أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:27-29].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تقدم في الآيات قبل هذه من سورة النور: حرمة الزنا، وأنه فاحشة عظمى، وأن حد الزاني البكر جلده مائة جلده ثم تغريبه سنة في السجن أو خارج البلد. وأما الثيب الذي سبق أن تزوج وعرف الزواج، فإن الحكم فيه الرجم بالحجارة حتى الموت.
وبين لنا تعالى أن الزاني لا يأتي إلا زانية أو مشركة، والزانية لا تأتي إلا زانٍ أو مشرك؛ تنفيراً لعباده المؤمنين من هذه الخصلة القبيحة، السيئة المدمرة للبلد والأمة.
كذلك إذا اتهم رجل امرأته فإن عليه أن يلاعنها في المسجد، فيشهد أربع شهادات، ويلعن نفسه على أنه صادق فيما رماها به، ثم هي إن وافقته أقيم عليها الحد بالرجم، وإن رفضت ما قاله شهدت أربع شهادات، ودعت الله بالغضب عليها إن كان زوجها من الصادقين، ثم يفرق بينهما.
وكذلك حرم الله تعالى القذف، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقول لأخيه المؤمن: زانٍ أو لائط أو فاجر، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يرمي أحد إخوانه أو أخواته بهذه الفاحشة القبيحة المنكرة، ومن أعماه الشيطان وورطه في المحنة وقال: فلان زانٍ، أو أنت زانٍ، أو أنتِ زانية فيطالب بأن يحضر أربعة شهود على دعواه، يشهدون أمام القاضي بأن فلان حقاً زنى، أو أن فلانة زنت، وهيهات أن يظفر بهذا، ولا يمكنه أن يحصل على أربعة شهود بهذا الباطل الذي قاله، وحتى لو كان حقاً فلا يمكن أن يوجد أربعة شهود، وهنا عليه أن يجلد على ظهره ثمانين جلدة، وتسقط عدالته في البلد، ويصبح لا قيمة له، حتى تمضي الأيام ويتوب وتظهر توبته.
قال تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27]. وأما بيتك التي فيها زوجك وأولادك فلا تستأذن، ولكن إذا دخلت فسلم عليهم: السلام عليكم، وأما أن تستأذن على زوجتك فلا، فالاستئذان على بيت غير بيتك؛ لقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27]. فلا تدخلوها حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27].
فمن الأدب اللازم ألا تنادي بأعلى صوت حتى تزعج أهل البيت، وألا تقرع الباب عليهم قرعاً عنيفاً، وتستأذن وتقول: أأدخل؟ بعد أن تسلم عليهم ثلاث مرات، فتقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن قالوا: ادخل دخلت، وإن قالوا: ارجع فيجب أن ترجع؛ لقوله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]. ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:27]، أي: هذه الآداب الرفيعة السامية. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27] ما سبق أن علمتم من حرمة الفاحشة، ومن بيان قبحها؛ حتى تستعملوا هذه الآداب للحفاظ على طهارة أرواحكم، وزكاة نفوسكم.
وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، بمعنى: تستأذنوا، أي: تطلبوا الإذن من أهل الدار أن يأذنوا لكم بالدخول. والكيفية بعد قرع الباب أن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن قالوا: ادخل .. تفضل دخلت، وإن قالوا: ارجع رجعت.
ومن لطائف العلم: أن أحد رجال السلف من الصحابة قال: طلبت هذا أربعين سنة وما ظفرت به، وأنا أود أن يقال لي: ارجع، فأرجع ونفسي مطمئنة، وأنا أحمد الله. فهو منذ أربعين سنة وهو يحاول، ولم يظفر بهذه الفضيلة، فهو يريد أن يقال له: ارجع، فيرجع ونفسه طيبة مطمئنة؛ لأن أكثر الناس لو قيل له: ارجع يغضب، ولا تطمئن نفسه، في حين أن الأصل أن يرجع طاعة لله عز وجل. لكن هذا الصاحب أو الابن من أبناء الصحابية يقول: طلبت هذه الفضيلة أربعين سنة، وأنا أقرع الباب على إخواني وأستأذن حتى يقولوا: ارجع، وهم يقولون: ادخل، وما قال لي أحد ارجع.
وهنا أيضاً يجب إذا قيل: من؟ ألا تقول: أنا. فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه الصاحب ابن الصاحب، فهو صاحب رسول الله ابن صاحبه: ( استأذن يوماً على الرسول، فقال الرسول: من؟ قال: أنا، فصاح الرسول: أنا .. أنا ). ينكر ذلك عليه. فلا تقل: أنا، بل قل: عبد الله أو عمر أو عثمان أو فلان، وكلمة أنا ما تنفع، ولا تجوز، فهذا جابر وقع في هذا وأنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمعتم. فقل: عبد الرحمن إن كان اسمك عبد الرحمن، أو عيسى أو عمر.
وهنا أحد الأبناء يقول: أنا استفدت هذه منكم، مرة واحد قال لي: ارجع، فرجعت. فهنيئاً لك.
وقوله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور:28]، هذا فعل أمر، ولا يحل أبداً معصية الله بحال من الأحوال.
وقوله: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا [النور:28]، أي: إن قال لك صاحب البيت: ارجع، فنحن مشغلون في كذا فارجع ولا تغضب، ولا تكرب ولا تلعن. هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، أي: أطيب وأطهر لنفوسكم، ولو دخلت بدون إذن فيا ويلك! فقد انعكست نفسيتك، وأصبحت من الهابطين. ولكن ارجع امتثالاً لأمر الله عز وجل، وإبقاء على كرامة المؤمنين، وما هم عليه، فهذا يزكي نفسك، ويزيدها طهراً وصفاء، كما قال تعالى: هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28].
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28]. ولنذكر هذه دائماً في مثل هذه المواقف، فاذكر في تحركاتك وسكناتك وما تراه وما تريده أن الله عليكم بك مطلع عليك؛ حتى لا تقع في معصيته بارتكاب مخالفة أمره أو نهيه. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28].
روي في سبب نزول هذه الآية: أن امرأة من الصحابيات من الأنصار -ولفظ الأنصار يقابل المهاجرين- وكانوا في المدينة مهاجرين وأنصاراً -والآن إن شاء الله نكون مهاجرين وأنصاراً- فقالت هذه المرأة: يا رسول الله! إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، إما كاشفة بعض جسمها، وإما كذا؛ لأنه لا يوجد لا والد ولا ولد. ولا أريد أن يدخل علي أحد، قالت: فيأتيني الأب فيدخل علي، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع يا رسول الله؟! فنزلت هذه الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27] وتستأذنوا، وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، الآية.
وهنا قال أبو بكر : يا رسول الله! أرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها مساكن؟ فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29]. فالآية الأولى سبب نزولها امرأة، والآية الثانية سبب نزولها أبو بكر الصديق ، فرضي الله عنهما، فقد كانا سبباً لهذا الخير، وهذه الآداب الكاملة. فالمرأة شكت وتألمت أنه يدخل عليها أبوها ويدخل عليها ولدها وأخوها، وهي لا تريد أن يدخلوا بدون استئذان، ولم يكن الاستئذان مشروعاً، فلما شكت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآية الكريمة، وأبو بكر كان حاضراً في المجلس لما شكت المرأة، فقال: يا رسول الله! إذاً: في طريقنا إلى الشام في التجارة فيها الخانات وفيها الدكاكين، فماذا نصنع؟ فنزل قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29] وحاجتكم.
وهكذا يقول تعالى هنا: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [النور:29]. ليس فيها سكان. فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29]، كالبضائع والحاجات. وهذه كالدكاكين وما إلى ذلك. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29].
وهكذا يربي الله عباده المؤمنين؛ ليعلم المؤمن أن الله يعلم ما يخفيه وما يستره في نفسه، وما يبديه وما يظهره، فإن الله معنا حيث كنا، ونحن بين يديه، وهو يعلم ظاهرنا وباطننا، فلنراقب ربنا عز وجل، فلا نتكلم بكلمة لا يحبها، ولا ننظر نظرة لا يريدها، ولا نتناول لقمة لا يجيزها، ولا نمش خطوة لم يأذن فيها؛ لأنه معنا أينما كنا، يعلم ما نبديه وما نكتمه.
وهذه الآداب السامية الرفيعة انتفع بها المسلمون، وأصبحوا خير أمة على وجه الأرض. وهذه الآداب لا توجد عند الشرق ولا الغرب، ولا عند اليهود ولا النصارى، ولكن لما عم الجهل أضاعها المسلمون وتركوها.
قال: [ معنى الآيات:
نظراً إلى خطر الرمي بالفاحشة وفعلها وحرمة ذلك كان المناسب هنا ذكر وسيلة من وسائل الوقاية من الوقوع في مثل ذلك، ففرض الله تعالى على المؤمنين الاستئذان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] ] والاستئناس غير الاستئذان، وعبر بالاستئناس لأن الحيوان ليس عنده أنس، بل الإنسان يستأنس به.
قال: [ أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً! لا تدخلوا بيوتاً على أهلها حتى تسلموا عليهم قائلين: السلام عليكم، وتستأذنوا قائلين: أندخل؟ ثلاث مرات ] فتقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات [ فإن أذن لكم بالدخول دخلتم. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا [النور:28]، أي: لم يأذنوا لكم لحاجة عندهم فَارْجِعُوا [النور:28]. وعبر عن الاستئذان بالاستئناس لأمرين:
أولها: أن لفظ الاستئناس وارد في لغة العرب بمعنى: الاستئذان.
وثانيهما: أن الاستئذان من خصائص الإنسان الناطق، وعدمه من خصائص الحيوان المتوحش؛ إذ يدخل على المنزل بدون إذن؛ إذ ذاك ليس من خصائصه.
وقوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:27]، أي: الاستئذان ] أي: طلب الإذن [ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:27]، أي: من عدمه؛ لما فيه من الوقاية من الوقوع في الإثم ] وهو الطامة الكبرى الفاحشة والعياذ بالله.
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]، أي: تذكرون أنكم مؤمنون، وأن الله تعالى أمركم بالاستئذان؛ حتى لا يحصل لكم ما يضركم، وبذلك يزداد إيمانكم، وتسموا أرواحكم.
وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا [النور:28]، أي: في البيوت يأذن لكم بالدخول، فَلا تَدْخُلُوهَا [النور:28] ] وارجعوا.
[ وقوله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا [النور:28]، لأمرٍ اقتضى ذلك ] كأن يكون جالساً مع أهله .. مع بناته ويجيء آخر يطلب الدخول فيقول له: ارجع [ فَارْجِعُوا [النور:28]. وأنتم راضون غير ساخطين ] ولا ترجع وأنت غضبان وساخط، فهذا لا ينفع، وليس هو من الأدب الإلهي، بل ترجع وأنت تبتسم فرحاً؛ لأنك امتثلت أمر الله عز وجل، فحاولوا وجربوا أنفسكم.
[ وقوله تعالى: هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، أي: أطهر لنفوسكم، وأكثر عائدة، وخير عليكم.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28]، أي: مطلع على أحوالكم، فتشريعه لكم الاستئذان واقع موقعه. إذاً: فأطيعوه فيه وفي غيره ] من أوامر ونواهٍ [ تكملوا وتسعدوا ].
وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29]، هذه رخصة ] والرخصة من الممنوع [ منه تعالى لعباده المؤمنين، بألا يستأذنوا عند دخولهم بيوتاً غير مسكونة، أي: ليس فيها نساء من زوجات وسريات ] أي: إماء [ يحرم النظر إليهن، وذلك كالدكاكين والفنادق، وما إلى ذلك، فللعبد أن يدخل لقضاء حاجاته المعبر عنها بالمتاع بدون استئذان؛ لأنها مفتوحة للعموم من أصحاب الأغراض والحاجات، أما السلام فسنة على من دخل على دكان أو فندق، فليقل: السلام عليكم ] ولكن الاستئذان ما يستأذن [ والذي يسقط هو الاستئذان، أي: طلب الإذن ] فقط [ لا غير ] وأما السلام فلا يسقط، فلو دخلت دكاناً فقل: السلام عليكم، ويقول في الرد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
[ وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29]، أي: يعلم ما تظهرون من أقوالكم وأعمالكم، وما تخفون. إذاً: فراقبوه تعالى في أوامره ] ونواهيه [ وافعلوا المأمور، واتركوا المنهي؛ تكملوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة ] والله العظيم.
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً: مشروعية الاستئذان ووجوبه على كل من أراد أن يدخل بيتاً مسكوناً غير بيته ] أي: فيه سكانه، فلا يحل له أن يدخل إلا بإذن، وينبغي أن يستأذن ويقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن قالوا: ارجع رجع، وإن قالوا ادخل دخل، وإن قالوا انتظر انتظر.
قال الشيخ في النهر: [ صح أن رجلاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ارجع، فقل: السلام عليكم ). وقال: ( من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له ) ] فلما دخل رجل على الرسول بدون استئذان قال له الرسول: ارجع، وادخل فسلم. ولهذا السلام كالاستئذان، فيقول: أولاً: السلام عليكم، أأدخل؟ ثم إن قيل له: ارجع يرجع، وإن قيل: انتظر انتظر، وإن قيل: ادخل يدخل.
وقال: [ ورد في الصحيح ما يجعل الاستئذان متأكداً فوق المشروعية؛ إذ إن رجلاً اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدراً يرجل به رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الله الإذن من أجل البصر ) ]. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان في بيته وفي باب الحجرة جحر صغير، وهذا يوجد في البيوت القديمة، وتستطيع أن تنظر من خلاله، فهو جحر صغير إلى جنب الباب، ولم تكن البيوت تبنى بالحديد والاسمنت، فهذا الرجل جاء وسلم وكان ينظر مع ذاك الجحر إلى داخل الحجرة ما فيها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرجل شعره بمدر بيده، فقال: ( لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك ). فلهذا حرام علينا أن نتجسس أو نتحسس في بيوت المسلمين. وهذا صريح في أنه لا يحل لمؤمن أن يتسمع بأذنه ماذا يقال في البيت، أو ماذا يحدث، أو يحاول أن يطلع على ما عمى الله عنا مما يجري في البيت. فهذا التجسس حرام في الإسلام، والرسول قال: ( لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك )، أي: بالحديدة التي في يده. فلا يحل أن تتحسس أو تتجسس على مؤمن في بيته، سواء من طريق نافذة .. من طريق شق في الباب .. من طريق كذا. فهذا لا يحل دائماً وأبداً.
[ ثانياً: الرخصة في عدم الاستئذان من دخول البيوت والمحلات غير المسكونة للعبد فيها غرض ] فهذه رخصة، والحمد لله والفضل لله، فقد رخص لنا في عدم الاستئذان في الدكاكين والمقاهي، والمصانع والمطاعم؛ لأنها مفتوحة طول النهار للناس، ولكن إذا دخلت فقل: السلام عليكم، ثم لا تستأذن ولا تقل: أأدخل؟ بل قل: السلام عليكم وادخل، فالباب مفتوح طول النهار. فهذه رخصة. فقد رخص الله لعباده المؤمنين في عدم الاستئذان في البيوت العامة والمحلات العامة.
[ ثالثاً: من آداب الاستئذان أن يقف بجانب الباب، فلا يعترضه، وأن يرفع صوته بقدر الحاجة، وأن يقرع الباب قرعاً خفيفاً، وأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات ] فهذه أربعة آداب:
أولاً: ألا يقف في وجه وعرض الباب، بل يقف إلى جنب الباب؛ لأنه يمكن لما يفتح أن يشاهد امرأة أو يشاهد كذا، فلهذا لا يقف في عرض الباب، بل يقف إلى جنبه. هذا أولاً.
ثانياً: أن يخفض صوته، ولا يرفع صوته، ولا يصيح حتى يزعج الناس، بل يخفض صوته، قائلاً: السلام عليكم. فهذا من الآداب النبوية.
ثالثاً: وأن يقرع الباب قرعاً خفيفاً، وليس بعنف. وهذا موجود عندنا بشدة، فالمستأذن يزعج الإنسان. وقد قلت لكم: كانوا يقرعون باب الرسول بأظافرهم، وليس باليد. وهذا عام، فإذا قرعت باب أخيك فاقرعه بلطف ورفق، وليس بشدة وصوت عالٍ.
وأما الجرس فلا تشد عليه، وإذا كانت الكثرة تزعج، فدق الجرس وانتظر قليلاً، ثم بعد لحظة أو كذا دق مرة ثانية أما كذا الدق متوالياً فهذا في الحقيقة مزعج.
رابعاً وأخيراً: وأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات. فإن قال له: تفضل دخل، وإن قال له: ارجع رجع غير غضبان ولا زعلان، بل وهو راضٍ مطمئن.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ في كل طاعة خير وبركة وإن كانت كلمة طيبة ] ففي كل طاعة لله والرسول خير وبركة والله العظيم، حتى لو كانت في السلام عليكم، فكل طاعة لله والرسول فيها خير وبركة للمطيع، ولو كانت كلمة.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر