الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً, سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين, سبحانك اللهم وبحمدك، على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
المبحث الرابع من المقدمة: فضل علم التوحيد ومنزلة علم التوحيد:
علم التوحيد أشرف العلوم رتبة، وأرفعها منزلة، وأعلاها درجة، وإذا أراد الإنسان أن يتحقق من قيمة كل علم من العلوم فينبغي أن يضعه في الميزان الشرعي المؤلف من خمسة أمور ليعرضه على هذه الأمور الخمسة، فإذا وجده يحقق الدرجة الأولى الكاملة في كل أمر في هذه الأمور الخمسة فهو أعلى العلوم وأفضلها، وإذا نقص شيء من هذه الأمور الخمسة تنقص منزلة العلم بمقدار ما ينقص من هذه الأمور الخمسة في ذلك العلم.
هذه الأمور الخمسة ذكرها أئمتنا لبيان منزلة العلم مفرقة وجمعتها أنا، وانظروها -إخوتي الكرام- في كتاب بصائر ذوي التميز في لطائف الكتاب العزيز، والكتاب في ست مجلدات لصاحب القاموس، وهو الفيروزآبادي عليه رحمة الله، ذكر هذه الأمور في المجلد الأول من (ص:44-45).
وتعرض لهذه الأمور الخمسة الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه: الذريعة إلى مكارم الشريعة (ص:121)، والكتاب جزء واحد فقط في حدود ثلاثمائة صفحة، وهو نافع مفيد.
وتعرض لهذا المبحث الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين في مبحث معيار العلوم ووزنها وبيان رتبتها (1/35-50).
وكان أئمتنا يقولون: عندما يتكلم في علم التصوف ويُدخل شقشقة الكلام في علوم الشريعة، حاله كحال من أتى بعدو للمسلمين وألبسه لباس المسلمين، فعمى عليهم أمره وخبره.
لو أتينا بنصراني وألبسناه لباس المسلمين وكان له لحية، وبدأ يمشى في الشارع، فالناس سيقولون: هذا شيخ من شيوخ الإسلام، وهو كافر من أتباع الشيطان! وهكذا عندما أدخل الإمام الغزالي اصطلاحات الصوفية وترهاتهم وشناعات الفلاسفة وأباطيلهم، عندما أدخلها في الإحياء ولبَّسها لباس الشرع، كمن أخذ عدواً للمسلمين وألبسه لباسهم، لكن من باب بيان منزلة الكتاب أصاب وأجاد في أمور كثيرة، ولذلك أرى لكم أن تتمهلوا في قراءته وأن تتريثوا، وإذا قُدِّر أنكم رجعتم إلى شيء فيه فاعرضوا ذلك مباشرة على من تثقون بعلمه ودينه، لبيان منزلة ما فيه هل هو في هذه الناحية مصيب أو مخطئ؟ فما أريد أن أستعرض الأخطاء التي وقع فيها، وسيأتينا الإشارة إلى هذا إن شاء الله عندما نتحدث عن مصادر علم التوحيد، ومن أين يُؤخذ، ونذكر بعد ذلك علماء الكلام ونناقشهم فيما ابتدعوه من ضلالات، ونعرج بعد ذلك على ضلالات المتكلمين التي وقعوا فيها، ثم بعد ذلك تاب كثير منهم منها.
والكتاب الرابع الذي تعرض لبعض هذه الأمور الإمام ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله (2/36)، وكنت أشرت إلى هذا الكتاب سابقاً، وقلت: إن الكتاب في جزأين وهو مجلد كبير، وطالب العلم ينبغي أن يقتنيه لأنه يتعلق بموضوعه وعلمه وبحثه.
هذه الكتب ذكرت المعيار والميزان الذي يبين منزلة أي علم كان، ضعه في هذا الميزان لتعرف درجته.
أولاً: موضوع العلم، كل علم إذا أردت أن تعرف منزلته فانظر إلى موضوعه، إذا كان موضوعه جليلاً نبيلاً فالعلم جليل نبيل، وإذا كان موضوع العلم تافهاً فالعلم تافه قطعاً وجزماً، فمثلاً الذي يبحث في علم السحر، فهل الموضوع نافع أو تافه؟ تافه حرام، وهذا من الموبقات، فالعلم تافه، وكذلك في موضوع الغناء وقلة الحياء وتخنث الرجال، قال: نتعلم علم الغناء والدق على العود وغير ذلك، هذا الموضوع موضوع نافع أو موضوع خسيس؟ لا يتعلق به إلا المخنثون من الرجال، وإذا كان الأمر كذلك فهذا العلم علم خسيس خبيث؛ لأن الموضوع خسيس خبيث.
فعلم التوحيد من ناحية الموضوع هو أشرف العلوم موضوعاً، كيف لا وقد تقدم معنا أن موضوع علم التوحيد يدور على أمور ثلاثة: ذات الله من حيث ما يتصف به وما يتنزه عنه وحقه على عباده، ذوات الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من حيث ما يتصفون به ويتنزهون عنه، وما يجب لهم وما يجب عليهم من القيام به، ما يجب لهم من قبل أممهم، من طاعتهم واتباعهم وتقديم محبتهم على محبة النفس فما دونها، الأمر الثالث: السمعيات، وهي: ما يكون في الآخرة من نعيم وعذاب أليم.
إذاً: موضوع علم التوحيد يتعلق برب العالمين وعباده المرسلين، وبمآل العباد من جنة أو نعيم، حقيقة هذا أشرف الموضوعات، فتعلمه إذاً أشرف أنواع التعلم، وهذا العلم هو أشرف العلوم موضوعاً.
لابد -إخوتي الكرام- أن ننظر في موضوع كل علم لنعرف مكانته ومنزلته، فعلم الأنساب موضوعه معرفة القبائل، وهو علم لا ينفع والجهل به لا يضر، يعني لو لم تعرف أن قبيلة كذا تنتمي إلى كذا فهل يضرك هذا؟ لا يضرك هذا، وإذا علمت لا تنتفع شيئاً، ولذلك خذ من علم الأنساب ما ينفعك، تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، أي: لتعرف قرابتك: جدك، خالك، عمك، ثم هذه القبيلة قبيلة -مثلاً- قحطان، قبيلة عنيزة، قبيلة كذا، إلى أي قبيلة تنتمي؟ وما أصولها في الجاهلية؟ ومن آباؤها؟ ومن تسحب شجرة النسب إلى نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله سلامه، فأي فائدة من هذا؟ علم لا ينفع وجهل لا يضر.
كثير من العلوم التي يتعلمها الناس ولا ترتبط مصالحهم بها، وأكثر مناهج الدراسة في هذه الأيام علم لا ينفع وجهل لا يضر، إن لم يكن علماً يضر ولا ينفع.
التوسع في مباحث الجغرافيا، وأن قارة كذا فيها كذا ويُستخرج منها كذا، ويُزرع منها كذا ويُربى فيها كذا، يُعلم هذا للبنين والبنات في البلدان الإسلامية بمحاضرات كثيرة، فما فائدة تعلم البنات أن قارة أستراليا يربى فيها المواشي بنسبة كذا وفيها كذا؟ ما فائدة هذا؟ وهن يجهلن سورة المائدة، ويجهلن سورة الأنعام، يعني يتعلمن تربية الأنعام في أستراليا ويجهلن سورة الأنعام في القرآن، هذا عار حقيقة، لكن يراد لجيلنا في هذه الأيام أن يعيش جيلاً خاوياً، لا يُرجى منه فائدة لا في دين ولا في دنيا.
لا مانع أن يتعلم أفراد في الأمة، ولا مانع أن تجُعل معاهد لمن يريد أن يتعلم هذه اللغة إذا احتاج إليها، أما أن يفرض هذا على الجيل بكامله فسفاهة ما بعدها سفاهة، وحماقة لا يعدلها حماقة، وهذه حماقة البلاد العربية في هذه الأيام.
والخطة الآن التي قُررت بعد أن اقتُرحت، فأسأل الله أن ينتقم ممن اقترحها وممن قررها، أن تعليم اللغة الإنجليزية يُكلف به الطلاب والطالبات في المرحلة الابتدائية، يعني: من سنة أولى ابتدائي، ولا زال الطالب لا يعرف الإمساك بالقلم، ولا يعرف أن يرسم الحروف العربية، يُكلف بتعلم اللغة الإنجليزية، بمحاضرات تأخذ كما يقال حصة الأسد من المنهج من أجل -ما يقال في البلاد العربية- أن المستقبل للغة الإنجليزية، خسئتم! فالمستقبل للقرآن وللغة القرآن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
إذا جحدتم لغة القرآن وأعرضتم عنه، وصرفتم بعد ذلك عبوديتكم للإنجليز والأمريكان، فسيستبدل الله قوماً غيركم عما قريب ولا يكونون أمثالكم، اللغة الإنجليزية تُقرر، هذا قُرر ونُفذ على طلاب المرحلة الابتدائية.
وأنا أقول: إن إلزام الناس بتعلم اللغة الإنجليزية في مرحلة من المراحل حرام حرام حرام -انتبه- فالإلزام حرام، والتعلم جائز جائز جائز، وشتان بين التعلم والإلزام، تُفتح معاهد للغة الإنجليزية والفرنسية والعبرية وأي لغة على وجه الأرض لا مانع، ومن شاء تعلمها، أما أن يُلزم الجيل بها رغم أنفه فلا؛ لمَ؟
يقول الإمام الشافعي في كتابه الرسالة: أوجب الله على كافة الخلق أن يتعلموا لغة العرب؛ لأنها لغة القرآن، فلا يمكن فهم القرآن إلا بها فهي لغة إسلامية تعلمناها تعظيماً لله.
إذاً: إلزام الناس بلغة أخرى إيجاب ما لم يوجبه الله، وهذا حرام.
لمَ لا تعلم القرآن وحديث النبي عليه الصلاة والسلام؟
هل نريد لبناتنا أن يذهبن إلى بريطانيا؟ نعم، من فرض هذه اللغة يريد هذا، يريد أن يفسد الجيل، هو ما علَّم الجيل هذه اللغة إلا ليتخلق بأخلاق أهلها، ونحن نقول من الوجهة الشرعية: بما أن تعلم هذه اللغة سيكون على حساب تعلم العلوم النافعة فإذاً هي ضارة.
يُكتب الآن في كثير من الأمور باللغة الإنجليزية، يعني عندما تذهب إلى مكتب الطيران لتقطع تذكرة لتسافر من الرياض إلى المدينة المنورة، أو من دمشق إلى مصر، أو من الأردن إلى اليمن، فهذه بلاد عربية، لكن يُكتب فيها باللغة الإنجليزية، لمَ؟ سيركب في طائرة كما تقولون عربية، وأنتم عرب، وهو عربي، لمَ لا تكتبون بلغة القرآن؟ يعني: اللغة امتُهنت إلى هذا الحد، هذه اللغة إن أتقنها عُشر ركاب الطائرة فهذا كثير، والحقيقة أنه لا يتقنها من ركاب الطائرة إلا خمسة أو أقل، والبقية لا يتقنون اللغة، فعلامَ تكتبون اسم الراكب وتذكرته وجواز سفره باللغة الإنجليزية؟!
هذا هو الاستعمار لكن في صورة استقلال، قيل لنا: أنتم مستقلون، أي استعمار أشنع من أن يُستعمل لغة عدونا في بلادنا ولا يُكتب باللغة العربية؟ هذا في البلاد العربية.
ولذلك لو قالت عن نفسها غربية لربما خف العتب عليها، عربية لا تكتب بلغتها، أنا لا أعلم أن البريطانيين يكتبون بلغة العرب؛ لكن نحن ما أرخص ديننا ولغتنا وقيمنا علينا! وما أعز كفر أولئك عليهم! سرعان ما نذوب ونتخلى عن كل فضيلة فينا ونقلد من غضب عليهم ربنا، وأما هم فلا يتبعوننا حتى في الفضائل، فعلامَ نتبعهم في الرذائل؟ صاروا قدوة لنا في الرذيلة بدلاً من أن نكون قدوة لهم في كل فضيلة، لكن نحن دسسنا أنفسنا وامتهناها فعاقبنا الله بما نستحقه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18] .
إذاً إخوتي الكرام! كل علم ننظر إلى موضوعه، فهل يوجد موضوع علم من العلوم أشرف من موضوع علم التوحيد؟ حتماً لا، موضوعه -كما قلت- ذات رب العالمين، وذوات رسل الله الطيبين الطاهرين عليهم صلوات الله وسلامه، والسمعيات من حيث اعتقادها مما يكون في الآخرة من نعيم وعذاب أليم.
إذاً: موضوع نافع، وموضوع ضار، وموضوع لا يُرجى منه منفعة وليس فيه مضرة، فالتوسع فيه عبث، والأخذ منه بمقدار المنفعة هو المطلوب.
فمراده أراده الله وأحبه الله، وأمر به، إذا وُجد في شيء من الأشياء هذه الأمور الثلاثة يقال إنه مراد شرعي، فعلم التوحيد هو مراد الله الشرعي، أراد منا أن نوحده، وأحب لنا أن نوحده، وأمرنا بأن نوحده سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
إذاً أراد وأحب وأمر، مراد الله الشرعي الدال عليه وحيه وكلامه الجامع للعقائد الحقة.
والأمر الثالث الذي هو أحد هذه الأمور الثلاثة التي نحدد بها مراد الله الشرعي يترتب عليه ثلاثة أمور، إذا قلنا (أمر به) يترتب على هذا أن يثيب من قام به، وأن يعاقب من تركه، ويترتب على هذا أن ينهى الله عن مخالفته.
إذاً: يعد ويثيب من قام بهذا الأمر وفعله، يعاقب ويتوعد من ترك ذلك الأمر ومن ضيعه.
إذاً: معلوم علم التوحيد هو مراد الله الشرعي الدال عليه وحيه وكلامه الجامع للعقائد الحقة، هذا هو معلوم علم التوحيد، فهو أشرفها معلوما، كما أنه أشرفها موضوعا، فعلم التوحيد يتعلق بأمور ثلاثة، والمتعلِّق يشرف بشرف المتعلَّق، وعلم التوحيد معلومه مراد الله الشرعي الذي دل عليه وحيه وكلامه الجامع للعقائد الحقة، وهو ما أمر الله به وأحبه وأراده، وهذا هو مراد الله الشرعي؛ لنميز بينه وبين مراده الكوني القدري، وسيأتينا إن شاء الله التوسع في مبحث المشيئة والإرادة، والكلام على إرادة الله الشرعية وإرادته الكونية القدرية عند مباحث علم التوحيد بإذن الله المجيد.
إذاً: هذا الدين أتمه الله لنا ورضيه لنا، وهذا مراد شرعي: رضيه وأراده وأحبه، وإذا كان كذلك فقد أمرنا به ونهانا عن تركه، ويثيب من قام به، ويعاقب من تركه.
ثبت في الصحيحين من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: (قالت اليهود لـ فقال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا اليوم الذي نزلت فيه، والساعة التي نزلت فيها، عشية عرفة على النبي صلى الله عليه وسلم
إذاً: منها أنه يوم عيد، يوم عرفة عيد، هذا اليوم الأول.
اليوم الثاني: اجتماع المسلمين في ذلك اليوم في هذا المكان عيد وفرحة عظيمة، لقاؤهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم عيد، كون ذلك اليوم يوم جمعة كما قال عمر رضي الله عنه: (نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام في يوم عرفة عشية عرفة في يوم جمعة)، ويوم الجمعة عيدنا معشر المسلمين، يوم عرفة عيد للحجاج، اجتماع المسلمين بنبيهم عليه الصلاة والسلام في ذلك الحج هذا أكبر الأعياد، فصارت ثلاثة أعياد وليس عيداً واحداً كما تقولون يا معشر اليهود عليكم غضب ربنا المعبود، ولذلك قال أئمتنا:
عيد وعيد وعيد صرن مجتمعة وجه الحبيب ويوم العيد والجمعة
يعني: إذا صار العيد في يوم الجمعة والتقيت مع أحبابك اجتمعت الأعياد الثلاثة، فالتقوا مع حبيبهم نبينا عليه الصلاة والسلام، هذا عيد، ويوم الجمعة عيد، ويوم عرفة للحجاج عيد.
إذاً: إخوتي الكرام! معلوم علم التوحيد هو مراد الله الشرعي الذي رضيه لنا، وأراده لنا، وأحبه لنا، وأمرنا به، يقول الله جل وعلا في أول سورة محمد عليه صلوات الله وسلامه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ [محمد:1-3].
فهذا التوحيد هو مراد الله الشرعي الذي أمرنا الله باتباعه وأحبه لنا، وأراده لنا شرعاً وديناً سبحانه وتعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:1]، أي أبطل أعمالهم وأذهبها، إن كانت حسنات كصدقة وصلة رحم أُثيبوا عليها في هذه الحياة ولا أجر لهم عليها بعد الممات.
أضل أعمالهم: أبطلها أن كانت كيداً ومكراً بالنبي عليه الصلاة والسلام وبالمؤمنين: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30] ، أضل أعمالهم أبطلها، سواء كانت من أعمال يتقربون بها إلى الله أو من كيد يكيدون به المؤمنين؛ يبطل عملهم، وأثر ما يترتب على فعلهم في هذا وذاك: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ [محمد:2] أي: حالهم، ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ [محمد:3].
علم التوحيد هو مراد الله الشرعي الذي دل عليه وحيه وكلامه، وجمع العقائد الحقة وأرسل الله به جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36] .
إذاً: موضوع علم التوحيد أشرف العلوم موضوعاً، والمتعلِّق يشرف بشرف المتعلَّق، المتعلَّق وهو الموضوع جليل، فالعلم يتعلق بذلك الموضوع فيشرف بشرفه، فعلم التوحيد أشرف العلوم معلوماً، وهو مراد الله الشرعي الذي دل عليه وحيه وكلامه، وجمع بالعقائد الحقة.
ومعنى وثاقة دليله: أي قوة دليله، متانة دليله، شدة دليله، صراحة دليله، برهان دليله، كيف لا وعلم التوحيد أقوى العلوم دليلاً، وقد تقدم معنا أن أدلة علم التوحيد صرائح العقول، والنقل الثابت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، المتلقى بالقبول عند أئمتنا الكرام الفحول.
إذاً: أدلة عقلية معتبرة دلت على توحيد الله، وأدلة نقلية مقررة عند أئمتنا البررة دلت على توحيد الله، والأدلة لا تخرج عن قسمين اثنين: عقلي ونقلي، وهما مجتمعان في توحيد ذي الجلال والإكرام، وهذا لا يوجد في غيره من العلوم.
الفقه على جلالة قدره في كثير من مباحثه، بل لعل الأدق أن أكثر مباحثه أدلة نقلية، إن لم نقل كل المباحث، فلا تستطيع أن تتكلم بحكم إلا بناء على دليل سمعي، هب أحياناً العقل يدرك الحكمة من ذلك وقد يعجز عن إدراك الحكمة، فيقال: تعبدنا الله بذلك فلا بد من امتثال، وأما فيما يتعلق بأمر علم التوحيد فصرائح العقول والنقل الثابت -كما قلت- عن نبينا الرسول عليه الصلاة والسلام، أي دليل النقل ودليل العقل، فهو أقوى العلوم دليلاً.
أما في هذه الحياة: فإذا وحدت الله فأنت مهتدٍ أم ضال؟ مهتد، وأما بعد الممات فأنت خائف أم آمن؟ آمن، قال الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82].
انظر لنتيجتهم ولغاية توحيدهم وعدم شركهم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] (لَهُمُ الأَمْنُ) في الآخرة يوم الفزع الأكبر: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [الأنبياء:103] .
(وَهُم مُّهْتَدُونَ) في الدنيا، بخلاف من ضلوا وغضب الله عليهم، وجعلوا الإله ثلاثة، أو جعلوا العُزير ابناً لله جل وعلا، أي: جعلوا لله أنداد دون برهان وحجة وبينة: أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ثبت في المسند والصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك وإنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]).
إذا حقق الإنسان الإيمان وبرئ من الشرك للرحمن ضمن الله له هذين الأمرين، له هذان الأمران، اهتداء في هذه الحياة، وأمن بعد الممات: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] ، وهذا كما قال الله جل وعلا في الآية المتقدمة في سورة الأنعام: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، والآية الثانية من سورة طه يقول الله: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124].
قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ [طه:123]، أي: في الدنيا لا يضيع لأنه مهتد، والاهتداء ضد الضلال، وإذا انتفى الضلال ثبت الاهتداء، يعني مثل ما نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، أي: غير طريق من علم ولم يعمل كاليهود، أو من عمل بغير علم كالنصارى، وكل من الفريقين ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب، وأخص أوصاف النصارى الضلال، والضال مغضوب عليه وليس منعماً عليه.
ولذلك من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبه بالنصارى، فاليهود ضلوا عن علم، وحرفوا كلام الله واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3] ، والنصارى وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27]، فعندما عبدوا الله على حسب آرائهم، تلاعب بهم الشيطان كما يتلاعب الصبيان بالكرة
إذاً: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ [طه:123] ، في الدنيا وَلا يَشْقَى [طه:123] لأنه آمن، فلهم الأمن في الآخرة، أي: لا يشقى في الآخرة.
ثبت في المستدرك وتفسير ابن أبي حاتم وكتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي ، والأثر رُوى في غير ذلك من الكتب بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124].
وفي رواية يقول ابن عباس رضي الله عنهما: أجار الله قارئ القرآن إذا عمل بما فيه أن يضل في الدنيا، أو أن يشقى في الآخرة.
وفي رواية يقول: من قرأ القرآن وعمل بما فيه، فلا يضل في الدنيا، ووقاه الله سوء الحساب يوم القيامة.
والمعاني الثلاثة كلها تعود إلى شيء واحد، وهو أنه لا يضل في هذه الحياة ولا يضيع فهو على اهتداء وبينة، ولا يشقى في الآخرة ولا يهلك ولا يعذب، فهو آمن ناج: لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] .
إذاً: غاية علم التوحيد الفوز بالسعادة الأبدية، وهي أشرف الغايات وأنبلها وأعلاها وأكرمها.
ونذكر الأمر الخامس الذي يقرر شرف علم التوحيد في موعظة أخرى.
والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر