إسلام ويب

سورة الأنفال - الآية [24]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخاطب الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين آمراً لهم بالاستجابة لأوامره وأوامر رسوله عليه الصلاة والسلام والانتهاء عن زواجرهما؛ لأن في ذلك الحياة الطيبة المشتملة على سعادة الدنيا والآخرة، والتي فيها الصلاح والخير. وإلا يفعلوا حال بينهم وبين قلوبهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ...)

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

    أما بعد:

    فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

    ومع النداء السادس والأربعين في الآية الرابعة والعشرين من سورة الأنفال؛ قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].

    معاني مفردات الآية

    معاني المفردات في هذه الآية المباركة:

    قول الله عز وجل: (استجيبوا)، الاستجابة بمعنى: الإجابة، أي: أجيبوا، والسين والتاء للتأكيد، والمعنى: اسمعوا وأطيعوا.

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:24]، يقال في هذه الجملة ما قيل في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20].

    وقوله: لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، اللام لام التعليل، أي: لأجل ما هو سبب حياتكم الروحية، إذا دعاكم لما يحييكم من إنارة عقولكم، وترسيخ الاعتقاد الصحيح في قلوبكم، والخلق الكريم في سلوككم، والدلالة على الأعمال الصالحة والخلال الشريفة العظيمة، وكل ذلك فيه حياة للنفس.

    وقوله: وَاعْلَمُوا ))، هذا الافتتاح للجملة من أجل إثارة الانتباه إلى كلام مهم سيقال، مثلما قال ربنا سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17]، وكقوله: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ [الحديد:20]، وقوله: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98]، وهو أسلوب عربي معروف، وقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى صحابياً اسمه أبو مسعود يضرب عبداً له قال له: ( اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام )، (واعلموا)، انتبهوا.

    وقوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ [الأنفال:24]، (يحول) يمنع ويحجز، (المرء) هو الإنسان، (وقلبه) القلب ليس المراد به هذه القطعة الصنوبرية الشكل التي هي مضخة الدم، وإنما المراد بالقلب هنا العقل والعزم وما ينويه الإنسان من عمل، وهو إطلاق شائع في العربية.

    فيكون المعنى: اعلموا أن الله جل جلاله بعلمه يمنع بين المرء وما عزم عليه، وما أراد فعله.

    وقوله تعالى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، أي: اعلموا أن المرجع والمآب والمنقلب والمصير إلى الله جل جلاله؛ فيثيبكم على حسب ما كان من سلامة قلوبكم وإخلاص طاعتكم لله عز وجل.

    الاستجابة لله وللرسول

    أيها الإخوة الكرام! هنا تنبيهات في قول ربنا سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:20]، ذكر بأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله بدليل قوله سبحانه: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].

    وهنا الله عز وجل ما قال: استجيبوا لله ورسوله، وإنما قال: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ[الأنفال:24] فأعاد اللام بعد واو العطف؛ للإشارة إلى أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة مستقلة، وأن الاستجابة له صلى الله عليه وسلم أعم من الاستجابة لله، إذ أن الاستجابة لله لا تحمل إلا على المجاز بمعنى السمع والطاعة، وتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي.

    أما الاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام فهي استجابة حقيقة، استجابة ندائه إذا نادى واحداً منكم يا معشر المؤمنين! يجب عليه أن يترك ما هو فيه ويجيب نداء النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الحديث في صحيح البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: ( كنت أصلي فناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتماديت في صلاتي) يعني: واصل في صلاته (قال: ثم أتيته. فقال عليه الصلاة والسلام: ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ قال: قلت: يا رسول الله! كنت أصلي. قال عليه الصلاة والسلام: ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]؟! ).

    ولذلك قالت طائفة من أهل العلم: بأن الاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم فرض حتى لو كان الإنسان في صلاة الفرض.

    قوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فيه تنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلا لما فيه حياة القلوب والأرواح.

    قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يدعو فيقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه فحل بيني وبين معاصيك، فأعجب عمر دعاءه ودعاء له بخير.

    المعنى الإجمالي للآية

    أما المعنى الإجمالي فهو:

    يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله سارعوا إلى الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعاكم إلى الحق الذي بعث فيه، وما يلزم ذلك من الجهاد في سبيله، وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب، فمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أحياه الله في الدنيا بالذكر الجميل والثناء الحسن، وفي الآخرة حياة الأبد في جنان الخلد التي نعيمها لا يحول ولا يزول.

    واعلموا بأن الله تعالى أملك لقلوبكم منكم لها، وأنه يحول بينكم وبينها إذا شاء حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئاً من إيمان أو كفر أو يعي شيئاً إلا بإذنه.

    فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ...)

    أيها الإخوة الكرام! قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] لا أفضل من بيان معنى هذه الآية من ضرب المثال: أذكر مثلين اثنين لإنسان حال الله بينه وبين المعصية، وإنسان والعياذ بالله! حال الله بينه وبين الطاعة.

    أما الأول: يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمة الله عليه في تفسير المنار: حكى بعضهم عن نفسه أنه كان منهمكاً في شهواته، متبعاً لهواه، تاركاً لهدى ربه وطاعته، فنزل يوماً في زورق مع خلان له في نهر دجلة للتنزه، ومعهم النبيذ والمعازف، يعني: معهم الخمر ومعهم الآلات التي يغنون بها، فبين هم يعزفون ويشربون في لجة البحر إذا بزورق آخر قد اقترب منهم وفيه تال للقرآن يرتل سورة: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، فوقعت التلاوة في نفس هذا الذي يغني ويشرب، وقعت من نفسه موقع التأثير والعظة، فبدأ يستمع وينصت، حتى إذا بلغ قوله تعالى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10]، امتلأ قلبه خشية لله، وتدبراً لاطلاعه على صحيفة عمله يوم يلقاه، فأخذ العود من العازف فكسره وألقاه في اللجة، وثنى بنبذ قناني النبيذ وكئوسه في ماء البحر، وصار يردد الآية، وعاد تائباً من كل معصية، مجتهداً في كل ما يستطيع من طاعة. فهذا الإنسان أراد معصية الله فحال الله بينه وبين ما يريد، نسأل الله أن يحول بيننا وبين معاصيه.

    وبالمقابل والعياذ بالله! إنسان يصعد على سطح المسجد ليرفع الأذان -صعد لطاعة- فوقعت عينه على فتاة، فترك الأذان ونزل وذهب إليها، فقالت: ما تريد؟ قال: إياك أريد. قالت له: إني لا أدخل نفسي مداخل الريب. فقال لها: أتزوجك. قالت: أنا نصرانية وأبي لا يرضى. فقال لها: أتنصر، فتنصر والعياذ بالله! وعقد له على الفتاة فصعد على سطح المنزل فخر ميتاً، فهذا الإنسان حال الله بينه وبين قلبه، أراد الطاعة وما تمكن.

    ولذلك يا أيها الإنسان! لا يغرنك طاعة ولا توئيسك معصية، وقد كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك )، يعني: الواحد منا ما يعتمد على اجتهاده، ولا يعتمد على ما عنده من معرفة أو من علم بل يسأل الله الهداية والتوفيق.

    1.   

    فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ...)

    اشتملت هذه الآية على فوائد، منها:

    أولها: وجوب الاستجابة لله ورسوله في كل أمر ونداء.

    ثانيها: أن في الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم حياة القلوب والأرواح.

    يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فتضمنت هذه الآية أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات؛ فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً، أما من لم يستجب فهو حي كميت، قال الله عز وجل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]. هكذا بعض الناس والعياذ بالله! في صورة الإنسان لكن حقيقته كالبهائم؛ همه أن يأكل الطعام ويشبع شهوات نفسه، وبعد ذلك لا يعرف حق الله عليه.

    ثالثها: وجوب إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان المدعو في الصلاة.

    رابعها: من بين ما تجب الإجابة فيه: نداء الجهاد؛ لأن فيه عز الدنيا والآخرة.

    خامسها: أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان، ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال.

    سادسها: أن الله تعالى خالق أفعال العباد جميعاً خيرها وشرها، كما قال سبحانه : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، فالخلق خلق الله؛ الذوات والأفعال كلها من خلق الله عز وجل.

    وأسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756410537