إسلام ويب

الأحاديث المعلة في الصلاة [46]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما أعل من الأحاديث الواردة في السهو: حديث الزهري (كان آخر الأمرين من رسول الله السجود للسهو قبل السلام)، فقد تفرد به مطرف بن مازن وهو متهم بالكذب، وبعضهم أعله بأنه لم يروه أحد من أصحاب الزهري مع حرصهم على نقل علمه، وأنه مخالف للأحاديث الصحيحة، والأقرب أنه من فقه الزهري فنقل على أنه من مرفوعاته.

    1.   

    حديث: (أن آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم السجود للسهو قبل السلام)

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فنتكلم في هذا المجلس عن شيء من الأحاديث المعلولة في أبواب سجود السهو وهو تكملة للمجالس السابقة في هذا الباب.

    وأول هذه الأحاديث: هو حديث محمد بن شهاب الزهري مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن آخر الأمرين منه السجود للسهو قبل السلام ).

    هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتابه القديم من حديث مطرف بن مازن عن معمر بن راشد الأزدي عن ابن شهاب الزهري مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهذا الحديث معلول بعدة علل سواءً كانت متنية أو كانت إسنادية، أو مشتركة، وذلك أن هذا الحديث تضمن نسخاً لسائر الأحاديث التي فيها السجود بعد السلام، وهذا الحديث قد تفرد به مطرف بن مازن ولا يحتج بحديثه، وقد اتهمه غير واحد من الأئمة بالكذب كـيحيى بن معين وغيره.

    وكذلك فإن راوي الحديث من أهل اليمن ويروي عن معمر بن راشد وهو يماني عن ابن شهاب الزهري وهو إمام من أئمة المدينة مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان آخر الأمرين منه السجود للسهو قبل السلام )، وتفرد مطرف بن مازن في هذا الحديث موجب لرده منفرداً.

    ومن وجوه الإعلال: أن هذا الحديث تفرد به عن ابن شهاب الزهري وابن شهاب الزهري من أئمة المدينة من جهة الرواية وله أصحاب يروون عنه حديثه فحديثه يؤخذ ولا يترك إذا كان ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تفرد به أحد من أهل الآفاق ولم يروه أهل المدينة عنه فهذا أمارة وقرينة على إعلاله، فإن ابن شهاب الزهري له أصحاب كثر ينقلون حديثه منهم: الإمام مالك رحمه الله، وعبيد الله بن عمر العمري ، وجماعة من الحفاظ الثقات الذين لا يدعون مثل حديثه هذا لو كان صحيحاً أو جرى عليه العمل.

    ومن وجوه الإعلال: أن هذا الحديث يرويه محمد بن شهاب مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و محمد بن شهاب الزهري في الطبقة الأخيرة من التابعين، ولو كان الحديث عنده مسنداً لأسنده، خاصةً أن العمل عند أهل المدينة لم يكن على الاتفاق عليه وذلك أدعى لروايته مسنداً حسماً للخلاف.

    ومن قرائن الإعلال في هذا الحديث: أن هذا الحديث تضمن نسخاً لكل حديث جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في سجود السهو بعد السلام، ومعلوم أن سجود السهو يكون قبل السلام ويكون بعده، والأدلة في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام ليست بالقليلة في هذين، وإن كانت الأحاديث الدالة على أنه قبل السلام أكثر وأوفر إلا أن الأحاديث الدالة على أنه بعد السلام جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام منها في الصحيحين وغيرهما، وهذا الحديث يتضمن النسخ لتلك الأحاديث، وعند التعارض عند العلماء أن الحديث إذا كان ناسخاً لحديث وجب أن يكون الحديث الناسخ صحيحاً من جهة الإسناد.

    ومن القرائن عندهم أن يكون الحديث الناسخ أقوى من الحديث المنسوخ أو مساوياً له، فكيف والأحاديث التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام في أبواب السجود بعد السلام أكثر عدداً وأصح إسناداً من الناسخ وهو مرسل ابن شهاب الزهري ! وهذا أيضاً من قرائن الإعلال.

    وينبغي عند النظر في علة حديث عند التعارض مع غيره أن ينظر إلى عدد الأحاديث الواردة في ذلك الباب، وينظر إلى ما يخالفها، والأولى عند المخالفة أن يقدم الحديث الأقوى إسناداً، كيف والحديث في ذلك معلول بعدة علل، وأظهرها في ذلك هو تفرد مطرف بن مازن بهذا الحديث.

    ولهذا نقول: إن أقوى العلل في هذا الحديث هو تفرد مطرف بن مازن وذلك لاتهامه بالكذب، ولتفرده في هذا الحديث، وكذلك عدم رواية أصحاب الزهري من أهل المدينة له، وللإرسال في هذا الحديث، ولأن هذا الحديث ليس بأقوى من الأحاديث المخالفة له، وسبق مراراً التأكيد على أن من أبواب العلل وقرائنه إذا أراد طالب العلم أن يعل حديثاً من الأحاديث أن ينظر إلى الأحاديث الواردة في الباب سواءً الموافقة أو المخالفة لهذا الحديث، والمخالف لهذا الحديث من الأحاديث التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام سواءً في السجود بعد السلام أو التخيير بين السجود بعد السلام وقبله، أو السجود قبل السلام، كلها لم تبين أن في الباب نسخاً، ويحتمل أن هذا القول فقه لـابن شهاب، فروي هذا القول عنه على أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس كذلك.

    1.   

    حديث ابن مسعود: (اسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم)

    والحديث الثاني من أحاديث السهو المعلة: هو حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في سجود السهو: اسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم ).

    هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند، و أبو داود في كتابه السنن، ورواه الدارقطني و البيهقي من حديث محمد بن سلمة عن خصيف بن عبد الرحمن ، فتفرد به خصيف بن عبد الرحمن ، و خصيف بن عبد الرحمن قد تكلم في حديثه غير واحد فقد ضعفه الإمام أحمد ، وقال النسائي : ليس بالقوي.

    تفرد بهذا الحديث عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    علة حديث ابن مسعود: (اسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم)

    وهذا الحديث معلول بعدة علل:

    أول هذه العلل: أن هذا الحديث قد اختلف في رفعه ووقفه، فتارةً يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتارةً يجعل موقوفاً على عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله، ولهذا نقول: إن تفرد خصيف في هذا الحديث سواءً في الوقف أو الرفع كافٍ في إعلاله، ويدل على اضطرابه في هذا الحديث أنه يروي الحديث من هذه الوجوه سواءً كان مرفوعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان موقوفاً عليه.

    وقد روى الحديث عن خصيف بن عبد الرحمن جماعة موقوفاً على عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله، فرواه عن خصيف بن عبد الرحمن سفيان و محمد بن فضيل و إسرائيل وغيرهم، يروونه عن خصيف بن عبد الرحمن عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث الأشبه فيه الوقف، وأعله بالوقف جماعة من العلماء كـأبي داود في كتابه السنن، و الدارقطني حينما نقل كلام أبي داود مقراً له، وكذلك البيهقي في كتابه السنن، وهو الأشبه بالصواب أعني: أن الحديث أقرب إلى كونه موقوفاً لا مرفوعاً.

    ثم إن هذا الحديث ولو كان الأرجح فيه الوقف إلا أنه معلول أيضاً لتفرد خصيف به، و خصيف في تفرده بالحديث يحترز منه العلماء، ولهذا الإمام أحمد رحمه الله أشار إلى اضطرابه في المسند يعني: في الأحاديث المرفوعة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

    والرواة في الضبط هناك من يعتني بالموقوف، وهناك من يعتني بالمرفوع، فيغلب على الظن أنه يهم إذا روى الحديث مرفوعاً ويضبطه إذا كان موقوفاً، وهناك من يقدمون في الرفع، وهناك من يقدمون في الوقف ممن يضبط الموقوفات فهشيم السلمي يعتني في أبواب الموقوفات وله عناية وضبط لها، وخصيف بن عبد الرحمن لا يضبط المرفوعات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهم فيها ويغلط، وقد أعل حديثه في ذلك جماعة من العلماء أعني: في المسندات كالإمام أحمد رحمه الله، وقد غمزه في حديثه غير واحد غير الإمام أحمد كـالنسائي ويحيى بن معين في رواية عنه، وعلى هذا فنقول: إن الحديث الأرجح فيه أنه موقوف، وأن الرفع في ذلك وهم، وكذلك الموقوف ضعيف لتفرد خصيف بن عبد الرحمن في هذا الحديث.

    الرواية المنقطعة التي لها حكم الوصل

    وأما علة الإرسال في عدم سماع أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود من أبيه حيث قيل: إن عبد الله بن مسعود توفي وابنه أبو عبيدة في بطنه أمه، فعلى هذا لم يدرك منه شيئاً، فهل هذه علة أم لا؟ نقول: هو قطعاً لم يسمع منه، ولكن العلماء لا يعلون الحديث إذا تفرد به أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ما كان المتن مستقيماً، والإعلال برواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود فيها نظر، وأما من قال: إن الانقطاع في ذلك في رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود علة على ما يجري على قواعد أهل الاصطلاح والحديث فنقول: هذا فيه نظر، وذلك أن الانقطاع ليس علةً قطعية مطردة ولكنه علة ظنية غالبة؛ لأن الانقطاع علامة على وجود جهالة في الإسناد، والجهالة هي جهالة عين، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يري عن أبيه بواسطة أهل بيت أبيه، وأهل بيت أبيه أزواج عبد الله بن مسعود وأبناؤه الكبار، فلهذا يغتفر مثل هذا الانقطاع ولا يعل به الحديث، صحيح أن الأصل في الانقطاع أنه علة ولكنه يدفع إذا احتفت القرائن بمعرفة الواسطة ولو لم تعين، وذلك أن تعيينها محال، فربما كانت زوجته فلانة أو زوجته فلانة، أو كان ابنه فلان أو كان ابنه فلان، ولكن أياً كان منهما فذلك دليل على الاتصال، ولهذا يقول العلماء: رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه منقطع في حكم المتصل، وهذا له نظائر كثيرة كرواية إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود ، فالنخعي يروي عن عبد الله بن مسعود ولم يدركه أصلاً لأنه ولد بعد وفاته، وإنما حمل العلماء روايته على الاتصال؛ لأنه يروي عن أصحاب عبد الله بن مسعود كـعلقمة و الأسود و أبي الأحوص وعبد الرحمن بن يزيد وغيرهم ولهذا قد روى عنه الأعمش أعني: عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا حدثتكم عن عبد الله بن مسعود فسميت رجلاً فهو عن من سميت، وإذا حدثتكم عن عبد الله بن مسعود ولم أسم أحداً فهو عن غير واحد.

    ولهذا نقول: إن رواية إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود منقطع في حكم المتصل.

    والروايات المنقطعة التي تأخذ حكم الاتصال عديدة منها: رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، ورواية إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود ، وعبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه وائل بن حجر ، ورواية ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر ، ورواية سفيان عن مجاهد بن جبر ، ورواية ابن جريج عن مجاهد بن جبر فهذه محمولة؛ لأن الواسطة في ذلك هو القاسم بن أبي بزة كما ذكر ذلك ابن حبان رحمه الله في كتابه معرفة رواة الأمصار، فالواسطة إذا علمت لو لم تسم فإن هذا يأخذ حكم الاتصال، بعض العلماء يلحق بهذا بعض الصور كرواية طاوس بن كيسان عن معاذ بن جبل وإن لم يسمع منه إلا أنه يروي عن من اعتنى بفقهه، ورواية سعيد بن المسيب وهي أصح من رواية طاوس عن معاذ بن جبل وقد قال بتصحيحها جماعة، وهو وإن لم يسمع من عمر بن الخطاب مرويه على الأشهر إلا أنه يروي عن أهل القربى من أهل بيت عمر ومن أقرب الناس إليه.

    ولهذا نقول: إن أثر عبد الله بن مسعود لو كان من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وانفرد بها ولم يكن الحديث من طريق خصيف ولم يكن به إلا هذه العلة واستقام متنه فإنه لا يعل بهذا، فإن الحديث لا يعل بتفرد أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، ونقول حينئذ بأن هذا الحديث حسن، ولكن الحديث لم يتفرد به من هذا الوجه، بل فيه علة أشد من هذا كما تقدمت الإشارة إليها.

    ثم إن متن هذا الحديث متضمن للنكارة، والنكارة في هذا الحديث أنه جعل تشهداً بعد سجدتي السهو، فيكون التشهد مرتين، وهذا منكر يعل به الحديث.

    1.   

    حديث المغيرة: (واسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم)

    والحديث الثالث: هو حديث المغيرة بن شعبة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سجود السهو: واسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم )، وهو يتضمن ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود السابق.

    هذا الحديث أخرجه البيهقي في كتابه السنن من حديث محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث قد تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عامر بن شراحيل الشعبي عن المغيرة بن شعبة.

    وهذا الحديث حديث معلول بعدة علل:

    أول هذه العلل: هي تفرد محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ وإن كان فقيهاً كوفياً معروفاً من أهل الرأي إلا أنه من جهة ضبطه للرواية ليس بضابط وقد تفرد بهذا الحديث عن عامر بن شراحيل الشعبي عن المغيرة ، ويعتبر هذا تفرداً مع أنه جاء في حديث عبد الله بن مسعود وذلك لأن المغيرة بن شعبة له روايات في سجود السهو ولم يرو الثقات ممن روى عنه سجود السهو هذه إلا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي عن المغيرة بن شعبة ، ولهذا نقول: إنه تفرد بها محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عامر بن شراحيل الشعبي عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    العلة الثانية: هي عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فإن هذا الحديث أخرجه البيهقي من حديث محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، ووالده عمران قليل الحديث وهو في حكم المستور، ولكن هل يقال: بأن رواية عمران هذا الحديث عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى من رواية القرابات فهو يروي عن أبيه وهذا مما يغتفر عادةً؟ نقول: نعم، الأصل فيه الاغتفار ما دام المتن مستقيماً، ولكن هذا الحديث تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي فلم يحتمل القبول في هذا.

    ولهذا نقول: إن الحديث إذا تضمن لفظاً منكراً فإنه يعل بجميع العلل فيه، حتى يقطع الاحتجاج فيه فلا يؤخذ به، خاصةً عند مخالفة الأحاديث المشتهرة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من أساليب النقد أن المتن إذا كان منكراً فتجمع العلل فيه حتى تطرحه ولا يقال حينئذ بالاحتجاج به، ويبدأ في ذلك بأشدها، وأشد هذه العلل هو تفرد محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي وذلك لسوء حفظه، وعامة العلماء على سوء حفظه مع جلالته في الفقه والرأي، فنقول: إن هذا الحديث تفرد به من هذا الوجه وهو حديث منكر ومثله لا ينبغي أن يتفرد به مثل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى بل ينبغي أن يرويه من هو أولى منه.

    1.   

    حديث عمران: (أن رسول الله سجد للسهو ثم تشهد ثم سلم)

    الحديث الرابع: هو حديث عمران ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسهى ثم سجد للسهو ثم تشهد ثم سلم ).

    هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، و أبو داود في سننه، و الدارقطني ، و البيهقي ، و الحاكم ، و ابن خزيمة ، وغيرهم، يروونه من حديث محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري عن أشعث بن عبد الملك الحداني عن خالد الحذاء عن محمد بن سيرين عن أبي قلابة عن أبي المهلب به.

    علة حديث عمران: (أن رسول الله سجد للسهو ثم تشهد ثم سلم)

    وهذا الحديث اختلف في موضع علته مع الاتفاق على أن هذا الحديث موضع الإعلال في الطبقة المتأخرة إما أن يكون في أشعث بن عبد الملك وإما أن يكون في محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري.

    هذا الحديث تضمن ما تضمنته الأحاديث السابقة، من إثبات التشهد بعد سجود السهو، والتفرد في هذا في أحد هذين: إما في محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري أو في أشعث بن عبد الملك الحداني ، واختلف العلماء في تعيين العلة في ذلك، فذهب محمد بن يحيى الذهلي و البيهقي إلى أن الحديث معلول بـأشعث بن عبد الملك الحداني ، قالوا: وقد تفرد به وهو أقرب إلى الإعلال، وخالفهم في ذلك ابن رجب رحمه الله فقال: إعلاله بـمحمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري أقرب، وذلك أن ابن معين غمزه في حفظه، ونقول: إن هذا هو الأقرب والأشبه أن هذا الحديث معلول بـمحمد بن عبد الله الأنصاري وذلك أن أشعث بن عبد الملك الأئمة على توثيقه، ولا أعلم من تكلم فيه إلا العقيلي رحمه الله، فإنه قال: في حديثه وهم، وأما بالنسبة لـمحمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري فغير واحد لمزوه في حفظه واختلاطه، يقول أبو داود : تغير تغيراً شديداً، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: ذهبت كتبه فأخذ كتب غلامه، وغلامه يسمى أبا حكيم فهو حينئذ لا يأخذ من كتابه الذي يضبطه وإنما من كتاب غيره فيقع في كلامه الوهم والغلط، وكذلك تكلم فيه النسائي رحمه الله.

    المقدم في الإعلال إذا تساوت العلة في التلميذ والشيخ

    وعلى كل فالطعن في محمد الأنصاري أكثر من الطعن في أشعث بن عبد الملك الحداني.

    ومن القرائن في هذا: أن الإعلال في الطبقة المتأخرة أولى من الإعلال في الطبقة المتقدمة، فالإعلال بالتلاميذ أولى من الإعلال بالشيوخ فإذا جاء الحديث واحتملت العلة في موضعين: إما في الشيخ أو في تلميذه وتساويا فتكون في التلميذ أقرب؛ لأن الطبقة كلما تأخرت يضعف جانب الضبط والرواية، وكلما تقدم كان الناس إلى العدالة أقرب حتى يصلوا إلى الصدر الأول، وهذه من القرائن والمرجحات ولكن ليست دليلاً قاطعاً، ويؤيد إعلال هذا الحديث بـمحمد بن عبد الله الأنصاري أن هذا الحديث رواه يحيى بن سعيد القطان عن أشعث بن عبد الملك به، فذكره ولم يذكر التشهد بعد سجد السهو فيه، فدل على أن يحيى بن سعيد الأنصاري إنما أخذه من أشعث كما سمعه منه، وأن العلة إنما هي في محمد بن عبد الله الأنصاري.

    وأخرج رواية يحيى بن سعيد القطان عبد الله بن أحمد في كتابه المسائل فيما يرويه عن أبيه، وكذلك فقد أخرج هذا الحديث النسائي في كتابه السنن من حديث محمد بن عبد الله الأنصاري عن أشعث بن عبد الملك فروى الحديث ولم يذكر فيه هذه اللفظة، وهذا أمارة على اضطراب محمد بن عبد الله الأنصاري ، فتارةً يرويه هكذا وتارةً لا يرويه بهذا الوجه.

    ومن قرائن الإعلال في هذا الحديث: أن هذا الحديث قد أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب، ورواه عن خالد الحذاء من غير ذكر هذه الزيادة جماعة من الثقات، فرواه شعبة بن الحجاج ، و وهيب ، و ابن علية ، و المعتمر بن سليمان ، و محمد بن مسلمة ، وغيرهم كلهم يروون هذا الحديث عن خالد الحذاء ولا يذكرون فيه التشهد بعد سجدتي السهو، وإخراج الإمام مسلم رحمه الله لهذا الحديث من غير هذه الزيادة أمارة على نكارتها.

    فائدة عدم إخراج الشيخين حديثاً أو لفظاً مؤثراً في حكم أورداه في صحيحيهما

    وتقدم معنا مراراً الإشارة إلى أن البخاري و مسلماً إذا أخرجا حديثاً من الأحاديث وتنكبا زيادةً أو لفظةً في ذلك الحديث مؤثرة في الحكم فهذا أمارة على نكارة تلك الزيادة، وذكرنا ما هو أبعد من ذلك أن الإمام مسلماً رحمه الله وكذلك البخاري إذا تركا حديثاً من الأحاديث يدل على مسألة من المسائل أو على معنى من المعاني ولم يوردوه في كتابهما الصحيح وهو مؤثر ولم يوردوا في بابه غيره ما ينوب عنه فهذا أمارة على نكارته، ولهذا لم يخرج البخاري ولا مسلم حديثاً في التشهد بعد سجدتي السهو، فيدل هذا على ما تقدم أن الإمام مسلماً رحمه الله يعل هذا الحديث، وهذا على مراتب من جهة الجزم بإعلال هذا الحديث.

    فهل نجزم بأن مسلماً رحمه الله أعل هذا الحديث أو لم يعله؟ نقول: إذا أخرجه في بابه وأخرج الحديث من الطريق الذي جاءت منه تلك الزيادة ثم تركها مع أثرها في الحكم وروى خلافها من الأحاديث فهذا كالنص في إعلالها، وأما إذا ترك الحديث بكليته كـالبخاري رحمه الله فهذا لا يكون نصاً وإنما قرينة.

    ومن وجوه الإعلال في هذا الحديث: أن هذا الحديث تضمن معنى يخالف الأحاديث الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام في أنه لا يعقب سجدتي السهو إلا السلام.

    1.   

    حديث عائشة: (اسجدي سجدتين ثم تشهدي ثم سلمي)

    الحديث الخامس: هو حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى قالت: شكيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السهو في الصلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اسجدي سجدتين ثم تشهدي ثم سلمي ).

    هذا الحديث أخرجه الطبراني في كتابه المعجم من حديث موسى بن مطير عن أبيه عن عائشة عليها رضوان الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهذا الحديث معلول بعدة علل:

    أول هذه العلل: هو أن هذا الحديث لا يعرف عن عائشة عليها رضوان الله إلا من هذا الوجه من حديث موسى بن مطير عن أبيه عن عائشة عليها رضوان الله، و عائشة لها أصحاب يروون عنها حديثها ممن يعتني برواية الفقه عنها، والمرويات في هذا الباب.

    والعلة الثانية في هذا: أن هذا الحديث جاء من حديث موسى بن مطير وهو متهم بالكذب، اتهمه غير واحد كـيحيى بن معين.

    العلة الثالثة: أنه يروي هذا الحديث عن أبيه، وأبوه متروك الحديث كما قال ذلك أبو حاتم.

    ومن وجوه الإعلال: أن هذا الحديث لم يروه أصحاب الصحاح والمسانيد العالية المشهورة كأصحاب الكتب الستة وأضرابهم، وتفرد الطبراني رحمه الله في مثل هذا الحديث مع الحاجة إلى حكمه قرينة على الإعلال.

    ولهذا نقول: إن من قرائن الإعلال تفرد أرباب المعاجم بالحديث المرفوع الذي لا يوجد عند غيرهم، فهم يوردون المفاريد والغرائب، وذلك كـالطبراني في معاجمه الثلاث، والبزار و الخطيب و ابن عساكر في كتابه التاريخ، وكذلك المقادسة بجميعهم، وكذلك مفاريد الحاكم في كتابه المستدرك في الأحاديث المرفوعة التي لا تعرف عند غيره، وكتاب السنن للدارقطني ، فإن إيراد الحديث في كتابه السنن قرينة على إعلاله، وكلما تأخر المتفرد في الحديث زمناً كان ذلك أمارة على إعلاله، وكلما تقدم الحديث المسند في ذلك زمناً ضعفت قرينة الإعلال، وإنما قلنا: إن تأخر الزمن أمارة على الإعلال؛ لأن الحديث قد مر على أولئك الأئمة فلم يتلقفوه، أعني: الكبار وذلك كـالبخاري و مسلم وأرباب السنن الأربعة، والإمام أحمد رحمه الله، فلماذا تركوا هذا الحديث في أفواه الرواة! إذا ترك من قول عائشة فلماذا يترك إذا رواه أحد أصحابها ممن يروي عنها! فلماذا يترك من التابعين؟ ولماذا يترك من أتباع التابعين، وكلما تأخر وكان المتن في ذلك غريباً ولم يرووه دليل على أنهم تركوه وتحاشوه، وهذه علة نظرية عقلية صحيحة، وذلك أن أهل العناية والدراية هم أعلم الناس بالصنعة، وهذه المسألة مهمة في التشهد بعد سجدتي السهو، كيف نعل الحديث بأنه لم يروه الأئمة الأوائل وتركوه لمن بعدهم كـالطبراني؟ أضرب مثالاً.

    الجوهرة إذا كنت في طريق مثلاً: في سكة وفيها قطعة ذهب وقد مر عليها أناس من هذا الطريق وأنت تراهم مروا من عند الجوهرة ثم مالوا عنها وذهبوا، فأتيت وقد مر مائة رجل من هذا الطريق ومنهم صيارفة وأصحاب متجر ذهب وصاغه يعرفون الذهب ومع ذلك مروا من عندها وتركوها، فهل تفرح بها إذا وقفت عليها أم تقول ما يقوله العامة: ما عاف الطير في خير؟ لا شك أنك ستقول هذا.

    ولهذا الأئمة عليهم رحمة الله إذا وجدوا كتاباً من الكتب المتأخرة تفرد بحديث ولو كانت صورته الظاهرة تتلألأ فإنهم يقولون: هذا زيف؛ لأنه مر من عنده إمام الصيارفة البخاري ، ومر من عنده مسلم ، و أبو داود ، و الترمذي ، و النسائي.

    ولهذا الأئمة عليهم رحمة الله كلما تأخر زمن طبقة المصنف ولم يكن الحديث عند الأوائل كان قرينة قوية على الإعلال، وتتركز العلة إذا جاءك بإسناد مدني يعني: مر على صيارفة كبار، وإذا جاء في مكي مر بصيارفة أشد، وإذا جاء في بغداد تعلم أن الإمام أحمد مر من هنا وترك هذا الحديث فما تركه إلا أنه زيف، كيف من المتأخرين أن يتلقف لمعة المعادن ولمعة الأحاديث ويظن أن الإمام أحمد تركها ولم يرها، أو البخاري أو مسلماً أو أضراب هؤلاء ثم يأتي ويشرع عليها فقهاً.

    ومن القرائن في الإعلال: أنه إذا دخل الحديث عدة بلدان ثم لم يروه الكبار، كحديث دخل المدينة ثم ذهب إلى مكة ثم رواه كوفي ثم رواه بصري ثم رواه عراقي ثم رواه شامي وهؤلاء ظاهرهم العدالة، فمثل هذا الحديث يعل؛ لأنه دخل هذه البلدان كلها وما رواه الكبار وما تلقفوه فكيف يدخل هذه البلد ثم لا يهتم أولئك به؟ لأن تلك البلدان بلدان صغيرة ليست بلداناً كبيرة، فإذا جاء وافد إليها تذاكروا بأن فلاناً معه حديث كما يتذاكر الناس البضاعة حينما تدخل إلى قرية أو نحو ذلك فيتذاكرون هذا التاجر الذي جاء ومعه بضاعة ويخرجون إليه جميعاً، وأولئك الأئمة في النقل في الزمن الأول إذا علموا أن الرجل جاء من المدينة بدءوا يفتشون: هل عندك حديث؟ حدثت عن أحد، سمعت بكلام عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ فيقول: نعم، حدثني فلان عن فلان، فأي حديث يدخل مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام ويدخل مصر ثم لا نجده عند الكبار الذين يعتنون، فهو معلول، ولهذا نقول: إن من قرائن الإعلال في هذا الحديث: هو تفرد الطبراني بإخراجه؛ لأنه في طبقة متأخرة.

    وثمة مصنفات يمكن للإنسان أن يعرضها إذا كانت تروي الأحاديث المرفوعة عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا توجد عند من قبلهم بلفظها أو بمعناها فهذا قرينة على إعلالها، ما يتعلق بالأحكام كتب الحاكم جميعاً، وكتب الخطيب جميعاً، وكتب ابن عساكر جميعاً، وكتب المقادسة جميعاً، وكتب الدارقطني رحمه الله جميعاً، وكتب البيهقي جميعاً، وكتب ابن مردويه جميعاً، والكتب التي تصنف في أبواب التاريخ وتروي أحاديث في الأحكام وهي متأخرة بعد تلك الطبقات، وكذلك تأخذ مثل هذا الوصف سواءً كان ذلك من تاريخ نيسابور أو تاريخ بغداد أو تاريخ خراسان أو تاريخ واسط أو تواريخ مصر أو غير ذلك فهي تأخذ مثل هذا الأمر، وكذلك كتب الأنساب المتقدمة ككتب الزبير بن بكار ، وكتب البلاذري ، وغير ذلك من الكتب التي تروي الأسانيد المرفوعة إلى النبي عليه الصلاة والسلام إذا تضمنت حكماً مشهوراً؛ لأنها لو تضمنت حكماً مشهور لتلقفه العلماء وأخذوه وما تركوه في بطون هذه الكتب، بل أخرجوه في دواوينهم.

    وبهذا نعلم القرينة التي يأخذ بها العلماء أن الحديث إذا وجدوه في أفواه التلاميذ أنهم لا يأخذونه منه، وبه نعلم قلة رواية الأئمة الكبار في أوائل القرن الثالث عن تلاميذهم، فما يروون عن تلاميذهم إلا نادراً؛ لأن التلميذ لا يمكن أن يأتي بشيء لم يأت به الشيخ في عشرين أو ثلاثين سنة، فمن أين أتى به؟ وهذا أيضاً له نظائر في أبواب التفرد ولو تكلمنا على مسائل التفرد وكيف تعرف تفرد الراوي في حديث وهل هو علة أو ليس بعلة، وتركيب وقرائن تلك العلل سواءً كان ذلك في الرواة أو في البلدان أو في المتون أو في المصنفات التي جاءت فيها، كل باب من هذه الأبواب يحتاج إلى مجلس أو مجالس متعددة.

    اسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من أهل الهدى، والتقى، وأن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعله حجةً لنا لا علينا إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756329372