما تصنع بإزارك إن لبسته أنت لم يكن عليها شيء، وإن لبسته هي لم يكن منه عليك شيء)، وأمره بأن يعلمها آيات من القرآن ليكون ذلك صداقاً لها.

    أليس ذلك كله حثاً على أن الإنسان يخفف المهر حتى لا يكلف غيره ولا يقتدي به غيره، وأن الأولياء عليهم أن يخففوا ذلك حتى ييسروا على الشباب، وييسروا على الشابات ولا يصيروا سبباً في حبس بعضهم عن بعض، ويكونوا سبباً في وقوع ما يحصل من المفاسد.

    1.   

    ما تندفع به الشهوة لغير القادر على الزواج

    وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) حث صلى الله عليه وسلم على ما يخفف الشهوة، فأمره بأن يصوم حتى يكون الصوم مخففاً للشهوة، والوجاء في الأصل: هو قطع عروق الخصيتين حتى تخف الشهوة. فكانوا إذا أرادوا أن يخففوا من الكبش حتى لا ينزو على الضأن ونحوها قطعوا عروق خصيتيه حتى تبرد شهوته أو تقل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصوم كأنه وجاء وخصاء، وهو قطع عروق الخصيتين من الكبش أو التيس ونحوه، أي أن الصوم يخفف الشهوة كما أن الوجاء يخفف الشهوة.

    وقد ذكر لنا كثير من الشباب أنهم يكثرون الصوم ومع ذلك لم يجدوا خفة في الشهوة، بل الشهوة لا تزال عندهم قوية، والغلمة والشبق دافع قوي، ويقول أحدهم: إنه يضطر إلى الاستمناء -وهو عمل العادة السرية- حتى لا تدفعه الشهوة إلى فعل جريمة الزنا أو نحوها، ويقول: ما وجدت للصيام أثراً لتخفيف الشهوة.

    نقول: سبب ذلك أولاً: قوة الشهوة في بعض الشباب، حيث تكون الشهوة عندهم قوية جداً.

    ثانياً: أن هناك مقويات لها، فلا شك أن كثرة المآكل وتنوع الأطعمة وكثرة اللحوم وأكل الفواكه وما أشبهها مما يقوي الشهوة، وكان الصوم في القديم مختلفاً عن وقتنا، كان الصائم إنما يجد العلقة من الطعام، فيأكل في وقت السحر لقيمات أو تمرات قليلة، ثم هو في وسط النهار يشتغل إما في حرفته أو مع غنمه أو نحو ذلك، ثم إذا جاء الإفطار لم يجد إلا تمرات أو ماءً أو نحو ذلك، وعند العشاء إنما يأكل رغيفاً أو نصف رغيف فيكون هذا الجوع هو الذي يكسر حدة الشهوة.

    فنقول: الذي يريد أن تنكسر حدة الشهوة عليه أن يقلل من الأكل عند الإفطار وفي السحور وفي الليل، وأن يتجنب المشتهيات وكثرة الفواكه واللحوم المتنوعة وأنواع المأكولات الشهية، فإنها لاشك تقوي هذه الشهوة وتمكنها، فلا يخففها الصيام الذي لا يحصل معه هذا الجوع ولا هذا التعب ولا هذه المشقه.

    وعلى كل حال فهو إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يخفف الشهوة، إلى أن يتمكن الإنسان من النكاح الذي يعف به نفسه، فعلينا أن نحرص على أن نعف شبابنا وفتياتنا، وأن نجمع بينهم بالأسباب التي تكون ميسرة، وأن نحرص على ذلك حتى لا تحصل هذه الجريمة التي هي فاحشة الزنا، وحتى يجد الشباب ما يعفون به أنفسهم ويسلمون من العادة السرية أو نحوها، وحتى يحصل ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بقوله: (فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) أي: من أجل تكثير النسل في الأمة التي هي أمة المسلمين، الذين يباهي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة.

    1.   

    فضل النكاح وأهميته

    [عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

    وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولوا أذن له لاختصينا).

    حكم الزهد في النكاح وغيره من الطيبات

    هذان الحديثان في مناسبة فضل النكاح الذي هو من سنن المرسلين، وقد تضمن الحديث الأول أن هؤلاء الثلاثة من زهاد الصحابة أتوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته في السر، أي: عن صلاته وعن صيامه وعن ذكره وعن قراءته وعن أدعيته وعن أعماله. فكأنهم تقالوا تلك العبادة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن بحاجة إلى أن نعمل أكثر منه؟! فلأجل ذلك التزموا بهذه الأعمال.

    التزموا بأعمال يريدون بها الأجر والثواب وكثرة الجزاء عليها، فالتزم أحدهم بأن يصوم أبداً ولا يفطر، وهذا بغير شك فيه كلفة ومشقة على نفسه، والتزم الثاني بأن يقوم الليل كله ولا ينام ولا يضطجع طوال الليل، بل يبيت مصلياً، والتزم الثالث بأن لا يتزوج النساء، بأن يعف عن النساء زهداً وتقشفاً.

    وفي بعض الروايات أن بعضهم قال: (لا آكل اللحم) تقشفاً وزهداً في الدنيا وتركاً لملذاتها، وبعضهم حرم على نفسه أن لا ينام على فراش، وهذا من باب البعد عن الملذات وعن الشهوات ونحوها.

    ولا شك أن قصد أولئك النفر الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم هو كثرة الأجر وزيادة الثواب، فالذي التزم أن يصوم أبداً رأى أن الصيام دائماً عمل صالح مبرور، فأراد أن يحظى بأجر هذا الصيام المستمر، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في ذلك مشقة على النفس، وأن فيه تحريماً للمباحات ونحوها، وكذلك الذي التزم أن لا ينام بل يصلي الليل كله، أو إذا نام لا ينام على فراش لاشك أنه قد يشق على نفسه وقد يتعبها ويكلفها ما لا تطيق، فلأجل ذلك أرشده النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد غيره إلى أن هذا فيه تكليف للنفس وإضرار بها ومشقة شديدة عليها.

    وكذلك الذي حرم اللحم على نفسه أو الخبز وغيرهما من الأطعمة المباحة التي جعلها الله قوتاً ضرورياً للمسلمين، بل لجنس بني آدم، لاشك أن تحريمه تحريم للطيبات التي قال الله فيها: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة:4]، فإذا كان الله قد أحل الطيبات ومن جملتها اللحوم، وأخبر بأنه لم يحرم الزينة ولم يحرم الطيبات فقال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:32] أي: الطيبات التي أنزلها والتي أباحها لعباده.

    فمن حرم الطيبات من الأرزاق ومن المآكل والمشارب ونحوها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم قد حرموا ما أحل الله.

    وكذلك الذي حرم على نفسه النكاح أن لا يتزوج، فلا شك أنه إذا ترك الزواج من باب التقشف ومن باب الزهد فإنه يكون قد كلف نفسه، وما ذاك إلا أن الله تعالى ركب في جنس الإنسان هذه الشهوة التي تدفعهم إلى النكاح، وجعل ذلك سبباً لوجود جنس الإنسان وبقاء هذا النوع البشري، فالذي يمتنع من النكاح لا شك أنه يكلف نفسه ويشق عليها، حيث قد تتكلف النفس بالتصبر على رد هذه الشهوة الجنسية التي فطر الناس عليها، إذاً فتحريم النكاح وتحريم التزوج بالنساء لا شك أنه إضرار بالنفس، وكذلك مخالفة لشريعة الله سبحانه ولما أباحه. وهناك بعض الأدلة على فضل النكاح، وكذلك أيضاً الأوامر والأدلة عليه، كقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وقوله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] وقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، وقوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ [المائدة:5] وقوله تعالى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]، ونحو ذلك، كل ذلك دليل على أن الله تعالى أباح هذا الأمر وجعله فطرة وجعله من الدوافع إلى بقاء هذا الجنس البشري.

    هؤلاء الثلاثة الذين حرموا هذه الأشياء لما سمع عنهم النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. ثم قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

    وعيد شديد (من رغب عن سنتي) أي: من زهد عن سنته عليه الصلاة والسلام. ولا شك أن هذه الأشياء المذكورة في الحديث من سنته، من سنته أنه لا يحب أن يشق على النفس، ومن سنته مشروعية النكاح والزواج وإباحته، ومن سنته إباحة الطيبات من المآكل والمشارب، ومن جملتها اللحوم والخبز والفواكه ونحوها، ومن سنته استحباب النكاح ليعف الإنسان نفسه عن التطلع إلى الحرام ونحوه، ومن سنته أن الإنسان يصوم بحسب ما يستطيعه ولا يكلف نفسه فوق طاقتها، وأن يقوم من الليل بحسب ما يقدر عليه، ولا يكلف نفسه فوق طاقتها.

    مآل التشديد على النفس بالعبادة

    وقد ثبت -أيضاً- في الصحيح قصة أخرى قصة عبد الله بن عمرو بن العاص ، وكان في شبابه عابداً مجتهداً في العبادة، حتى كان يختم القرآن في كل ليلة، ويصوم النهار كله ولا يفطر، فلما زوجه أبوه مكث مدة وهو يسأل امرأته يقول: (ما فعل؟ فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً) أي أنه لم يطأها ولم يجامعها ولم يجلس معها ولم ينم معها. وذلك كله بسبب اشتغاله بالعبادة اشتغاله بالصيام والقيام والاجتهاد في الطاعة حرصاً منه على أن يكون من السابقين في العبادة، ولكن استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف تصوم؟ فقال: كل يوم. فقال: إنك لا تطيق، فصم من الشهر ثلاثة أيام وذلك يكفيك؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك كصيام الدهر. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك -يقول عبد الله : شددت فشدد عليّ- فقال: صم يوماً وأفطر يومين. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال: صم يوماً وأفطر يوماً، وذلك صيام داود. يقول عبد الله : فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال: لا أفضل من ذلك) يقول بعد أن كبر: تمنيت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم في صيام ثلاثة أيام، وذلك لأنه بعد ما كبر أحس بالمشقة عليه.

    كذلك في القيام أرشده إلى أن يختم كل سبعة أيام، يقرأ سبع القرآن في ليلة، ويختم كل سبعة أيام ولا يزيد، وأن يجعل لأهله حقاً فقال: (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) فقبل ذلك، وعند ذلك خفف على نفسه.

    وعلى كل حال فهذا دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يشدد على نفسه بالعبادة، ولا أن يشدد على نفسه بترك الزينة أو ترك الشهوات المباحة، ومن جملة الشهوات المباحة النكاح الذي أباحه الله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في النكاح وغيره من المباحات، ونهى عن التشدد فيها.

    نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل

    أما قصة عثمان بن مظعون فـعثمان رضي الله عنه توفي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من المهاجرين ومن العباد ومن الزهاد، فهو لما هاجر شدد على نفسه وكلفها، واعتزل امرأته وكانت له امرأة جميلة، فبقيت معه مدة طويلة لا يسأل عنها ولا يشتغل إلا بالعبادة، فلما رآها النساء وهي متبذلة غير متجملة لباسها خشن وشعرها شعث سألنها فأخبرتهم بأن زوجها لا حاجة له في النساء، وأنه يريد أن يتبتل، أي: ينقطع إلى العبادة ويترك الشهوات ويترك النساء والتلذذ بهن، وعزم على ذلك.

    لما سمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك ورده عليه، وقال: (لا يحل لك؛ فإن امرأتك لها حق عليك، ونفسك لها حق عليك)، فليس لك أن تحرم نفسك شهوتها ولذتها، ولا أن تحرم نفسك ما ينتج عن هذا النكاح من إعفاف امرأتك، وكذلك من ذرية صالحة يكونون بعدك يذكرونك بذكر حسن ونحو ذلك.

    فعند ذلك رجع إلى امرأته، ولما رجع إليها رجعت إلى جمالها وإلى زينتها، وقد كان بعض من الصحابة أرادوا أن يتبتلوا كما تبتل عثمان، ولو أذن النبي عليه الصلاة والسلام لـعثمان بن مظعون بالتبتل لكثر المتبتلون من الصحابة، فعلموا -أيضاً- أنهم لا يمكن أن يتركوا الشهوة الجنسية التي هي غريزة في الإنسان إلا إذا قطعوا الجهاز التناسلي الذي هو السبب في هذه الشهوة، وهو معنى قوله: (ولو أذن له لاختصينا) أي: لتبتلنا. ولا يكون التبتل إلا بالاختصاء، أي: قطع الخصيتين أو قطع عروقهما، وهو الوجاء كما تقدم.

    وقد روي أيضاً أن جملة من الصحابة منهم: عثمان بن مظعون وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود وغيرهم أرادوا أن يتبتلوا وأن ينقطعوا عن الدنيا، وهموا بالاختصاء، وهموا بأن يحرموا طيبات الدنيا وملذاتها وشهواتها على أنفسهم، وأن ينقطعوا للعبادة وأن يعزموا عليها، فنزل فيهم قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87] فعند ذلك رجعوا إلى ما أحل الله لهم، وتمتعوا بالطيبات، ولم تشغلهم تلك الطيبات وتلك المباحات عن العبادة، بل جمعوا بين اللذات المباحة وجمعوا بين العبادة وقاموا بها خير قيام.

    وهكذا حال أتباعهم إلى هذا الزمان، يستطيع المسلم أن يجمع بين العبادة التي كلف بها سواء كانت فرضاً أو نفلاً، ويتناول أيضاً ما أبيح له من الشهوات المباحة ومتع هذه الحياة.

    1.   

    حكم نكاح أخت الزوجة والربيبة وابنة الأخ من الرضاعة

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه.

    [عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما أنها قالت: (يا رسول الله! انكح أختي ابنة أبي سفيان. فقال: أوتحبين ذلك؟ فقلت: نعم. لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة ؟! قلت: نعم. قال: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي؛ إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن).

    قال عروة: (وثويبة مولاة أبي لهب ، كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة، فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب : لم ألق بعدكم خيراً، غير أني سقيت من هذه بعتاقتي ثويبة). الحيبة -بكسر الحاء المهملة-: الحال.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها)].

    أم حبيبة هي إحدى أمهات المؤمنين بنت أبي سفيان أخت معاوية ، كانت من المسلمين الأولين، هاجرت مع المهاجرين إلى الحبشة، وتوفي زوجها هناك وبقيت في الحبشة، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها حتى تكون من أمهات المؤمنين، مع أن أباها كان في ذلك الوقت من المحاربين للإسلام، ولكن أراد تثبيتها، وأراد تسليتها فتزوجها، فأرسل من يخطبها له، أرسل عمرو بن أمية الضمري ، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وأصدقها عنه النجاشي ملك الحبشة أربعمائة دينار، وجاء بها عمرو بن أمية من الحبشة إلى المدينة، حيث لم يكن لها محرم بعد موت زوجها في ذلك الوقت؛ لأن أهلها لم يسلموا ولم يهتموا بأمرها، فاضطر إلى أن يرسل إليها من يأتي بها، فأصبحت من أمهات المؤمنين.

    ولما كان الصلح بين المسلمين وبين أهل مكة، ونقض أهل مكة الصلح بقتالهم مع بني بكر لخزاعة، وخافوا أن يكون ذلك نقضاً للعهد والصلح في الحديبية جاء أبو سفيان إلى المدينة، وأراد أن يجدد الصلح ويزيد في المدة، فدخل على ابنته التي هي أم حبيبة ، ولما دخل عليها طوت فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسته على الأرض، فقال: يا بنية هل رغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ أي: هل أنتِ قد نزهتيني عن هذا الفراش؛ لأنه لا يناسب، أو نزهتيه عني؟ فقالت: (هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك، فلا أجلسك عليه) فقال: لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ولكن هداه الله بعد ذلك وأسلم في سنة الفتح، ولما أسلم كان لها أخت أيضاً لم تتزوج.

    ففي هذا الحديث أنها عرضت عليه أختها وقالت: ألا تتزوج أختي؟ أي: تتزوجها معي. فسألها: لماذا ترغبين أن أتزوج أختكِ؟ فقالت: (إني لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي) تقول: أنا لم أكن وحدي معك، بل معي شريكات، فهناك زوجاتك قد شاركنني فيك، ويمكن أن يوجد أيضاً زوجات أخرى يشاركنني، فلست بمنفردة بك ولست بمخلية لك، ولست بمخلىً لي، بل لابد من شركاء، فإذا كان لابد هناك من يشاركني فأحب من يشاركني في هذا الخير هي أختي. هكذا اعتذرت، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لا يحل، كما أن الله حرم الجمع بين الأختين على المؤمنين، فكذلك حرمه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى في آية المحرمات: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23].

    فلما ذكرت أختها وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل له الجمع بين الأختين كما لا يحل لغيره ذكرت أمراً أعجب، وقالت: (فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. وأبو سلمة هو من المهاجرين أيضاً، هاجر إلى الحبشة ثم رجع إلى المدينة وتوفي بالمدينة، ولما توفي كان له أطفال، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمهم أم سلمة ، وبنته زينب بنت أبي سلمة وأولاد غيرها تربت معهم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيهم، فـزينب بنت أبي سلمة ربيبة للنبي صلى الله عليه وسلم بنت زوجته وربيبته وفي حجره، فتقول أم حبيبة: (إنك تريد أن تنكحها) فتعجب من ذلك، وأخبر بأنه لا يحل له، حتى ولو لم تكن ربيبة له ولو لم تكن في حجره ولو لم تكن بنت زوجته، فإن هناك مانعاً آخر وهو الرضاعة، يقول: (إنها ابنة أخي من الرضاعة). فـأبو سلمة كان قد أرضعته ثويبة وهي جارية لـأبي لهب يقول: (أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ).

    فإذا كانت قد أرضعت أبا سلمة وأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصبحا أخوين؛ لأنهما رضعا من امرأة واحدة، وإن لم تكن والدة أحدهما بل امرأة أخرى، فأفاد أن الاثنين إذا ارتضعا من لبن امرأة أجنبية صارا أخوين وصارت المرضعة أماً لهما من الرضاعة، فهذه ثويبة كانت مملوكة لـأبي لهب ، ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم جاءت وبشرته بأنه ولد لأخيك ولد، فأعتقها بهذه البشارة، ولما أعتقها صارت حاضنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصارت مربية له، وأرضعته في سن الرضاعة، وأرضعت معه أيضاً أبا سلمة ، وهي من الجواري اللاتي أسلمن في أول الأمر.

    وفي هذه القصة أن أبا لهب لما مات رآه بعض أهله بعد موته رأوه في شر حِيبة، أي: في شر حالة، فسألوه، فقال: لم ألق بعدكم خيراً، إلا أني سقيت من هذه بعتاقي لـثويبة ) وأشار إلى النقرة التي بين الأصبعين فقال: (سقيت من هذه بعتاقي لـثويبة؛ لأن الله تعالى ذكر أنه من أهل النار بقوله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3].

    والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم قال لـأم حبيبة : (لا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن)؛ فإنهن لا يحل له نكاحهن، فلا تعرضي يا أم حبيبة أختكِ عليّ لكون الجمع بين الأختين محرماً، ولا تعرضي يا أم سلمة ابنتك -مع أن أم سلمة لم تعرض ذلك- فإنها لا تحل لي لكونها ربيبتي وبنت أخي -أيضاً- من الرضاعة، وبهذا يعرف أن المحرمات علينا محرمات على النبي صلى الله عليه وسلم، والمباح لأمته مباح له، ولأجل ذلك قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ.. [الأحزاب:50] ، ثم ذكر منهن فقال: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ [الأحزاب:50]، فهؤلاء يحل نكاحهن له وكذا لغيره، يحل لك نكاح بنت عمك وبنت عمتك، وبنت خالك وبنت خالتك، فكذلك تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، كما تحل لك زوجة أخيك بعد طلاقه وزوجة عمك وزوجة خالك بعد طلاقه لها.

    وفي حديث أم حبيبة دليل على أن الرضاع يصير سبباً في التحريم، وأن الجمع بين الأختين لا يجوز.

    1.   

    حكم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها

    في الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها)، فأفاد بأنه لا يجوز أن يجمع الرجل بينهما، الله تعالى نهى عن الجمع بين الأختين، والنبي صلى الله عليه وسلم أضاف إلى ذلك النهي عن الجمع بين المحارم، بحيث لو كانت إحداهما تحته لم يحل له نكاح الثانية، فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنت أخيها، إذا كانت عندك امرأة لا يحل لك أن تنكح عمتها، ولا أن تنكح خالتها حتى تطلق زوجتك، ولا أن تنكح بنت أخيها، ولا بنت أختها، ما دامت زوجتك عندك يحرم عليك هؤلاء الأربع.

    أما اللاتي يحرمن عليك من أقاربها ويصرن محرماً لك فهن بنتها وأمها، إذا تزوجت امرأة فإن أمها تصير محرماً لك دائماً، وبنتها بالدخول تصير محرماً لك دائماً، وأختها محرمة عليك ما دمت متزوجاً لأختها، وعمتها كذلك محرمة عليك ما دامت بنت أخيها في عصمتك، وخالتها محرمة عليك ما دامت بنت أختها في عصمتك، وكذلك بنت أخيها وبنت أختها، فهؤلاء قريبات زوجتك سبع: أمها حرام عليك أبداً وبنتها كذلك بعد الدخول، أما عمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها فهؤلاء يحل لك نكاحهن بعد فراق زوجتك، وأما معها فلا، وأختها نص الله عليها، وعمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها نص عليهن النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح قريبات زوجتك الخمس تحريمهن تحريماً مؤقتاً، أما بنتها وأمها فتحريمهما مؤبد.

    الحكمة من تحريم الجمع بين الأختين والمرأة وعمتها وخالتها

    الحكمة في ذلك ما ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)، وسبب ذلك معلوم أن الضرتين يصير بينهما منافسة، إذا كان للرجل زوجتان فالغالب أنه يقع بينهما منافسة، كل واحدة قد تحسد الثانية، وقد تضارها، وقد تفتخر عليها ونحو ذلك حتى تسوءها، وذلك لأنها شريكتها في هذا الرجل، فلأجل ذلك سميتا ضرتين.

    فإذا كانت الأختان تحت رجل واحد فلابد أن يقع بينهما شيء من هذه المنافسة وشيء من هذا الحسد، فتحصل بذلك قطيعة الرحم، والله تعالى قد رتب على قطيعة الرحم وعيداً شديداً حيث قال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].

    فلأجل ذلك نقول: إن الحكمة في النهي عن الجمع بين هذه المحارم كونه سبباً لقطيعة الرحم، فالأم والبنت تحريمهما مؤبد، ومعلوم أنه لا يتصور الجمع بين المرأة وأمها أو بنتها، والأخت تحريمها مؤقت منصوص عليه في القرآن، ومعلوم أيضاً أنه سبب للتقاطع بين الأختين، وكذلك إذا تزوج امرأة وعمتها فإنه سيحصل بينها وبين عمتها منافسة، كذلك إذا تزوج امرأة ثم تزوج عليها بنت أخيها، حصل أيضاً بينهما منافسة؛ لأن هذه تقول: هذه بنت أخي، وهذه تقول: هذه عمتي. فكيف يحصل الوئام والوداد وهما ضرتان تحت رجل واحد؟ لاشك أن هذا سبب للمنافسة وسبب لقطيعة الرحم.

    وكذلك إذا تزوج عليها خالتها أو بنت أختها فإنه سيحصل بينهما أيضاً هذه الإثم الذي هو التقاطع، والإسلام جاء بالمودة، وجاء بالمحبة، وجاء بالصلة، ونهى عن كل شيء فيه تقاطع، فهذا هو السبب، فهذا الحكم يختص بالمحارم.

    1.   

    حكم الجمع بين المرأة وابنتها وأختها أو عمتها أو خالتها من الرضاعة

    ثم إن العلماء ألحقوا بذلك القرابة من الرضاع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فهذه المحرمية من النسب لا شك أن لها تأثيراً، فكذلك يلحق بها المحرمية من الرضاع، فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنتها من الرضاع، أو أمها من الرضاع، أو أختها من الرضاع، حتى وإن لم يكونا بنتي امرأة واحدة، إذا كان هناك ابنتان إحداهما رضعت من امرأة والثانية رضعت من تلك أيضاً وكلتاهما متباعدتان فإنه لا يحل لك أن تجمع بينهما لكونهما اختين من الرضاع، وكذلك المرأة وعمتها من الرضاع، إذا كانت مثلاً أخت أبيها من الرضاع لم تحل لك أن تنكحها مع زوجتك، وكذلك بنت أخيها من الرضاع، وكذلك خالتها، أو بنت أختها من الرضاع، كل هؤلاء لا يحل الجمع بينهن لهذه الحكمة، وهي قوله: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم).

    1.   

    حكم الشروط في عقود النكاح

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج).

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار) والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق.

    وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية)].

    قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) المراد: الشروط التي يشترطها أحد الزوجين على الآخر، أو يشترطها الولي على الزوج له فيها مصلحة، فهذه الشروط التزامات يلتزمها الزوج أو تلتزمها الزوجة أو الولي، فيجب الوفاء بها، وإذا لم يوف بها فإن لكل منهما طلب الفسخ ونحوه.

    1.   

    أقسام الشروط في النكاح

    وقد توسع العلماء في تقسيم الشروط وذكروا ما يجوز منها ومالا يجوز، فذكروا في كتب الفقه باباً بعنوان: باب الشروط في النكاح، وقالوا: إنها إما أن تكون من قبل الزوجة أو من قبل الزوج أو من قبل الولي، أو نحو ذلك.

    الشروط الشرعية والأحكام المتعلقة بها

    لا شك أن هناك شروطاً شرعية لا حاجة إلى ذكرها في العقود، وذلك اكتفاءٌ بما ذكر الله تعالى في كتابه، قال الله تعالى: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، فهذا شرط شرطه الله على الزوج وهو أن يمسك زوجته بمعروف، ولو لم يذكر هذا الشرط عند العقد أو يسرح زوجته بإحسان.

    وقال تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]، وفي آية أخرى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2]، فهذا شرط شرعي.

    ومن الشروط الشرعية أيضاً قيام الزوج بنفقة زوجته، ولو لم يذكر في العقد، قال تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، فالزوج يقوم بكسوة امرأته وكذلك بنفقتها.

    ومن الشروط أيضاً السكنى، قال تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ [الطلاق:6]، فهذه لاشك أنها شروط شرطها الله تعالى.

    ومن الشروط أيضاً العشرة الطيبة، قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] والعلماء جعلوا باباً في كتاب النكاح بعنوان (باب العشرة بين الزوجين)، أو (باب عشرة الزوجين)، وقالوا: إن كلاً منهما عليه أن يحرص على هذه العشرة بالمعروف، وذلك بأن يلين جانبه لامرأته وكذلك هي، ويبسط إليها وجهه وكذلك هي، ويلين قوله وكلامه ويحسن خلقه ويصفح عن الهفوات والأخطاء التي تقع منها أو منه، وكذلك يستعمل الأخلاق الفاضلة والآداب الدينية الطيبة، وهكذا أيضاً يستعمل الصدق والوفاء، ويبتعد عن الشقاق واللعن والسب وتتبع العثرات والعورات وما أشبه ذلك، فهذا من العشرة التي أمر الله بها.

    الشروط الجائزة والممنوعة في عقد النكاح

    معلوم أن الشروط التي يشترطها الزوج أو تشترطها الزوجة يكون فيها شيء من المصلحة لكل منهما، فعليه أن يفي بهذه الشروط لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً).

    وهناك شروط قد نهي عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشترط المرأة طلاق ضرتها لتكفأ ما في إنائها)، ومعناه: إذا خطب رجل امرأة فلا تقل: بشرط أن تطلق امرأتك.

    وكذلك لو عرضت نفسها عليه وقالت: تزوجني بشرط أن تطلق امرأتك. لا يجوز هذا؛ لأنه تفريق بين الزوجين، وأما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس، وقد اختلف العلماء في بعض الشروط، فمنها إذا شرطت الزوجة أن لا يتزوج عليها، فهل لها ذلك؟ بعضهم يقول: لا يصح، وذلك لأنه شرط حرم حلالاً، وبعضهم يقول: بل هو شرط لها فيه مصلحة؛ لأن عليها مشقة من وجود ضرة تضايقها؛ فإن الزوجة الثانية تسمى: ضرة، وهي لا تحرم الحلال وإنما تقول له: هذا شرطي لا أرضى بزوجة ثانية، فإن رضيت بي زوجة وإلا فطلقني وتزوج من تريد.

    فعلى هذا يوفي بهذا الشرط، إذا شرطت أن لا يتزوج عليها، إذا شرطت عليه ذلك والتزم به، فهو بالخيار إذا أراد الزواج إما أن يترك الزواج وإما أن يطلقها ويتزوج.

    أما إذا شرطت شيئاً لها فيه مصلحة، كأن يسكنها بقرب أبويها، أو أن لا يخرج بها من بلادها أو مدينتها التي نشأت فيها فإن لها في هذا الشرط مصلحة فيلزمه أن يوفي به لدخوله في هذا الحديث، وقد روي عن بعض الصحابة أنهم أباحوا له أن يسافر بها ولو شرطت أن لا يخرجها، وقالوا: حق الزوج أقدم. ولكن معلوم أنها قد تلقى مضايقة إذا سافرت إلى بلد آخر أو تلقى حرجاً، أو تفقد من يؤنسها أو نحو ذلك، فلها مصلحة في ذلك.

    وهناك الشرط الذي فيه ظلم وجور، كما لو اشترطت أن يقسم لها أكثر من ضرتها، أن يعطيها -مثلاً- ليلتين وللأخرى ليلة، فهذا شرط فيه جور وظلم، أو شرطت أن يزيد لها في النفقة على ضرتها أو على بني جنسها، وكذلك في الكسوة ونحوها، فإن مثل هذا أيضاً فيه مشقة، وفي هذه الأزمنة تقع شروط من الولي ونحوه ولا بأس بها، فمثلاً تكون طالبة في إحدى المدارس أو الجامعات، فإذا شرطت أن تواصل دراستها فإن هذا شرط لها فيه مصلحة، فعليه أن يفي بهذا الشرط، وكذلك إذا كانت عاملة كمدرسة وشرطت أن تبقى في وظيفتها فإن لها ذلك ويلزمه الوفاء به؛ لدخوله في هذا الحديث، وإذا شرطت أن تكفى المئونة فإن لها ذلك.

    وقديماً كانت تشترط المرأة أمة تخدمها، فيشتري لها أمة تقوم بخدمتها، لكن في هذه الأزمنة انقطع الرق فلا يوجد إماء مملوكات، واعتاد الناس باستقدام الخدم من البلاد النائية، فصارت الزوجة تشترط أن يأتي لها بخادمة، وفي هذا شيء من الإحراج والمضايقة، ولكن إذا التزم بذلك فإنه يوفي لها بذلك، مع ما في ذلك من الحرج أو ما فيه من الحرام، أما شرط الزيارة لأبويها أو لأخوتها ونحو ذلك، أو شرط كفالة أولادها وحضانتهم من غيره فإن هذا أيضاً من المصالح التي فيها صلة للرحم، وفيها قيام بحقوق الأقارب، فعليه أن يفي بمثل هذه الشروط.

    حقوق الزوج على زوجته المشروطة وغير المشروطة

    أما شروط الزوج فإذا كانت موافقة للشرع فإن لها أن تقوم بها، فإذا شرط عليها أن تخدمه وتقوم بخدمته في البيت فإن هذا معتاد، وقد ذكر كثير من العلماء أن خدمة البيت لا تلزمها، حتى إصلاح الطعام ونحوه، لكن الصحيح أنه يلزمها أن تخدم زوجها وتقوم بشئونه، وهذا هو المعتاد والمعروف عن الصحابة وعن نساء الصحابة، فقد ثبت في الصحيح: (أن فاطمة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي المئونة والخدمة، وتذكر أنها طحنت على الرحا حتى مجلت يداها وأنها تعبت)، ولكن مع ذلك لم يعطها النبي صلى الله عليه وسلم خدماً، بل تركها لتخدم زوجها، وكذلك أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة وهي زوجة الزبير كانت تخدم الزبير حتى إنها كانت تدق النوى نوى التمر ثم تحمله على رأسها إلى أن تأتي به فرس الزبير في طرف الحرة مسيرة نصف ساعة لتعلف ذلك الفرس، زيادة على خدمتها لأولاده وقيامها بشئونه، لا شك أن هذا أيضاً من خدمة المرأة لزوجها، فإذا شرط أنها تخدمه فإن ذلك من حقه عليها، بل ورد أنها تطيعه في كل شيء لا يخالف الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، وفي بعض الروايات: (لو أمرها أن تنقل جبلاً من موضعه وهي تقدر لكان عليها ذلك).

    وأخبر صلى الله عليه وسلم بعظم حق زوجها عليها وطاعتها، وأن عليها أن لا تعصيه.

    ومعلوم أن الزوج إنما تزوج امرأته لأجل منفعة الاستمتاع وما يتبعها، فلأجل ذلك عليها أن تطيعه إذا دعاها إلى حاجته، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث: (إذا دعا الرجل امرأته لحاجته فلتأته ولو كانت على التنور)، والتنور: هو الذي يخبز فيه. يعني: ولو خشيت أن يفسد ذلك الخبز ويحترق فإن عليها أن تأتي إليه، وهذا مبالغة في الإسراع وعدم التأني، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، وذلك دليل على عظم حقه عليها، فهذه حقوق الزوج على زوجته ولو لم تشترط هذه الحقوق، وذلك لأنها شروط شرعية داخلة في العشرة التي قال الله فيها: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وداخلة في حق المرأة على زوجها وحق الزوج على امرأته، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34] مدحهن بهذا المدح (صالحات قانتات حافظات للغيب).

    1.   

    النشوز والإعراض من الزوجين وما يتعلق بهما من أحكام

    النشوز هو نشوز المرأة، أي: عصيانها لزوجها وتبرمها بحقه وتثاقلها إذا طلب منها حاجته. فهذا يعتبر نشوزاً، قال تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34].

    يقول العلماء: إذا رأى شيئاً من التبرم ورأى شيئاً من العصيان والتثاقل بحقه بدأ بالوعظ والتخويف والتذكير، أي: يذكرها بحقه عليها وفضل طاعتها له وثوابها وصبرها على ذلك، وكذلك يخوفها وينهاها عن المعصية، فإذا لم تقبل منه ولم تتأثر بالموعظة هجرها بالكلام ثلاثة أيام، وهجرها في الفراش بأن يوليها ظهره إذا نام، فإذا لم تتأثر بذلك انتقل إلى الضرب، ولكن لابد أن يكون ضرباً غير مبرح، أي: غير شديد؛ لكون ذلك زاجراً لها عن مثل هذا الفعل، فإذا أطاعته فقد قال تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].

    وفي آية أخرى يقول تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128] والنشوز من الزوجة والإعراض من الزوج، فإذا خافت منه إعراضاً فلها أن تصطلح معه على إسقاط بعض حقها له، وإذا خاف منها نشوزاً فله أن يصطلح معها على إعطائها زيادة على حقها أو على إرضائها أو ما أشبه ذلك حتى تلتئم الزوجية وتثبت العشرة الطيبة، وذلك لأنه بقيام هذه الزوجية وبتماسكها وبتمام الألفة بين الزوجين ولوجود الولد الصالح بينهما الذي يكون مثالاً للصلاح تصلح الأسر وتأتلف ويحصل بينهما المحبة والوئام فيكون ذلك سبباً في صلاح الأمة بأسرها، فإذا كان الأبوان دائماً متآلفين متحابين كل منهما يلبي دعوة الآخر ويطيعه، وكان كل منهما حسن العشرة حسن الخلق حسن الملاطفة لين الكلام، ورأى أولادهما هذه الأخلاقيات الطيبة تعلمون منهما الأخلاق والآداب الشرعية ومحاسن الأعمال، ونشأ الأولاد على هذه النشأة الطيبة، فكانت تلك أخلاقاً وسجايا يمدحها الإسلام ويثني على أهلها، فهذا هو سبب الأمر بالعشرة الطيبة ولو لم تكن مشروطة بين الزوجين؛ لأن شرط الله كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (قضاء الله أحق وشرط الله أوثق) .

    1.   

    حكم إكراه المرأة على الزواج من شخص لا تريده

    قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت).

    عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنما معه مثل هدبة الثوب. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. قالت: وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكر ! ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)].

    الحديث الأول فيه مشروعية الاستئذان، ذكر العلماء أن من شروط النكاح تعيين الزوجين، ومن شروط النكاح رضا الزوجين، فالتعيين هو أن تسمى الزوجة بما لا تشتبه به، كقوله: زوجتك ابنتي فلانة ونحوه. وتعيين الزوج أن لا أن يشار إليه بل يسمى فيقال: زوجتك يا فلان. أو: زوجتك أيها الجالس.

    وأما الرضا فهو ضد الإكراه، الرضا بالشيء قبوله وعدم رده، فلا بد من رضا الزوجة، فلا تكره ولا تزوج بمن لا تريده، ولا بد من رضا الزوج، فلا يكره على من لا يريدها.

    والله تعالى ذكر الرضا في أمور عادية، ففي البيع يقول تعالى: إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، بمعنى أنه لابد أن يكون البيع بعد التراضي، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض)، فإذا كان هذا في بذل المال فلا شك أن بذل الزوجية أولى بأن يكون محل الرضا، فلابد من رضا الزوجة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. فقالوا : وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت) فاشترط رضاها، ولم يذكر هنا اشتراط رضا الزوج؛ لأن الزوج عادة هو الذي يطلب، وهو الذي يتقدم، وهو الذي يتكلم، ولا حاجة حينئذ إلى استرضائه، وإن كان قد يلزمه وليه أحياناً إذا رأى أن في تزويجه مصلحة له.

    فعلى هذا لابد من رضا كل من الزوجين، واشترط رضا الزوجة، وذلك لأنها هي التي تحبس نفسها على هذا الزوج مدة طويلة قد تكون عشرات السنين، فإذا كانت مكرهة مغصوبة لم تطمئن في معيشتها، ولم تهنأ في حياتها، ولم يستقر لها قرار، بل عيشها نكد ونومها كمد وقرارها ضرر؛ حيث إنها ترى ما تكره، لأجل ذلك لم يكن بد من رضا الزوجة، وقد ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح امرأة أكرهها أبوها وكانت بكراً)، وثبت أيضاً (أن امرأة جاءت وقالت: يا رسول الله! إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته -أي: ليرفعه بي وكنت شريفة وكان هو وضيعاً- فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم).

    فهذا دليل واضح على أن المرأة لا يجوز إكراهها، وإذا أكرهت فإن لها الخيار إن شاءت أن تستقر مع هذا الزوج وإن شاءت أن تنفصل عنه، هذا هو القول الصحيح، وذلك لأن إجبارها ضرر واضح عليها، فمعلوم أنها هي التي تعاشر الزوج، وهي التي تقيم عنده، وهي التي يستمتع بها، وهي التي يستخدمها ويستنفع بها، فإذا كانت تكرهه إذا رأته فكأنها ترى عدواً من أشد الأعداء لها، فلا قرار لها ولا استقرار، فاشترط بذلك رضاها.

    ومعلوم أنها إذا لم تكن راضية لم تطمئن مع هذا الزوج.

    1.   

    معرفة صفات وأخلاق كل من الزوجين

    ذكر العلماء أنه لابد أن يبين صفات الزوج ويبين أخلاقه فإنها ربما تكون جاهلة به، فإذا كانت جاهلة بأخلاقه وجاهلة بمعاشرته وجاهلة بصحته وبخلقه ثم صحبته مدة ولم تكن تعرفه من قبل فإن لها بعد ذلك أن تفتدي؛ لأنها ترى مالا صبر عليه.

    وكثير من النساء تتزوج الزوج وتعتقد أنه حسن الخلق دمث الأخلاق سهل الجانب لين العريكة يبش في وجهها، ولكن تجده عبوساً وتجده شديداً وتجده حقوداً غضوباً شديداً عليها كثير الضرب وكثير السباب وكثير الغضب وكثير التأثر، يقصر في حقها ويسيء بها الظن، ويعاتبها ويتتبع عثراتها، ويشدد عليها، فلا تستقر معه ولا تحيا حياة طيبة، بل تكون معذبة معه، إذاً يجب على وليها أن يبحث عن أخلاق الرجل قبل أن يزوجه وأن يعرف ما هو عليه، أن يعرف ماذا كان عليه من خلق.

    كذلك أيضاً قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).

    نقول: إن كثيراً من الناس يرغبون في الزوج لأنه ثري وذو مال، ولكن قد يكون ماله وبالاً عليه، قد يرغبون فيه لأنه ذو حسب من أناس لهم شرف ولهم نسب ولهم منزلة ورفعة وشهرة وإمارة وولاية فيرغبونه لذلك، ولكن قد يكون سيئ الخلق، وقد يكون شرساً حقوداً غضوباً وهم لا يعرفون، ويرغب آخرون في الإنسان لكونه من ذوي الشرف ومن ذوي النسب الرفيع، ولكن قد يخيب ظنهم فيه، إذاً فالأفضل أن يزوج من كان من أهل الدين ومن أهل الصلاح ومن أهل الاستقامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اظفر بذات الدين تربت يداك).

    ونقول: كذلك اظفر -يا ولي المرأة- بصاحب الدين؛ فإن الدين ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، صاحب الدين والخير إما أن يحسن إليها ويحبها ويقوم بحقوقها ويعطيها ما يلزم لها، وإما أن يفارقها بإحسان، فيعمل بقول الله تعالى: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] يعمل بهذه الآية، فيحمله دينه على أن لا يظلمها وأن لا يسيء عشرتها، فهذا هو الواجب على الولي.

    إذاً فلا يجوز أن يجبرها على سيئ الخلق.

    1.   

    العيوب التي يرد بها النكاح من الزوجين

    لا يجوز للزوج أن يخفي شيئاً من صفاته إذا كان فيه شيء من العيوب الظاهرة التي يرد بها كل من الزوجين، فواجب على ولي المرأة أن يخبر بما فيها من العيوب، وواجب أيضاً على الزوج أن يخبر بما فيه من العيوب، وذكر العلماء أن عيب الجنون في أحدهما يرد به النكاح، وكذلك عيب البرص، فإذا كان فيه برص فإنه مما ينفر منه الطبع.

    وكذلك عيب المرض الشديد، سيما الأمراض المنتشرة المعدية كمرض الجذام وما يعرف الآن بالسرطان والسل الرئوي -نعوذ بالله- وما أشبه ذلك، فهذه بلا شك إذا كان أحد الزوجين مصاباً بمثل هذه الأمراض فلا يجوز أن يخفي هذا المرض، بل يخبر بما فيه، فإن شاؤوا قبلوا وإن شاؤوا ردوا.

    كذلك أيضاً معلوم أنه إذا لم تكن فيه هذه العيوب الظاهرة وكان فيه شيء من العيوب الخفية التي قد تكون عيوباً عند بعض الناس دون بعضهم فعليه أن يبينها حتى لا يقع سوء صحبة.

    وكثير من الناس الآن إذا وقع منه الطلاق يسألنا ويقول: أنا عصبي وشديد التأثر وشديد الغضب، أنا إذا غضبت فلا أدري ما أقول. فلماذا لم تخبر بهذا العيب قبل أن يقع منك هذا الأمر؟ تعترف الآن على نفسك أنك مصاب بأعصاب، أو بهذا المرض الذي تسميه ما تسميه.

    فعلى هذا لابد أن تفصل هذه الصفات والسمات حتى يقدم الأولياء وقد عرفوا من يزوجونه وحتى تحسن الصحبة الطويلة بين الزوجين، فإذا كان فيها ما يكدرها من هذه السمات لم تستقر الزوجة مع زوجها، ولم تهنأ العيشة الهنيئة في الدنيا، فعلى هذا لابد أن تستأذن ويؤخذ منها الإذن.

    1.   

    الحكمة من استئذان البكر واستئمار الثيب

    إذا قيل: لماذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب فقال في البكر: (تستأذن). وقال في الثيب: (تستأمر؟) فإنهم يقولون: إن الثيب قد عرفت الرجال، وقد صار معها شيء من الجرأة، فهي لا تحتشم أن تقول: أريده أو: لا أريده. تنطق بالكلام حتى لا يكون هناك شيء من الالتباس، أما البكر فالعادة أنها تستحيي، ولا تتجرأ على أن تتكلم بقولها: رضيت به. بل تسكت وتستحيي، فإذا رأوا أنها سكتت أو ظهر منها ما يدل على الرضا كإشارة برأسها مثلاً فهذا دليل الموافقة أو ما أشبه ذلك، فنعرف بذلك أنها وافقت فيحصل بذلك تزويجها، هذا هو الفرق بينهما، فلو نطقت البكر فإن ذلك أتم وأدل على رضاها، فعلى كل حال هذا ما يسمى بالإجبار والاستئمار.

    1.   

    حكم من طلقت ثلاث طلقات وأرادت زوجها الأول

    ننتقل إلى الحديث الثاني قصة تميمة بنت وهب، حيث ذكرت أنها كانت تحت رفاعة فطلقها وبت طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وذكرت أن ما معه مثل الهدبة، وكأنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، والله تعالى ذكر أن الطلاق مرتان، يعني الطلاق الرجعي، فبعد المرتين يقدر أن يمسك ويقدر أن يسرح، وذكر أن بعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً، أي: بعد الطلقتين. ثم ذكر الطلقة الثالثة بقوله: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].

    وسبب نزول هذه الآية أن المشركين في الجاهلية لم يكن عندهم عدد للطلاق، ولما كان في أول الإسلام غضب رجل على امرأته وسبها فقال: لأعذبنك. فقالت: كيف تعذبني؟ قال: أطلقك، فإذا قربت العدة أن تنتهي راجعتك، ثم بعد ذلك أطلقك ثم أراجعك في آخر العدة. بهذا كانت المرأة تبقى بدون زوج عشرات السنين متألمة معذبة لا أيماً ولا ذات زوج، فساءها ذلك ورفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    فعند ذلك أنزل الله العدد الذي يملكه الزوج، وهو طلقتان يملك بعدهما الرجعة، حتى لا يتلاعب الرجال الفسقة بأمور نسائهم، فجعل الطلاق الذي يراجع بعده مرتين، بمعنى أنه قد يطلق في حالة غضب، أو يفكر أنه لا حاجة به إلى هذه الزوجة، أو يرى منها سوء تصرف فيوقع الطلقة الأولى، فبعد ذلك يندم ثم يُمكن من مراجعتها، وتحسب عليه طلقه، ثم تجيء مرة أخرى يسوء ما بينهما من العلاقة، فعند ذلك قد يوقع بها طلقة ثانية عن غير تروٍ وعن غير تبصر، فيندم بعد ذلك كما حصل لكثير منهم، ثم إذا ندم رأى أن في الأمر سعة فعند ذلك يستردها بعد الطلقة الثانية، ثم يفكر أنه إذا أوقع الطلقة الثالثة حرمت عليه إلا بعد زوج، فإذا فكر في ذلك قال: لا أفرط في امرأتي وأم ولدي. فيحمله ذلك على أن يمسكها ما دام راغباً فيها، لكن لو قدر أنه تسرع وطلقها الطلقة الثالثة حينئذ تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، ودليله هذه الآية، وهي قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] يعني الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].

    شرط التزوج بالمبتوتة

    اشترط في هذا الزوج الثاني أن ينكحها نكاح رغبة، بمعنى: أن يتزوجها على أنها زوجة له يحبها ويحب المقام معها، وهي كذلك تحبه وتريده كزوج وكعشير لها في حياتها، هذا هو الأصل، أنه لابد أن يكون الزوج الثاني نكاحه نكاح رغبة لا نكاح تحليل للزوج الأول، وذلك لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله المحلل والمحلل له).

    وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التحليل، ووصف المحلل بالتيس المستعار، أي أنه شبيه بالتيس الذي هو ذكر المعز، بمعنى أن الزوج الأول يستعيره ويدخله على زوجته ويجامعها ثم يفارقها، فأصبح كأنه تيس مستعار، هذا هو المحلل الذي ينكحها حتى يحللها للزوج الذي طلقها، يبيت معها ليلة أو ليلتين ثم يطلقها ولا رغبة له فيها.

    إذاً فهذا هو الذي نهي عنه، ولا يجوز سواءٌ من الزوج أو من الزوجة أو من المطلق، فإذا طلقت امرأة وحرمت عليك بأن بتت طلاقها -أي: طلقتها آخر ثلاث طلقات- وعرفت أنها لا تحل لك إلا بعد زوج فلا يجوز لك أن تقول: يا زيد! تزوجها واجلس معها ليلة ثم فارقها. كأنه أجير، وربما تدفع له أجرة حتى يحللها لك، فأنت -أيها الزوج المطلق- تدخل في هذا الوعيد؛ وحيث إنه قبل كلامك وتزوجها بهذا الشرط يدخل في هذا الوعيد.

    وذكروا واقعة في عهد عمر بن الخطاب، وهي (أن رجلاً من أكابر قريش طلق امرأته ثم ندم عليها بعدما طلقها ثلاثاً، وفكر كيف ترجع إليه، وكانت هي أيضاً تريده، ولكن لا حيلة لها ولا حيلة له، فجاؤوا إلى رجل أعرابي فقير لا يملك إلا طمرين -أي: ثوبين خلقين- فقالوا له: ها هنا امرأة تريد زوجاً وتناسبك. فعند ذلك تزوجها، ولما تزوجها رغبة منه أرادوا أن يفرقوا بينه وبينها، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال: لا تطلقها. إن طلقتها أوجعت ظهرك ولو ضربوك ولو قالوا لك أو قالوا لك. وانظر إلى غيرة وحماسة عمر رضي الله عنه!!

    نقول: كذلك يستحق المحلل من يوجع ظهره كما هم بذلك عمر رضي الله عنه، وكذلك يستحقه المحلل له والزوجة إذا كانت متفقة مع الزوج على هذا التحليل.

    والشاهد أن تميمة بنت وهب تزوجت بعد زوجها رفاعة زوجاً آخر وهو عبد الرحمن بن الزبير ، وذكرت أنه لا يصيبها، ورمته بأنه عنين، أي أنه لا يقدر على أن يأتي النساء، وإنما ما معه مثل هدبة الثوب، ولكن في بعض الروايات أنه كذبها، وذكر أنه يصيبها.

    والحاصل أنها لما قالت: إنه لم يصبها لم يأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى رفاعة حتى يطأها الزوج الثاني ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، وبذلك فسر قول الله تعالى: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] أن النكاح ليس هو مجرد العقد، بل هو الدخول والإصابة، فإذا طلقها بعد العقد قبل أن يدخل بها لم تحل للزوج الأول، أي: لابد أن يدخل بها ويذوق كل منهما عسيلة الآخر، بمعنى لذة الجماع، أي: أنه يطؤها الوطء الكامل.

    فهذا هو النكاح الذي تحل به إذا كان عن قصد وعن رغبة لا عن تدليس وتحليل وشبهة، هذا هو ما يدل عليه هذا الحديث.

    1.   

    أحكام العشرة بين الزوجين

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم) . قال أبو قلابة : ولو شئت لقلت: إن أنساً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه يقدر بينهما ولدٌ في ذلك لم يضره الشيطان أبداً).

    وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت).

    ولـمسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول: الحمو: أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج، ابن العم ونحوه].

    هذه الأحاديث تتعلق بالنكاح، فالحديث الأول والثاني يتعلقان بالعشرة، ويبوب الفقهاء عليها بباب (عشرة الزوجين)، ويستدلون بقول الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، والعشرة بالمعروف هي أن كلاً من الزوجين يحسن صحبة الآخر، ويحرص كل منهما على أن لا يرى منه الآخر إلا ما يسره، فالزوجة تطيع زوجها، وتحسن خلقها، وتلبي طلباته ودعوته، وتريه ما يسره منها، وتتجمل أمامه، وتخدمه بما تستطيع، وكذلك تلين له الجانب، وتظهر فرحها وسرورها به، وتظهر موافقتها له فيما يطلب، وتبتعد عن مخالفته وعما يثير غضبه أو حماسه إذا علمت أنه شديد الغيرة أو أنه سريع الغضب أو ما أشبه ذلك، كذلك أيضاً تطيعه في نفسها، فلا تتمنع ولا تتبرم ولا تظهر منة، ولا تظهر أنها خيرٌ منه أو أنها أفضل أو أكثر مالاً أو أكثر نسباً أو ما أشبه ذلك.

    أما بالنسبة إلى الزوج فالعشرة منه أن يلين جانبه لزوجته، وأن يتغاضى عما يراه من الأخطاء ومن الهفوات والزلات التي قد تصدر منها، وكذلك أيضاً أن يتخلق بكل خلق فاضل، ويبتعد عن الرذائل ونحوها، فلا يتعامل معها بكذب ولا بزورٍ، ويجتنب الإثم والظلم والسباب والشتائم والعيب والسبب وتتبع العثرات، ولا يتشدد عليها بمطالبه، ولا يكلفها ما لا تطيقه، ويظهر أيضاً موافقتها إذا طلبت أمراً فيه منفعة أو نحو ذلك، وهكذا أيضاً يظهر نفسه أمام زوجته مظهر جمالٍ ومظهر حسنٍ، ولا يظهر أمامها بصفة مستقذرة وموحشة بحيث تنفر منه، وهكذا أيضاً يعطيها حقها في الاستمتاع الذي هو مطلب لكل من الجهتين، وأشباه ذلك.

    ولا شك أنه بهذه العشرة تدوم الصحبة وتحصل الألفة والمودة التي ذكر الله أنها بين الزوجين في قوله تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].

    1.   

    شرح حديث: (من السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً...)

    في الحديث الأول يقول: (من السنة إذا تزوج البكر) يعني: وعنده زوجة قبلها (أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم).

    ومعنى هذا الحديث أن البكر إذا تزوجها وعنده امرأة قبلها فإنها بلا شك تهواها نفسه وتميل إليها، ويكون لها مكانةً في قلبه، فيكون لها حق في أن يوالي المبيت عندها ليالي متتابعة، فصار لها حق أن يبيت عندها سبع ليال قبل أن يبدأ في القسم بين زوجاته أو بينها وبين زوجته الأخرى.

    فهذا المصلحة فيه للطرفين، فهي بالنسبة إلى أنها حديثة عهد بالزواج لم تعرف زوجاً قبله فهي تحب أن يؤنسها وأن يؤلفها، وأن يحبب إليها نفسه، وأن يعاشرها العشرة الطيبة، وأن يطيل محادثتها ومؤانستها، ويبين لها مودته لها، ويكتسب أيضاً مودتها في هذه الليالي، فإذا تمت سبع ليال فتكون في ذلك قد استأنست إليه، وكذلك أيضاً هو يعرف أن نفسه مائلة إليها لبكارتها ولجدتها، فيكون في قلبه شيء من المحبة والميل إليها، ويكون هو الذي يواصل ذلك ويحبه ويوده، فالمصلحة في متابعة هذه الليالي للبكر للطرفين.

    أما إذا كانت ثيباً -أي: مطلقة أو متوفى عنها- قد دخل بها غيره فتزوجها وعنده امرأة أو نساء غيرها قبلها فإن لها حقاً أن يبيت عندها ثلاث ليال متتابعة ثم يبدأ في القسم، هذه الليالي الثلاث هي أقل العدد، فإن أقل الجمع ثلاثةٌ كما هو معروف، فهذه الثلاث تحصل بها المؤانسة له ولها، ويحصل بها إشباع الغريزة من الشيء المستجد، فلهذا جاء الشرع به.

    وقوله: (من السنة) يعني: من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ومن شريعته.

    1.   

    شرح حديث: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله...)

    أما الحديث بعده فيتعلق بالتسمية عند الجماع، روي عن ابن عباس في قول الله تعالى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] إلى قوله: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] يقول: التقديم هو التسمية عند الجماع.

    والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد في هذا الحديث الزوج إذا أراد مواقعه زوجته أن يبدأ باسم الله، فقال: (لو أن أحدكم إذا أرد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان. وجنب الشيطان ما رزقتنا) يقول ذلك قبل البدء أو عند البدء في الوقاع، ويقول ذلك بحيث يُسمع نفسه، وتقوله أيضاً الزوجة، فإذا قاله كل من الزوجين حصلت البركة، ولا شك إن اسم الله تعالى سببٌ للبركات وكثرة الخيرات.

    وقوله: (إذا قال: باسم الله) معناه: باسم الله استعيذ، وباسم الله أتحصن، وباسم الله أتحرز من كل ضرر، وباسم الله أتبرك، وباسم الله ابتدئ أو أفعل ما أقدر عليه.

    وقد ورد الأمر بالتسمية في أشياء كثيرة، كما أمر بالتسمية عند الأكل، وعند الشرب، وعند دخول المنزل، وعند الخروج منه، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند لبس الثوب، وعند النوم، وعند دخول الخلاء وما أشبه ذلك.

    فكذلك أيضاً التسمية هنا يقصد بها التبرك بهذا الاسم والتحصن به من السوء ومن الأضرار ومن الشرور ونحوها، ثم بعد ذلك يقول: (باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً) يعني: إذا قدر أنه خلق منهما ولد من ذلك الوقاع فإن الله يحميه ويحفظه من ضرر الشيطان، فلا يضره أو يضله.

    قوله: (جنبنا) يعني: أبعده عنا وأبعدنا عنه، وأبعده عما رزقتنا وعما ترزقنا من الأولاد والذرية. والتجنب هو الابتعاد، وهو أبلغ من الترك، فإن معناه: اجعله في جانب ونحن في جانب بعيدين عنه.

    والشيطان واحد الشياطين، وهم إبليس وجنوده، ولا شك أن الشيطان عدو للإنسان، وأنه حريص على أن يضل الإنسان بما يستطيعه، وأن يخلف عليه قلبه ويفسد عليه عقله وفطرته، ويصرفه عن الهدى إلى الضلال، ويوقعه في الكفر والفسوق والعصيان.

    وإن الله تعالى هو الوكيل وهو الحفيظ، فإذا حمى الإنسان وحفظه فلن يكون للشيطان عليه سلطان؛ لأنه لا سلطان له على أولياء الله، قال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100]، يعني: على أوليائه. أي: أولياء الشيطان الذين قال الله فيهم: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة:257].

    فلا شك أن هذا دعاء مفيد إذا استعمله الإنسان عند كل مواقعة، وعندما يريد أن يواقع يقوله سراً بحيث يسمع نفسه، فإذا قال: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) فقد تكفل النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله: (فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً).

    1.   

    إشكال والجواب عنه

    أشكل هذا الحديث على كثير من الشراح، وقالوا: إننا قد نشاهد أولاداً آباؤهم عبَّاد وصالحون وأهل تقوى، ونتحقق أنهم يعملون بهذا الحديث، وأنهم لا يتركون مثل هذا الدعاء، ومع ذلك نرى أبناءهم قد انحرفوا وقد وقع منهم شيء من الفسوق ومن المعاصي التي يدعو إليها الشيطان، فكيف أغراهم وقد استعيذ منه عند الوقاع وعند انعقاد الولد في ذلك الوقاع؟

    فأجابوا بأنه قد يغفل أحدهم في بعض الأحيان، وقد تكون استعاذته استعاذة باللسان لا بالقلب، وقد يكون هناك أسباب تفسد الإنسان وإن لم تكن من الشيطان، بل من أعوان الشيطان الذين هم شياطين الإنس وما يشبه ذلك، وقد يكون الحديث محمولاً على الكفر، فيكون قوله: (لم يضره الشيطان أبداً) يعني: لم يخرجه من الإسلام ويدخله في الكفر.

    وعلى كل حال نحث على العمل بهذه الأحاديث حتى يكون الإنسان باذلاً للسبب، والله تعالى هو الموفق والمعين.

    1.   

    شرح حديث: (إياكم والدخول على النساء...)

    أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! فقال رجل: أفرأيت الحمو؟ فقال: الحمو الموت) وفسر الحمو بأنه أخو الزوج أو قريبه كابن عمه ونحوه فالحديث يدل على النهي عن الخلوة بالمرأة الأجنبية والدخول عليها دخولاً في ريبة، وذلك لأنه يخاف من هذه الخلوة أن يوسوس الشيطان بينهما؛ فإن الشيطان ثالثهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) أي: كان الشيطان يوسوس بينهما إلى أن يقرب أحدهما إلى الأخر فيوقع بينهما شيئاً من الفاحشة أو مقاربة الفاحشة. هذا هو الذي حث وحذر النبي صلى الله عليه وسلم على البعد عنه، أي: الخلوة بالنساء الأجنبيات.

    والمراد بالنساء هنا غير المحارم؛ لأن المحارم لا مانع من الخلوة بهن، فالرجل يخلو بأمه وبابنته وبأخته وببنت أخيه وبعمته وخالته ونحوهن ولا تحدثه نفسه بالميل إليهن ولا بمقارفة فعل الفاحشة معهن، ولا يفعل ذلك إلا أفسق الناس وأفجرهم، وإن وقع من أفراد فلا يكونون عبرة، إنما المراد إذا كان أجنبياً عن هذه المرأة، حتى ولو كانت من أقاربه كابنة عم وابنة خال، وكذلك زوجة أخ أو أخت زوجة أو نحو ذلك، فهذه لها قرابة وهذه لها مصاهرة، وبعض الناس يتجرأ على أن يدخل في بيت أخيه وليس فيه إلا تلك المرأة، ويتجرأ أيضاً على دخول بيت عمه أو خاله، وكذلك بيت أخيه ويخلو بزوجة أخيه أو بأخت زوجته أو نحوهن ويدعي أنه من أهل البيت وأنه لا محذور في خلوته بها فتراه لا يستنكر أن يطرق باب أخيه فتفتح له تلك الزوجة فيدخل وقد لا يكون عندها أحد، وهذا هو المحذور.

    والوقائع التي تقع فيها مفاسد مما حذر عنه في هذا الحديث كثيرة وشهيرة، ولما لم يعمل كثير من الناس بهذا الحديث صار الأخ يخرج ويترك زوجته وليس معها أحد وليس في البيت سوى أخيه وزوجته فيخلو أخوه بتلك الزوجة، وقد يوسوس بينهما الشيطان إلى أن يقرب بينهما فيوقع بينهما فعل الفاحشة أو مقاربتها، وذلك أنه قد يثق بأن أخاه لا يقرب محارمه، ويقول: هو أخي لا يمكن أن يخونني ولا يمكن أن يسيء إليّ؛ لأني أنا الذي أحسن إليه، وأنا الذي آويته في بيتي وهو لا يزال عزباً. أو: أنا الذي أنفقت عليه وأحسنت إليه، فلا يمكن أن يخون.

    فنقول: هذا وإن كان مجرباً أو معروفاً لكن لا تنبغي الثقة كل الثقة بكل أحد؛ فإنه قد لا يكون له ميل إليها، لكن هي قد تتبرج أمامه وتدفعه إلى نفسها، أو هو قد يراودها ويحاول أن يعرض عليها نفسه أو ما يشبه ذلك، فتقع الفاحشة أو مقاربتها، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر في هذا الحديث من الخلوة بها حتى ولو كان أخا الزوج فقال: (الحمو الموت)، وهذه كلمه معتادة مسموعة كثيراً، يقال: هذا هو الموت. بمعنى أنه الخطر الكبير، لماذا؟ لأن الناس لا يستنكرون خلوته، ولا يستنكرون أن يطرق باب أخيه ثم يدخل، ولا يستنكرون أن يعطيه أخوة مفتاحاً لبيته يدخل كلما جاء وكلما أراد.

    ولعل هذا أيضاً فيما إذا لم يكن في البيت إلا امرأة واحدة، أما إذا كان فيه عدد من النساء فقد يكون ذلك أقرب إلى السلامة، وكذلك أيضاً إذا كان فيه أطفال أو فيه محارم له، كما إذا كان فيه زوجته أو أمه أو نحو ذلك فالأمر أسهل، ومع ذلك فإن الخلوة بالمرأة الأجنبية خطر كبير دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لرجل أن يخلو بامرأة إلا مع ذي محرم).

    فعلى المسلم أن يكون غيوراً على محارمه، وأن يهتم بمحافظته على أن لا يخلو بهن أجنبي، سواء السائق الذي يدخل بها وحدها أو يزور بها الأماكن والأسواق ونحو ذلك وهو منفرداً بها، أو غيره، ولا يجوز أن يدخل في البيت عليها وليس عندها أحد، حتى ولو كانت قريبة منه، فقد تأتي وتناوله القهوة مثلاً أو الأكل أو الشراب أو ما يشبه ذلك، فإذا دخلت إليه فلربما كلمها وألان لها القول وخضع كلاً منهما بالقول الذي نهى الله عنه بقوله: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فيقرب بينهما الشيطان إلى أن يقع ما نهى الله عنه وما هو المحذور، فإذا احتاط الإنسان ولم يأذن لامرأته في إدخال أحد وهو غائب، أو جعل عندها امرأة ثانية أو ما يشبه ذلك كان ذلك أقرب إلى السلامة، والله أعلم.

    وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756244994