إسلام ويب

أسباب النجاةللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أعظم نعم الله على الإنسان أن يسلمه من عذابه ويفوز بثوابه، وحبس اللسان عن الباطل من أسباب ذلك؛ فإن اللسان شاهد على الإنسان أو شاهد له، وصلاحه علامة الخيرية في صاحبه، والعاقل من اشتغل بعيبه عن عيوب غيره، وندم على تقصيره وتفريطه.

    1.   

    حفظ اللسان

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! خطبة اليوم سؤال وجواب, سؤال من أحد فقهاء الصحابة وقرائهم, والمجيب نبينا صلى الله عليه وسلم.

    في سنن الترمذي وصححه غير واحد من أهل العلم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: ( قلت: يا رسول الله! ما النجاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك لسانك, وليسعك بيتك, وابك على خطيئتك ).

    عظم همة الصحابة في طلب النجاة

    نقف في هذه اللحظات مع هذه الوصية النبوية لهذا الصحابي الجليل, حينما تتفكر في السائل والمجيب تعلم عظم السؤال وأهمية الجواب, السائل أحد مقدمي الصحابة, أحد المهاجرين الذين شهد لهم بالخير, فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة و عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه يتبع غنمه في البادية, فلما سمع بمقدم رسول الله دخل المدينة, قال: فبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخيره الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن يبايعه على الهجرة, ليقيم بالمدينة, ويترك ما كان فيه من الدنيا وراء ظهره, وبين أن يبايعه ويرجع إلى البادية, فاختار المبايعة على الهجرة, وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حظي هذا الصحابي الجليل بمنزلة عظيمة عند رسول الله, فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة الخدم له والتابعين, فكان عليه الصلاة والسلام يستصحبه في السفر, فكان يقود له بغلته, ويحضر مشاهده, هذا عقبة بن عامر .

    عندما نتحدث عن هذا السؤال فهو سؤال موجه من أحد العباد الزهاد الذين تفرغوا لعبادة الله تعالى في صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد كان عقبة واحداً من أهل الصفة -يعني: من الفقراء الذين تفرغوا للعبادة- جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما هو فيه من الفقر, جاء يسأله، والناس في هذه الدنيا لهم اهتمامات, والقلب يشتغل بما أحبه.

    عقبة رضي الله تعالى عنه لم يكن ليسأل عن شيء يقتنيه في الدنيا, ولم يكن ليسأل عن باب من أبواب الرزق, جاء مع فقره يسأل هذا السؤال العظيم: ما النجاة يا رسول الله؟

    إنه العقل, إنه الإدراك لحقيقة الفوز, الإدراك للمطلوب الأعظم, إن أعظم مطلوب يظفر به الإنسان أن يفوز يوم لقاء الله, أن ينجو من عذاب الله, أن ينعم بثواب الله, هذا أعظم المطالب التي يسعى إليها العقلاء, فإذا جمع الواحد منهم همه يسر الله عز وجل له هذا المطلب العزيز.

    والنجاة الحقيقية الفوز بالثواب والسلامة من العقاب, وهو تمام النعمة التي إذا سيقت إلى الإنسان فقد حاز الدنيا والآخرة, سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة رجلاً يدعو، يقول: ( اللهم إني أسألك تمام نعمتك, فقال له عليه الصلاة والسلام: وما تمام النعمة؟ قال: دعوة دعوت بها أرجو بها الخير ), يقول: أنا لا أفهم ما تدل عليه هذه الكلمة, إنما هي دعوة أؤمل بها خيراً, ( فقال عليه الصلاة والسلام: فإن تمام النعمة أن تفوز بالجنة وأن تنجو من النار ).

    أعظم النعم التي تعطى لهذا الإنسان أن ينجو من عذاب الله, وأن يفوز بثواب الله, والصحابة على ما كانوا عليه من فقر ما كانوا ليهتموا بعرض زائل, كان جل همهم كيف يلقون الله عز وجل بوجه مرضي عنه, كيف ينجو الإنسان من عذاب الله, ويفوز برضوان الله, ولهذا وجه الصحابي الفقير العابد الزاهد المجاهد الملازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال: ما النجاة يا رسول الله؟ ثم جاءه الجواب بأسباب النجاة.

    يقول بعض العلماء: هذا الحديث جار في البلاغة العربية على أسلوب الحكيم وهو: أن يسأل الإنسان عن شيء فيجيب بشيء آخر أهم منه وأبلغ, يجيب السائل بما يعنيه ويكون أهم في حقه, فالصحابي يسأل عن النجاة ما هي؟ فلم يجبه عليه الصلاة والسلام بأن تنجو من النار وتدخل الجنة, إنما أجابه بشيء آخر وهو أسباب هذه النجاة, كيف تصل إلى هذه النجاة؟

    أجابه عليه الصلاة والسلام ببعض الأسباب ولم يذكر له جميع الأسباب, وما ذاك إلا لأهمية هذه الأسباب, أجابه عليه الصلاة والسلام بثلاثة أسباب تدعو إلى النجاة, ويسلم صاحبها بإذن الله, قال: ( أمسك عليك لسانك, وليسعك بيتك, وابك على خطيئتك ).

    هذه الوصايا الثلاث موجهة لأحد العباد القراء حيث كان عقبة بن عامر من فقهاء الصحابة ومن أحسنهم صوتاً بالقرآن, إذا قرأ القرآن بكى المستمع, حتى أن عمر رضي الله تعالى عنه, طلب من عقبة أن يقرأ عليه القرآن, فلما قرأ عليه القرآن بكى عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه, فهذا عقبة يجاب بهذا الكلام.

    حفظ اللسان

    يقول له عليه الصلاة والسلام: إذا أردت النجاة فهناك خصال ثلاث: أولها: ( أملك عليك لسانك ), وفي رواية: ( أمسك عليك لسانك ) , اقبض لسانك دعه مملوكاً لك ولا تكن ملكاً له, كما قال بعض الحكماء: دع لسانك وراء قلبك, إذا أردت أن تتكلم بالكلمة فتفكر بما فيها قبل أن تتلفظ بها, انظر ما فيها من الربح والخسارة, فإذا كان فيها خسارة أو لا فائدة من ورائها فأمسك لسانك, فإن الخير كل الخير في أن تمسك هذا اللسان, قال عليه الصلاة والسلام: ( من صمت نجا ).

    وجاءه معاذ يسأله عن الأسباب الموجبة لدخول الجنة, فدله عليه الصلاة والسلام على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه في خصال كثيرة, ثم قال: ( ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ ), أي: أدلك على خصلة تجمع لك هذه الخصال, ( ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: أمسك عليك هذا, وأمسك بلسانه, فقال معاذ : يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا معاذ ! ) , وهذه كلمة تقال للزجر: ( ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) . وما الذي يدخل الناس النار مجرورين على وجوههم إلا حصائد الألسن, الألسن في هذه الدنيا تزرع، ثم يجني الإنسان ويحصد الثمرة يوم يلقى الله تعالى, ( وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ).

    يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: ( أملك عليك لسانك ), ليكن لسانك مملوكاً لك, فلا تتكلم به إلا فيما يعود عليك بالخير وإلا فأمسكه خير لك.

    خطر إطلاق اللسان

    ويقول ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن ضبط اللسان: تفكر في الكلمة قبل أن تنطق بها, فإن لم يكن فيها ربح فأمسكها, وإن كان فيها ربح فانظر هل هناك ما هو أربح منها؟ إذا كانت هناك كلمة أحسن منها فينبغي أن تشتغل بها فذلك عائد عليك بما هو أفضل.

    هذه الوصية مصروفة إلى أحد العباد الزهاد؛ لأن من العجب الذي يراه الإنسان اليوم ويراه الناس من قبلنا أن الصلحاء والعباد يهون عليهم ويسهل في حقهم أن يتحرزوا من الحرام في المطعم وفي المشرب وفي الملبس, يصونون الجوارح كلها، فيصونون أسماعهم ويصونون أبصارهم ويصونون فروجهم وبطونهم إلا عندما يـأتي الواحد منهم إلى لسانه, فإنه يشق عليه أن يضبط لسانه.

    استمع إلى ابن القيم رحمه الله وهو يتكلم عن هذه الشريحة من الناس, يقول: ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام ومن الظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر, ومن النظر المحرم وغير ذلك, ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة -أي: مشهور بين الناس بالدين, مشهور بين الناس بالعبادة والعلم والصلاح- وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً, ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول.

    إذا كان هذا حال بعض الصلحاء والعباد فكيف بمن دونهم؟ فالكلمة يكتب الله عز وجل لك بها السعادة, أو يكتب لك بها الشقاوة, والكلمة الطيبة سبب لإسعادك في دنياك كما هي سبب لسعادتك في آخرتك, والعكس بالعكس.

    يقول عليه الصلاة والسلام كما في سنن الترمذي : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يظن أنها تبلغ ما بلغت من رضوان الله ), كلمة من رضوان الله لكن لا يقدر أنها تبلغ هذا المبلغ العظيم, وتنزل هذه المنزلة في حب الله لها, (يتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها تبلغ ما بلغت, فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه), يعني: منذ أن تكلم بها إلى يوم يلقى الله, وهو من أهل الرضوان, يعيش في هذه الدنيا وهو من أهل الرضوان موفق للطاعة, بعيد عن المعصية, سعيد فرح بحياته, بسبب كلمة قالها.

    يعيش في البرزخ في قبره سعيداً, فقبره موسع عليه مضاء له, منعم هو فيه, بسبب كلمة قالها من رضوان الله, ثم يبعث يوم القيامة وهو من أهل الرضوان فيبشر حين يخرج من القبر, وتلقاه الملائكة بالبشرى والطيب آمناً من الفزع حين يخاف الناس إلى أن يلقى الله, فإذا لقي الله بوأه أعلى المنازل, كل ذلك بكلمة من رضوان الله ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت.

    وفي المقابل: ( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عز وجل له بها سخطه إلى يوم يلقاه ) , يعيش في دنياه من أهل السخط والغضب والانتقام, مكدر عليه في عيشه, مسهل له الوقوع في مساخط الله, ويعيش في قبره منغصاً معذباً, ويبعث يوم القيامة خائفاً فزعاً إلى أن يلقى الله, كل ذلك بسبب كلمة قالها من سخط الله, ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت.

    هذه الكلمة الحاضرة على لسانه لا تغيب عن صحائفه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] . والعلماء قد اختلفوا: هل يكتب على الإنسان كل ما يتكلم به من خير وشر ولغو, حتى الذي ليس فيه خير ولا شر هل يكتب؟

    فريق من أهل العلم يقول: نعم, لأن الله عز وجل يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] . ثم بعد هذه الكتابة يمحو الله ما يشاء ويثبت, فتأتي الأعمال الحسنة الصالحة فيكفر الله عز وجل بها بعض الأعمال السيئة فيمحو من صحيفته بعض ما قد كان كتب من كلامه الكثير. فاتق الله في الملكين, لا تؤذهما بما تتحدث بلسانك, مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

    صلاح هذا اللسان عنوان على خيرية هذا الإنسان, كما أن فساد اللسان عنوان على فساده, وكما قالوا: القلوب أوعية بني آدم, قلب الإنسان هو وعاؤه الذي يختزن فيه الخير والشر, والألسنة هي المغارف التي تغرف لك من تلك القلوب, فإذا أردت أن تعرف ما في قلب الإنسان فانظر إلى لسانه بماذا يتحدث هذا اللسان؟ فإن كانت كلماته طيبة, إذا كان لسانه نظيفاً عفيفاً فهذا يدل على سلامة قلبه, وإذا كان لسانه خطاء مذنباً فهذا يدل على فساد في قلبه.

    فالألسن مغارف القلوب, تنبئك بما تحتويه هذه القلوب من حلو ومر, يقول عليه الصلاة والسلام: ( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه, ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ) .

    أطيب ما في هذا الإنسان لسانه وقلبه إذا طابا, وأخبث ما في هذا الإنسان لسانه وقلبه إذا خبثا, جاء في الأثر: أن ناساً نزلوا على لقمان عليه السلام ضيوفاً, فطلبوا منه أن يذبح لهم وأن يأتيهم بأطيب ما في الشاة, فجاءهم بالقلب واللسان, وطلبوا منه أن يأتيهم بأخبث ما في الشاة, فجاءهم بالقلب واللسان, فلما سألوه قال: هما أطيب ما فيها إذا طابا, وهما أخبث ما فيها إذا خبثا.

    أطيب ما فيك لسانك وقلبك, ولسانك يغترف مما في قلبك, فجاهد نفسك على إصلاح لسانك, وأمسك عليك لسانك تسلم بإذن الله من غوائل كثيرة, وأصلح لسانك يكون ذلك سبباً في صلاح بقية عيوبك.

    قال النووي رحمه الله في كتابه العظيم (الأذكار), وهو يتكلم على باب حفظ اللسان، قال:

    روي لنا أن القس بن ساعدة و أكثم بن صيفي وهما من عقلاء الجاهلية ومن حكماء العرب المعروفين التقيا, فقال أحدهما للآخر: كم أحصيت من عيوب في ابن آدم؟ قال: كثيرة لا تحصى, والذي أحصيته منها ثمانية آلاف عيب.

    هذا الذي قدر هذا الحكيم على عده من خطايا وعيوب بني آدم, هذا قبل الإسلام وقبل أن يعرفوا الحلال والحرام, أما بعد معرفة الحلال والحرام فالله أعلم كم سيعد الإنسان في الواحد منا من خطايا وعيوب.

    قال: والذي أحصيته فيه ثمانية آلاف عيب, لكنني وجدت خصلة إذا أصلحتها سترت بها سائر العيوب؟ قال: وما هي؟ قال: اللسان.

    إذا صنت اللسان وحفظته صنت بإذن الله تعالى بقية الجوارح, وسلمت من باقي العيوب.

    لا عجب يا إخوان! أن تكون الكلمة سبباً لهدم الحسنات وإن كانت مثل الجبال, فإن بعض الناس يوم القيامة يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة, لكنها تهدم بسبب الكلمات. قال صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع, قال: لا, المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ولكنه يأتي وقد شتم هذا، وسب هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا, فيأخذ لهذا من حسناته, ولهذا من حسناته, ولهذا من حسناته, حتى إذا فنيت حسناته أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه ثم ألقي في النار ) .

    حسنات أمثال الجبال لكنها تهدم بالكلمات, وتزول بالألفاظ, اللفظ يجرك إلى السعادة أو يجرك إلى الشقاوة, وفي الحديث الصحيح أن عابداً عبد الله تعالى ما شاء الله من السنين, لكنه مر على رجل فاسق, فتلفظ هذا العابد بكلمة كتبت سخط الله عليه, مر على هذا الفاسق فقال له: (والله لا يغفر الله لفلان).

    قد يكون الباعث الغيرة على محارم الله, والغضب حين انتهكت محارم الله, لكن هذا لا يبرر القول السيئ, ( فقال الله له: من ذا الذي يتألى علي؟ ) , من هذا الذي بلغ في المرتبة أن يحلف علي أن أغفر لفلان ولا أغفر لفلان, ( من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان, فقد غفرت له وأحبطت عملك ) . يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه راوي الحديث: قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته, (أوبقت) يعني: أهلكت دنياه وآخرته.

    لو كنت حصيفاً منصفاً وحاسبت نفسك في المجلس الواحد لوجدت كلمات كثيرة ربما كانت سبباً في إهلاك دنياك وآخرتك, فرحم الله امرأ وقف عند لسانه.

    كان السلف أشد الناس محاسبة لألسنتهم، لا يتكلم الواحد بالكلمة إلا بعد أن يتفكر فيها, وإذا زلت اللسان بادر وسارع إلى التوبة والاستغفار.

    والعجيب أنهم كانوا يحاسبون أنفسهم حتى في الكلام المباح, يقول ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي: وقد رؤي في المنام بعض أكابر أهل العلم -واحد من العلماء من كبارهم مات فرآه بعض أصحابه في المنام- فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أنا موقوف في كلمة قلتها -أنا موقوف أحاسب أسأل عن كلمة قلتها- قيل له: وما هي؟ قال: قلت مرة: ما أحوج الناس إلى الغيث, أي: ما أشد حاجة الناس إلى الغيث, فقال الله لي: وما يدريك بمصلحة عبادي أنا أعلم منك بمصلحة عبادي.

    إنهم يتورعون عن الكلام الذي لا يغني. وقد وصف الله عز وجل المؤمنين في أول سورة المؤمنون وحكم لهم بالفلاح, قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1-3].

    واللغو: الكلام الذي لا فائدة فيه, وليس الكلام المحرم, أي: كلام لا إثم فيه ولا فائدة فيه, فالمؤمنون معرضون عن الكلام الذي لا فائدة فيه, لا يتكلم إلا بما فيه فائدة؛ امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت ) .

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    1.   

    الانشغال بعيوب النفس عن عيوب الآخرين

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! الموفق من اشتغل بعيب نفسه عن عيوب الناس, أي: من اشتغل بإصلاح نفسه عن ذكر عيوب الناس, أما المشتغل بإصلاح عيب نفسه وإصلاح عيوب الناس فهذا أعلى الناس منزلة عند الله, لكن الذنب يستحقه من تشاغل بعيوب الناس, ونسي عيب نفسه.

    الموفق من اشتغل بمحاسبة نفسه, والنظر إلى ما فيها من عيوب, ولو أن كل واحد منا وقف وقفة تأمل مع نفسه لينظر ما فيها من العيوب لوجد فيها ما يكفي من الشغل عن أن يتعرض لسير الآخرين.

    جاء بعض الناس إلى بعض الحكماء يذكر له عيوب بني أمية، فأنشده أبيات من الشعر كان مما فيها:

    لعمرك في ذنبي لنفسي مشغلاً عن ذنوب بني أميه

    وليس بضائري ما قد أتوه إذا ما الله أصلح ما لديه

    ليس بضائرك ما وقع فيه الناس إذا ما كنت مشغولاً بإصلاح نفسك, وهذا هو السبيل الصحيح للنجاة, ولذلك قال له عليه الصلاة والسلام: ( وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ) .

    إذا أردت النجاة فاجتنب الناس فيما هم فيه من فساد, وشاركهم فيما هم فيه من الخير, الفوز برأس المال سلامة الدين، أن تتجنب مخالطة الناس حين يقعون في المعصية إذا كنت لا تقدر على الإصلاح, فلا يجوز لأحد حضور مجلس المعصية إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    وصدق الحميدي حين قال:

    لقاء الناس ليس يفيد شيئاً سوى الهذيان من قيل وقال

    فأقلل من لقاء الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح حال

    خالط الناس فيما هم فيه من الخير, وكن أداة تنقل الخير إليهم وتصلحهم إذا فسدوا, فإذا لم تكن كذلك فالخير كل الخير أن تعتزل موطن المعصية, ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وليسعك بيتك ) , خل بيتك مكاناً لخلوتك ودع من بيتك مكاناً لعبادتك تنجو فيه من مواقعة أماكن المعصية.

    البيت خير من السوق, البيت خير من الشارع, البيت خير من هذه الأماكن الكثيرة التي نطوف بها, وفيها ألوان المعاصي وأصناف السئيات, ( وليسعك بيتك ) . لكن المشكلة حين يصير البيت هو بنفسه محل للمعصية, حين يصير البيت الذي كان من المفترض أن يكون منجى ومهرب المؤمن حين يفسد الناس من حوله محلاً للمعاصي, ولذلك ينبغي للعاقل أن يحرص على تطهير بيته وأن يجعل بيته مكاناً للطاعة, وقد ندبنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى إحياء البيوت بذكر الله، بقراءة القرآن، بالصلاة فيها, وأخبرنا بأن: ( مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت ) .

    (أفضل الصلاة في بيتك إلا المكتوبة), وما ذاك إلا لما يعود عليك وعلى أهلك من الخير بسبب فعل الحسنة في البيت, ( وليسعك بيتك ) , دع بيتك مكاناً لهروبك من معصية الله, فإن الفرار بالدين من أعظم المطالب, قال عليه الصلاة والسلام, وهو يتحدث عن آخر الزمان: ( ليأتين زمان على أمتي ) , إلى أن قال عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن الواحد من هذه الأمة, ( يتبع شعف الجبال ومواقع القطر ) , يذهب إلى رءوس الجبال ومواقع القطر .. لماذا؟ قال: ( يفر بدينه من الفتن ) , يفر بدينه من مواطن المعصية.

    فهذا نهج المؤمنين الفرار من مواطن المعصية, ليس الفرار من الحياة, ليس الفرار من إصلاحها, ليس الفرار من إعمار الأرض, ليس الفرار من إصلاح الناس, فهذا شأن المؤمن, ولكنه الفرار من معصية الله, وهذا الصحابي كان مثالاً لهذا المنهج, لم يفهم من هذا الحديث اعتزال الناس في الخير والشر, فقد ولي مناصب, ولي قيادة الجيش في فترات من تاريخ الإسلام, وولي إمارة بعض المدن في خلافة معاوية ، كان والياً على مصر وتأمر عليها قرابة ثلاث سنين, وسيرته تشهد بقيامه فيها بالعدل والقسط, وكان ممن حاصر القسطنطينية في الواقعة التي توفي فيها أبو أيوب الأنصاري .

    كان عقبة رضي الله تعالى عنه من قادات الإصلاح ومن أئمة الفقه, ومن خير المجاهدين, ومن أئمة القراء, لأنه فهم قوله: ( وليسعك بيتك ) فهماً صحيحاً, فهم أن مخالطة الناس مغنم إذا كانت في الخير، ومفارقتهم مغنم إذا كانوا في شر.

    1.   

    الندم على الذنب

    ثم آخر الوصايا قال له: ( وابك على خطيئتك ), ما أحوج الواحد منا إلى أن يبكي على ذنوبه, الندم توبة, والبكاء إنما ينبعث من القلب الحي, القلب إذا شعر بما هو واقع فيه من الذنوب والآثام دمعت العين, وإنما تقحط العين حينما يقسو القلب، حينما يجف القلب ويتحجر تجف العين تبعاً له, ولا يدر العين بالدمع إلا أن تتذكر ما أنت فيه من الذنوب والخطايا.

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد العابدين يبكي بما لا يبكيه غيره من الناس, إذا صلى سمعوا لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء, يسمعون لصوته أزيزاً كثوران القدر حين تغلو به الماء من البكاء, بل أبلغ من ذلك ما قاله أحد البدريين، قال: ( كنا في بدر ولم يكن فينا فارس إلا المقداد , ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم ) , يعني: ليلة بدر, كلنا نمنا, ( ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح ). أي: يبكي طوال الليل.

    ما أحوجنا إلى دمعة نمحو بها بعض الذنوب, ونؤمن بها هذه العين من أن تحرق بنار جهنم, قال عليه الصلاة والسلام: ( عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرس في سبيل الله ) , وقال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) , ومنهم: ( رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) .

    وأقوام كثيرون تحجرت قلوبهم في الدنيا وقست, وجفت عيونهم وما أمطرت, وتجاهلوا حدود الله عز وجل وارتكبوها, وابتعدوا عن منهج الله وعن تشريعه، لكنهم يبكون يوم القيامة حين لا يفيد البكاء, قال عليه الصلاة والسلام: ( يرسل البكاء على أهل النار حتى ينقطع ثم يبكون الدم ) , قال: ( حتى تصير في وجوههم أمثال الأخاديد ).

    تصير مجاري الدموع ومجاري الدماء في وجوههم أمثال الأخاديد، لو أرسلت فيها السفن لجرت لعظم خلقتهم في النار, فإن الواحد منهم يكون ضرسه كجبل أحد, كما جاء في الحديث الصحيح, تعظم خلقتهم وتكبر وجوههم ويكثر بكاؤهم حتى يؤثر البكاء في وجوههم, فيخد فيها الأخاديد الكبيرة العميقة, لو جرت فيها السفن لجرت, ولكنه حين لا يفيد البكاء.

    البكاء النافع أن تبكي اليوم دمعة هي أحب إلى الله عز وجل من كل أثر؛ كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره وصححه, قال عليه الصلاة والسلام: ( ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دمع من خشية الله, وقطرة دم تهراق في سبيل الله, وأما الأثران: أثر في سبيل الله, وأثر في فريضة من فرائض الله ) . هذه الآثار تنجي من عذاب الله.

    السعيد يا إخوان من استمع القول واتبع أحسنه, هذه الوصية النبوية العظيمة وجهت إلى أحد العباد الفقهاء الزهاد, أنا وأنت أحوج ما نكون إلى العمل بهذه الوصية.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] .

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين, واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756319583