الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنكمل شيئاً مما تبقى من الأحاديث التي تكلم فيها العلماء، ويترتب عليها حكم من أحكام الصلاة، ومن هذه الأحاديث حديث يحيى بن علي بن خلاد يروي عن عمه رفاعة بن رافع ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسيء في صلاته بأن يحسن صلاته، ثم ذكر الوصف فأمره بأن يسجد حتى يطمئن ساجداً، ثم يرفع حتى يعتدل جالساً، قال: ثم يسجد حتى يطمئن ساجداً، قال: ثم قم! ) وهذه الزيادة في هذا الحديث (ثم قم) إشارة إلى أنه لا يجلس جلسة الاستراحة، يعني: أنه يكون ساجداً ثم يرفع من السجدة الثانية إلى القيام.
الحديث أخرجه الإمام أحمد في كتابه المسند، و الترمذي في كتابه السنن من هذا الطريق من حديث ابن خلاد عن عمه رفاعة بن رافع .
وقد رواه محمد بن عجلان ، وتوبع عليه في روايته عن ابن خلاد ولكن نقول: إنه قد تفرد به ابن خلاد في روايته عن عمه رفاعة بن رافع ، وهذا الحديث ظاهر إسناده الاستقامة.
وقد تكلم عليه بعض العلماء من جهة متنه، والكلام عليه من جهة متنه أن هذا الحديث في صفة الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها من أساء في صلاته.
وحديث المسيء في صلاته إنما هو في الصحيح من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، وجاءت صفة الصلاة أيضاً عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي حميد الساعدي وغيره، ولم يذكر في الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجوه المعتبرة أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره بالقيام والنهوض بعد السجدة الثانية، فيكون هذا الحديث إنما هو من المجمل الذي نقله رفاعة بن رافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر قوله هنا: ثم قم، يعني: بعد السجدة الثانية يحتمل أن المراد بالقيام هو أن الإنسان يشخص ببدنه قائماً ثم يعتدل، وليس المراد بذلك هو أن يرفع من سجوده، فهذا هو ظاهر هذا اللفظ، ولهذا الإمام أحمد رحمه الله كما جاء في نقل ابنه عبد الله عنه قال: وأذهب إلى حديث رفاعة بن رافع ، يعني: في عدم القول بجلسة الاستراحة.
وتقدم معنا أن الإمام أحمد رحمه الله له في جلسة الاستراحة روايتان:
الرواية الأولى: أنه قال بعدم جلسة الاستراحة، وهي الرواية الأولى والسابقة، وقد نقلها جماعة من أصحاب الإمام أحمد، منهم ابنه عبد الله، فنقل عنه القول بعدم جلسة الاستراحة.
الرواية الثانية وهي آخر الأمرين عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه كان يقول بجلسة الاستراحة، فيقول: أذهب إلى حديث مالك بن الحويرث ، فترك القول بحديث رفاعة بن رافع ، ولعل ترك الإمام أحمد رحمه الله للقول بحديث رفاعة بن رافع ، لأن وصف الصلاة في هذا الحديث جاء مجملاً، ولم ترد هذا الزيادة (ثم قم) إلا في حديث رفاعة بن رافع ، وتنكب البخاري و مسلم لها في حديث أبي هريرة أمارة على إعلالها، وهما إذا أخرجا حديثاً من الأحاديث وفيه زيادة تتضمن حكماً على فإن هذه الزيادة بأنها معلولة، وهذا هو الغالب من منهجهما في الصحيح.
ولهذا نقول: إن هذه الزيادة من جهة الإسناد حسنة، ولكن المتن في ذلك روي على الإجمال، وحديث أبي هريرة أدق، فالزيادة في قوله: (ثم قم) إن قلنا بصحتها فالمراد بذلك هو الرفع من السجدة، وليس أن يقوم بعد سجوده، وإما أن يقال: بأن هذه الزيادة غير محفوظة وهي قوله: (ثم قم)، فربما روى الراوي الحديث بمعناه، فربما قيل له: ثم ارفع فجعلها (ثم قم).
والحديث إذا جمع الناقد الطرق وجمع المخارج إذا كانت الحكاية في ذلك واحدة ميز الألفاظ وميز الأحكام الواردة في القصة، واستطاع في ذلك أن يحكم على الحديث بكونه معلولاً أو كونه مستقيماً، ولو كانت هذه الزيادة منفردة جاءت في هذا الحديث ولم يرد حديث المسيء في صلاته إلا في هذا الحديث لاحتمل قبولها، ولكن حديث المسيء صلاته جاء في أحاديث، ومنها حديث أبي هريرة وهو أشهرها، ومفصلة أيضاً، والتفرد بمثل هذا مما لا يقبل.
ولهذا نقول: إن هذه الزيادة هي على الأمرين: إما أنها رويت بالمعنى كأن يكون قال له: ثم ارفع فرواها بقوله: ثم قم، أو قال: ثم انهض، فرواها بقوله: ثم قم، والنهوض له معان متعددة، منها: أن الإنسان ينهض ببدنه بعدما كان ساجداً، ولهذا نقول: إن هذا الحديث حديث من جهة الإسناد حسن، وأما من جهة المتن فهو على ما تقدم.
الحديث الثاني: هو حديث أبي مالك الأشعري عليه رضوان الله أنه قال: ( اجمعوا أولادكم وأنفسكم أعلمكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم، ثم ركع، ثم رفع، ثم سجد، ثم اعتدل جالساً، ثم سجد، ثم نهض قائماً ) ، وفي هذا الحديث النهوض من السجدة إلى القيام.
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في كتابه المسند و ابن عساكر في تاريخ دمشق من حديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث تفرد به عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب ، و شهر بن حوشب قد تكلم في حديثه، وتفرد عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب في هذا الحديث عادةً أن العلماء لا يقبلونه، وذلك لأن شهر بن حوشب متكلم فيه، صحيح أن شهراً في ذاته رجل صالح وموصوف بالعلم وهو من أهل القرآن، فقد كان مقرئاً ولكن في حفظه لين، ومن يزكيه من العلماء فيغلب عليهم تزكية صلاحه وإمامته، ومن العلماء من يتكلم فيه، ومنهم من يزكيه أيضاً لروايته.
وعلى هذا نقول: إن العلماء يكادون يتفقون على أن شهر بن حوشب ليس من الرتب العليا من جهة الحفظ والضبط، ولكنهم يختلفون في جهة مقدار اللين في حديثه، شهر بن حوشب مقرئ وتقدم معنا الإشارة إلى أن الراوي إذا كان من أهل الاختصاص في باب من الأبواب فإنه يقدم على غيره في هذا الباب ونستطيع أن نقول: إن أمثل حديث شهر بن حوشب نوعين:
النوع الأول: هو ما يكون في اختصاصه من أمر القراءة من وجوه الإقراء، أو بعض القراءات التفسيرية.
النوع الثاني: ما يرويه عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب وذلك أن عبد الحميد بن بهرام قد اختص بالرواية عن شهر بن حوشب ، بل لا يعرف لـعبد الحميد بن بهرام رواية إلا عن شهر بن حوشب ، ولكن له حديث واحد يرويه عن عاصم الأحول ، وبقية الأحاديث عشرات كلها عن شهر بن حوشب ولا يروي عنه، ولهذا العلماء عليهم رحمة الله يصفونه بأنه صاحب شهر فيقولون: عبد الحميد بن بهرام صاحب شهر؛ لأنه أخذ حديثه.
ويمتاز حديث عبد الحميد بن بهرام في روايته عن شهر أنه من كتاب، فيأخذ من شهر حديثاً ويضبطه بكتاب، كما ذكر ذلك غير واحد من الأئمة كـعلي بن المديني وغيره، ولهذا الإمام أحمد رحمه الله يقول: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب ، وحسن أمره كذلك البخاري رحمه الله.
ومن العلماء من يحترز من حديثه عموماً سواءً كان ذلك عن شهر بن حوشب أو عن غيره وذلك كـشعبة بن الحجاج ، و أبي حاتم ، إلا أن العلماء عليهم رحمة الله يكادون يتفقون على أن حديث عبد الحميد بن بهرام هو أمثل حديث شهر بن حوشب؛ لأنه يروي عنه من كتاب، ثم أيضاً إن سماعه في ذلك عنه كثير، ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: روى عن شهر بن حوشب سبعين حديثاً طوالاً يحفظها كأنها الكتاب، وهذا في تحديثه عن شهر بن حوشب لضبطه ومراجعته له، ولكن يبقى أن العلة في شهر بن حوشب وليست في ذات عبد الحميد بن بهرام .
ولهذا نقول: إن رواية عبد الحميد بن بهرام إنما تخفف الوهم في النقل عن شهر بن حوشب فتكون العهدة في ذلك على شهر لا يحتملها الاثنان في ذلك الراوي عن شهر وكذلك شهر بن حوشب .
المرتبة الثالثة في رواية شهر بن حوشب : هو ما يرويه غير عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب ، فالأصل فيما ما تفرد فيه التوقف، وما خالف فيه الثقات ينكر، وما لم يخالف فيه الثقات يلتمس قرينة تقويه، ولهذا من أظهر ما يقبل في أبواب المتابعات والشواهد هو شهر بن حوشب؛ لأن ضعفه ليس بذاك الشديد، ولهذا نجد العلماء عليهم رحمة الله إذا وقفوا على حديث يرويه شهر وتفرد به فإنهم يستغربونه وربما ردوه، وهذا الحديث عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري في صفة الصلاة لم يتفرد به شهر بن حوشب فقد تقدم معنا في حديث رفاعة بن رافع في عدم جلسة الاستراحة، وتقدم معنا أيضاً في بعض الوجوه في حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، وتقدم عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عدم الجلوس للاستراحة، فلا نقول بنكارة هذا الحديث لتفرد شهر لأنه لم يتفرد به، وعلى هذا نقول: إن هذه الأحاديث التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام وكذلك عن الصحابة في عدم جلسة الاستراحة وفي إثباتها نقول: إن السنة في صفة الصلاة عند النهوض من الركعة الأولى إلى الثانية، ومن الثالثة إلى الرابعة، على حالين:
الحالة الأولى: أن يجلس جلسة الاستراحة وذلك لثبوتها في حديث مالك بن الحويرث عليه رضوان الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً في ورودها في حديث أبي حميد الساعدي عليه رضوان الله، وكذلك في مجيئها عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله كما تقدم معنا أنها جاءت عن عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في رواية أبي قلابة قال: حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم الكلام عليها.
والحالة الثانية: النهوض من غير جلوس، والسنة في ذلك أن ينوع الإنسان، وهذا القول قول وسط بين القولين: القول الأول الذي ينفي جلسة الاستراحة بالكلية، وبين الذي يثبتها على الدوام فلا يجعل نهوض إلا بالجلوس، فهو قول ثالث وسط بين القولين، ونقول: إن ذلك كله سنة يعني: سواءً كان ذلك جلسة الاستراحة أو كان النهوض من غير جلوس للاستراحة.
ولهذا نقول: إن رجوع الإمام أحمد رحمه الله إلى القول بحديث مالك بن الحويرث لا يعني أن الجلوس ليس من السنة أو النهوض ليس من السنة وليس من صفة الصلاة، وإنما ذهب إلى القول بحديث مالك بن الحويرث لأنه يتضمن شيئاً زائداً، والشيء الزائد في ذلك هو الجلسة، وإلا فالأصل في ذلك أنه ينهض؛ لأنه لا يوجد تشهد، لهذا نقول بإثبات جلسة الاستراحة وبعدمها وهي حالين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينوع الإنسان فيها.
وهل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمل من الأعمال أنه نوع في الصلاة مرةً يفعل كذا ومرةً يفعل كذا؟ نقول: نعم، وهذا كثير في صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، من ذلك الإشارة باليد، فالنبي عليه الصلاة والسلام تارةً يشير حذو منكبيه، وتارةً عند شحمة أذنيه، وتارةً يحاذي بها أذنيه، يعني: يرفع في ذلك زيادة.
وكذلك أيضاً من الصور في ذلك وضع النبي عليه الصلاة والسلام يديه في جلوسه في الصلاة فتارةً على فخذيه وتارةً على ركبتيه، وهذا تنوع في حالة واحدة، فيفعل الإنسان هذه الحالة، ويفعل كذلك الحالة الأخرى.
كذلك أيضاً في الإقعاء في الصلاة ثبت هذا وثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: هذا من التنوع الوارد في الصلاة وقد تلحق جلسة الاستراحة وعدمها بهذه الأنواع، فيقال بالسنية في الحالتين فينوع الإنسان بينها، وإذا احتاج الإنسان إليها في حال كبر السن أو غير ذلك فلو فعلها على الدوام فإن ذلك مما لا حرج فيه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر