إسلام ويب

صدق محبة الرسولللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أسباب انهيار الكيان الإسلامي كثيرة، وأهمها سببان: فالسبب الأول: هو عدم صدق محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب كثير من المسلمين. والسبب الثاني: هو أننا ورثنا الكتاب ولم نقاتل عليه ونتعب لأجله. والمراد من إيراد هذين السببين يتضح بالنظر في أخبار الصحابة وصدقهم في محبة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عن كتاب الله.

    1.   

    انهيار الكيان الإسلامي

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

    فإن دخول الذي يمكر في كيان الأمة المسلمة يجب أن يلقى منها تشخيصاً دقيقاً وأميناً، والذي يخفف من المصائب التي تنزل على العالم الإسلامي لا يكون أميناً ولا صادقاً عندما يبين أن الأمة كلها بخير، وفي اعتقادي أن الأسباب التي أدت إلى الانهيار في بعض جوانب الكيان الإسلامي هي كثيرة، لكنني أتناول شيئين هما لب هذه الأسباب كلها:

    السبب الأول: عدم صدق المحبة عند جماهير المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن تبجح بها كثيرون؛ فإن أكثر أهل الأرض أدعياء، وهذا هو الذي يُفرِق بين جماهير المسلمين في القرون المتأخرة، وبين جماهيرهم في القرون الفاضلة الأولى.

    السبب الثاني: أننا ورثنا الكتاب، ولا شك أن الذي يرث الشيء لا يكون حريصاً عليه كالذي قاتل دونه، كما قال الله عز وجل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الأعراف:169] وليته إذ أخذ عرض هذا الأدنى أحس بأنه مجرم، لكن يقول: سيغفر لنا، فيفعل هذا الفعل الجسيم، ويقول: سيغفر لنا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104] مثل هؤلاء لا يرجعون؛ لأن مثل هذا يعتقد أنه يحسن، فإن أردت أن ترجعه فأنت سترجعه عن الإحسان في نظره فيستحيل أن يرجع، لذلك كان هذا النمط من الأخسرين، أي: لا خسران بعد هذا الخسران المبين.

    1.   

    دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم

    السبب الأول: هو عدم صدق المحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فضرب الأمثلة كافٍ لتوضيح المراد، إننا إذا تجاوزنا هذه السنين الطويلة، وذهبنا إلى خير القرون، وهو القرن الأول وجدنا أن الذي جعل هؤلاء الصحابة يستميتون في الذود عن حياض هذا الدين، هو هذه المحبة الصادقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت في قلوبهم.

    قصة أبي أيوب مع النبي صلى الله عليه وسلم

    عندما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مهاجراً؛ فإنه نزل في دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وهذه القصة في صحيح مسلم ، وكان لدار أبي أيوب طابقان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي أيوب بعدما عرض عليه أن يسكن في أعلى البيت: (يا أبا أيوب السُفل أرفق بنا يغشاني أصحابي)، السُفل: أي المكان الأسفل أرفق بنا، بحيث أن أي رجل يريد النبي عليه الصلاة والسلام لا يدخل على بيت أبي أيوب ، ثم يصعد إلى فوق.

    قال أبو أيوب : (وكنا نرسل إليه الطعام، فعندما نأكل نسأل من أين أكل؟ فنتحرى موضع أصابعه فنأكل منه، وكذلك إذا شرب نتحرى موضع الشرب فنشرب منه، قال: فأرسلتُ له يوماً طعاماً فيه غفنٌ أو ثوم فرده ولم تظهر يده فيه، قال: ففزعت، ونزلت، فقلت: يا رسول الله، أحرام هو؟ -يعني: البصل والثوم؛ لأنه لم يأكل منه- قال: لا لكني أنُاجى والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، قال أبو أيوب : لا جرم أن أكره الذي تكره).

    مع أن البصل والثوم حلال، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه.

    قال أبو أيوب : (وانتبهت ليلةً، فقلت: أأنا أمشي على سقيفتي وتحتها رسول الله!) يعني: يمشي أبو أيوب هو فوق الخشب ورسول الله تحتها، وفي بعض الروايات كما في الصحيح قال: (وانكسر لنا إناء، قال: فجففت الماء بلحافي ولحاف امرأتي، وما لنا غيره خشية أن تنزل نطفة من الماء على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لامرأته: انزوي) وانزووا جميعاً في ركن البيت حتى لا يمشيان على سقيفة تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح الصباح نشده أن يصعد، وقال: (لا أعلو سقيفةً أنت تحتها) فهل يتصور في مثل أبي أيوب الأنصاري ، إذا سمع قولاً أو رأى فعلاً من النبي عليه الصلاة والسلام أن يخالفه؟

    قال الإمام تقي الدين السبكي في رسالته: (بيان قول الإمام المطلبي -وهو الإمام الشافعي رحمه الله-: إذا صح الحديث فهو مذهبي) قال: (وليتخيل أحدكم نفسه إذا سمع الحديث أنه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمره أو ينهاه هل يكون بوسعه أن يخالف؟)

    إذا قلت لك الآن حديثاً تخيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يقول لك هذا الكلام، أيكون بوسعك أن تتخلف؟

    لا يكون بوسعك بطبيعة الحال، لكن بُعد المسافة عن مصدر الضوء سبيلٌ إلى الإيغال في الظلام، كلما اقتربت من مصدر الضوء كلما أصبت شيئاً من ضوئه، وكلما ابتعدت عن هذا المصدر كلما أوغلت في الظلام، وهذا المصطلح هو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    لهفة المرأة الصحابية على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد

    في غزوة أحد لما حدثت المقتلة للمسلمين، وهم قافلون إلى المدينة، قيل لامرأة كانت تنتظر: (مات زوجك، مات أبوكِ، مات ولدك، مات أخوكِ، ماذا بقي لها؟ فقالت لهم: وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير، قالت: أريد أن أراه). لا تريد خبراً عن زوجها ولا أبيها ولا أخيها ولا عن أي شيء، بل سألت عن المحبوب الأعظم عليه الصلاة والسلام (ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير، قالت: أروني إياه، فلما رأته قالت له: كل مصاب بعدك جلل) أي: صغير لا قيمة له، هذه المحبة هي الوقود الحقيقي الذي يدفع المسلم.

    ضياع محبة النبي صلى الله عليه وسلم على المستوى الإعلامي

    إن النكوص عن المحبة في صدور كثير من المسلمين هو المسئول عن هذا الضياع الذي يعانيه المسلمون الآن، منذ عدة أشهر قرأت في صحيفة الأخبار عموداً في غاية العجب، وهو أن بعض الناس ألف كتاباً أسماه: (فنانات تائبات)، وسرد قصص بعض الفنانات اللواتي اعتزلن الفن ولماذا اعتزلن؟ وأراد أن ينشر إعلاناً لهذا الكتاب في التلفاز وفي بعض الصحف الرسمية، فأبوا عليه إلا أن يغير العنوان؛ لأن معنى هذا العنوان أن الفنانات الموجودات عاصيات، وهذا جرحٌ لشعورهن، فقالوا: إذا أردت أن يُنشر الكتاب غيِّر العنوان، بينما نشر أحد الرسامين المتهتكين الذين أهلكهم الله عز وجل صوراً -وأنا أقولها بمرارة كبيرة- لديك وتسع دجاجات، أظنكم فهمتم من المقصود، أغبى الناس الذي ليس له إدراك يعلم من المقصود بالصورة، فكيف إذا كان التعليق أسفل الصورة، (محمد جمعة وزوجاته التسع) كيف مرر رئيس التحرير هذه الصورة الجارحة لمشاعر ملايين المسلمين، وهنا رفضوا نشر الكتاب الذي يجرح مشاعر من لا قيمة لهن، ملئت البلاد بالفساد العريض، فعبارة (محمد جمعة وزوجاته التسع) هذه عبارة لا تحتاج إلى تأويل، ولا إلى دلالة مفهوم؛ لأنها واضحة، فكيف مرت عليهم؟

    وفي عنوان الكتاب تعدوا دلالة المنطوق إلى دلالة المفهوم وأن قوله: (فنانات تائبات) معناه: أن اللاتي لا زلن في الفن عاصيات، كيف فهموا هذا؟ ولم يسمحوا أن يمرروه، وهناك عشرات الرسوم التي تطعن في دين الإسلام، ففي مجلة صلاح الدين رسام يرسم ناراً وكتب فوقها: (جهنم الحمراء) ورسم جماعة من الناس في الزاوية يصرخون ويرفعون أيديهم، وفي الزاوية الأخرى شخص عنده مروحة ويبتسم ابتسامة لذيذة تنم عن سعادة ورضا -هذا في جهنم الحمراء!- وكتب تحتها (مرسي)، أليس هذا طعنٌ في الله تبارك وتعالى؟!

    إذا أراد الله أن يرحم أحداً لا يُسأل عما يفعل، لكن أن يضعهم في النار ويضع المروحة!! هل هذا الكلام معقول، معقول أن تمرر هذه الرسوم التي تجرح ملايين المسلمين ولا تنم عن أية صلة بهذا الدين.

    إن الله تبارك وتعالى يعاقب الأمة كلها إذا لم تضرب على أيدي سفهائها، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] على أحد معاني الآية: لا تصيبن الذين ظلموا فقط، إنما تصيب أيضاً الذين سكتوا على الذين ظلموا ولم يأخذوا على أيديهم.

    فأين محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المستوى الإعلامي، وأين توجد؟

    موقف ابن عمر من ابنه حين اعترض على السنة

    ابن عمر رضي الله عنهما وأين في الناس ابن عمر ؟ لما حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً كما في صحيح مسلم ، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا استأذنت امرأة أحدكم أن تذهب إلى المسجد فلا يمنعها)، فقال أحد أبنائه: (لنمنعهن، يتخذنه زغلاً) والزغل هو: المكان المرتفع من الدار، يريد أن يقول: لنمنعهن؛ لأن المرأة إذا أرادت أن تقضي حاجتها احتجت بأنها تريد الذهاب إلى المسجد، فاستعظم ابن عمر أن يعارض قول النبي عليه الصلاة والسلام ولو بتأويل، فرماه بحصيات وطرده في آخر الليل، ولم يدخل عليه حتى مات؛ لأنه فقط عارض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من أن يعارض كلامه بمثل هذه المعارضة.

    هذه هي البركة التي رفعت هؤلاء الناس ومن ذكرت من قبل.

    موقف جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق

    في صحيح البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (كنا نحفر الخندق فوقفت أمامنا صخرةٌ عظيمة، ظللنا ثلاثة أيام ما ذقنا فيها ذواقاً -أي: لم يأكلوا شيئاً، وكانوا يستعينون بربط الحجر على البطن لتقليل حدة الجوع- قال: فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! صخرةٌ عظيمة لا تعمل فيها المعاول، قال: فقام معي وأرى الجوع في وجهه، فأومأ بالمعول، وقال: باسم الله، وضربها ضربةً فكانت كثيباً أهيم -أي: صارت رملاً- قال: فاستأذنته أن أذهب إلى البيت، فذهب إلى امرأته، فقال لها: ماذا عندك من الطعام، فلقد رأيت شيئاً لا صبر لي عليه؛ رأيت الجوع بوجه النبي صلى الله عليه وسلم) أرجو أن تتذكر أن جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: ظللنا ثلاثة أيام ما ذقنا فيها ذواقاً، إذاً: هو جائعٌ أيضاً، لكن حبه للنبي عليه الصلاة والسلام جعله يقدم حاجة النبي عليه الصلاة والسلام على حاجته.

    قال: (لقد رأيت شيئاً ما لي به صبر؛ رأيت الجوع في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا عندكِ من الطعام؟ قالت: ما عندي شيء، عندي عناق -جدي صغير-، وعندي صاعٌ من شعير، قال: فأخذ العناق فذبحه، وقال: اعجني هذا الصاع، قالت له: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، لكن ائتِ به وبنفر من أصحابه، فذهب جابر ونادى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: كذا وكذا، عندنا عناق وصاع فقط من شعير، فإن شئت أن تأتي، ويأتي بعض أصحابك، قال جابر : وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصرخ في أهل الخندق، يا أهل الخندق! هلموا قد صنع لكم جابر طعاماً، قال جابر : فأدركني من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، ماذا أقول؟ فلما رجع إلى البيت ورأت امرأته هذا المنظر، قالت له: بك وبك، قال لها: قد قلت الذي أمرتني به، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صاح في أهل الخندق، قالت له: وهل أعلمته بما عندنا من الطعام؟ قال: نعم، قالت: فلا عليك، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرى، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـجابر -من فقهه-: فلا تضع اللحم على النار، ولا تدع امرأتك تخلط العجين حتى أجيء، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أين برمتكم؟ -فيها اللحم- فجيء بها، فبصق فيها وبارك، ثم قال: أين عجينكم؟ فجيء به، فبصق فيه وبارك، قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا وتركوا وكانوا ألف رجل، وبقيت فضلة أهدينا منها لجيراننا، ووالله لقد انصرفوا والبرمة كما هي، والعجين كما هو) .

    فانظر إلى جابر وإلى شفقته، يرى النبي صلى الله عليه وسلم جائعاً فيحز في نفسه، فهل تتصورون أنه إذا سمع قولاً أو رأى فعلاً من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخالف؟ أبداً.

    لقد رأينا عند علماء الأصول أن الفعل المجرد لا يقتضي الوجوب، بخلاف القول المجرد؛ فإن الأقوال المجردة تقتضي الوجوب، ما لم يكن هناك صارف، بخلاف الأفعال، فلا تقتضي الوجوب إلا بدليل خارجي.

    ومع ذلك رأينا الصحابة يتقَّفون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تفيد الوجوب بمجردها فضلاً عن الأقوال، وهذا من شدة الحب، فهذا هو الاتباع الحقيقي، والاتباع فرع عن هذه المحبة، إذا أحببت النبي عليه الصلاة والسلام بصدق وبكل قلبك يستحيل أن تدع اختياره لاختيارك أنت.

    إجلال عمرو بن العاص للنبي صلى الله عليه وسلم

    روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري رحمه الله، قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فحول وجهه إلى الجدار وجعل يبكي طويلاً، فجعل ابنه يقول: يا أبتِ، ألم يبشرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكذا وكذا؟ يهدئ من روعه وبكائه، قال: فالتفت إلينا وقال: إن أفضل ما نعد لهذا اليوم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لقد رأيتني على أطباق ثلاث -أي: على ثلاث مراحل من حياتي- لقد رأيتني وما أحدٌ أشد بغضاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مني، ولا أحب إليّ من أن أكون استمكنت منه فقتلته، وإذا مت وأنا على هذه الحال لكنت من أهل النار، فلما أسلمتُ جئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، قال: فبسط يده، قال: فقبضت يدي، فقال لي: مالك يا عمرو ؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: يا عمرو ، أو ما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، قال عمرو : فما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من النبي صلى الله عليه وسلم، ووالله ما كنت أستطيع أن أُحِد النظر إليه إجلالاً له، ولئن سألتموني أن أصفه لكم لما استطعت؛ لأنني ما كنت أطيق أن أُحِد النظر إليه تعظيماً له، فإن مت على هذه الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم حدثت أمور وولينا أشياء يغفر الله لنا) فساق وصيته عند الموت.

    فتنظر إليه وهو يقول: (ما كنت أستطيع أن أحد النظر إليه إجلالاً له) من هيبته، ومن تعظيم عمرو بن العاص له صلى الله عليه وآله وسلم، ما كان يستطيع أن يملأ عينيه منه، فهل يتصور من مثل هذا إذا سمع قولاً للنبي صلى الله عليه وسلم أو رآه يفعل فعلاً أن يخالفه؟ أبداً.

    تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية

    في صحيح البخاري ومسلم من حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود الثقفي ذهب لقريشٍ، وقال لهم: (هل تخونوني؟ قالوا: لا. قال: أنتم مني بمنزلة الوالد، وأنا منكم بمنزلة الولد، دعوني آتيه صلى الله عليه وسلم، فقد عرض عليكم خطة رشد)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! ما تجيء لي قريش بخطة رشدٍ إلا قبلتها) فيقول عروة: دعوني آتيه فأسمع منه، فجاء عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الصحابة حوله، فقال: (يا محمد! لئن ظهرت على قومك -أي: انتصرت عليهم- فهل سمعت بأحدٍ اجتاح قومه قبلك؟...) يعرض عليه الأمرين: حال انتصاره، وحال هزيمته، فيقول له: فرضنا أنه قام بينك وبين قريش حرب، وظهرت عليهم، وانتصرت، هل سمعت بأحد اجتاح قومه قبلك؟ (وإن كانت الأخرى -إن كان لابد من نشوب قتال- فلا أرى حولك إلا أوباشاً خليق أن يفروا ويدعوك -أي: إذا قامت الحرب- فسمع صوتاً من الخلف يقول له: أنحن نفر وندعه، امصص بظر اللات، فالتفت إلى هذا القائل، وقال: من هذا؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا ابن أبي قحافة أبو بكر ، فالتفت إليه عروة وقال له -وتمعنوا لهذه الكلمة-: لولا أن لك عليَّ يداً في الجاهلية لأجبتك).

    الجاهليون يحفظون اليد، وكان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك بلحيته، وكانت هذه عادة عند العرب أن الرجل إذا حدَّث جليسه يكثر من أن يمسك بلحيته، وهذه وإن كانت عند العرب عادة لكنها تضاد التوقير، فكان يقف شابٌ بسيفه على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما مد عروة يده ضربه ذلك الشاب بذباب السيف، ويقول: (نحِ يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلا يلبث عروة أن تغلبه العادة فيمس يد النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا الواقف يعاجله بضربةٍ على يده، حتى قال له: (لئن مددت يدك لأقطعنها).

    وما عرفه لأنه يلبس اللثام، وكان هو المغيرة بن شعبة ، وعروة بن مسعود عم المغيرة ، ولمّا علم المغيرة أن عمه قادم ذهب فتلثم ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فلما أكثر من الضرب على يد عروة بن مسعودعروة يرى رجلاً ملثماً لا يعرف من هو- قال: (تنح عني، ما أظنك إلا رجل سوء -لكثرة ما يضرب يده بذباب السيف- من هذا الذي آذاني؟) فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ({هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة)، فالتفت إليه عروة ، وقال له: (أي غُدر! ما زلت أسعى في غدرتك، وهل قد غسلت سوأتك إلا بالأمس؟).

    وكان المغيرة صاحب اثنا عشر رجلاً في الجاهلية، فلما شربوا الخمر قتلهم وأخذ أموالهم وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، فقدم له المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء، إنه أخذ غدراً) حتى لو كان من كافر، وأبى أن يأخذ المال، فلما وصل إلى القبائل أن المغيرة قتل رجالها كادت أن تقوم حربٌ بين القبائل، فقام عروة بن مسعود عم المغيرة وقال: أنا أدفع دية هؤلاء، فكفت الحرب، فيقول: (أي غدر! ما زلت أسعى في غدرتك -أي: أنا حتى الآن أدفع دية الذين قتلتهم وأخذت أموالهم- وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس -أي: عندما أسلمت-).

    فانظر حب المغيرة ، يضرب عمه؛ لأنه يمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام وهي عادة، لكنها تضاد التوقير.

    وأخذ عروة يراقب أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فوالله ما كان يتوضأ بماءٍ فيسقط على الأرض إلا يتقاتلون على ماء الوضوء، وما رأيت أحداً منهم يحد النظر إليه تعظيماً له، وإذا أمر امتثلوا أمره، وما يبصق بصاقاً فيقع في يد أحدهم إلا دلك به جلده، وما استطاع من بدنه) رأى هذه الصورة وكان قد حكم عليهم أنهم أوباش لا يستطيعون أن يثبتوا في الذود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رأى بأم عينيه، وظل يراقب وذهب إلى قريش، فقال لهم: (والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، ووالله ما رأيت أصحاب ملكٍ يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمدٍ محمداً، والله ما بصق بصاقاً فوقع في يد أحدهم إلا دلك به وجهه وجلده، وما توضأ بوضوءٍ إلا اقتتلوا عليه، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وإذا أمر يمتثلون أمره، وما أرى لكم قبلاً بهم).

    صورة عظيمة جداً لهؤلاء الصحابة دعاهم لها حب هذا النبي الكريم.

    المسئول عن هذا الضياع الذي يعيشه المسلمون الآن بكل صدق هو أن هذه المحبة غائبة مهما زعم الزاعمون أنهم يحبونه.

    لقد رأينا في سير المحبين عجباً! رأينا الرجل إذا أحب امرأةً تفانى في حبها، ولعلكم تذكرون قول القائل مجنون ليلى الذي أطلقوا عليه هذا اللقب، يقول:

    أمر على الديار ديـار ليـلى أُقبل ذا الجـدار وذا الجـدارا

    وما حب الديار شغفن قلـبي ولكن حب من سكن الديارا

    حنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم

    لما روى الحسن البصري حديث حنين الجذع، لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب على جذع النخلة، فلما قالوا له: نصنع لك منبراً، قال: إن شئتم، فخطب على المنبر، قال جابر: (فسمعنا حنيناً للجذع كحنين الصبي).

    فقال الحسن : (يا معشر المسلمين! أيكون الجذع أشد حنيناً للنبي صلى الله عليه وسلم منكم؟) خشبة تكون أكثر حنيناً للنبي صلى الله عليه وسلم منكم، وذاك الذي أراد أن يرسل إلى من يحب شيئاً، فلم يجد، فبكى وأنشد قائلاً:

    أرسلت دمعي للحبيب هديـةً ونصيب قلبي من هواه ضلوعه

    قال اجتهد فيما يلـوح بقتلنا قلت ابتهج جهد المقل دموعه

    ما أستطيع أكثر من هذا.

    سب النبي أو الرب أو الدين كفر

    إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم المحبة الصادقة يفتقدها المسلمون اليوم، لقد ذكر العلماء أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل ردةً لا حداً؛ لأن تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام لا يحتاج إلى علم، وتعظيم الله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى علم، لذلك أفتى من أفتى من العلماء بأن الذي يسب دين الله كافر مرتد، مهما قال: أنا لا أقصد، أنا أهزل أنا غضبان، فلا يتصور أن محباً لدينه يسب ربه إذا غضب، فهذا غير معقول.

    وقد حكم الله تبارك وتعالى بالكفر على أمثال هؤلاء: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]، فالمسألة هذه لا تحتاج إلى علم وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب موالاته واتباعه لا يحتاج إلى علم، وتعظيم الرب تبارك وتعالى لا يحتاج إلى علم، لذلك حكموا أن الذي يسبه كافرٌ مرتد، إذ لا خير فيه.

    هذا هو الداء العضال الأول الذي تسبب في هذا الضياع الذي يعيشه المسلمون الآن، بعدهم وصدهم عن قول النبي صلى الله عليه وسلم بضروب من التأويل البغيض الواهي، ما تقول له قولاً إلا وقال لك: يحتمل كذا، ويحتمل كذا، ويضيع دلالة الحديث باحتمالاته، وقد يكون المعنى واضحاً غاية الوضوح، وهذه شقاشق تلقفها من لا يحسن عن هؤلاء العلماء، فأخذوا أسباب الضياع، فتركوا الاتباع فضلاً عن هذه المحبة العظيمة التي يجب أن تكون في صدر كل مسلم للنبي عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    وراثة الكتاب وعدم العمل به

    السبب الثاني: أننا ورثنا الكتاب بخلاف الأوائل الذين قاتلوا على هذا القرآن وأهريقت دماؤهم بسبب تبليغ آيات الكتاب الحكيم، فالذي يضحي برقبته في سبيل الآية، لا يستوي مع الذي ورث قرآناً كاملاً لا يحسن أن يقرأه أحياناً: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا [الأعراف:169] لذلك تهون عليهم آيات الكتاب فيتأولونها بتأويلٍ باطل.

    التأويل والتحريف لنصوص الكتاب والسنة

    لقد دخلت مرةً مسجداً، وفيه بعض أولئك الذين يفسرون القرآن الكريم تفسيراً يعود على النص بالإغفال، لا أسميه تأويلاً بالباطل، لكنهم يحرفون الكتاب، فيفسرون قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وهي آية واضحة جداً عند أي رجل يفقه شيئاً من لسان العرب، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي: من الذي يشفع عند الله إلا بإذن الله، هذا معنى الآية، فيقول: لا. هذا المعنى الظاهر، لكن هناك معنى أعمق، وهو (من ذل ذي (يشف) عِ) أي من (ذل) من الذل، (ذي) اسم إشارة؛ إشارة إلى النفس أي: من ذل نفسه (يشف) من الشفاء، (عِ) فعل أمرٍ من (وعى) أي: عِ هذه الحقيقة، فأدى تأويله هذا إلى إيجاد كلماتٍ مختلفة عن كتاب الله، فنفى معنى الآيات، وأتى بمعنى جديد، وهناك فرقٌ بين الذين يؤولون تأويلاً باطلاً، وبين الذين يحرفون النص، قد يقول قائل: وما الفرق؟ إذا كان التأويل باطلاً، قد أبطل النص أيضاً، وهو باطل في ظاهره، فيقال: لا؟ لأن التحريف الباطل لا يوجد من يرده، بخلاف ما إذا ظل النص سليماً كما هو فيأتي الراشدون من العلماء يبينون حقيقته، أما إذا حُرف النص فماذا يبقى بيد العلماء؟

    وهذا اللون من التحريف لا يستطيع أحدٌ أن يثبته في المصحف، لكنه يمكن في غير كتاب الله تبارك وتعالى، فيكون إيجاد كلماتٍ جديدة في كتابٍ خارج عن المصحف؛ وقد وجدنا أن هناك أناساً يستحلون مثل هذه الأشياء، وقد يطول على الناس زمان، يثبتون مثل هذا في المصحف، فقد ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الأصنام ستعبد في جزيرة العرب.

    ولكل ساقطة في الأرض لاقطة وكل نافقة يوماً لها خلق

    فالجرأة على تفسير القرآن الكريم على غير ما كان السلف الصالح يفسرونه به، هذا من أسبابه أن هؤلاء ورثوا الكتاب، كما لو ورثت مالاً عن والدك، قد تنفق هذا المال كله في لحظةٍ من اللحظات، ولا تذرف عليه دمعة إذا ضاع كله، بخلاف الذي جمع المال بنفسه، لذلك كان التعبير القرآني دقيقاً جداً: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ [الأعراف:169]؛ لأن الذي ورث ليس كالذي قاتل على آيات الكتاب.

    قصة إسلام أبي ذر وصبره على الأذى

    انظر مثلاً في قصة إسلام أبي ذر وهي في الصحيح، لما أرسل أخاه إلى مكة يتلمس الأخبار عن هذا الذي يزعم أنه نبي، ويأتي بمقاله، فذهب أخوه ثم رجع إليه يقول: (يدعو إلى مكارم الأخلاق وصلة الأرحام، فقال: لم تكفني)، فجهز زاداً وانطلق إلى المسجد الحرام، وظل ثلاثة أيام؛ لأنه لا يستطيع أن يقول: دلوني على الذي يزعم أنه نبي، وإلا فتكوا به، فظل ثلاثة أيام يمر عليه علي بن أبي طالب ينظر إليه، وينظر إليه أبو ذر ، فيقول: أمَا آن للغريب أن يعرف سبيله، فقال أبو ذر : (فاستضعفت رجلاً منهم -نظر في الكفرة، فرأى رجلاً نحيلاً ضعيفاً هزيلاً- فقلت: أسألك -لأن الضعيف مأمون الغائلة غالباً أو دائماً، فقال له: أين هذا الذي يزعمون أنه صابئ؟

    فأشار هذا الضعيف إلى الجلوس، وقال لهم: الصابئ الصابئ)، وهذه كالشفرة معناها: اقبضوا عليه؛ لأنه يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال أبو ذر : (فاستداروا عليّ بكل مدرة وعظم حتى كأنني نصب أحمر) من كثرة الدماء التي سالت عليه، فهرب منهم، وما أنقذه إلا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: (ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم يمر على غفار؟ فتركوه، خوفاً من غفار أن تنتقم وتأخذ التجارة منهم، وهربوا، فلقيه علي بن أبي طالب قال: (أمَا آن للغريب أن يعرف سبيله؟ قال: إن كتمتني قلت لك، قال: وما ذاك؟ قال: أين هذا الذي يذكرون أنه صابئ، قال: اتبعني، فإذا خفت عليك -لأن هناك جماعة يرقبونه- سأعمل كأني أريق الماء -أي: يتبول- وما زال وراءه حتى ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما أن رأيته حتى علمت أن هذا ليس بوجه كذاب، فسمع منه وآمن، فقال له: (لا تجهر بها حتى نظهر) -أ:ي حتى نهاجر إلى المدينة- فقال له: والذي بعثك بالحق لأقذفن بها بين أظهرهم، وذهب إلى المسجد وصاح بالشهادة، قال: فانهالوا عليه بكل مدرةٍ وعظم، فما أنقذه إلا العباس ، ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم يمر على غفار، فهرب منهم ثلاثين يوماً، ما له طعامٌ ولا شرابٌ إلا ماء زمزم، قال: حتى تكسرت عُكن بطني ولم أشعر في كبدي بجوع)، تكسرت عكن بطني، يعني: حتى أصبح لحم بطنه طبقات، لا يأكل ولا يشرب إلا ماء زمزم، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم).

    تصور رجلٌ مثل أبي ذر يعلم العواقب الوخيمة التي ستنهال عليه من جراء الصدع بالشهادة، فمبجرد أن سأل: أين الصابئ؟ حولوه كتلة دم، فكيف لو ذهب وجهر بالدعوة ماذا سيفعلون به؟ ومع ذلك استعذب أن يصدع بها وهو يعلم العواقب، فهل رجلٌ مثل أبي ذر إذا تلا آيةً من كتاب الله أو سمع حديثاً من النبي عليه الصلاة والسلام يمكن أن يخالفه؟

    تنصيص عمر على آية الرجم

    هذا هو الفرق بين الذين ورثوا الكتاب وبين الذين قاتلوا على الكتاب، لذلك كان الكتاب عزيزاً عليهم، وكانوا ينفون عنه أي تأويلٍ فضلاً عن تحريف، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صيانته للقرآن الكريم قال: (سيأتي أقوامٌ يكذبون بالرجم، ولقد كان فيمن نقرأ من قبل في كتاب الله تبارك وتعالى: (إذا زنى الشيخ والشيخة، فارجموهما ألبتة، بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم). ثم إن الله رفع هذه الآية -وهو المعروف عند العلماء بنسخ النص مع بقاء الحكم- ولقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر ورجمت، ولولا أن يقول أناسٌ: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها على حاشية المصحف) الذي هو الرجم.

    حرص عمر على عدم خلط القرآن بالحديث

    روى الدارمي في سننه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بعث جمعاً من الصحابة يعلمون الناس الإسلام قال لهم وقد خرج في بعض الطريق يمشي معهم، قال: (أتدرون لماذا مشيت معكم؟ قالوا: نحن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولنا عليك حق، قال: لا لهذا خرجت، إنكم تأتون أقواماً لهم دوي للقرآن، فإذا رأوكم قالوا: هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تصدوا الناس عن القرآن بالحديث، أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا حليفكم) حفاظاً على المرء، حتى لا يكثر التأويل الذي يحير القارئ، بينما الآن افتح بعض التفاسير المطولة، تجد أقوالاً تشرق وأخرى تغرب، والواحد تائه بين هذه الأقوال، لا يستطيع أن يرجح ما هو المقصود، حتى إن بعض الناس فسروا آيات القرآن الكريم على العلم الحديث، فيستدل على أن الأرض كروية، وغيره يقول: الأرض بيضاوية، ويستدل بقوله تعالى: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30]، أي: جعلها مدحية بيضوية، والله أعلم إذا قالوا: إنها مربعة مستطيلة، يمكن أن يقول لك: القرآن يقول ذلك، وليس القرآن كتاباً جغرافياً أو كتاب تاريخ، إنما القرآن كتاب هدى، ينزل على القلب، يسمعه القارئ فيعرف مراد الله تبارك وتعالى، لذلك هذه الاستنباطات التي تزيد على مجرد اللفظ، وإن كانت تفيد الباحث والعالم، لكنها تصد العوام كثيراً.

    موقف عمر ممن يسأل عن المتشابه

    نحن لا ننسى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد صبيغ بسبب أنه سأل سؤالاً في أجناد المسلمين، كان أبو موسى الأشعري قائد المسلمين، فإذا برجل اسمه صبيغ العراقي يسأل المسلمين عن الآيات المتشابهات، فوصل ذلك إلى أبي موسى الأشعري ، فأرسل إلى عمر ، فقال عمر : أرسله إليَّ، فلما جاء به الرسول ودخل على عمر ، قال: جئت بـصبيغ ، فدخل عليه صبيغ، فقال له: أنت الذي تسأل في أجناد المسلمين عن محدثة؟ ودعا بجريد رطب، والجريد الرطب أشد في الإيلام من الجريد اليابس، فما زال يضربه حتى انبجس منه الدم، فتركه عمر حتى برأ، فجاء به، فما يزال يضربه حتى انبجس منه الدم، وتركه حتى برأ، وجاء به في المرة الثالثة، وهمّ أن يضربه، فقال صبيغ : (يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد أن تقتلني فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برأت -تبت- فأرجعه عمر إلى أبي موسى الأشعري ، وقال: هذا لا يحدثه أحد)، وامتثل المجتمع كله؛ لأن هؤلاء رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، لا يستعظمون عين الخلق، ويستحقرون عين الله تبارك وتعالى.

    ففي قصة كعب بن مالك في غزوة تبوك لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين ألا يكلموه واشتدت عليه الوحدة، ذهب إلى أبي قتادة الأنصاري قال كعب بن مالك : (وهو ابن عم لي وأحب الناس إليَّ)، ولكن جفوة المسلمين وعدم تكليمهم إياه جعلته يكاد يبكي، كما قال الله عز وجل: ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ [التوبة:118] فتسلق الجدار وأبو قتادة وحده ولا أحد معه، قال له: (السلام عليك يا أبا قتادة ، قال كعب بن مالك : فوالله ما رد عليَّ السلام)؛ لأنه مأمور ألا يسلم، وهناك أناس يقولون: لا، المقصود الكلام العادي، ورد السلام واجب وليس من الكلام العادي فيصدر حكماً، بل هو مأمور بعدم السلام، وعدم السلام يدخل فيه كل كلام، قال: (فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم) وهذا ليس تكليماً من أبي قتادة لـكعب بن مالك ، بل يمكن أن يكلم نفسه، لكن ليس هناك كفاح ولا مواجهة.

    فنفذ أمر عمر بن الخطاب هذا المجتمع الذي هو كما قال رجل لـعلي بن أبي طالب : (يا أمير المؤمنين! لماذا انشقوا عليك ولم ينشقوا على عمر ؟ فأجابه إجابة مفحمة، قال: لأن عمر كان والياً على مثلي، وأنا والٍ على مثلك)، هناك فرق، يأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يكلمه أحد، فلا يكلمه أحد، حتى شق جداً عليه، فذهب يشتكي إلى أبي موسى ، فأرسل أبو موسى لـعمر أن حسنت توبته، فأمر المسلمين بتكليمه.

    وبمثل هذا صان المسلمون كتاب الله تبارك وتعالى عن دخول الأقوال الباطلة باسم التفسير، حيث كان الرجل يخشى أن يفسر تفسيراً مستقيماً فيجلد عليه، فكيف لو أنه قال تفسيراً باطلاً.

    فصان المسلمون كتاب الله تبارك وتعالى؛ لأنهم قاتلوا عليه، فأحد أسباب الوهن الأخرى أننا ورثنا كتباً كثيرة جداً، لكن لم ننتفع بها، فتدخل على الرجل منا فتجد عنده مكتبةً لم تكن عند مشايخ الإسلام.

    عدم انتفاع المتأخرين بالكتب المطبوعة

    العز بن عبد السلام لم يكن يمتلك المحلى لـابن حزم ، ولا كان عنده المغني لـابن قدامة ، إنما كان يرسل لـمحيي الدين بن عربي الرجل الصوفي يستعير منه المحلى والمغني إذا أراد أن يفتي، وكان يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن صار عندي المغني والمحلى ، أما الآن فتجد المغني والمحلى شيئاً طبيعياً جداً من كتب الفقه العامة عند كثيرٍ من المسلمين.

    الشيخ: أحمد شاكر رحمه الله كتب تعليقاً على المحلى عندما رأى أثراً عن عبد الرزاق في المصنف كان الشيخ أحمد شاكر يتكلم على مصنف عبد الرزاق كما لو كان الغول أو العنقاء، يعني: كأنه غير موجود على الإطلاق، ويقول: إن هذه الكتب كانت موجودة عند هؤلاء العلماء كالمصحف في أيدي الصبيان في الكتاتيب، والآن لا نعلم أنه يحفظها عالم، قال: الآن مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، ومصنف سعيد بن منصور، وهذه الكتب التي تعنى بالآثار، هي الآن موجودة مطبوعة عند كثير من طلاب العلم، لكن هل استفاد المسلم من هذه الكتب ومن هذا الفقه الموجود في الكتب؟ قد يموت وهناك بعض الكتب التي كان ينام فيحلم بها، واقتناها، يموت ولا يمس منها ورقة، إرث عظيم جداً، تصوروا جميع الكتب الإسلامية الآن التي هي عن السلف القدامى، أي دولة قد تئن من ثمن هذه الكتب، يعني: لو أن هناك دولة أرادت أن تشتري الكتب القديمة لوجدت أن المخطوطات التي لم تطبع تساوي أكثر من نصف الذي طبع، وحتى الآن مئات الألوف من المخطوطات لم تر النور.

    كل هذا لتفسير الكتاب الكريم وتفسير الحديث النبوي، تستطيع أن تستفيد الكثير منها، المطبوع منها أو المخطوط، لكن لا تستطيع أن تنتفع بها مثل ما كان الأوائل.

    إهدار العمل بالأحاديث بالتأويل الفاسد

    أسباب الانهيار والسوس الذي ينخر في كيان الأمة الإسلامية الآن كثيرةٌ جداً ومتنوعة، وقفت على اثنين منها، ومن أهمها: عدم صدق المحبة الحقيقية، فترى الرجل يقترف الكذب بحجة أنه مكروه فقط، وما الذي يجبرك أن تفعل المكروه؟ وهناك أناس ينامون على بطونهم، ويقول: أنا لم أطمئن إلا إذا نمت على بطني، فإذا قلت له: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً نام على بطنه، فقال: (هذه ضجعةٌ يكرهها الله)، قال: هذا مكروه ويكاد الرجل أن ينتهي، لكن في البداية يريد أن يستريح وينام؛ لأنه متعب، وحتى يمتثل يعمل المخالفة هذه مرات عديدة، حتى يستريح، بينما كان الصحابة يمتثلون مباشرة، ولا يتوانون، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم: (لا يصلين أحدكم في ثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء) فأفتى العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، أن كشف العاتق أو أغلبه يبطل الصلاة، يعني: لو صلى وعليه فانيلة لها محمل، فالصلاة باطلة؛ لأن للصلاة عورة تختلف عن العورة خارج الصلاة، وهذا العاتق من عورة الصلاة، واحتجوا بهذا الحديث: (لا يصلين أحدكم في ثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء)، وهذا شيء، ويدخل في مثل هذه التأويلات، ويصد عن الحديث فيضيع الحكم، وكل هذا باسم القواعد الأصولية، ونحن عهدنا من العلماء المثقفين الذين أحكموا علوم الآلات أنهم لا يتكلمون بمثل هذا، والحكم واضح.

    الجمع بين الأحاديث المتعارضة عمل الجهابذة

    لا بأس إن كان هناك حديثان ظاهرهما التعارض أن نوفق بين الحديثين بنوعٍ من أنواع التأويل المقبول، فمثلاً: حديث أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) قالت: (إنكم لا تحدثوني عن كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، غفر الله لـأبي عبد الرحمن ، إنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية ماتت فقال: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) بيني وبينكم كتاب الله، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، فهذا الحديث كأنه يعارض الآية، وقد ذكر علماء الأصول أنه يستحيل أن يكون هناك تعارض بين آيةٍ من كتاب الله تبارك وتعالى، وبين حديثٍ صحيح للنبي عليه الصلاة والسلام، إنما يكون التعارض في ذهن المجتهد، وليس في حقيقة اللفظ، فنحن إذا نظرنا رأينا أنه لا تعارض، وأن عمر وابنه لم يخطئا في الرواية، فقد روى هذا الحديث ستة أو سبعة من الصحابة، وإن جاز أن يهم ابن عمر فلا يمكن أن يهم هؤلاء الذين رووا هذا الحديث، إنما عائشة رضي الله عنها التجأت إلى ظاهر الآية، وإلى هذه الرواية التي روتها: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) أي: أن المسألة منفصلة، هم يبكون وهي تعذب، ليس بسبب البكاء، وبكاؤهم لا يخفف عنها، أو وهم لا يشعرون بها أو نحو ذلك.

    جمع العلماء بين الآية وبين الحديث، كالإمام البخاري مثلاً في الصحيح قال: (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان ذلك من سنته).

    أي: أنه إذا أوصى أن ابكوا عليَّ، وانصبوا الأعلام وشقوا الجيوب وادعوا بدعوى الجاهلية، إن أوصى بهذا يُعذب، فحمل الحديث على إذا كان ذلك من سنته، أي: من سنة الذي مات، أنه أوصى بذلك، ولا شك أنه لا يجوز لأحدٍ أن يوصي بما لا يرضى الله تبارك وتعالى عنه.

    ومثل هذا باب واسع جداً عند أهل العلم، صنفوا فيه كتباً، ولا يستطيع أن يخوض فيه إلا الجهبذ الذي قلمت أظفاره بالعلم، فالرجل الذي لم يقرأ في الأصول قراءةً جيدة لا يستطيع أن يخوض في باب التعارض والترجيح؛ لأنه باب تزل فيه أقدام الفحول، وعندما ترى العلماء المتقدمين الذين ينظرون في الأحاديث وفي تأويلها تستشعر أن هؤلاء على علم، بخلاف كثير من المتأخرين، الذين وإن درسوا الأصول لكن عندهم شقاشق وكلامٌ كثير يحتاج إلى نظر، حتى أن بعضهم حرر بعض الأصول تحريراً فيه نظر، لا يعرف إلا عن بعض المتأخرين ولم تكن أحد من المتقدمين يقوله، فالحاصل أن التأويل كما يقول بعض العلماء عدو الأديان، وما زل من زل إلا بسبب التأويل والتوسع في التأويل، وبدعوى أن هذا تأويل حرفوا كلام الله تبارك وتعالى، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام.

    نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً ليوم القدوم عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756634817