إسلام ويب

مقصورة ابن دريد [6]للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يصف الناظم من قصد مكة المكرمة، وهي خير البقاع، وكيف خنقته العبرة، وعلاه النحيب حين وصل إليها، ثم أنشأ حجة وعمرة، ليلتحق بعد ذلك بركب الملبين، وقد استعمل الناظم جملة من الأساليب العربية، كحذف المنعوت، وهو جائز بشرطين، أولها: العلم به، والثاني: أن يصح تسليط العامل عليه، وقد ذكر من فقه اللغة أسماء الجبال والبلدان وبعض الأساليب البلاغية.

    1.   

    شرح قول الناظم: (ينوي التي فضلها رب العلى...)

    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

    وبعد:

    أريد أن أطمئن على الدروس الماضية، ولو بأن أسمع قراءةً صحيحة للأبيات فقط حتى أعرف مستوى من يحضر معنا، فأنا أريد منك أن تقرأ الدرس الماضي، وإن كنت حافظاً للأبيات فأسمعنا إياها.

    قال رحمه الله:

    [ ما اعتن لي يأس يناجي همتي إلا تحداه رجاء فاكتمى

    أليةً باليعملات يرتمي بها النجاء بين أجواز الفلا

    خوص كأشباح الحنايا ضمر يرعفن بالأمشاج من جذب البرى

    يرسبن في بحر الدجى وبالضحى يطفون في الآل إذا الآل طفا

    أخفافهن من حفاً ومن وجىً مرثومة تخضب مبيض الحصا

    يحملن كل شاحب محقوقف من طول تدآب الغدو والسرى

    بر برى طول الطوى جثمانه فهو كقدح النبع منحني القرا

    وهكذا أريد أن تكون قراءة صحيحة، وأن يكون المعنى معروفاً فقط، فإن حصل هذا فالحمد لله.

    قال الناظم ابن دريد رحمه الله:

    [ ينوي التي فضلها رب العلى لما دحا تربتها على البنى ]

    قوله: (ينوي) النية معروفة وهي بمعنى يقصد، إلا أنهم قالوا: إنه لا تجمع نية على نوايا؛ لأن هذا لم يسمع؛ لأن فعل لا يجمع على فعائل، وإنما تجمع بالجمع الذي سمعناه وهو جمع المؤنث السالم فنقول: بالنيات، وبعضهم قال: إن النوايا جمع صحيح هو جمع تكسير، لكن هذه الصيغة صيغة صحيحة، وادعى أنها جمع لنية على وزن نيوة، نعم ولكن هذا لم يسمع من العرب، فنحن لا نجمع شيئاً إلا لصيغة قد سمعناها.

    أسماء مكة وما يتعلق بها من الأحكام

    يقول: (ينوي التي فضلها رب العلى)، ماذا يقصد؟ يقصد مكة الكعبة، ومكة يقال لها: بكة، ويقال لها: الكعبة، ويقال لها: الحرم، ويقال: المسجد الحرام، وهذا الإطلاق كله مأخوذ من النصوص من القرآن الكريم، ويترتب على هذا الإطلاق أحكام تتعلق بالمسجد الحرام، فإذا صح أن تسمى مكة المسجد الحرام، فإن الصلاة فيها تكون بمائة ألف صلاة؛ لأن الحديث جاء بالنص على المسجد الحرام، فقال: ( صلاة في المسجد الحرام بألف صلاة في المسجد النبوي )، يعني: بمائة ألف صلاة، إلا أن الأول أصح من هذا، وجاء في بعض الأحاديث: ( بألف ألف ) إلا أنه ضعيف، فسماها المسجد الحرام.

    وقد جاء إطلاق المسجد الحرام على مكة في آيات في القرآن الكريم، ومن ذلك إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة:28]، والمراد مكة، ومن ذلك ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] والمراد مكة على أحد القولين: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1]، وأما لفظ الكعبة فجاء في صحيح مسلم: ( إن مسجد الكعبة )، والمراد مكة، وجاء في القرآن: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] أي: مكة، وقد جاء أيضاً تسمية مكة بالحرم، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [العنكبوت:67]، وهي أيضاً من أسمائها التي لا يترتب عليها شيء من حيث الأحكام الشرعية، وأم القرى، وتسمى العروب، ولها أسماء كثيرة، لكنه هنا لم يسمها وإنما وصفها وصفاً فقال: (التي) أي: ينوي الكعبة التي، أو البلدة التي، أو مكة التي فضلها رب العلى، والعلى أيضاً وصف لموصوف محذوف.

    حذف المنعوت وبيان شروطه

    وهل يجوز في اللغة العربية أن يحذف الموصوف وهو الأصل ويكتفى بالصفة؟ هذا ما سأشير إليه في مبحث اليوم؛ لأننا لن نطيل في شرح هذه الأبيات، ولكننا سوف ندرس بعض المباحث في بعض الدروس كما درسنا المشترك في الأسبوع الماضي، وسوف ندرس في بعض الدروس المترادف، وفي بعضها المجاز، وفي بعضها الحذف، وفي بعضها التضمين، وكذلك مسائل أخرى تعتبر من الكليات في علم اللغة العربية التي يحتاج إليها الطالب في كل حين، فمن ذلك الحذف، وباب الحذف واسع جداً، لكنه من الأساليب الذكية في اللغة العربية أن يحذف الموصوف وتبقى الصفة، أو العكس وهو أن يبقى الموصوف وتحذف الصفة إلا أنه قليل كما قال ابن مالك في آخر باب النعت:

    وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل

    وفي النحو العبارة الدقيقة للصفة النعت، ولذلك يقولون: النعت النحوي، أما الوصف فهو لفظ عام يشمل النعت ويشمل غير النعت؛ لأن قولك مثلاً: زيد قائم، قائم صفة، لكن ليست النعت النحوي هنا، وصفته بالقيام، أو قلت: زيد طويل، هذا مبتدأ وخبر، ولكنه وصف وليس بنعت، وهكذا الحال وصف كما قال ابن مالك:

    الحال وصف فضلة منتصب مفهم في حال كفرداً أذهب

    فهذا النعت في الجملة هو أهم من حيث الذكر من المنعوت؛ لأن الشيء قد يذهب ويبقى ما يدل عليه، لكنه إن ذهب ما يدل عليه وبقي هو لم نعرف الشيء الذي اتصف به إلا بقرينة أقوى من القرائن والأدلة التي في الأول، فحينما يذهب مثلاً هذا الطالب ويبقي بعد ذلك عمامةٌ تدل عليه، أو قلم يدل عليه، أو كتاب كتب عليه اسمه وآثار تدل عليه، كما قال الشاعر:

    تلك آثارنا تدل علينا

    فإنه حين يذهب نعرف أن هذه الآثار آثاره، وأن ذاته وإن ذهبت فإنها معروفة، وكذلك إذا كان له بيت أو سيارة إلى آخره، الحاصل أننا نعرف الذات وإن لم نرها بالصفة، وكم من أشياء ما عرفناها إلا بالصفة، والله عز وجل نحن عرفناه بالفطرة التي خلقنا عليها، هذا هو الأصل، ولكن ازدادت معرفتنا بعد ذلك لمخلوقاته التي عرفناها، ولهذا قيل: إنه من الخطأ أن يقال: عرفت ربي بآياته ومخلوقاته، لأنه قد عرف الرب الوليد الذي لم ير أي شيء من الآثار بفطرته، بل قد تغير تلك الفطرة وإن رأى تلك الآثار، ولذلك قالوا: إن عبارة عرفت ربي بربي عبارة صحيحة صادقة؛ لأن كل مولود ولد على الفطرة التي هي الإسلام.

    إذا فحذف النعت وحذف المنعوت الذي هو الموصوف جائز في اللغة العربية، لكن بشرطين:

    الشرط الأول: أن يعلم، كما قال ابن مالك في البيت: (وما من المنعوت والنعت عقل) أي: يعلم المنعوت أنه حذف ويعقل، أي: يعرف ذلك بالعقل، وهذا تتضمنه قاعدة معروفة من القواعد الكلية الكبيرة التي تساوي قدراً كبيراً من النحو وعلم اللغة العربية، وهي قول ابن مالك: (وحذف ما يعلم جائز).

    بل قد يكون الحذف هو الأبلغ، لماذا تذكره وحذفه ممكن، وإن حذف فإنه يكون كذكره، يعني حينما يكون محذوفاً كأنه مذكور، حينئذ يكون من الإيجاز، والإيجاز مقصد من مقاصد البلاغة، ومن البلاغة أن لا تذكره حتى يعمل الذهن؛ لأن الخطاب باللغة العربية هو خطاب يجعل المخاطب يعمل ذهنه في الكلام، فاللغة العربية في أساليبها البلاغية مبنية على التفسير، ومبنية على إعمال الذهن، وربما أحياناً وضع المتكلم كلاماً حتى يذهب المخاطب بذهنه كل مذهب ليصل بعد ذلك لفطانته وزكانته وإدراكه المقصود الذي تقصده أنت في كلامك، فهذا شرط مهم وهو أن يكون معلوماً.

    والمراد بقولهم: أن يكون معلوماً ليس معناه أن يكون معلوماً لكل أحد، ولكن المراد أنه يكون بحيث إذا بحث عنه يعلم، أو بحيث يدركه الفطن لأول وهلة، فحينما يقول إنسان مثلاً: مررت بعالم، الموصوف معروف، أي: برجل عالم، لكنه حينما يقول: مررت بطويل أو بمنتصب، أو مثلاً تقول: ناولني طويلاً، أو اشتر لي قصيراً، أو اشتر لي أبيض أو أصفر، أو نحو ذلك، هل يفهم المراد من غير كلام سابق، ولا قرينة سابقة، ولا دلالة لفظية أو غير لفظية، لا يمكن، لكنه هنا يفهم من غير أي قرينة. حينما يقول: مررت بعالم، نعرف أنه ليس بذئب ولا حمار ولا امرأة، بل عالم؛ لوجود دلالة لفظية وهي التذكير، وإنما المراد برجل عالم، إلا أنه أحياناً قد يكون المعنى أو المراد فيه شيء من الخفاء، أو شيء من الإبهام أو الإجمال، فحينما يقول مثلاً: جاءني فصيح، هذا يحتمل أن يكون الذي جاء رجل، ويحتمل أن يكون طفلاً صغيراً، ويحتمل شيئاً آخر، ولكن مع ذلك هذا صحيح وإن كان فيه بعض الخفاء؛ لأنه يجوز أن يتكلم المتكلم ويبقي سؤالاً للسائل عن بعض ما خفي عليه، وقد يفهم لأول وهلة ويصادف كلامه المراد الذي يريده المتكلم، بخلاف قولك: ائتني بطويل، فإنه يحتاج إلى أن يسأل هل هو رجل أم حبل أم حيوان أم ماذا؟ فإن هناك أشياء كثيرة توصف بهذا الوصف.

    والشرط الثاني: أن يصح أن يسلط عليه العامل، فإذا قلت مثلاً: مررت برجل أمامك، أو مررت برجل عندك، أو مررت برجل قام أبوه، فإن جملة قام أبوه هذه صفة، وكلمة عندك هذه صفة؛ لأنك تريد أن تقول: استقر أو مستقر عندك، مررت برجل عندك، فإذا حذفت رجل فهل يصح أن تقول: مررت بعندك؟ وهل يصح أن تقول: مررت بقام أبوه؟ لا يصح.

    فماذا تقولون في قول الشاعر: (والله ما ليلي بنام صاحبه)؟

    والجواب وليكن هذا الجواب في جيبك دائماً: حينما تكون هناك قاعدة عامة، وجاء بيت من الأبيات الشعرية التي بعض النحاة يحملها على الشذوذ، وبعضهم يحملها على الخطأ، إما خطأ الشاعر نفسه، وإما أن يكون هذا الخطأ في النقل فيكون ضعيفاً، فإنهم لم يدرسوا أسانيد هذه الأبيات كما درسوا أسانيد الحديث، فقد يخطئ الناقل، وقد يخطئ أيضاً المتكلم، لا سيما أنه قد ينقل عنه الشعر وهو يهذي وهو سكران فقد يقع منه الخطأ، وقد عقد ابن جني باباً في كتاب الخصائص في أخطاء العرب، فحينما تأتي قاعدة أو مسألة عليها كلام القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها كلام الشعراء والناس ويأتي بيت واحد، كقوله هنا: (والله ما ليلي بنام صاحبه)، فيخرق علينا هذه القاعدة، هذا لا يقبل، ولهذا كان جواب أكثر النحاة عن هذا البيت أنه شاذ، والشاذ لا يقاس عليه؛ لأن المراد والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه، فحذف المنعوت، واكتفى بالنعت الذي لا يصح أن يسلط عليه العامل، وسلط عليه العامل سلط الله عليه، هذا الذي زعزع علينا هذه القاعدة.

    وهل حذف المنعوت موجود في القرآن؟ نعم، كثير جداً في القرآن، لكن ما هي النكتة البلاغية حينما يحذف المنعوت ويبقى النعت؟ النكتة في ذلك أن مراد المتكلم هو التنبيه على النعت، ومعلوم المنعوت، انتهينا من هذا، ليس لأنه علم، بل هذا مقصد نحوي وبلاغي، لكن هنالك نكتة زائدة في البلاغة وهو أن يكون المراد ذكر النعت، يعني أول ما يراد هو ذكر النعت لا ذكر المنعوت؛ لأن المراد الأول في الذكر هو النعت.

    ومثلاً يقول الله عز وجل في قصة داود في سورة سبأ: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ [سبأ:11]، المراد هنا الوصف وهو أن تكون هذه الدروع سابغات، والمراد في الآية أن اعمل دروعاً سابغات، الدرع سوف يأتينا الكلام عنها، وأنها مؤنثة، جمعها دروع، وسابغات أي: مغطيات، وكان المراد هنا هو ذكر النعت أو الصفة، وأما المنعوت فهو معلوم، ولكن أهم ما يميزه وأهم خصائصه هو سابغات، أن تكون سابغة، وأيضاً قد تكون الدرع ليست سابغة، وإنما تكون درعاً ناقصة، فيكون مراد المتكلم حينما يأتي بالوصف ويترك الموصوف أن تكون كاملة.

    ومنها أيضاً وهو في القرآن كثير جداً وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [فاطر:7] أي: الأعمال الصالحات، أو عملاً صالحاً كما في القرآن وَيَعْمَلْ صَالِحًا [الطلاق:11]، وهناك عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:71]، فإذا حذف المنعوت الذي هو العمل، وجاء الوصف وهو صالح فإنه دال عليه بدلالة ذكرية في مكان آخر وبدلالة ذهنية نعرفها نحن من السياق، وهكذا لفظ التي هنا مثل قوله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، أي: يهدي إلى الطريق التي هي أقوم، وهنا (ينوي التي فضلها)، يعني: البلدة التي فضلها، فـ(التي) الآن في موضع نصب، هذا بالنسبة لحذف المنعوت.

    حذف النعت

    وأما بالنسبة لحذف النعت فهذا قليل، وبعضهم يجادل فيه ولا يراه، ويقول: إنه ليس موجوداً في اللغة العربية، وهذا فرق بينه وبين حذف المنعوت؛ لأننا لا نستطيع أن نكابر في حذف المنعوت، فإن الوصف ما جاء إلا لذات، فالذات محذوفة بلا شك، لكن ما الذي يدل على أن النعت قد حذف إذا ذكرت الذات، ما الذي يدل على الصفة؟ ليس هنالك ما يدل إلا في أشياء قليلة قلت لكم: إنه أنكرها بعضهم، ولذلك قال ابن مالك: (..وفي النعت يقل)، يعني أنه قليل.

    ومن الشواهد على حذف النعت قول الله تعالى في سورة البقرة: قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71]، (جئت بالحق) أي: البين أو الواضح، كما تقول: مررت بالرجل، حينما يقول الإنسان: مررت بالرجل هكذا له معنى، وحينما يقول: مررت بالرجل؟ يكون له معنى، فنبرة الصوت تدل على أن هناك محذوفاً، أي: مررت بالرجل الذي هو كامل الرجولة، أو الرجل القوي، أو كما أقول لفلان: أنت الرجل، أو أنت العالم، أو أنت الطالب أي: المجد، هذا الصحيح أنه موجود، بدليل أنك إذا أردت أن تفسر المنعوت فإنك لا بد أن تأتي بصفة، فإذا أردت أن تفسر الحق مثلاً في الآية التي تلوناها في سورة البقرة في قوله تعالى إخباراً عن بني إسرائيل في خطابهم لموسى: قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71]، فإنك سوف تصفها بشيء، فتقول: بالحق البين أو بالحق الواضح أو بالحق الذي لا ريب فيه أو نحو ذلك.

    وهكذا أيضاً قوله تعالى في سورة الكهف: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، وظاهر الآية أنه كان يأخذ كل سفينة غصباً بالقوة، لكن هنالك ما يدل على أنه ما كان يأخذ كل سفينة، ولا كان يأخذ السفينة التي فيها عيب؛ وإنما يأخذ كل سفينة صالحة، أما التي فيها عيب فإنه لا يأخذها؛ لأنها مدعاة للغرق، ودلنا على ذلك قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ [الكهف:79] ليس فيها عيب غَصْبًا [الكهف:79]، وإلا لكان فعل الخضر عليه السلام عبثاً، ولم يكن فعله صحيحاً، وقد جمع بين مفسدتين، فهذا أمر ضروري، ويمثلون له في الشعر بقول الشاعر:

    ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد

    يعني: هو يصف امرأة بأنها أسيلة الخدين أي: طويلة الخدين، ومهفهفة أي رشيقة القوام، ولها فرع المراد به الشعر، وجيد يعني رقبة، وكل امرأة لها رقبة ولها شعر، هل يريد الشاعر أن يقول: لها فرع هو فرع على الحقيقة، وجيد هو جيد على الحقيقة؟ لا، وإنما المراد لها فرع وافر كثير، وجيد طويل؛ لأن طول العنق في المرأة من الصفات الحسنة، بشرط أن لا يكون فاحشاً، وهذا الشرط اشترطه امرؤ القيس في قوله: (وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش)؛ لأنه إذا طال أشبهت بعض الحيوان، فهنا بأذهانكم وسليقتكم العربية وغير العربية تعرفون أن المراد بقوله: فرع أي: فرع كثير، وجيد جيد طويل، وهذا موجود في كل كلام، هذا هو موجز الكلام في باب حذف النعت وحذف المنعوت، الذي قال فيه ابن مالك:

    وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل

    إذاً يقول: (ينوي التي فضلها رب العلى) أي: رب السموات العلى.

    التعقيب على تفسير الراغب لكلمة دحا

    (لما دحا تربتها على البنى)، هنا الراغب الأصبهاني رحمه الله فسر كلمة (دحا) بأنه أزال، وقال في قوله تعالى: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30] المراد أزالها، ولكنني أظن أنه أخطأ في هذا التفسير، فإن دحا في اللغة العربية لو أراد أحد منكم أن يتتبع هذه الكلمة ومشتقاتها في جميع المعاجم لم يجد فيها معنى الإزالة أصلاً، بل فيها معنى البسط والتمهيد كما قال ابن فارس في جميع اشتقاقاتها، وقد يخطئ العالم وقد يكون النقل عنه خطأً، أو يكون هنالك تصحيف في العبارة، وإلا فهذا الكتاب عمدة في هذا الباب، وأحسن كتاب في مفردات القرآن هو مفردات الراغب الأصبهاني.

    هذه المادة قرآنية، (دحا) أي: بسط ومهد، وجاءت كما قلت لكم في سورة النازعات: (( وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ))، دحاها أي: بسطها؛ لأنه خلقها أولاً ثم بعد ذلك استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وبعد ذلك دحا الأرض، وهذا هو أعدل الأقوال في الجمع بين النصوص التي هي في الظاهر كأنها مختلفة، ولكنها ليست مختلفة؛ لأن الدحو جاء بعد ذلك.

    الرد على من فسر بعد بمعنى قبل في بعض مواضع القرآن

    ولذلك لجأ بعض المفسرين إلى أن يفسر بعد بمعنى قبل - وهذا من أردأ التفاسير - فقال: الأرض قبل ذلك دحاها؛ لأن الله خلق أولاً الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء، كما في سورة فصلت، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، وفي سورة البقرة أيضاً، يعني من نظر في آية البقرة والآيات التي في سورة فصلت - آية البقرة هي هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29]- فخير جمع في هذا أنه خلق الأرض جملةً ثم خلق بعد ذلك السماء، وهذا أمر نعرفه - حتى بطبيعتنا نحن - بالحس فإننا أولاً نضع الأساس، ثم بعد ذلك نضع السقف، ثم نأتي ونمهد، فالله خلق الأرض ثم خلق السموات السبع، ثم دحاها بعد ذلك أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات:31]، فتفسير قبل بمعنى بعد تفسير رديء.

    ومنه أيضاً تفسير لقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105]، ففسروا الذكر بأنه القرآن، والزبور هو زبور داود، ولا يمكن أن يكون المعنى إلا من قبل الذكر إذا كان الذكر هو القرآن، فإذا كان المراد من قبل الذكر فلماذا لم يكن من قبل الذكر، وليس هنالك نكتة بلاغية حتى يكون الكلام من بعد الذكر؟ فهذا أيضاً تفسير ضعيف ورديء ولم يقبله المحققون، وبعد على معناها؛ لأن هذا تحريف للكلم، الكلمة إذا كانت في الأصل موضوعة هي في الأصل موضوعة لشيء محدد وليست من المشترك؛ لأن بعد لا تأتي بمعنى قبل أصلاً، وحتى لو كانت بعد تأتي بمعنى قبل فما هي القرينة؟ إذا كانت القرينة ذكر الذكر يعني لفظ الذكر فلماذا عدل عنها؟ لماذا لم يقل: من قبل الذكر؟ فالصحيح أن الذكر هو اللوح المحفوظ، وأما (من بعد) فهي على ظاهرها.

    بعض تصريفات التراب

    وقوله: (لما دحا تربتها على البنى)، (تربتها) التربة والتراب والتوراب كله بمعنى واحد وهو التراب المعروف والذي نستعمله التربة والتراب هذا الذي نحتاج إليه، قد يحتاج أحياناً إلى لفظ التيراب إنسان يصنع الشعر فيحتاج إلى هذه اللفظة، أما إذا كنت تتكلم أمام الناس بما يعرفون فليس هنالك من حاجة إلى أن تأتي بلغة ليست معروفة عند الناس، فهذا منافر للبلاغة، وجاء في القرآن لفظ التراب في آخر سورة النبأ: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، وجاء أيضاً من المادة وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ:33]، أي: متساويات، وكذلك التراب ذراته متساوية.

    الحكمة من وضع الكعبة في مكة

    (تربتها على البنى)، (البنى) مفرده بُنية أو بِنية كمشى مشية، يقال: بنية وبنى، وبنية وبنى، كل ذلك صحيح، وقد صدق حين قال: بأن هذه البلدة فضلها رب العلى حينما خلقها وأوجدها على كل شيء، فهي أفضل البقاع وأحب البقاع إلى الله كما جاء في الحديث الصحيح: ( بأنها أحب البقاع إلى الله )، والله ما خلق شيئاً إلا بتدبير، وحينما خلقها في هذا الموضع خلقها بتدبير، ووضعها في مكانها الصحيح، ولله في ذلك حكمة؛ لأنه ما خلق مثلاً هذه البلدة التي هي مكة في موضع فيه أنهار وأشجار ومكان يصلح أن يكون للسياحة والتنزه، وأن يأتي الناس إليه لمثل هذا المقصد، وإنما كان بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37]كما قال إبراهيم: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37]، وهي كانت خالية من كل شيء، وكما ترونها قاحلة جبال، ودبر أمرها حين خلقها وصنعها صنعاً، وجعل لها هذه الجبال الرواسي، فما من مكان من شيء خلق فيها إلا لحكمة، وفي كل خلق الله عبرة، وفي كل كلمة في كتاب الله أيضاً عبرة، فما وضعت كلمة إلا في مكانها الصحيح بحيث لو وضع مكان كلمة أخرى لما أعطت ذلك المعنى ولنقص المعنى وتغير، وكذلك خلق الله، فإنه ما وُضع شيء إلا في مكانه الصحيح الذي لو لم يوضع فيه لحدث خلل وحدث نقص، وأيضاً لم يجعلها مثلاً على البحر حتى تكون أيضاً كذلك محل نزهة ومحل سياحة، ولم يضعها في مكان بارد فيموت الناس في الحج وهم محرمون كاشفوا رءوسهم وأجسادهم، ولم يضعها في مكان مرتفع فيقل الأكسجين، وإنما وضعها في هذا المكان ووضع حولها ما يحميها، ووضع حولها ما يصل الناس للحج وإلى قصد بيت الله الحرام عن طريقه، فجعل البحر قريباً منها حتى يسهل على الحجاج أداء الحج بهذه الوسيلة، فلله حكمة في كل شيء، لم يفضل أحد على مكة شيئاً إلا بعض المالكية الذين يفضلون الصلاة، ويفضلون أيضاً المدينة على مكة، ولكن الأدلة والله أعلم تفيد أن مكة أفضل من المدينة مقاماً وصلاةً؛ لأن بعضهم أراد أن يجمع بينهما فقال: إلا المقام في المدينة فهو فيها أفضل، والصلاة في مكة أفضل، فكيف يصنع؟ يصلي ويعود؟ والمراد هو العبادة، وإذا كان هناك المقام أفضل وقد فاته مئات الآلاف من الصلوات والعبادات فهذا إشكال يحتاج إلى حل، وبعضهم قال: الموت في المدينة أفضل والحياة في مكة أفضل، فكيف يكون ذلك!

    1.   

    شرح قول الناظم: (حتى إذا قابلها استعبر لا...)

    ثم قال رحمه الله بعد ذلك:

    [حتى إذا قابلها استعبر لا يملك دمع العين من حيث جرى]

    إن شاء الله في يوم من الأيام سوف نخصص درساً لـ(حتى) التي مات بعض العلماء وفي نفسه شيء منها، وحق له أن يموت وفي نفسه شيء من حتى؛ لأنها متعبة فعلاً.

    قوله: (حتى إذا قابلها استعبر)، استعبر أي: أخرج العبرة، والعَبرة هي دمع العين، والعِبرة معروفة، والعُبرة قرأت في نظم المثلث أنها خرزة من الخرز كانت لرجل اسمه ابن الجرير، وهذا الأخير لا ينفع بشيء، المهم العَبرة والعِبرة، العَبرة هي دمع العين، والعِبرة هي أخذ العظة، والأصل في مادة العين والباء والراء كما قال ابن فارس: أنه يدل على المضي والنفور، وأخذ منه الفقهاء الانتقال من شيء إلى شيء، وأخذوا من ذلك القياس، واحتجوا بقوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، فإذا كان الاعتبار هو الانتقال كالعبور من جسر إلى جسر، ومن شاطئ إلى شاطئ فهذا أيضاً كذلك انتقال.

    لكن هل هذا الانتقال هو المراد هنا وهو الانتقال من فرع إلى أصل، أو من أصل إلى فرع؟ وهل السياق يدل على ذلك في قوله تعالى في الآية: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الحشر:2] فيكون المعنى أي: فقيسوا يا أولي الأبصار البر على القمح، أو قيسوا الرز مثلاً على القمح، أو التفاح على التمر، هل يصح مثل هذا الاستدلال؟ ولذلك محققو الأصوليين لم يستدلوا بهذه الآية، وإنما استدلوا بنصوص أخرى من السنة، ثم هذا لا يصح أن يكون دليلاً، وهل يصح أن يستدل بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:26]، والعبرة كذلك انتقال من شيء إلى شيء، فلا يلغى السياق ولا السباق ولا الدلالة أبداً، لا يحتج بالنص هكذا مجرداً، بل لا بد من إعمال العقل فيما قبله وفيما بعده، وفيما تدل عليه القرائن.

    يقول:

    (حتى إذا قابلها استعبر لا يملك دمع العين من حيث جرى)

    معنى البيت الأول الإجمالي واضح، وهو أن ذلك العابد يقصد البلدة التي فضلها رب السموات العلى حينما بسط تربتها على بنية الأرض، وهنا أيضاً يقول: إن هذا العابد الذي جاء إلى مكة حينما قابلها ورآها وهو كان من قبل يتجه إليها في كل وقت في كل يوم خمس مرات أو أكثر، لا شك أن الإنسان إذا كان يتوجه ويولي وجهه شطر البيت الحرام فإن قلبه يهفو إليه، فإذا جاءه استعبر كما وصف حال هذا الإنسان، يقول: إنه حينما قابلها ورآها استعبر أي: خرج دمع العين من عينيه؛ لأنه تذكر هذا البيت الذي يتوجه إليه، والله قد جعل في القلوب تعظيماً ومحبةً لهذا البيت، ولذلك جاء في سورة إبراهيم: أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37]، وعبر عن ذلك بالأفئدة؛ لأن القلوب هي التي تهفو إلى هذا البيت.

    (حتى إذا قابلها استعبر لا يملك)

    حينما رآها لم يستطع أن يملك دمعه الذي جرى على خديه من عينيه تعظيماً لهذا البيت وحباً له.

    1.   

    شرح قول الناظم: (ثمت طاف وانثنى مستلماً...)

    ثم قال رحمه الله بعد ذلك:

    [ ثمت طاف وانثنى مستلماً ثمت جاء المروتين فسعى ]

    (ثمت)، هي معروفة، والتاء هذه للتأنيث، ولا تدخل على الحروف، ولكنها دخلت على ثم ودخلت على لا، وهي تدخل على ثلاثة حروف: ثم، ورب، ولا، فهذه الحروف الثلاثة تدخل عليها هذه التاء، والذي جاء في القرآن: وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ [ص:3]، أي: ولات الحين حين مناص، وقد درستم (لات) هناك في الحروف التي تعمل عمل ليس، فهو يقول: (ثمت طاف) أي: ثم طاف.

    (وانثنى مستلماً)، هو سوف يتكلم عن ذلك البر الذي جاء راكباً قاصداً بيت الله الحرام، وبدأ بعد ذلك يصف حجه وعمرته، فقال: إنه طاف، وبعد أن طاف انثنى مستلماً.

    (انثنى) في اللغة العربية معناها رجع وعاد وآبَ وقفل وكر كلها تأتي بمعنى متقارب، خاصة في السفر يقال: انثنى من سفره، ورجع من سفره، وكر من سفره، وقفل من سفره، وآبَ من سفره، وعاد من سفره، كل هذه تقال في السفر وفي غير السفر، وبالذات قفل وانثنى أي: رجع، (مستلماً) الاستلام يكون باليد ويكون أيضاً بالقبلة، والذي يستلم باليد هو الركن اليماني، والذي يستلم أيضاً باليد أو بالقبلة أو بالإشارة هو الحجر، وأما الركنان الآخران فلا، والركن اليماني لا يقبل.

    (ثمت جاء المروتين فسعى) جاء هو مرةً يعبر بـ(أتى) ومرةً يعبر بـ(جاء)؛ لأنه لا يتحرى الدقة في ذلك وإن كان هنالك فرق بين الإتيان وبين المجيء، فالإتيان كما قال الراغب في أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النحل:1]: الإتيان مجيء بسهولة؛ لأنه الآن ينظم، والناظم قد يحتاج إلى الكلمة أحياناً وإن فاته شيء من الدقة؛ لأن أتى لا يأتي في هذا المكان.

    (ثمت جاء المروتين فسعى)، المروتان المقصود بهما الصفا والمروة، ولكنه غلب إحداهما على الأخرى، فأحياناً يغلب الأخف؛ لأن المروة أخف من كلمة الصفا، ويغلب الذكر على الأنثى، فهنا قال: (ثم جاء المروتين فسعى)، أي: سعى بينهما، والذي جاء في القرآن: أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، والتطواف في اللغة العربية: هو المشي حول الشيء و الدوران حوله ولو كان بعيداً عنه.

    ولذلك هذه التوسعة التي كانت في الصفا والمروة لا ينبغي أن تكون محل خلاف؛ لأنه أولاً المراد بالسعي هو الذهاب بينهما، بأن يأتي الإنسان من الصفا إلى المروة فقط، ولو ذهب من هنا ودار إلى مكان بعيد ثم جاء بعد ذلك إلى المروة، حتى لو تجاوز ما بينهما بالضبط وخرج عن ذلك المسار، وأيضاً حتى لو لم يكن ذلك فإن الذي جاء في القرآن: (( أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ))، والتطواف كما اتفقنا هو دوران حول الشيء، ثم إنه لم يقل: (بينهما)، وإنما قال: (بهما)، بالباء وذلك يصدق بأي ملابسة لهذين المكانين أي ملابسة من قرب للقرب - والقرب النسبي - ملابسة حقيقية أو ملامسة و ملابسة تكون مجاورة لهذين المكانين فهو أيضاً صادق عليهما، والباء لها معان واسعة جداً، ولهذا كان المعترضون غير مصيبين في هذه المسألة، من الغرابة أنهم لم يعترضوا على التوسعة التي كانت في الجمرات، مع أنها زيادة باتفاق، زيادة لذلك المكان الذي كان الأصل أن يرمى وزادوا فيه عشرة أمتار، فأصبح أربعة عشر متراً، ولم يخالف في ذلك أحد، فالأمر واسع، والتيسير هو مطلب من المطالب ومقصد من المقاصد العظيمة، فكيف والمعنى الحقيقي صادق على هذا، ويؤذن بجواز ذلك، هذا معنى قوله:

    (ثمت طاف وانثنى مستلماً ثمت جاء المروتين فسعى)

    1.   

    شرح قول الناظم: (وأوجب الحج وثنى عمرةً...)

    ثم قال رحمه الله:

    [ فأوجب الحج وثنى عمرةً من بعد ما عج ولبى ودعا ]

    (أوجب)، تحتاجون إلى معنى الوجوب في اللغة العربية، وجوب الشيء سقوطه ووقوعه، ليس له إلا هذا المعنى، أما الواجب بمعنى الفرض فهذا معنى في الأصول، وليس بمعنى في اللغة العربية، وإنما معناه في اللغة سقط ووقع، والشيء واجب عليك أي: وقع عليك، أصبح حقاً عليك أن تفعله، وبعضهم يقول: لأن من أداه قد سقط عليه، إذاً لا نحتاج إلى هذا، بل هو صادق عليه لأول وهلة؛ لأنه وقع عليه، أصبح لزاماً عليه أداؤه، جاء في القرآن: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]، هي تنحر وهي الصواف، (( فإذا وجبت جنوبها )) أي: سقطت على جنبها (فكلوا منها)، وحينما يقال: وجب البيع أي: وقع البيع، وجبت الشمس أي: سقطت ووقعت، فهذا هو المعنى الوحيد لكلمة (وجب) ليس لها معنىً آخر.

    والكلمة الغريبة التي تحتاج إلى شرح في هذا البيت هو (عج)، العج هو ارتفاع، فهي كلمة تدل على ارتفاع شيء هذا في الأصل، وابحث بعد ذلك عن مشتقات هذه الكلمة، وعن الألفاظ التي استعملت لهذه الأحرف، ومن ذلك العج، وقد جاء في حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الحج العج والثج )، أما العج: فهو رفع الصوت بالتلبية، وأما الثج: فهو صب الدم، يعني أن تهرق دماء الذبائح، دماء الهدي ودماء الأضاحي، فهذه المادة التي هي العج معناها رفع الصوت، وأيضاً هنالك عندنا العجاج أو العجاجة: الغبار؛ لأنه يرتفع حينما يثار، يعني تأتي الريح فترفعه وتثيره.

    يقول: إن هذا الرجل أوجب الحج، أي: أوقع الحج وفعل الحج، وثنى بعد ذلك بالعمرة، لكنه حيرنا فلا ندري هو حج متمتعاً أم قارناً؛ لأنه قال قبل ذلك:

    ثمت طاف وانثنى مستلماً ثمت جاء المروتين فسعى

    ثم قال: (وأوجب الحج وثنى عمرةً)، فعل عمرةً بعد عمرة، يعني جاء قارناً أو جاء متمتعاً ثم حج، ثم بعد ذلك أراد أن يعتمر، المهم هذا لا يهمنا، وإنما يهمنا معاني الألفاظ، يقول: إنه حج، ثم بعد ذلك اعتمر من بعد ما عج ورفع صوته بالتلبية ودعا الله عز وجل في هذه المشاعر المقدسة، ثم يقول: إنه ثمت راح، أنا قلت في الشرح هنا: يقول: فألزم نفسه أداء نسك الحج، ثم ثنى بالعمرة بعد الحج؛ لأنه حج مفرداً، أو يريد أنه لبى بالعمرة مع الحج وهو الظاهر؛ لأنه ذكر أنه سعى قبل ذهابه إلى منى - ولا تقل مُنى كما في البيت الذي بعده- ويكون قوله: ثم ليس على بابه.

    1.   

    شرح قول الناظم: (ثمت راح في الملبين إلى...)

    قال رحمه الله:

    [ ثمت راح في الملبين إلى حيث تحجى المأزمان ومنى ]

    (ثمت راح)، الرواح: هو الانقلاب في آخر النهار، أن يذهب الإنسان ثم يعود.

    (ثمت راح في الملبين) أي: مع الملبين؛ لأن في تأتي بمعنى مع.

    كلام النحاة في إضافة حيث

    (حيث تحجى المأزمان ومنى)، تحجى بمعنى لزم ولبث، وهذا كقول الشاعر: (إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم)؛ لأن حيث تضاف إلى الجمل، ولا تضاف إلى المفرد على الصحيح تقول: جلست حيث زيد جالس، ولا تقول: حيث زيد جالس، وإن كان بعض الكوفيين أجاز هذا المعنى، لكن في الكلام الأفصح العربي تقول: حيث زيد جالس، وتقول: جلست حيث إن زيداً جالس بالكهف، ولا تقل: حيث أن؛ لأنك إذا قلت: حيث أن فمعناه أن (أن) تؤول مع ما بعدها بمفرد، فيكون المعنى حيث جلوس زيد، ومعلوم أن حيث تضاف إلى الجمل كما قال ابن مالك:

    وألزموا إضافةً إلى الجمل حيث وإذ وإن ينون يحتمل

    وهذا هو الصحيح، ولهذا كما قلت لكم: كسر همزة إن؛ لأن إن جملة.

    وكسر إن بعد حيث واجب كذاك إذ وما ارتضاه الصاحب

    من هو الصاحب؟ ابن عباد لا، هذا أحد أصحابي كان معي في الإعدادية، وكان بيننا مناظرة في هذه المسألة، حقيقة كان ذلك في تلك المرحلة، وجاء بنظم كثير فيه له، وكان يرى الرأي الآخر الذي هو جواز فتح الهمزة، واستدل على ذلك بما استدل به الكوفيون، وفي ذلك شاهدان، منها: (أما ترى حيث سهيل طالعاً).

    حيث سهيل هكذا روي بالجر، وهنالك بيت أيضاً آخره: (حيث ليِّ العمائم)، ولكن البصريين يقولون: إنه يروى (حيث ليُّ العمائم) على أنه مضاف إلى جملة، وحيث سهيلٌ على أنه مضاف إلى جملة؛ لأنك إذا جررته أضفته إلى مفرد، فهذا هو المراد بالصاحب.

    وقال ابن هشام: وقد أولع الفقهاء بفتح همزة أن بعد حيث وهو لحن فاحش، وأشرت إليه في هذه الأبيات التي أرد بها على صاحبنا، وكان أشعر مني وأنحى مني:

    وكسر إن بعد حيث واجب كذاك إذ وما ارتضاه الصاحب

    وآخرون غيره واحتجوا بشاهد وهم به لم ينجوا

    حيث سهيل، ثم حيث لي عمائم وليس هذا بالقوي

    وجئنا بعد ذلك بالكلام الذي فيه شيء من الإيجاز، على كل حال هذه فائدة لطيفة في هذا: أن الأفصح في حيث أن تضاف إلى جملة، ويترتب على هذا أن (إن) تكون مكسورةً بعدها، حتى قال ابن مالك في النظم: (وحيث إن ليمين مكملة)، هو لا يريد أنها تكسر لكنه حكى هذا، وبيت ابن مالك إنما يروى بالكسر: (وحيث إن ليمين مكملة)، يريد أن إنّ إذا كانت مكملةً لليمين جواباً للقسم فإنها تكسر كما تقول: والله إن زيداً لقائم.

    أسماء جبال مكة

    أما (المأزمان) فهما جبلان بين عرفات والمزدلفة، و(منى) معروفة، قيل: إنها سميت منى لأن الدماء تمنى فيها أي: تراق، وهنا من فقه اللغة في الجبال، المأزمان جبلان بين عرفات والمزدلفة، ومن جبال مكة جبل حراء، وجبل ثور، وجبل أبي قبيس، وقعيقعان، وهو الجبل الكبير الذي بجوار جبل حراء في طريق العشر عند العدل، وهو أحد الأخشبين، والأخشب الآخر أو الجبل الآخر هو جبل أبي قبيس، ومكة تقع بينهما، وجبل قندمة وأزياد ولا يقال: زياد، بل جبل أزياد، جمع زيد، والجبل الأسود، وفي الألبان يوجد جبل أسود، وهنا أيضاً الجبل الأسود، وهناك بلاد كثيرة فيها الجبل الأسود، المهم إذا كان أسود سموه الجبل الأسود، ويقال له: جبل ابن عمران، وهي جبال محيطة بالحرم، وجبل ثبير بفتح الثاء قريب من منى، وجبلا شامة وطفيل وقفيل جهة التنعيم.

    يقول: ثم ذهب مع الملبين إلى المكان الذي فيه المأزمان وهما جبلان معروفان، وذهب إلى منى، والذاهب إلى عرفات يمر بهما.

    1.   

    شرح قول الناظم: (ثم أتى التعريف يقرو مخبتاً...)

    ثم يأتي ذكر عرفات فقال رحمه الله:

    [ ثم أتى التعريف يقرو مخبتاً مواقفاً بين ألال فالنقا]

    (ثم أتى التعريف يقرو) أي: إنه يمشي ويجمع الخطى، (مخبتاً) الإخبات مأخوذ من الخبت، وهو المكان المطمئن في الصحراء، ولذلك الله وصف المؤمنين بأنهم أخبتوا إلى ربهم وكأنهم سكنوا إلى ربهم إلى هذا المكان المطمئن؛ لأن قلوبهم مطمئنة، فقال: (يقرو مخبتاً).

    (التعريف) هو عرفات، (يقرو) يعني يقوم أو يمشي يجمع خطاه، (مخبتاً) هذا حال.

    (مواقفاً بين ألال فالنقا)، (ألال) بفتح الهمزة وبكسرها كسحاب وكهلال، وهو جبل، إذا وقف بعرفة وهو متجه إلى القبلة فإنه يكون عن يمينه، وألال هنا بضم الهمزة كما هو عندكم والصواب كما في الشرح أن يكون على وزن سحاب وعلى وزن هلال.

    وأما (النقا) فهو أيضاً موضع ولكنه في الأصل الكثيب من الرمل، وتسميته نقوان ونقيان أيضاً، يقول: إن هذا الرجل الناسك الذي قصد بيت الله الحرام جاء إلى عرفات يجمع خطاه، ويمشي إليها مخبتاً لله خاضعاً خاشعاً لله في سمت وسكون، ومر بمواقف في عرفات، يقف هنا ويقف هناك ويقف هنالك، هذه المواقف بين هذين الموضعين بين جبل ألال وبين النقا، وهو موضع مرتفع.

    نقف هنا ثم نستأنف عند قوله: واستأنف، وإلى لقاء آخر إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    الأسئلة

    الألفاظ المرادفة للعقل في القرآن

    السؤال: هل توجد مرادفات للعقل في القرآن غير الاعتبار؟

    الجواب: لا، الاعتبار ليس بمرادف، يعني الكلمات التي يسمى بها العقل ويقال إنها من المترادفة النهية، وجاء جمعها في القرآن، والحجر أيضاً في اللغة العربية معناه العقل، ومنه قوله تعالى: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5]، أي: ذي عقل، والحجر جاء أيضاً اسم لموضع، والحجر أيضاً كذلك الحرام حِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:22]، وفي غير القرآن الحجر أيضاً الفرس الأنثى، والحجر أيضاً كذلك حجر الكعبة، ولكنه لم يذكر في القرآن، ثم جاءت هذا لفظة التفكر، يعني من مرادفاتها وقولنا: من مترادفاتها هذا قول فيه تساهل.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756564241