الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فنكمل ما تبقى من لامية ابن الوردي عليه رحمة الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ اطلب العلم ولا تكسل فما أبعد الخير عن أهل الكسل
واحتفل للفقه في الدين ولا تشتغل عنه بمال أو خول
واهجر النوم وحصله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بذل
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العدا وجمال العلم يا صاح العمل ].
قوله: (اطلب العلم) طلب العلم من مسائل الخير ودروبه، ومن السبل والطرق الموصلة إلى الجنة دار السلام، كما روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )، فالعلم من الطرق السهلة المستقيمة التي توصل الإنسان إلى الجنة بأيسر السبل، وذلك أن الإنسان يعرف بها مواطن العبادة، ومواطن الخير ومواطن الشر، بخلاف العامي الذي ربما يقتصر على عبادة واحدة، فيظن أنها فيها درجة الكمال، ويقصر في هذا، ويفرط في عبادات كثيرة.
ولذلك أبو هريرة عليه رضوان الله تعالى لما حدث بقول النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك روي عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى، لما قيل له: (إن من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة)، والسبب في ذلك أن الإنسان لا يعلم ذلك الأجر والثواب الذي جعله الله عز وجل في أعمال الخير، فإذا علم أن ذلك الثواب رتبه الله على ذلك العمل فإنه يتبعه.
إذاً السبب هو العلم والثناء والخير الذي يسعى إليه الإنسان في تحصيل المعرفة، وتحصيل العلم.
والعلماء يتقدمون الناس يوم القيامة منزلة ورفعة؛ لأنهم عرفوا مواطن الشر، فتبعوا مواطن الخير وأعلى مواطن الخير التي تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وحذروا من مواطن الشر ومن مداخل الشيطان ووساوسه.
والعلم من أفضل العبادات، بل نافلة العلم من أفضل النوافل، بل هي أفضل النوافل على الإطلاق، وواجب العلم أفضل واجباته على الإطلاق، فلا يمكن أن تتحقق العبادة عند الإنسان إلا بمعرفتها والعلم بها، وما عدا ذلك لا يمكن للإنسان أن يتعبد بشيء لم يعلمه.
إذاً: التوحيد هو أعظم الواجبات على العباد، ثم يليه أركان الإسلام التي لا يمكن للإنسان أن يحققها أو يأتي بها إلا بعلمه بها، ولذلك كان العلم بمسائل العقائد والتوحيد هي أشرف العلوم؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم.
قوله: (ولا تكسل فما أبعد الخير على أهل الكسل) لأن العلم بحاجة إلى جد واجتهاد ومثابرة، والعلم لا يمكن أن يتحقق منه الإنسان إلا بالصبر والمجالدة ومجاهدة النفس.
يقول العلماء: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، أي: حتى تتفرغ للعلم بوقتك كله، فإنه يعطيك بعضه، ولا يحصي العلم إلا الله سبحانه وتعالى، وقد جاء بعض السلف إلى عبد الله بن عباس وسأله عن علمٍ مسألة ما فقال: لا أعلمها، فاستغرب، فقال له ابن عباس : أو كل العلم تعلم؟ قال: لا، قال: ونصفه؟ قال: نعم. قال: عدها من النصف الذي لا تعلمه)، فالإنسان لا يمكن أن يحيط بعلم الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد وسع علمه كل شيء.
قوله: (واحتفل للفقه في الدين ولا تشتغل عنه بمال وخول) التفقه في الدين هو من طلب العلم، والمراد بالتفقه بالدين هو معرفة الحلال والحرام، ولذلك يسمى الفقه في الدين والعلم بالذكر، فإذا أطلق الذكر في الكتاب والسنة فالمراد به الفقه، وليس المراد به التذكير بالمواعظ، أو ذكر الله عز وجل التي يلهج بها الإنسان بين فينة وأخرى، وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: (الذكر ذكر الله؛ كيف تصلي؟ كيف تصوم؟ كيف تتصدق؟)، وروي عن عطاء كما رواه أبو نعيم في كتاب الحلية، قال: (ذكر الله هو كيف تطلق وكيف تنكح وكيف تتزوج) لا كما يقول القصاص.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الترمذي في سننه بإسناد فيه ضعف: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر )، والمراد بحلق الذكر هي الفقه والتعليم، ومعرفة الحلال والحرام.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، والمراد بروضة من رياض الجنة أنها سبب في دخول الجنة، وذلك أن ذلك الموطن كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم فيه أصحابه، وللعلماء في هذا المعنى قولان:
فذهب الجمهور إلى أن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، أن المراد أن هذا الموطن إما أن ينقل إلى الجنة، وإما أن يكون ذلك موطن مبارك، فيستحب فيه العبادة.
وذهب جماعة من المحققين وهو قول ابن القيم كما نبه عليه في كتاب الجواب الكافي، و هو قول ابن عبد البر عليه رحمة الله تعالى في الاستذكار والتمهيد إلى أن المراد بذلك روضة من رياض الجنة، وهو نظير قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر ).
إذاً: ما بين منبر النبي عليه الصلاة والسلام وبيته روضة من رياض الجنة، أي: ذلك الموطن هو الذي يعلم فيه النبي عليه الصلاة والسلام الحلال والحرام، وتلك البقع على المسلم أن يحرص عليها، فهي روضة من رياض الجنة، أي: للتعليم، وسبب لدخول الجنة، ومعرفة الحلال والحرام.
وفي تلك اللحظة لا يتعبد الله عز وجل فيها بميزة تختلف عما يليها، ومثلها كسائر بقاع المسجد النبوي.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد امتدح من فقه في دين الله سبحانه وتعالى؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، كما في حديث معاوية في الصحيحين. والمراد من ذلك أن الله عز وجل إذا أراد بعبده الخيرية صرفه إلى العلم والتفقه في الحلال والحرام، وإذا أراد به سوءاً وشراً أبعده عن العلم ومعرفة الحلال والحرام، وانشغل بالترهات، وبعد عن دين الله سبحانه وتعالى، وهذا مفهوم دلالة ومفهوم مخالفة.
قوله: (واهجر النوم وحصله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بذل) أي: لا بد للإنسان حينما يريد أن ينال مناله من العلم والمعرفة أن يهجر ضد ذلك، من النوم والكسل والراحة والدعة، وفي ذلك يقول الشاعر:
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تنال المجد حتى تلعق الصبر
أي: لا بد أن يمر عليك من الألم والتجرع وهجران المضاجع ونحو ذلك حتى تنال الرفعة والمنزلة العالية عند الله سبحانه وتعالى، وتبتعد عن لذائذ الدنيا، ويقول الشاعر:
لا تركنن أن تعود سهر الليل فإن النوم خسران
لا تركنن إلى الذنب فإن الذنب نيران
قوله: (لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل) أي: لا تقل قد فاتك العلم، فالعلم يطلب في كل حين حتى على الكبر، و البخاري ترجم في صحيحه في كتابين، قال: باب تعلم العلم في الكبر، ثم قال: وقد تعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم، أبو بكر تعلم وتفقه، و عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، كلهم قد بلغوا المشيب، وحينما دخلوا الإسلام وأصبحوا من الفقهاء في الإسلام، و معاذ بن جبل من أعلم الناس بالحلال والحرام، ويأتي يوم القيامة أمام العلماء برتوة، وهو من كبار السن كذلك.
والعلم لا يحصره زمن ولا وقت ولا سن معين، وقد جاء عن غير واحد من أئمة الإسلام أنهم تعلموا في الكبر، فـابن حزم الأندلسي ابتدأ العلم بعد الأربعين، وقد برع في ذلك حتى أصبح من أذكياء الدنيا، كما سماه شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله.
ومن أعظم مداخل الشيطان على طالب العلم أن يقنطه من الحصول على مناله في العلم والمعرفة، كمضي العمر وتمكن من هو دونه في العلم، وتقصيره في ذلك، وربما ضعف في عقله أو ضعف في فهمه، وعدم تدبره أو عدم حفظه ونحو ذلك، وعقول الناس كلها واحدة، والله عز وجل خلق الناس على أحسن تقويم، فهم يتفاوتون، فمن ربى نفسه على الفهم والحفظ فإنه يكون من أهل الفهم والحفظ، ومن رباها على غير ذلك فإنه يكون من دون ذلك، والإنسان إذا اعتاد على الحفظ والمدارسة والفهم فإنه يكون من أهل الفهم والذكاء، وإذا ربى نفسه على غير ذلك فإن النفس توطن وتساس بحسب ما يسوسها به صاحبها.
وقوله: (في ازدياد العلم إرغام العدا وجمال العلم إصلاح العمل) أي: حينما يكون الإنسان متعلماً فلا شك أن في ذلك إرغاماً لحاسديه، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود قال: ( لا حسد إلا في اثنتين )، أي: إن كان ثمة حسد يستحق أن يحسد عليه الإنسان: ( رجل آتاه الله علماً فهو يقضي به بين الناس ويعلمه، ورجل آتاه الله مالاً ..) إلى آخر الخبر، لكن الشاهد من هذا مسألة العلم، فإنه هو الذي ينبغي أن يحسد عليه، والناس يحسدون الإنسان على العلم ومعرفة مواطن الخير ونحو ذلك، والعالم يهاب، لأنه صاحب معرفة، فلا يمكن أن يدلس عليه، سواءً كان معرفة بحال الدنيا أو معرفة بأحوال الشرع ومعرفة الحلال والحرام، فكلما تمكن في الأمر صعب الدخول عليه من هذا الباب، سواءً في أمور البيع والشراء، فإن تمكن من ذلك فإنه لا يخدع، ولذلك يقول عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كما روى الترمذي في السنن: (لا يبع في سوقنا إلا من قد فقه في ديننا)؛ لكي لا يقع في ما يخالف الشرع.
قال المصنف رحمه الله:
[ جمل المنطق بالنحو فمن يحرم الإعراب بالنطق اختبل].
النحو للكلام كالملح للطعام، فهو الذي يحلي الكلام، وينبغي لطالب العلم أن يحلي كلامه بالنحو.
والنحو هو استقامة آخر الكلام، ويدخل في النحو باب الإعراب وباب الصرف، والصرف هو ضبط أواسط الكلم وأوله، والإعراب هو ضبط آخر الكلم، وكله من النحو.
والنحو علم لا يقبل التوسع، فقواعده مضبوطة، ولا يمكن أن يوسع بخلاف سائر العلوم كعلوم الآلة من علم الأصول والأدب ونحو ذلك التي تتوسع بتوسع الناس، أما علوم اللغة وخاصة علم النحو فلا يمكن أن يتوسع، فهو قواعد معلومة ولا يمكن أن تتعدد، ولا يبالغ الإنسان فيه فيغلب على كلامه التقعر والتكلف ونحو ذلك، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، ونهى كذلك عن المبالغة في السجع، وقد سماه عليه الصلاة والسلام ضرباً من ضروب السحر.
قال المصنف رحمه الله:
[انظم الشعر ولازم مذهبي في اطراح الرفد في الدنيا أقل
فهو عنوان على الفضل وما أحسن الشعر إذا لم يبتذل]
هنا يحث المصنف على نظم الشعر، ونظم الشعر من وجوه الأدب، فإن الإنسان الذي ينظم الشعر يكون صاحب ذوق رفيع، إلا أن النزول في الشعر والسعي في ابتذاله والإكثار منه ونحو ذلك مما يذم فيه الإنسان، كقول الشعر المذموم الذي فيه إسفاف وإسقاط، ولذلك قال: (ولازم مذهبي في اطراح الرفد) فيطرح الإنسان تلك المعاني الساقطة من معاني الشعر ونحو ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيح: ( لأن يمتلئ صدر أحدكم أو جوف أحدكم قيحاً وصديداً خير له من أن يمتلئ شعراً )، والمراد بالشعر هنا هو الشعر الساقط السافل، الذي لا معنى خير فيه، بل هو معنى شر، كالهجاء والغزل الفاحش ونحو ذلك، فهذا من الشعر الساقط.
ولا زال العلماء من العصر الأول يشعرون، لكنهم لا يشعرون في المعاني القبيحة، يقول الإمام الشافعي عليه رحمة الله:
لولا أن الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
ولولا خشية الرحمن ربي ظننت الناس كلهم عبيد
وذلك أن الشاعر كلما بلغ بشعره منزلة رفيعة وقع فيه من الكبر والغطرسة والرفعة عن الناس؛ لأنه يملك لساناً سليطاً يهجو به فلاناً وفلاناً، ويقع في نفسه من الكبر على الناس ، و الشافعي قد استنبط من هذا المعنى أن ترك المبالغة في الشعر من صفات العلماء، وهو من شعراء العرب ومن أئمة اللغة عليه رحمة الله، وقد جمع بين العروبة وصلة النسب، فهو مطلبي عليه رحمة الله.
قوله: (فهو عنوان على الفضل) لأنه من الأدب، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يسمع الشعر ولم ينظمه لحكمة بالغة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو كان شاعراً لاتهم بوضع القرآن، وقد نفى الله عز وجل عنه ذلك، وقال بعضهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام يتمثل بالشعر، لكنه لا يشعر، وهذا وارد، لكنه ليس بشاعر عليه الصلاة والسلام، ومن قال ذلك فقد خالف ظاهر القرآن، وهذا كفر بالله سبحانه وتعالى، والله عز وجل نفى عنه أنه يكون ساحراً، لكنه يقول الكلام السجع، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب )، وقال أبو سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام: (العزى لنا ولا عزى لكم)، فقال النبي عليه الصلاة والسلام راداً عليه في يوم أحد على السجع، قال: ( الله مولانا، ولا مولى لكم ).
ولا زال الشعر علامة على أهل الفضل إذا لم يكن ذلك فيه إسفاف، ولا يزال يحفظ من كلام السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام كالإمام الشافعي والإمام أحمد والإمام مالك وغيرهم.
قوله: (وما أحسن الشعر إذا لم يبتذل) أي: إذا لم يطلب به شيء من الدنيا، أو كان فيه مذمة، كأن يطعن في الناس ويقدح فيهم، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ((وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ)) [الشعراء:224]، وهذا هو الأصل فيهم؛ لأنهم يملكون من السحر بالكلام، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن من البيان لسحراً ).
قال المصنف رحمه الله:
[مات أهل الجود لم يبقَ سوى مقرف أو من على الأصل اتكل]
أهل العقل والفضل لا يتكلون على أصولهم، ولكنهم يتكلون على أعمالهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيح: ( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه )، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لـفاطمة : ( يا فاطمة ! سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئاً )، أي: يوم القيامة لا اعتبار بالأنساب، فما العبرة بالنسب؟ العبرة بالنسب كما قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، هذا هو العبرة؛ أن يتعارفوا، فتكون الأسماء كالأعلام على الناس، هذا فلان بن فلان، وما عدا ذلك فإنها لا تغني ولا تسمن من جوع.
أما ما عليه أهل السنة فإن جنس العرب أفضل من جنس غيرهم، ولكن هذا لا يعني أن ذوات العرب أفضل من ذوات غيرهم، فالذوات تختلف، كما يقال: إن جنس الرجال أفضل من جنس النساء، لكن لا يعني أن هذا الرجل أفضل من تلك المرأة، فمن أعيان النساء من يكون أفضل من أعيان الرجال وهذا كثير.
قال المصنف رحمه الله:
[ وأنا لا أختار تقبيل يدٍ قطعها أجمل من تلك القبل ]
أي: أنني لا أتزلف بذلك الشعر الذي وهبني الله عز وجل إياه، لكي تقبل يدي، أو أقبل يد فلان؛ ليحصل لي شيء من نصيب الدنيا، وقد ذم العلماء عليهم رحمة الله تقبيل اليد، فذكر الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في كتاب الورع من حديث سليمان بن حرب قال: (تقبيل اليد تلك هي السجدة الصغرى)، أي: أنها مذمة، وقد مال بعضهم وهم قلة من السلف إلى تحريمها وليس بصواب، فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قد قبلت يده، وثبت عن العباس بن عبد المطلب أنه قبلت يده، وثبت عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه رخص في ذلك، وهذا عليه عامة العلماء عليهم رحمة الله تعالى.
واختلفوا في تقبيل القدم، هل تقبل القدم أم لا؟
إذا كانت لأب أو أم فإنه لا حرج في ذلك، لكنه لا يكثر منها؛ لأن فيها شيئاً من الإذلال والخضوع، والأولى ألا يكون إلا لله سبحانه وتعالى.
قال المصنف رحمه الله:
[إن جزتني عن مديحي صرت في رقها أولى فيكفيني الخجل]
وذلك أن الإنسان إن وهب فإن النفس مجبولة على حب من أحسن إليها، وهذا أمر معلوم، فإن أحسن شخص إلى آخر فنفس المحسن إليه مجبولة على حب من أحسن إليه، وهذا معروف في الطباع، بل أنها تغض الطرف عن خطايا ذلك المحسن، وهذا أيضاً معلوم ومشاهد.
ولا زال العلماء يحذرون من عطايا الحكام والرؤساء والكبار؛ لكيلا تقصر هممهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بأمر الله، ولذلك يقول سفيان الثوري عليه رحمة لله: (إني لأرى الرجل يأتيني ويهش في وجهي، وفي صدري عليه، فأجد في نفسي ليناً نحوه، فكيف ونحن نطأ فرشهم ونأكل موائدهم)، يعني: السلاطين، فكيف إذاً قلوبنا على ذلك.
كما يحذر من أخذ العطايا من أرباب الفسق أياً كانوا، رؤساء أو وجهاء أو أغنياء ونحو ذلك؛ لكيلا تنكسر قلوب العلماء فيعجزون عن قول الحق، ويبتعدون عن المذلة للناس، وألا يذل لأحد إلا لله سبحانه وتعالى.
قال المصنف رحمه الله:
[ أعذب الألفاظ قولي لك: خذ وأمر القول نطقي بلعل]
قوله: (أعذب الألفاظ قولي لك: خذ) المراد بذلك الكرم، أي: أن يكون الإنسان كريماً، والمصنف هنا يرى أنها أجمل لفظ تمر عليه؛ أن يقول لأحدٍ من الناس: خذ إحساناً إليه، وذلك إما أن يكون من باب النفقة أو الصدقة أو الزكاة أو الهدية، وهذه كلها محمودة في الشرع، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد والإمام مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: ( تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة التي في قلب الإنسان على أخيه )، فهي مجلبة للمحبة، والنبي عليه الصلاة والسلام وهو النبي المؤيد بوحي الله كان يقبل الهدية ويثيب عليها، وهذا هو الكمال أن يقبل الإنسان الهدية، ثم يثيب عليها.
وقوله: (وأمر القول نطقي بلعل) المراد بذلك أن الإنسان إذا رغب إليه في حاجة أو طلب منه شيء ولن يستطيع إنفاذه أو القيام به أخذ يسوف.
قال المصنف رحمه الله:
[ملك كسرى تغني عنه كسرة وعن البحر اجتزاء بالوشل
اعتبر نحن قسمنا بينهم تلقه حقاً وبالحق نزل
ليس ما يحوي الفتى من عزمه لا ولا ما فات يوماً بالكسل
اطرح الدنيا فمن عاداتها تخفض العالي وتعلي من سفل
عيشة الزاهد في تحصيلها عيشة الجاهد فيها أو أقل
كم جهول وهو مثر مكثر وعليل مات منها بالعلل
كم شجاعٍ لم ينل منها المنى وجبانٍ نال غايات الأمل]
قوله: (ملك كسرى تغني عنه كسرة) أي: ينبغي للإنسان ألا يطمع في الدنيا، وأن ينظر في باب الدنيا لمن هو دونه، ولا ينظر لمن هو أعلى منه، وما دام الإنسان في هذه الدنيا والدنيا ظل زائل ينبغي أن يتزود بالقليل.
وهنا قال: إن ملك كسرى ذلك العظيم الذي بلغت مثاقيله المكاييل من الذهب والفضة وغير ذلك تغني عنه الكسرة التي يتزود بها الإنسان، فلا تنقص من عمر تلك الكسرة، ولا تزيد في عمر كسرى أملاكه، ولكن يغني عن ذلك القليل، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الدنيا ظل زائل، فينبغي للمرء أن يتقلل منها.
وقد مثل هنا فقال: (وعن البحر اجتزاء بالوشل) أي: أن الإنسان إذا أراد الكفاية والغنية فيكتفي بالمطر، والوشل هو قطرات المطر التي لا تنهمر بكثرة، فهي التي يستغني بها الإنسان عن ذلك البحر المتلاطم الأمواج، وصحيح أنه كثير ويغني الإنسان غناء تاماً، لكن في ذلك كفاية، فما الذي يزيد صاحب البحر عن كفاية صاحب المطر.
وقوله: (اعتبر نحن قسمنا بينهم تلقه حقاً وبالحق نزل) المراد بذلك قس من هذا إلى هذا، وهذا هو الاعتبار، يقول الله عز وجل في كتابه العظيم: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ[الحشر:2]، أي: تدبروا وتأملوا، وخذوا من هذا إلى هذا، وقيسوا الأحكام.
وقوله: (اعتبر) أي: بقول الله سبحانه وتعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[الزخرف:32]، فالله عز وجل قسم بين الناس الأخلاق وقسم بينهم الأرزاق، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله قسم بين الناس أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم )، وابن آدم ليس له إلا ما كتب له، فلا يطعم غيره طعامه، ولا يطعم طعام غيره، ولا يكتسي بكساء غيره، ولا يكتسي غيره بكسائه، فلا بد أن يأتيه، وإن كان في جوف البحر يخرجه الله سبحانه وتعالى، ولو كان طعامه في صخرة صمّاء لا باب لها ولا كوة إلا أخرجها الله عز وجل له كائناً ما كانت، وأذهبها إليه، ويأتي رزق الإنسان من أقاصي الدنيا حتى يأتي إلى فمه، يكتبه الله عز وجل للإنسان، ولا يمكن أن يخرج من فيه شيء ليس لغيره.
قوله: (ليس ما يحوي الفتى من عزمه لا ولا ما فات يوماً بالكسل) أي: أن ما يجمعه الإنسان من متاع الدنيا ولذائذها وما يحصل له من تكسب ونحو ذلك فليس ذلك بعزم منه، ولكنه مما قسمه الله عز وجل له، وهذا لا ينافي الأخذ بالأسباب، فالله سبحانه وتعالى قد أمر بالأخذ بالأسباب، وجعل للإنسان مشيئة بعد مشيئته سبحانه وتعالى، يقول جل وعلا: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ [الإنسان:30]، فما يجب على المرء أن يعتقد أن ما يحوي من نصيب الدنيا ولذائذها ليس هو من عزمه واجتهاده المحض، بل هو سبب جعله الله عز وجل للإنسان أخذ به، فرزقه الله عز وجل ذلك الرزق.
وما فات من متاع الدنيا ولذائذها، لا ينبغي أن يتحسر عليه بسبب الكسل، وإن كان الأصل أن الإنسان ينبغي أن يسعى ويعمل. وقد امتدح الله عز وجل العاملين، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في حكم العمل، هل الإنسان إذا كان مقتدراً على العمل، ولم يعمل واكتفى بنفقة غيره هل يأثم بذلك أم لا؟ على قولين:
فذهب الجمهور إلى أن عمله مستحب، وذهب قلة من العلماء وهو مروي عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى إلى الوجوب، والصواب أنه على الاستحباب، ويروى في الخبر كما عند الطبراني والمسند (أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المسجد ووجد رجلاً فيه فقال: أنت تعمل؟ قال: لا، أخي يكفيني. قال: أخوك خير منك )، مع أنه باقٍ في المسجد، لكن العمل هو الأولى، أي: أن يكد الإنسان ويكدح، وينبغي للإنسان أن يأخذ بالأسباب وأن يدخر رزقه، والنبي عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم - كان يدخر قوت سنة، وهو من هو عليه الصلاة والسلام في الإيمان، فهو نبي من أنبياء الله عز وجل، ومؤيد بوحي الله سبحانه وتعالى، لكنه يعلم أمته مواضع الخير والأخذ بالأسباب، وليس هذا قنوطاً من رزق الله عز وجل، وعدم اعتبار، ولكنه أخذ بالأسباب، فهو يدخر رزق أهله سنة.
قوله: (اطرح الدنيا فمن عاداتها تخفض العالي وتعلي من سفل) إنما تسمى الدنيا دنيا لدناءتها، وقيل: تسمى دنيا؛ لأن ما بعدها هو البعث والنشور، ويسمى الآخرة، فهي لا تعترف بنسب ولا بحسب، ولا بجاه، وإنما تأخذ الإنسان على غرة، وفي كثير من النصوص، سواء في الشرع أو في كلام العرب ينسب إلى الدنيا أنها فعلت وفعلت ونحو ذلك، وهذا كله من أقدار الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى لا يعطي الدنيا من أحب فحسب، ولكن يعطيها من أحب ومن لم يحب، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء )، أي: أن هذه الدنيا لا تعادل عند الله سبحانه وتعالى جناح بعوضة، ولذلك يعطي منها الكافر والمؤمن، فيقسم لهذا ويقسم لهذا، ويعطي هذا خيراً وهذا خيراً، أما الآخرة فلا يعطي الله عز وجل إلا من أحبه، وهي العاقبة.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الخبر: ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )، وقد سئل بعض أهل المعرفة عن معنى قوله: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكفر)، وما في جاء في آيات كثيرة من أن المؤمن كلما ازداد إيماناً شرح الله قلبه، وما يقع فيه من الطمأنينة، وانشراح الصدر، وما يحصل للكافر كذلك في هذه الدنيا من ضيق وحرج كأنما يصعد في السماء، وما يحصل كذلك من نكد وإعراض عن ذكر الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، إلى غير ذلك، كيف الجمع بين هذا وهذا؟ فيقال: إن الدنيا سجن للمؤمن بالنسبة لنعيم الآخرة، وأما بالنسبة للكافر فهي نعيم بالنسبة لعذاب الآخرة.
قوله: (عيشة الزاهد في تحصيلها عيشة الجاهد فيها أو أقل) أي: أن الإنسان إن اجتهد في هذه الدنيا أو سعى في كسبها فلن يعدو رزقه، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام لـعبد الله بن عباس : ( اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك )، فما جاءك من رزق اعلم أنه رزقك، وما أخطأك من رزق وقد سعيت إليه وطلبته، وذهب إلى غيرك شراباً سائغاً ولم يسع إليه فاعلم أنه ليس لك، وأن الله عز وجل قسمه لغيرك.
قوله: (كم جهول وهو مثر مكثر وعليل مات منها بالعلل) أي: كم من رجل جهيل مجهول، وجاهل في طرق التكسب والسعي في الدنيا ونحو ذلك، وفيه من السذاجة والبساطة، إلا أن الله عز وجل رزقه من الثراء والمال والنعيم في هذه الدنيا، وهو لا يحسن جمع مال، بل لا يحسن رعاية أهله، وكم من الناس من أذكياء الدنيا ما رزقهم الله سبحانه وتعالى كما رزق ذلك، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يعتدي وأن ينظر لماذا رزق الله عز وجل فلاناً ولم يرزقني كما رزق بعض البسطاء.
وأذكر أنه في عام من الأعوام، وقد كنت في أحد جبال عرفة، وكان بجواري أحد الشاميين، وكان يرفع يديه ويدعو، وفهمت من دعائه أنه مهندس، فيقول: يا رب! أنا مهندس وقد بلغت من العلم كذا وكذا، وأنك أعطيت جاري الصعلوك بيتاً، وأعطيته مزرعة ولم تعطني، فلمَ يا رب؟ فتناولته وقلت له: إن الله عز وجل أمر بالأخذ بالأسباب، ولكن هذا المهندس غلب عليه أن جعل تلك الأسباب هي في المقام الأول، وهذا هو ما يظنه كثير من الناس، وهذا ينافي العبودية لله سبحانه وتعالى، قد ينافي كمالها، وقد ينافيها بالكلية، فإذا علق الأمر بالأسباب وجعلها التي تعطي وتضر وتنفع، وهذا يخالف ما هو مشاهد ملموس، ويخالف نصوص الشرع، فلا يحاسب الإنسان ربه، فالله عز وجل لا يسأل عما يفعل، والعباد هم الذين يسألون.
قوله: (كم شجاعٍ لم ينل فيها المنى وجبانٍ نال غايات الأمل) الشجاعة لا تعني أن الإنسان يحصل مراده بقوته وسطوته فيغلب غيره، فكم من جبان غلب القوي بسبب التوفيق، وكم من جبان قتل شجاعاً، فليست الشجاعة هي كل شيء، وكم من الناس من يأتي إلى ساحات المعارك وجبهات القتال سنوات عديدة، ثم يموت على فراشه بعد عقود طويلة، ومن الناس من يخرج إلى غزوة واحدة ويموت.
إذاً العبرة ليست في السبب المجرد أن الله عز وجل يكتب على الإنسان ذلك الأمر، و خالد بن الوليد عليه رضوان الله تعالى، وهو سيف الله المسلول، ما ترك غزوة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام إلا وهو في مقدمتها، فلما حضرته الوفاة على فراشه قال: (لقد طلبت الموت، فما من موضع في جسمي إلا وفيه ضربة بسهم أو طعنة برمح، وهأنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء)، فمات على فراشه؛ لأن الله عز وجل كتب له وقدر عليه الموت على ذلك الفراش، فمهما تصنع ومهما تسعى لأن تقتل، فالله عز وجل ما كتب عليك ذلك، فالمنية تأتي الإنسان كما قدر الله عز وجل عليه.
قال المصنف رحمه الله:
[فاترك الحيلة فيها واتئد إنما الحيلة في ترك الحيل]
أي: أن الحيلة الحقيقية التي ينبغي على الإنسان هي ألا يتهرب من قدر الله عز وجل بزعمه، لكنه يأخذ بالأسباب المجردة، ويجعل الأصل هو قضاء الله عز وجل وقدره، وأن الله عز وجل إن كتب على الإنسان شيئاً فهو آتيه. وكثير من الناس من يسعى إلى الحيل والتخلص من بعض ما هو في الظاهر محكوم عليه ونحو ذلك، وهذا قد يكون فيه معارضة لقضاء الله وقدره، وهذا ينافي إيمان العبد.
قال المصنف رحمه الله:
[ أي كف لم تفد مما تفد فرماها الله منها بالشلل ]
المراد بذلك: أي يد لا تنفق مما كسبت وأعطاها الله عز وجل من ذلك الرزق الذي لا صلة للإنسان به، وإنما هو من قدر الله سبحانه وتعالى وقضائه، فبعد أن بين أن هناك من هو جهول وفيه من الغباء والسذاجة وعدم معرفة السعي في الرزق ومع ذلك يرزقه الله عز وجل من متاع الدنيا ولذائذها، وقد تجد ممن هو من أذكى الناس ومع ذلك لا يعطيه الله عز وجل من الدنيا إلا يسيراً، فأي كف أفادها الله عز وجل من ذلك النعيم فلم تنفق رماها الله بالشلل، وأمسك عليه يده، وهذا فيه إشارة لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ( ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً )، ومعلوم أن الصدقة والنفقة تزيد في مال العبد، وإن أمسك فإن الله عز وجل يمسك عليه، ولذلك تسمى الزكاة زكاة لأنها تزكو بمال الإنسان فتزيده، ولا تنقص مال الإنسان.
قال المصنف رحمه الله:
[ لا تقل أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
قد يسود المرء من غير أبٍ وبحسن السبك قد ينسى الزغل
وكذا الورد من الشوك وما ينبت النرجس إلا من بصل
مع أني أحمد الله على نسبي إذ بأبي بكر اتصل
قيمة الإنسان ما يحسنه أكثر الإنسان منه أو أقل].
أصل الإنسان هو ما تفرع عنه، وفصله ما تفرع عنه، فالأصل أبو الإنسان، والفصل هم أبناؤه، وذلك لانفصالهم عنه، والأصل هو ما تفرع عنه، والفرع ينبني على الأصل.
قوله: (قد يسود المرء من غير أبٍ) هنا نستحضر قصة يوسف عليه السلام، فقد رماه إخوته في البئر، فكان أشبه بمن لا أب له، فحمل وبيع، وحصل له من الابتلاء في السجن حتى أصبح ملك مصر وعزيزها، ثم جاءه أبوه بعد ذلك، فهل نفعه أبوه؟ نعم أبوه كان بعيداً عنه، وقد كان يدعو له، ولكن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، ولذلك قد يسود الإنسان من غير أب، من غير نسب، من غير حسب، أو بلا معين إلا من الله سبحانه وتعالى.
وقد يوضع الإنسان وهو متمكن النسب فلا ينفعه نسبه ذلك، وممن أعرض عن النبي عليه الصلاة والسلام وأعرض عن دعوته فلم ينفعهم ذلك، وكبهم الله عز وجل في النار، أبو لهب عم النبي عليه الصلاة والسلام، و أبو جهل و أبو طالب وغيرهم من كفار قريش.
قوله: ( وكذا الورد من الشوك وما يطلع النرجس إلا من بصل) هذه كلها من الأمثلة التي يريد بها المصنف عليه رحمة الله تعالى أن يقرب بها المعنى، فقد يخرج من بعض الأشواك ورد وزهور، وقد يخرج من البصل وهو سيئ الرائحة خبيثها كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام: ( من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين)، فيخرج منها ورد طيب الرائحة، ويسمى النرجس.
قوله: (مع أني أحمد الله على نسبي إذ بأبي بكر اتصل) المصنف هنا يبين أنه بكري، وأنه لم يتنازل عن ذلك، من باب أنه ليس بنسيب أو أنه وضيع ونحو ذلك، بل نسبه من أعرق الأنساب فهو بـأبي بكر يتصل، ومع ذلك فإنه يقطع أن ذلك لا يغنيه من الله شيئاً.
قوله: (قيمة الإنسان ما يحسنه أكثر الإنسان منه أو أقل) أي: أن الإنسان بعلمه كما تقدم، ولذلك قيمة الإنسان ما يحسن صنعه وما يحسن عمله، فإن قل إحسانه قلت قيمته، وإن عظمت قيمته في ذلك عظمت قيمته في هذا الأمر، وهذا يدل على ما تقدم من كلام المصنف عليه رحمة الله تعالى أن قيمة الإنسان بعلمه ومعرفته، فيزاد بذلك ويرفع، وينقص بذلك ويوضع.
قال المصنف رحمه الله:
[ اكتم الأمرين فقراً وغنى واكسب الفلس وحاسب من بطل ]
أي: اكتم الأمرين الفقر والغنى، ولا تحدث بهما، فإن كنت فقيراً فاصبر واحتسب إلا إن احتجت وأصابتك فاقة، فلا حرج عليك أن تسأل كما جاء الترخيص في ذلك، وإلا فاكتم، ومما يحسن أن يكتمه الإنسان من حاله ما جمعها الشاعر في قوله:
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة سن ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة بمعكر وبحاسد ومكذب
والشاهد هنا وهو شاهد لكلام المصنف قول الشاعر: (ومال) فإما أن تبتلى بحاسد، وإما أن تبلى بمن يتنقصك بذلك المال، كأن يقول: إنه مجحف لا ينفق على بنيه مما لديه من مال، وإما أن يقال: إن فلاناً يتكبر ويتزيا بزي الأغنياء وهو فقير، وقلما أحد من الناس إلا وهو لا يوازن بين ماله وحاله، وهذا معلوم مشاهد.
قال المصنف رحمه الله:
[وادرع جداً وكداً واجتنب صحبة الحمقى وأرباب الخلل]
تقدم أن الله عز وجل هو الذي يقسم الأرزاق بين العباد، فلا يظن من كلامه ذلك أن على الإنسان أن يتعطل، فلا يجد ولا يكد، بل ينبغي له أن يدرع جداً وكداً، ويجتنب صحبة الحمقى وأرباب الخلل، أي: الذين لا يحسنون العمل، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم بعمله بنفسه، فيخسف نعله، ويغسل إناءه، كما جاء في الخبر المشهور.
قال المصنف رحمه الله:
[بين تبذير وبخل رتبة فكلا هذين إن زاد قتل]
المراد بذلك هو التوسط، وخير الأمور أوسطها، وقد يزيد كرم الإنسان ويصل إلى درجة التبذير والإسراف، والله عز وجل قد نهى عن ذلك بقوله: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، والإسراف هو أن يضع الإنسان المال بغير موضعه من غير حاجة.
أما في باب الصدقة، فهل يدخل الإسراف أن الإنسان ينفق من ماله ما استطاع من غير حد؟
يقال: إن الصدقة إن أنفق الإنسان منها لله سبحانه وتعالى يتقبلها الله عز وجل منه، لكن ينبغي للإنسان ألا يدع أبناءه عالة، ولذلك سعد بن أبي وقاص عليه رضوان الله تعالى لما حضرته الوفاة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( يا رسول الله! إني كما ترى، ولا يرثني إلا ابنة لي، سأتصدق بثلثي مالي. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا. فقال: بشطر مالي؟ قال: كثير. فقال: بثلث مالي؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع أبناءك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس )، وقد ذكر عن بعض السلف أنه قال: (لأن ألقى الله سبحانه وتعالى وأخلف مالاً خير من أن ألقى الله عز وجل وقد تركت أبنائي عالة).
فينبغي للإنسان أن يتوسط ويعتدل في ذلك كله، سواءً في باب الدنيا أو في باب النفقة والصدقة، وهذا حمله بعض العلماء على الإنسان في آخر حياته أو حضره الموت، أو ترقب حضوره، كأن يكون به مرض مخوف كحال سعد بن أبي وقاص وغيره.
وأما إذا كان الإنسان في حال نشاطه وقوته وتكسبه فلا حرج عليه أن ينفق ماله كله، كما فعل أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، وكذلك عثمان بن عفان ، لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما تركت لأولادك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله )، وقد أنفق نصف ماله عليه رضوان الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله:
[لا تخض في سب سادات مضوا إنهم ليسوا بأهل للزلل]
أي: أن تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم، ولا ينبغي للإنسان أن ينشغل بأحداث مضت، بل ينشغل بأحداثه، فالله عز وجل لا يسأله عما مضى، مما فعلت الأمم والشعوب، فـ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134]، لهم أعمالهم التي عملوها، ويلقون الله عز وجل عليها، ولكم أعمالكم التي تلقون الله عز وجل بها، وتحاسبون عليها.
قال المصنف رحمه الله:
[ وتغافل عن أمور إنه لم يفز بالحمد إلا من غفل]
التغافل خصلة محمودة من خصال المؤمن، والنبي عليه الصلاة والسلام وصف المؤمن فقال: (المؤمن غر كريم)، أي: أنه لا يخدع، لكنه يتغافل، ولا يتتبع الأمور، ولكنه يتغافل عنها، و(من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته)، ومع ذلك من تتبع أمور الناس وأحوالهم يزداد هماً، فإنه كثير التفكير بما حدث لفلان وفلان، ويسأل: لم حدث لفلان وفلانة ونحو ذلك، ويتتبع أحوال الناس، بل ينبغي للإنسان أن يتغافل، وإن أوذي فإنه يتغافل أيضاً كأنه لم يسمع.
والإنسان إن تتبع الدقيق والجليل فإنه يمل ويضجر وينشغل ويضيق صدره بذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان كريماً في هذا الباب، ويتغافل عن أذية تلحق به، ولا يتتبع أحداً.
ومن هذا أن يكون الإنسان صاحب غفلة فيشتغل في ماله ونحو ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما كانت تأتيه أفواج الناس وقبائل العرب، كان يقول: من القوم، من فلان وبم أتيت، ونحو ذلك، وقد جاء في سنن الترمذي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا لقي أحدكم أخاه فليسأله من هو وممن هو )، والمراد من ذلك أن يسأله حتى يعرف حاله من أي جهة كان؛ حتى يحتاط لنفسه إن كان صاحب خير فيعطيه مكانته، وصاحب رفعة فيعطيه منزلته، وإن كان صاحب منزلة وضيعة أو صاحب خسة ونحو ذلك فيتقي شره.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يتقي شرور الناس، وقد جاء في الصحيح (أن النبي عليه الصلاة والسلام استأذن عليه رجل فقيل له: فلان عند الباب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بئس أخو العشيرة، فلما أذن له النبي عليه الصلاة والسلام، ودخل الرجل هش في وجهه وبش، فقالت عائشة للنبي عليه الصلاة والسلام في ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه )، أي: كأنه لم يعهد منه أذية ولم يؤذه، وأنه ليس بصاحب فحش، بل بش في وجهه وهش، وتعامل معه على الرحب، وكأنه لم يلق منه أذية، وإنما إشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى أذيته في نفسه، وهذه من خصال المؤمن التي فيها مجلبة للمودة وتآلف الناس، فليس كل ما يعلمه الإنسان يقوله، وكل ما يراه يتحدث به، وفي الحديث: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع).
قال المصنف رحمه الله:
[ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس جبل]
الإنسان لا بد له من أعداء، وبقدر عقله بقدر ما يكون له أعداء.
يقول ابن حزم الأندلسي في كتابه تهذيب النفوس ويسمى مداواة النفوس: (ما من أحد من الناس إلا وله أعداء بقدر عقله، ومن رام حياة بلا أعداء، فإنه يرم مستحيلاً، ولم أر أحداً من الناس ليس له أعداء إلا المجانين)، فالمجنون فقط الذي ليس له أعداء؛ لأنه لا يملك عقلاً.
ولذلك ترى المجنون في الشارع هل له عدو؟ إنما يتخبط يمنة ويسرة، والكل يرحمه حتى أحقد الناس، وأشد الناس عداء وحسداً لكل صاحب نعمة ليس بعدو لهذا المجنون، بل أنهم يرحمونه، وربما حملوه وأنفقوا عليه؛ لأنه ليس بصاحب عقل، وكلما زاد عقله وأصبح لديه عقل بقدر ما تكون العداوة له عند الناس.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان له أعداء وخصوم، فبقدر قوة عقل الإنسان وتمكنه ودرايته بقدر ما يكون له أعداء، وبقدر ما يضعف عقله بقدر ما يوده الناس، ويظنون أنه من البسطاء ونحو ذلك.
قال المصنف رحمه الله:
[ غب عن النمام واهجره فما بلغ المكروه إلا من نقل]
أي: ابتعد عن النمام الذي يتحدث في أعراض الناس، والذي ينقل الكلام من هذا إلى هذا، فيقول: يا فلان! قد قال فيك فلان كذا وكذا، وهذا من كبائر الذنوب، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين وغيرهما: ( لا يدخل الجنة قتات )، والمراد بالقتات هو النمام، ونقلك للكلام من شخص إلى آخر هو من كبائر الذنوب، والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر في الحديث المعروف، قال: (رأيت فيمن يعذب في النار أناساً يخدشون وجوههم)، وأشد من ذلك من ينم بين الناس بما لم يحصل أصلاً، فيقول: فلان قال، وفلان كذا وهو لم يقل، يقول الشاعر:
لي حيلة فيمن ينـ م وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليلة
والنمام الذي ينقل الكلام يجب أن يردع ويزجر، ومن كان يخلق ما يقول ويبتكر الكلام فهذا كذاب، والكذب لا يخرج من الإنسان إلا بخبث طوية، وسوء نية، ولا يمكن أن يتمكن الإنسان من الكذب إلا وقد تمكن منه النفاق والعياذ بالله.
قال المصنف رحمه الله:
[دار جار السوء بالصبر وإن لم تجد صبراً فما أحلى النقل]
أي: يجب عليك أن تتحلى بالصبر على الجوار، لما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من حق الجار، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يزال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )، أي: يجعله من الورثة ومن ضمن الأبناء، فإن مات جار ورثه جاره لما له من المكانة.
والجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد، فالجار الذي له ثلاثة حقوق هو الجار المسلم القريب، فله حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة، والجار الذي له حقان هو الجار الذي له حق الجوار وحق القرابة إذا كان كافراً، والجار الذي له حق واحد هو الجار الذي ليس بمسلم وليس بصاحب قرابة.
وقوله: (وإن لم تجد صبراً فما أحلى النقل ) أي: إذا لم تجد صبراً على أذيته إن آذاك فإن الأولى لك أن تنتقل عنه ولا تؤذيه.
والنبي عليه الصلاة والسلام جعل أهل الجوار أمناء على عورات جيرانهم، وإن بدا منهم الأذية ما بدا، وحينما سئل عليه الصلاة والسلام: ( ما أعظم الذنب؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك )، لماذا؟ لأنه ائتمنك وسكن بجوارك. فالزنا من البعيدة أهون من الزنا من القريبة؛ لأنك أتيته على غرة، ولم يكن يخطر في باله أن الأذية والفتنة تأتي من جاره، ولذلك كلما أمن الإنسان صاحبه كان الإثم من جهته أعظم؛ لأنك قد أتيته في حال غرة وثقة بك، والشارع حينما عظم حق الجار وجعل ما فيه وما له من حق وأمان جعل كذلك في المقابل أن التعدي عليه أعظم من التعدي على غيره.
قال المصنف رحمه الله:
[ جانب السلطان واحذر بطشه لا تخاصم من إذا قال فعل]
قوله: (جانب السلطان) أي: لا تدخل عليه من غير حاجة وضرورة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر في السنن والمسند: (من دخل على السلطان افتتن، ومن تتبع الصيد غفل)، فمن دخل على السلطان فإنه يفتتن في دينه لما يرى من بهارج الدنيا وجمالها وحسنها ونحو ذلك مما يصرفه عن الانشغال بطاعة الله سبحانه وتعالى.
قوله: (واحذر بطشه) أي: لا تتعرض لمحاربته من غير حاجة ونحو ذلك، فإن هذا منقصة للإنسان أن يعادي من إذا قال فعل؛ لأنه لا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى، هذا إن كان يخشى الله.
وقد ذكر غير واحد من العلماء أن من العقل ألا تعادي صاحب سلطان؛ لأنه يرفع ويضع، ويقرب إليه من شاء في هذه الدنيا، ويبعد من شاء بعد إذن الله سبحانه وتعالى.
قال المصنف رحمه الله:
[لا تل الحكم وإن هم سألوا رغبة فيك وخالف من عدل
إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل
فهو كالمحبوس عن لذاته وكلا كفيه في الحشر تغل
إن للنقص والاستثقال في لفظة القاضي لوعظاً ومثل
لا توازي لذة الحكم بما ذاقه الشخص إذا الشخص انعزل
فالولايات وإن طابت لمن ذاقها فالسم في ذاك العسل
نصب المنصب أوهى جسدي وعنائي من مداراة السفل
قصر الآمال في الدنيا تفز فدليل العقل تقصير الأمل
إن من يطلبه الموت على غرة منه جدير بالوجل]
قوله: (لا تل الحكم) فيه تحذير من القرب من المناصب والرئاسة ونحو ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام قال محذراً منها: ( إنكم لتحرصون على الإمارة، وإنها لحسرة وندامة يوم القيامة )، وذلك لأن الإنسان لا يستطيع القيام بعبء نفسه وأمانته التي في عنقه، فالله عز وجل قد جعل في عنق الإنسان أمانة، إما من ذريته وإما من نفسه، فكل شيء وديعة أودعه الله عز وجل جسده وعقله، وصحته وعافيته، وهو مسئول عن ذلك كله، فكيف يتحمل أمور الناس.
ومن نظر إلى سير الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم كـعمر بن عبد العزيز وجد أن هؤلاء الأئمة عليهم رحمة الله تعالى قد علموا أهمية تلك المسئولية العظمى التي جعلها الله عز وجل في أعناقهم، فانشغلوا بالعدل بين الناس، وانصرفوا عن لذائذ الدنيا ومتعها.
قوله: (وإن هم سألوا رغبة فيك) أي: وإن طلب منك ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حذر أصحابه من الولاية والإمارة، وأذن فيها لبعضهم، وحذر بعضهم؛ لأنه لا يستطيع، فقال: (لا تل الإمارة، ولا تتول على مال يتيم)؛ لأنه قد علم فيه ضعفاً، أما إذا طلب من الإنسان تحمل هذه المسئولية، وأتى غيره ممن هو أفسد منه، فإن كان فيه فساد، أو من هو فيه شر ولم يأت إلى هذا المكان إلا فلان بن فلان، أو أنت وفيك خير، فإنه لا حرج من هذا الباب، ولكن لا يتسع هذا الأمر لدى الإنسان، فيجعله باباً متسعاً تدخل منه الذمم، ومن يقول: إنه لولا أنت لجاء فلان، أو لو لم تأت أنت لجاء فلان، وهذا كل إنسان يستطيع أن يقوله على مر العصور والدهور، بل حتى إبليس يقول: لولا موسوس الناس لجاء من هو عفريت وأشر مني، لكن أنا أترك هناك من يؤمن وهناك من يكفر، إذاً هذه العبارة الكل يستطيع أن يقولها، فلا بد للإنسان أن يراقب ربه سبحانه وتعالى في هذا الأمر، ويجعل من نفسه خصيماً له.
قوله: (إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام) وذلك أن أمور الحكام، وما هم فيه من أحوال لا تظهر للناس، فقد يكون لديهم من الأعذار ما لا يعلمه الرعية والمحكومين، ونفوس الحكام مبنية على الأنفة والعزة والكبر ونحو ذلك، وقد يكون لديهم من الأعذار ما لا يبديه للناس، ويظن الناس أن لديهم، لكنهم لا يعطونهم، ويمسكون عنهم.
وقوله: (هذا إن عدل) أي: هذا إن كان عادلاً، أما إذا كان ظالماً فالكل عدوه، وهذا معلوم عند من ولي الأحكام سواءً في باب القضاء أو في باب السلطات العليا.
قوله: (فهو كالمحبوس عن لذاته) أي: أنه لا يستطيع أن يسعى بين الناس في الطرقات، ويذهب حيثما يشاء ويجيء، فكل عمل محسوب عليه حيث يراه الناس، وأنت إذا رأيت الوالي والحاكم والقاضي تجده لا يستطيع أن يقضي حاجته بنفسه، أو يتلذذ بذلك، فإن الإنسان لديه رغبة بأن يكون حراً في قوله وفعله وذهابه ومجيئه، لكنه يبقى محبوساً عن لذاته تلك.
قوله: (وكلا كفيه في الحشر تغل) هذا يشير إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما من رجل يلي أمر ثلاثة فما فوق إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، فكه بره أو أوبقه إثمه )، هذا في أمر ثلاثة فما فوق، يأتي يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه فكه بره أو أوبقه إثمه عياذاً بالله.
قوله: (إن للنقص والاستثقال في لفظة القاضي لوعظاً ومثل) أي: أن الإنسان صاحب السلطة والسلطان والمكانة الرفيعة ينعم بلذة ومكانة، لكن تلك اللذة لا توازي حرمانه من تلك اللذات، فهو محسوب بقوله وفعله، وكذلك فإنه يستثقل أن ينصح ويوعظ، وهذا مجبول عليه الكبار والسلاطين، فإنهم يأنفون من ذلك، وتترضى نفوسهم عن ذلك.
وأضف إلى ذلك أن ثمة أمراً أشد من ذلك، قال: (بما ذاقه الشخص إذا الشخص انعزل)، فإذا كان الشخص صاحب سلطان ثم انعزل عن ذلك، فإنه يلقى من الألم والحسرة التي تمحو ما وجده من لذة تلك النعمة، حتى لو قيل له: لو تمنيت أنك لم تتول ذلك المنصب بعد عزلك منه لتمنى ذلك، والمناصب لا تدوم لأهلها، يقول الشاعر:
إن المناصب لا تدوم لأهلها إن كنت في شك فأين الأول
أي: أين من سبقك؟ قد ذهب وانعزل، إما بوفاة، أو عزله ممن هو أقوى منه، وما يقع من حسرة في قلب الإنسان من ذلك يتمنى أنه لم يحصل له من ذلك شيء أصلاً.
وقوله: (فالولايات وإن طابت لمن ذاقها فالسم في ذاك العسل) الولايات جمع ولاية، وهي التي يتولاها الإنسان سواءً كانت ولاية كبرى أو ولاية صغرى، وإن كانت لذيذة فيها رفعة ونحو ذلك، (فالسم في ذاك العسل) أي: في حال عزله كما أشار إلى ذلك المصنف عليه رحمة الله، أو ما يحوله من لذائذه من عدم حريته في ذهابه ومجيئه ونحو ذلك.
وقوله: (نصب المنصب أوهى جسدي وعنائي من مداراة السفل) وذلك أنه مشغول ومهموم بأمور الناس، وقد جاء أحد أصحاب عمر بن عبد العزيز عليه رضوان الله تعالى إليه بعد أن ولي الخلافة بثلاثة أيام، فوجده قد نحل جسمه بسبب هموم الناس، فقال له عمر : (كيف لو رأيتني في قبري بعد ثلاثة أيام).
قال المصنف رحمه الله:
[قصر الآمال في الدنيا تفز فدليل العقل تقصير الأمل]
الأمل لا ينبغي للإنسان أن يزيله من حياته، فلولا الأمل ما عاش الناس، لكنه هنا يقول: قصر الأمر لا تجعله طويلاً، أي: اجعل لك أملاً تعيش به وتحيا به وترجو شيئاً من الحياة ولذائذها، لكن لا تجعل الأمل طويلاً، فلو لم يكن في هذه الدنيا أمل للناس ما عاشوا، وإلا لما كان لديهم في عقولهم إلا تذكر الماضي وآلامه، وكفى بذلك حسرة.
قال المصنف رحمه الله:
[إن من يطلبه الموت على غرة منه جدير بالوجل]
الموت يطلب الإنسان ويتبعه، ويتخطاه هذه المرة إلى غيره، ويأتي مرة أخرى ويتخطى غيره إليه، فإذا كان الإنسان يعلم أن الموت سيأتيه، لكنه لا يعلم في أي لحظة، فالواجب عليه أن يخاف منه ويوجل، كالإنسان الذي يطلبه غريم أو طالب، أو يتوعد بقتل ولا يعلم متى يأتيه، فذلك الذي سيقتله الأولى أن يكون وجلاً في كل حاله لا في ساعة من تلك الساعات، ولكن الإنسان لنعمة النسيان والغفلة جعل الله عز وجل له من ذلك نعمة، فيوجل الإنسان من ذلك الطالب والغريم وينسى تذكر الموت.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بأمر نبيه عليه الصلاة والسلام تذكر الموت والأخذ بأسبابه، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها تذكركم بالآخرة، وتذكر بالموت، وتزهد في الدنيا )، وينبغي للمرء أن يتذكر الموت، وإن نسيه فإنه يجعل له ما يذكره فيه من زيارة المقابر، أو تذكر الأمم السابقة وأحوالها حتى يتذكر الأجل المحسوم، والحساب الذي ينتظره يوم القيامة.
قال المصنف رحمه الله:
[ غب وزر غباً تزد حباً فمن أكثر الترداد أضناه الملل]
أي: لا ينبغي أن تثقل في الزيارة والذهاب والمجيء إلى الناس، حتى يملوك، وقد جاء في الخبر مرفوعاً: (زر غباً تزدد حباً)، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحث أصحابه على ذلك، وقد جاء هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة في سنن أبي داود وغيرها.
وقوله: (وزر غباً تزد حباً) المراد بالغب هو يوم بعد يوم، فيكون لك يوم غياب ثم حضور، فلا تداوم بالذهاب والمجيء، وجاء في المسند: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا إلا غباً)، أي: يوماً بعد يوم حتى لا يكثر الإنسان من التنعم ويتشبه بالنساء، ويغلب عليه طبائع النساء.
وقوله: (فمن أكثر الترداد أضناه الملل) أي: أن في إكثار الترداد على الناس تنقص هيبته، وينبغي أن يبتعد، فكلما ابتعد عن الناس عظم قدره وشأنه عندهم، وأجلوه، وكلما خالط الناس فإنه يفتقد شخصه حتى ينقص قدره.
قال المصنف رحمه الله:
[خذ بنصل السيف واترك غمده واعتبر فضل الفتى دون الحلل]
وذلك أن العبرة بالجوهر، فينبغي للإنسان أن يعتد بصلاح قلبه، ولا يعتد بتزيين الظاهر، فإنه إن صلح باطن الإنسان صلح ظاهره، ولا يمكن للإنسان أن يجمل ظاهره، وأن يفسد ظاهره ويقول: إن باطني صالح كظاهري، هذا لا يمكن أن يكون أبداً.
والمراد أن الإنسان ينبغي أن تظهر عليه من علامات الخير والطاعة لكي يعلم ما في قلبه من خير وطاعة، وهذا كما أنه معلوم في الشرع فهو معلوم في الطبع، فلا يمكن أن تأتي إلى شجرة ميتة، ويقول صاحبها: إنه يسقيها كل يوم، هذا لا يمكن أن يعقل، أو تقول: إن عروقها حية. لا، بل هي ميتة؛ لأنها لا يمكن أن تكون حية، ولا يمكن أن تأتي إلى شجرة مورقة خضراء، ويقول صاحبها: إنه لا يسقيها ولا يأتيها بالماء إما من ينابيع الأرض أو نحو ذلك، بل لا بد أن تتغذى بشيء يظهر عليها في الظاهر، ولذلك شبه المصنف إصلاح القلب باعتداد الإنسان بالسيف وحده فإن الغمد لا ينفع، وإنما هو من باب التحسين، وعند الجد والحاجة لا يحتاج الإنسان إلى غمده، وأما الظواهر فإنها لا تنفع الإنسان عند العزم والحاجة.
قال المصنف رحمه الله:
[ حبك الأوطان عجز ظاهر فاغترب تلق عن الأهل بدل
فبمكث الماء يبقى آسناً وسرى البدر به البدر اكتمل]
حب الوطن هو الأرض التي يعيش فيها الإنسان، وهو مفطور عليه بالطبع، وجاء الشرع بتقرير ذلك، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الإنسان يقاتل عن بلده وأرضه أياً كان، وذلك بسبب إبعاده عن شيء ألفه، كما قال الله عز وجل: أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، فقاتلوا لماذا؟ لأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، والله عز وجل امتحن الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم الذين قال لهم: ((اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ)) [النساء: 66]، لكنهم لم يخضعوا لذلك؛ لأن قلوبهم معلقة بذلك، فأحبوا الديار أكثر من الإسلام، والعبرة بالإسلام هو الأصل، وأما حب الإنسان لبلده فإنه لا يلام بذلك، لكنه لا يقدمها على ما أمر الله عز وجل بحبه وتقديمه.
والإنسان مجبول على حب موطنه الأول، يقول الشاعر:
كمن منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه دوماً لأول منزل
وقوله: (فمكث الماء يبقى آسناً وسرى البدر به البدر اكتمل) كأن هذا القول منتزع من كلام الشافعي عليه رحمة الله تعالى في ديوانه بقوله:
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش بالنصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
وقد تقدم الإشارة إلى هذا المعنى.
قال المصنف رحمه الله:
[أيها العائب قولي عبثاً إن طيب الورد مؤذٍ بالجعل
عد عن أسهم لفظي واستتر لا يصيبنك سهم من ثعل
لا يغرنك لين من فتى إن للحيات ليناً يعتزل
أنا مثل الماء سهل سائغ ومتى سخن آذى وقتل
أنا كالخيزور صعب كسره وهو لدن كيفما شئت انفتل]
قوله: (أيها العائب قولي عبثاً) المراد بذلك ممن ينتقدني، وينتقد قولي من غير تدبر، وهمه النقد والعيب والكلام، ولا يؤثر عنه مدح لأحد، وإنما هو كبعض الحشرات التي لا تقع إلا على الأوساخ كالذباب وغيرها.
وهذا الكلام من المصنف كلام شديد منه عليه رحمة الله، أي: أنك لذمك ذلك أشبه بالجعلان، وهي دواب تمشي على الأرض، وتتأذى من رائحة الورد، وقد ذكر الدميري في كتابه الحيوان عن الجعلان أنه من شواذ الحشرات، وأنها تتأذى بالورد وتطيب وتحيا بالأوساخ، فإن لم تجد أوساخاً فإنها تموت وتحيا على تلك الأوساخ، وتموت لو أعطيت طيباً أو ورداً.
قوله: (عد عن أسهم لفظي واستتر لا يصيبنك سهم من ثعل) أي: أن تلك الأبيات التي يتكلم بها أشبه بالسهام في الكنانة، فلا تتصدى لنقدي فإني سأهجوك بكلام يؤذيك، ويصيبك في مقت.
قوله: (لا يغرنك لين من فتى ) أي: لا ترى كما تقدم من كلامي أني صاحب تربية ولين وسلوك ونحو ذلك، إنني إن تعدى عليّ شخص بأذية وسب وقدح، فإنني سأكون ليناً معه، كلا، فإني سآخذ حقي منه منصفاً، (فإن للحيات ليناً يعتزل) فمع أنها لينة إلا أن الناس يبتعدون منها.
وقوله: (أنا مثل الماء سهل سائغ) أي: إن أردت أن تستفيد مما أعطيك فأنا كالماء تحيا به، فقد جعل الله عز وجل من الماء كل شيء حي، وإن أردت أن تشرب مني فإني سأعطيك سائغاً ماء يرويك، ومتى سخن الماء يؤذيك، أي: إذا أغضبت، والغضب في لغة العرب هو غليان دم القلب للانتقام ممن أثار الإنسان، (ومتى سخن آذى وقتل) يؤذي الإنسان أو يقتله.
وقوله: (أنا كالخيزور صعب كسره) المراد بالخيزور هو أعواد الخيزران، لا تكسر وتلوى إذا كانت رطبة لينة، لا تكسر فيستفيد منه الإنسان على أية حال، إن أراد أن يثنيها أو يلويها ونحو ذلك، لينة أينما أبداها، ولا يستطيع أحد أن يكسرها إذا كانت رطبة طرية.
قال المصنف رحمه الله:
[غير أني في زمان من يكن فيه ذا مال هو المولى الأجل
واجب عند الورى إكرامه وقليل المال فيهم يستقل]
يشير في هذا البيت إلى أنه ليس بصاحب مال، وهذه هي المنقصة في أعين بعض الناس، والناس يميلون لصاحب المال، وفي ذلك يقول الشاعر:
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال
رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب
أي: أن الناس يميلون إلى صاحب المال، وإن كان وضيعاً، أو سيئ الخلق، إلا أنه يشير بأنه صاحب مال يسعى إليه، وهذا معلوم مشاهد، وكأن المصنف عليه رحمة الله يشير هنا أن مع ذلك كله أنه كالماء لمن أراد أن يشرب منه، وكالخيزران اللين الذي لا يكسر، لكن يستفيد منه الإنسان، لكنه ليس بصاحب مال.
وقوله: (واجب عند الورى إكرامه وقليل المال فيهم يستقل) وهذا معلوم مشاهد، فمن كان قليل المال فإن الناس تعرفه، ويميلون عنه وينصرفون عنه؛ لأنهم لا يرون فيه خيراً أو غنى أو حاجة لدنياهم، وهذا من المؤسف.
قال المصنف رحمه الله:
[كل أهل العصر غمر وأنا منهم فاترك تفاصيل الجمل]
ختم المصنف منظومته بمذمة أهل عصره بأنه قد كثر فيهم الجهل والفساد، فقال: (كل العصر غمر)، والمراد بالغمر هنا الجهل والغباء والحمق، والبعد عن الخير، ونحو ذلك.
وأراد بقوله: (وأنا منهم) أي: أنا من ضمن هؤلاء، فهو يشير إلى ما أشار إليه الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه: ((وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)) [المائدة: 103]، ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)) [هود: 17]، وكأنه لغلبة ذلك في ذلك العصر حتى إنه لم يقل: إلا شيئاً قليلاً من أهل الخير، بل عمم على كل الناس، وأدرج نفسه معهم، وهو صاحب فضل وعلم، بل لا يظن به سوءاً، ويرتكب المخالفة الواردة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من قال: هلك الناس فهو أهلكهم، ومن قال: فسد الناس فهو أفسدهم )، أي: أنه لا ينبغي للإنسان أن يقول: هلك الناس كلهم، ففيهم الخير وفيهم الصلاح وفيهم الاستقامة وفيهم الديانة، وجعل نفسه منهم لغلبة الفساد في ذلك الوقت.
وقوله: (فاترك تفاصيل الجمل) أي: ليس عليك أن تبحث عن مواطن الفساد وتتبعها، فإنها مظاهر جلية، ولعله يخاطب وضعاً بعينه، وإلا فالأمة فيها خير من أولها إلى آخرها، و(لا يزال في هذه الأمة أمة باقية ظاهرة على أمر الله، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله).
والحمد لله على ما أتم به من شرح أبيات هذه المنظومة فيما يحسن للإنسان التزامه من آداب وأخلاق، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
السؤال: ما هو العمل الواجب لدخول المكلف دائرة الإيمان؟
الجواب: المؤمن إذا أراد، أو الكافر إذا أراد أن يدخل الإيمان، فإنه يدخل بالتصديق بالقلب والقول باللسان من غير عمل، فإذا شهد أن لا إله إلا الله ومات بعدها فلا يقال: لا بد من عمل، وهذا هو الفرق الوحيد، وأركان الإيمان هي العمل والاعتقاد والقول، لكنه إن مكن من العمل ولم يعمل فإنه لا يتحقق له الإيمان.
وما هو العمل الذي يدخل الإنسان، هل لو صدق ونطق وعمل بأحد أركان الإسلام كافٍ لدخوله في الدين؟
نعم إذا عمل شيئاً من أركان الإسلام بما اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن لا بد أن يؤمن بالجميع.
السؤال: وجدت في بعض الفتاوى القول بحرمة شراء البيرة الموجودة حالياً، فما حكم ذلك؟
الجواب: أنا لا علم لي بمكونات البيرة، إلا أن الأصل فيها الإباحة، ومن علم أن ثمة شيئاً محرماً فيها أو إضافة شيء من مادة الخنزير ونحو ذلك، فهذا يبين ويثبت الدليل فيه، وما عدا ذلك فالأصل فيها الإباحة.
السؤال: يوجد أشرطة (كاسيت) تسمى بالأغاني الإسلامية، فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يوجد أغانٍ إسلامية، وإذا كان يقصد بذلك الأناشيد، فإذا وجد ما يطرب ويخرج اللفظ عن معناه إلى الإطراب والتغني، ويدخل في ذلك ضمناً آلة الموسيقى واللهو والطرب، فهذا غناء محرم بالاتفاق، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر