إسلام ويب

رحمة الله وكيفية تحصيلهاللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كتب الله على نفسه الرحمة، فوسعت رحمته كل شيء، عامة للمخلوقين، وخاصة لأوليائه المتقين، وقد ذكر سبحانه في كتابه نماذج من رحمته الخاصة والعامة، كما بين أوصاف المستحقين لحرمته، وهم المستجيبون لأمره المتبعون لنبيه عليه الصلاة والسلام، وكذلك حث نبيه على التعرض لرحمة الله والاستعداد لها وطلبها من الله بدعائه عز وجل.

    1.   

    نماذج من رحمة الله بعباده

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.

    أما بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها وصية الله جل شأنه إلى الأولين والآخرين، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]

    وبحثت عن سر السعادة جاهداً فوجدت ذاك السر في تقواك

    وخير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    حديثنا في هذه الخطبة عن هبة من مواهب الله تعالى، إذا رزقها العبد حلت به سعادة الدنيا والآخرة، وظفر بكل مطلوب، ونجا من كل مرهوب.

    حديثنا اليوم عن رحمة الله وكيف يحصلها الإنسان ويتعرض لها.

    وبين يدي هذا الموهوب نستعرض بعض أخبار من منَّ الله عز وجل عليهم، وقص علينا خبرهم في كتابه؛ لنرى كيف يصبح حال الإنسان إذا نزلت به رحمات الله، وإذا حلت رحمات الله عز وجل بالعبد تغيرت أحواله وتبدلت أموره، فلا تعجب بعد ذلك من حسن حاله، ولا تعجب من حسن منقلبه ومآله، إذا شملته رحمة الله تعالى لا تتعجب إذا زالت عنه الكروب، وذهبت عنه الهموم، وحسن أمره في دنياه وفي أخراه.

    رحمة الله بإبراهيم وزوجته

    قص علينا الله سبحانه وتعالى في كتابه جملة من الأخبار فيها عظة وعبرة لمن أراد أن يعتبر ويتعظ، فقص علينا قصة تلك المرأة العجوز التي طعنت في السن، وبلغت في الكبر مبلغاً، وهي طوال عمرها تتمنى الولد، وتدعو الله أن يرزقها قرة عين تقر بها العين، وهي قصة زوجة إبراهيم وذلك البعل الكبير الشيخ الكبير الذي احدودب ظهره، وبلغ من الكبر عتياً، حينها جاءته البشرى، كما قال سبحانه وتعالى في سورة هود: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69]، وقص سبحانه وتعالى بعد ذلك ما جرى بينه وبين الأضياف، إلى أن قال: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ [هود:71] يعني: قائمة بالخدمة تخدم الأضياف مع إبراهيم: فَضَحِكَتْ [هود:71] لما سمعت أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، ضحكت من مآل الكافرين واستبشرت وتعجبت من سوء منقلبهم، فلما ضحكت زادها الملائكة ما يوجب ضحكاً إلى ضحكها، وفرحاً إلى فرحها: فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] وهنا استعجبت هذه المرأة وتعجبت كيف تلد بعد أن بلغت تلك السنين المتقدمة من العمر؟!

    يقول كثير من المفسرين: بلغت التسعين من عمرها، وإبراهيم كان قد تجاوز المائة، فقالت كما ذكر الله عز وجل عنها: يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود:72] هي عجوز قد أيست من الحمل ومن الرضاع وما إلى ذلك، والأعجب من ذلك أن هذا البعل لا يتأتى منه الإنجاب في مثل هذا السن: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72] أي: شيء عجيب أن يحصل الولد في مثل هذا السن، ومن مثل هذين الزوجين، لكن بين لها الملائكة سر العجب، وكما يقال في ألسنة الناس: إذا عُرف السبب زال العجب. قالوا لها: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود:73] نزلت عليكم رحمات الله، ونزلت عليكم بركات الله، فلا تعجبين بعد ذلك إذا تغيرت الأحوال مع ظنكم أنها لن تتغير، فبرحمة الله يُرزق الإنسان أرزاقاً ما كان يحتسبها، وبرحمة الله يحسن الرزق، ويصلح الولد، ويشفى المريض، ويزال الهم عن المهموم، ويقضى الدين عن المدين، وبرحمة الله تصلح الدنيا والآخرة، قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود:73] إذا نزلت بهذا الإنسان هذه الرحمات فلا تتعجب بعد ذلك كيف يكون حاله، وكيف يكون منقلبه ومآله.

    مواطن الرحمة في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام

    وفي سورة الكهف التي نقرأها كل جمعة في قصة الخضر ضرب لنا سبحانه وتعالى ثلاثة أمثلة لمقاصد مختلفة من مقاصد هذا الإنسان يتبين بها أثر رحمة الله عز وجل على هذا الإنسان في ماله وفي بدنه وفي ولده وفي دينه، كيف تحفظ له هذه المقاصد كلها إذا حصلت رحمة الله تعالى، قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] هؤلاء مجموعة من المساكين ليس لهم مصدر دخل إلا هذه السفينة، يقتاتون بها على أنفسهم وأولادهم، ومن صلاحهم كما جاء في صحيح البخاري قال موسى للخضر: حملونا من غير نول. يعني: من غير أجرة، من صلاحهم أنهم كانوا يعظمون هذا الرجل الصالح (الخضر)، فلما رأوه على الساحل حملوه وصاحبيه من غير أجرة، فلما ركبوا السفينة إذا بـالخضر عليه السلام ينزع لوحاً من ألواح هذه السفينة ويخرقها، أهكذا يجازى المعروف؟! وكان هذا محل تعجب واستنكار موسى عليه السلام: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] قال له كما في الحديث: ( حملونا من غير نول أهكذا يجازون؟! )، لكن قال له: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، وهذا أشد عجباً؛ لأنه بدأ بذكر أنهم مساكين، وإذا كانوا مساكين فكان الأولى أن تُحفظ السفينة، وأن تحرس من الخلل والخطأ، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79] أمامهم ملك في الطريق إذا رأى السفينة صالحة سليمة من العيوب أخذها غصباً عنهم، فلئن يذهب اللوح ثم يصلحوه بعد ذلك أخف ضرراً من أن تذهب السفينة كلها، هذا الموقف الأول.

    ثم جاء الموقف الثاني: قتل الغلام، وجد غلاماً يلعب مع الصبيان، فعمد إليه فنزع رأسه عن جسده، قال له: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً [الكهف:74] أي: نفساً طاهرة أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]، قال له في التبرير والتعليل: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80] وأوحى الله إلى الخضر بأن هذا الغلام سيكون كافراً بعد البلوغ، وإذا كان كافراً فإنه سيسوم الوالدين سوء العذاب، ليكفرا بكفره، وربما حملهما حبه على أن يتابعاه في دينه، فخشية عليهما من الوقوع في الكفر والخلود في نار جهنم أرسل الله عز وجل الخضر ليخلصهما من هذا الولد المشرك، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:80-81] سيبدلهما الله عز وجل ولداً خيراً منه زكاة، وخيراً منه طهارة وديانة، وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81] أي: وأقرب في صلة الرحم، فيبرهما وينفعهما بدلاً من الإساءة إليهما، هذا موقف ثانٍ كان فيه حفظ الدين، والموقف الأول كان فيه حفظ المال.

    ثم جاء موقف ثالث: يتبين فيه حفظ الذرية بعد هذا الإنسان إذا مات، قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ [الكهف:82] بعد أن استغرب ذهبا إلى القرية وهما يحتاجان إلى الطعام والشراب، وطلبا من أهل القرية أن يضيفوهما، فأبوا، رأى جداراً يريد أن ينقض أي: يريد أن يسقط، فأقامه من غير أجرة، ودون أن يطلب منه أحد، ودون أن يكافئه على ذلك أحد، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82] ، وهذا الذي نريد أن نقف معه أخي الكريم، أراد الله عز وجل أن يبلغ الصغار، فيقيما الجدار بأنفسهما، ويحفرا في أساس ذلك الجدار فيحصلا على الكنز.

    وهذا فيه حفظ الله عز وجل لذرية الرجل الصالح، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا [الكهف:82] كل هذه المواقف الثلاثة التي استغربها موسى وقام بها الخضر بين له الدافع عليها، وما الذي جلبه ليقوم بها، قال: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82] إذا نزلت بك رحمة الله حُفظ لك الرزق، وأُمِّن لك المستقبل، وحُفظت لك الذرية، ونزلت عليك بركات الله، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82].

    رحمة الله للأمة بحبس يأجوج ومأجوج

    وفي آخر السورة يقص علينا سبحانه وتعالى قصة من نوع آخر، إنها قصة يُدفع بها الخطر عن الأمة كلها، عن الشعب كله، قصة أولئك القوم المستضعفين الذين يسكنون ويجاورون يأجوج ومأجوج، وكانوا يعدون عليهم بين الحين والآخر، فيسطون على أموالهم وعلى حرماتهم، آذوهم وأفسدوا في أرضهم، فقيض الله عز وجل لهم من يخلصهم من هذا العذاب، أرسل إليهم ذا القرنين لما بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93] لشدة بلادتهم، لا يَفهَمون ولا يُفهِمون لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [الكهف:93-94] أي: نجعل لك أجرة، ونعطيك جعلاً لتخلصنا من هذا، فتجعل بيننا وبينهم سداً لما رأوا من الملكات والقدرات التي مكنه الله عز وجل منها: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:94-95] الذي أعطاني الله خير من الأجرة التي ستعطونني إياها، فلا حاجة لي بالأجرة، سأفعل ذلك ابتغاء ثواب الله وأجره، مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:95] لكن أطلب منكم الإعانة بأبدانكم، وطلب منهم بعد ذلك أن يجهزوا صفائح الحديد، وأن يحضروا النحاس القطر، وقام بعد ذلك ببناء هذه الصفائح من الحديد، وأمرهم بأن ينفخوا عليها ويوقدوا عليها، حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الكهف:96] يعني: بين الجبلين، أقام سياج الحديد بين الجبلين، وساواه مع الجبلين، قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف:96] هاتوا النحاس المذاب، وبدأ يصبه بين قطع الحديد لتثبت، وبعد أن استوى هذا السد المنيع من صفائح الحديد، قال: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97] لا هم قادرون على أن يظهروا عليه ويرتفعوا عليه لعلوه؛ لأنه عال مرتفع، ولا هم قادرون على أن يثقبوه وينقبوه؛ لأنه قوي من صفائح الحديد فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97] فهم في أمان من هؤلاء القوم المفسدين، الذين عاثوا في الأرض فساداً، قال لهم بعد ذلك: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف:98] كل هذا من رحمة الله، لا تتعجب حُموا ودُفعت عنهم المهالك والمخاطر لما نزلت عليهم رحمة الله، وأتاهم الفرج من حيث لم يحتسبوا، ودُفع عنهم السوء والمكروه بطرق ما كانوا يتوقعونها: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98].

    رحمة الله لنبيه أيوب عليه السلام

    هناك مقاطع كثيرة في كتاب الله، وقصص كثيرة في كتاب الله تبين لنا أهمية حصول الإنسان على رحمة الله، سواء كان صالحاً أو غير ذلك.

    فأيوب كما حكى الله عز وجل عنه في سورة الأنبياء: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] بلغ به الضر مبلغاً لا يتصوره الإنسان، ذهب المال، وهلك الولد، وذهب الأهل، وابتلي في جسده بلاءً شديداً، وهو صابر محتسب، قال بعد أن بلغ به الأذى مبلغه: مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] فتوسل إلى الله عز وجل بأمرين: بما أصابه هو من الأذى والفقر والحاجة، وبرحمة الله عز وجل التي وسعت كل شيء: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] قال الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [الأنبياء:84] كل ذلك لماذا؟ قال: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء:84] ليس لشيء يستحقه، إنما نزلت عليه رحمات الله فاستحق أن يُفعل به كل هذا وزيادة، رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84].

    1.   

    أوصاف المستحقين لرحمة الله عز وجل

    أيها الإخوة! رحمة الله هي المطلوب الأسمى، والمقصود الأعلى الذي ينبغي أن يشغل خاطرنا ليل نهار، كيف نصل إلى رحمة الله لتصلح أحوالنا الظاهرة والباطنة، ولتصلح أحوالنا العاجلة والآجلة، كيف نصل إلى هذه الرحمة؟ رحمة الله سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، كما قال سبحانه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] وسعت كل شيء، وشملت كل حي، ولكن هناك رحمتان كما يقول العلماء: رحمة عامة بالخلق كلهم، البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فهو سبحانه وتعالى وحده يرزقهم، وهو سبحانه وتعالى وحده أوجدهم ويعافيهم، فرحمته سبحانه وتعالى بهذا المعنى شملت جميع الخلائق، لكن هناك رحمة خاصة إذا نزلت بالعبد اقتضت له سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، اقتضت له حسن الآجل والعاجل، هذه الرحمة الخاصة هي التي ينبغي للإنسان المسلم أن يسأل نفسه دائماً عنها كيف أصل إليها؟ في هذه الآية يبين سبحانه وتعالى سبيلاً وطريقاً من هذه الطرق، فيقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] قال ابن عباس كما ذكر ذلك البغوي وغيره: لما نزل قوله سبحانه وتعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] قال إبليس: وأنا شيء. يعني ستشملني إذاً الرحمة، فأنزل الله عز وجل: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [الأعراف:156] فقال اليهود والنصارى: نطمع في رحمة الله -وإن كانوا كاذبين- فإننا نؤمن ونؤتي الزكاة، فأنزل الله عز وجل: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ [الأعراف:157] هذه الأوصاف هي التي تؤهل الإنسان لرحمة الله، أن يكون من أهل التقوى، أن يكون من أهل الإيمان، من أهل الصلاة والزكاة، من أتباع الرسول النبي الأمي ويكون الاتباع على الحقيقة؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في سورة الأنعام وهو يتحدث عن القرآن: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:155] أنزلناه يحتوي على كل الخيرات، وهذا معنى مبارك، (مبارك) يعني: كثير الخيرات، فهو يدل إلى خيرات الدنيا وخيرات الآخرة، فهو يدل إلى كل خير، ويحذر من كل شر، وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] إذا اتبعتم هذا الكتاب واتقيتم الله تعالى في تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه نزلت بكم رحمات الله: فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، وفي سورة التوبة يخبر سبحانه وتعالى عن أسباب موجبة لرحمة الله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71] هذه ستة أوصاف:

    أولها: الإيمان بالله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ [التوبة:71].

    والثاني: الولاء للمؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].

    والثالث: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71].

    والرابع: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [التوبة:71].

    والخامس: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [التوبة:71].

    والسادس: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71].

    هؤلاء هم الذين سيكتب الله عز وجل لهم الرحمة، وعليك أن تحاسب نفسك كم من خصلة من هذه الخصال تحققت فيك؟

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    1.   

    الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في دفع الهم وجلب رحمة الله

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! كان من أهم المقاصد التي يعتني بها النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه وفي أحبابه من الأقارب والأباعد، كان يعلمهم عليه الصلاة والسلام سؤال الله تعالى الرحمة، فكان كما قالت عنه عائشة: ( كان إذا كربه أمر ) ، وفي رواية: ( كان إذا حزبه أمر ) ، وفي رواية: ( كان إذا نزل به هم أو غم )، وتأمل في هذه الأحوال: ( إذا حزبه الأمر )، يعني: اشتد عليه الأمر، ( إذا كربه الأمر ) يعني: نزل به كربه، ( إذا نزل به الهم والغم) ماذا يقول؟ قالت: ( كان يقول: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) يعني: أستنصر وأستعين برحمتك، فإذا نزلت هذه الرحمة ذهب ذلك الهم، وإذا حلت هذه الرحمة أزيح ذلك الغم، وعلم ابنته فاطمة عليها رضوان الله، قال: ( ما يمنعك أن تسمعي لما أقول لك أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين )، علمها هذا الدعاء لتدعو به في كل صباح وفي كل مساء، وإذا حصّل الإنسان هذا المقصود فما فاته بعد ذلك شيء، إذا حصل الله فما فاته شيء، وإذا فاته الله فما حصل شيئاً، وكان عليه الصلاة والسلام يعالج الهموم التي يعايشها بعض الصحابة، فيدلهم على علاج هذه الهموم، قال أنس: قال عليه الصلاة والسلام مرة لـمعاذ : ( يا معاذ ! ألا أدلك على دعاء لو قلته وكان عليك مثل أحد ديناً لقضاه الله عز وجل عنك )، اليوم كثير من إخواننا يعانون ما يعانون من الهموم بسبب الديون للمصارف والبنوك، بسبب النكبة التي حلت بالناس، عليهم أن يتفقدوا الأسباب الشرعية، والطرق الشرعية لدواء هذه الهموم، وإزالة هذه الغموم، وأن هذا لا حل له إلا أن يتعرض الإنسان لرحمة الله، قال له: ( يا معاذ! ألا أدلك على دعاء لو كان عليك مثل أحد ديناً لقضاه الله عز وجل عنك ) ثم علمه هذا الدعاء، قال له: ( قل: اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما من تشاء، وتمنعهما من تشاء، ارحمني رحمة من عندك تغنيني بها عن رحمة من سواك ) فإذا رحمه رحمة من عنده أغناه الله عز وجل عن الأولين والآخرين.

    1.   

    تهيئة النفس لرحمة الله في رمضان

    هذا المعنى أيها الإخوة أردت تذكير نفسي به أولاً، وتذكيركم به ثانياً؛ لأننا نقبل على موسم من نفحات رحمة الله نتعرض لها فيه، إننا نستقبل شهر رمضان، كان السلف يدعون الله عز وجل قبل قدوم رمضان بستة أشهر، يقولون: اللهم بلغنا رمضان، وكان عليه الصلاة والسلام كما ورد في الحديث، وإن كان فيه مقال: ( إذا هل هلال رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان )، الاعتناء برمضان عند السلف كان يسبقه من قبل أشهر بالتهيئة النفسية باطناً وظاهراً، ليأتي رمضان حين تتنزل الرحمات والإنسان أهل لئن تتنزل عليه رحمات الله، شعبان هذه أول أيامه، وهذه الجمعة أول جمعة فيه، فحق على الحريص على نجاة نفسه، والمؤمن اللبيب الذي يحرص على نفع نفسه أن يتأهب وأن يتعرض لنفحات رحمة الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله )، والاستعداد لرحمات الله في نهار رمضان وفي ليله ليس بمجرد الكلام، إننا نحتاج إلى أن نؤهل أنفسنا من الآن، وهي رياضة كسائر الرياضات، علينا أن نعد أنفسنا بدنياً، وأن نعدها ذهنياً، وأن نعدها روحياً لنستقبل هذه الأيام، وهذا على جهة الاستحباب، علينا أن نتدرب على أنواع من الطاعات، كان عليه الصلاة والسلام يكثر من الصيام في شعبان، وكان السلف بعضهم إذا دخل شعبان أغلق كل شيء وأقبل على المصحف، بعضهم كان يغلق الدكان، ويقبل على المسجد والمصحف استعداداً لرمضان؛ لأن من سنة الله في هذه النفس البشرية أنها إذا فعلت الطاعة دعتها هذه الطاعة إلى أختها، وإذا فعل الإنسان والعياذ بالله السيئة تلو السيئة، فإن السيئات تدعو إلى مثلها، فمن أراد أن يوفق إلى رحمات الله في رمضان فعليه أن يبادر الآن قبل قدوم رمضان، وعليه أن يصلح حاله ما بينه وبين الله حتى يوفق للطاعة، فإن الله جل شأنه أخبرنا في كتابه عن أقوام حرموا التوفيق إلى الطاعات بسبب ذنوبهم وسيئاتهم، كما قال سبحانه وتعالى عن فريق المنافقين الذين تولوا يوم أحد، وتركوا المسلمين يقتلون، قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155] استزلهم الشيطان اليوم بذنوبهم وسيئاتهم السابقة، وهكذا حال الإنسان في زمن الخيرات، وفي الأزمان الفاضلة يستزله الشيطان، فتراه معتكفاً على معاصي الله، مفرطاً في حقوق الله، متهاوناً في اغتنام أيام الله، والسبب: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155] فحتى لا يستزلك الشيطان في تلك الأيام بادر من الآن بالإصلاح، وشعبان زمن ينبغي للإنسان أن يشغله بالصالحات، وقد كان عليه الصلاة والسلام ينبه إلى أن الناس في شعبان يغفلون، لكن غفلتهم ليست كغفلتنا، كانوا يغفلون في شعبان؛ لأنهم قد اجتهدوا في الصالحات في رجب، كانوا يعظمون رجب؛ لأنه شهر الله الحرام، يجتهدون في الطاعات في رجب، وينتظرون الاجتهاد في الطاعات في رمضان، فيغفلون عن الواسطة شعبان، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يحيي هذه الواسطة، وأن ينبه الناس إلى ضرورة اغتنامها، فقال: ( ذاك شهر يغفل الناس عنه ) أي: شهر يغفل الناس عنه بسبب اجتهادهم السابق وانتظارهم للاجتهاد اللاحق لا بسبب غفلة كثير منهم اليوم، فهو غافل طوال الشهور.

    نحن بحاجة أيها الإخوة أن نتعرض لنفحات رحمة الله، وأن نستعد لها، والموفق من إذا سمع القول اتبع أحسنه، كما قال الله جل شأنه: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17-18].

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأحبابنا وقراباتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اخذل الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.

    عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755908300