إسلام ويب

سنة الله في ابتلاء المؤمنين بالجهادللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الابتلاء سنة كونية قائمة لا تتغير، ومن أنواعه سنة الابتلاء بالجهاد والقتال، وصور النصرة من الله لعباده المستجيبين لنداء الجهاد كثيرة، ومنها: عدم الخذلان، وتحقق إيمان الناس، وبقاء العقيدة والمنهج في الأجيال وبين الناس.

    1.   

    ثبات السنة الكونية

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! سبق وأن تحدثنا في خطب ماضية عن شيء من سنن الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بأحداث اليوم التي نعيشها, ففي خطبة ماضية تكلمنا عن أن من أقدار الله سبحانه وتعالى الكونية أنه سبحانه تكفل بأن تبقى عصابة من المؤمنين ترابط وتجاهد, منصورة بإذن الله, لا يضرها من خذلها, وأخبر عليه الصلاة والسلام بأنهم على أرض الشام, في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.

    وفي خطبة تالية تحدثنا عن سنة أخرى من سنن الله الكونية؛ وهي: كتبه الغلبة للمؤمنين: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21] , كتب الله عز وجل أن الغلبة لعباده المؤمنين: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173] .

    هناك سنن لله عز وجل في خلقه, والسنن بمعنى العوائد والطرائق, عادة الله، طريقة الله لا تتخلف ولا تتبدل, وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62] , وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43] .

    هناك قوانين كونية جرت في هذا الكون، عليها فطر الله عز وجل الخلائق, وعليها تنصب موازين هذه الخليقة لا تتغير بحال, ولا تستطيع قوة كائنة من كانت أن تغير هذه القوانين, وكما قال الشاعر:

    وليغلبن مغالب الغلاب

    من أراد تغيير هذه السنن وهذه القوانين إنما ينازع القوة الإلهية التي أوجدت هذه الخليقة, والتي أوجدت هؤلاء البشر, فلا يستطيع بشر كائناً من كان أن يعدل أو يحول أو يغير في هذه السنن وفي هذه الطرائق.

    1.   

    سنة الابتلاء بالقتال

    من هذه السنن أيها الإخوة! التي نتحدث عنها اليوم: سنة ابتلاء الله عز وجل المؤمنين بفريضة الجهاد, هذه سنة الله عز وجل في أوليائه أنهم لا يظفرون بالجنة, أنهم لا ينالون رحمة الله, أنهم لا يصلون إلى ثواب الله حتى يبتلوا؛ كما قال سبحانه في غير موضع من كتابه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] .

    يقول ابن كثير رحمه الله: معنى الآية: أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولما تبتلوا بالقتال والشدائد, بل لا تدخلون الجنة حتى تبتلوا بالجهاد والقتال (ليعلم الله) أي: ليرى الله عز وجل على أرض الواقع, وإلا فإن الله عز وجل قد سبق علمه بالمؤمنين من الكافرين, حتى يرى الله عز وجل المجاهدين من عباده, المقاومين لأعدائه.

    كراهية النفس للقتل

    هذه سنة الله, لن يصل المؤمنون إلى الجنة إلا بعد المرور بأنواع من البلاء, ومن هذا البلاء الابتلاء بالقتال, كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] , ليس هناك نفس بشرية تحب القتل, ليس هناك نفس بشرية تحب أن يقلل أمنها, أو أن يخرج من بيته كائناً من كان, لا تصدقوا هذه الدعايات التي تصور جماعة المؤمنين على أنهم حفالة من أبناء الإرهاب ممن يتعطشون للدماء, ولا يريدون حياة مستقرة, ليس هناك نفس بشرية لا تريد أن تحيا بأمن, لا تريد أن تحيا حياة رغيدة حياة السعة والهدوء والطمأنينة.

    ليس هناك نفس بشرية تريد أن يهدم البيت على رأسه وعلى أولاده وعلى أبناء جنسه, ليس هناك فئة من البشر يريدون أن يعيشوا حياة الدماء والحروب والحروق والأشلاء، ولكنه التجاوب والامتثال لأمر الله, ولكنه الانصياع والانقياد لمراد الله, كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] .

    هذه سنة الله عز وجل في ابتلاء عباده بالجهاد.

    أقسام الناس تجاه الابتلاء بالقتال

    وأخبرنا سبحانه وتعالى أن الناس ينقسمون بعدها إذا حصلت إلى فريقين:

    فريق يستجيب لنداء الله, فريق يستجيب لمراد الله, فريق يحرص على تحقيق مقصود الله في هذه الأرض, فيبذل النفس ويبذل المال ويبذل الوطن ويبذل الأهل, ويبذل كل ما يستطيع أن يبذله ليس لأنه يكره كل ذلك, ولكنه يبذله لأنه يقدمه في سبيل محبوب أعلى, يقدمه في سبيل تحقيق مرغوب أجل, إنه تحقيق مراد الله, تحقيق جنة الله, تحقيق محبوب الله. وإلا فلا يحرص الإنسان على تقديم ولده وعلى تقديم أهله, لا يحرص الإنسان على أن يموت شر ميتة تمزق فيها الأشلاء والأجزاء إلا لتحقيق مراد أعلى وأجل.

    هذه السنة إذا حصلت انقسم الناس إلى فريقين: فريق يستجيب لهذه المقاصد,

    وفريق آخر يؤثر السلامة, فريق آخر يحرص على حياة الرفاه, فريق آخر يحرص على حياة الدعة, بل ويسخر ويستهزئ ممن أقدم بنفسه وماله على المصير الآخر, كما قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة, وهو يتحدث عن أشرس معركة تعرض لها المسلمون وقت العسرة وقت الشدة, السفر بعيد إلى أطراف الجزيرة الشمالية في وقت حر شديد على فقر وقلة ذات اليد, يقطعون الصحراء مشياً على الأقدام, يقابلون عدواً قد أعد لهم العدة, وأعدادهم تضعفهم أضعافاً مضاعفة.

    في هذه المواقف الصعبة, في هذه المواقف الحاسمة، انقسم الناس إلى فريقين: فريق بذلوا كل ما يستطيعون, وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأغنياء منهم بذلوا كل ما في أيديهم في تجهيز الجيش, وأخبر عليه الصلاة والسلام عن عثمان وعن أمثاله قال: ( ما ضر عثمان ما صنع بعد اليوم ) .

    أخبر عن أهل العسرة وكيف انقسم الناس إلى طرائق, كيف انقسم الناس إلى مذاهب, وفريق حبس في المدينة لا يجد بداً من الخروج, يريد ويتمنى أن يخرج ولكنه لا يقدر, فتفيض الدموع على الأجفان, وتمتلئ القلوب بالحسرات, يتمنى من شغاف قلبه أن يكون مع المؤمنين, يتمنى من شغاف قلبه أن يكون مع معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يقدر ولا يستطيع.

    وفريق ثالث: فرح بالبقاء في المدينة, فرح ببقائه في الظل والماء البارد والثمار اليانعة, وظنوا بأنهم ظفروا بالفوز, ظنوا بأنهم ظفروا بالفلاح, وقالوا كما أخبر الله عنهم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:81] , ثم قال سبحانه وتعالى: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81] .

    هذا ما نريد أن نقف معه اليوم أيها الإخوة! المعركة ليست يوماً ولا يومين, ولا سنة ولا سنتين, ولا قرناً ولا قرنين, المعركة طويلة, والنتائج قد لا ترى في الزمن القريب, النتائج قد لا ترى في حياتي ولا في حياتك, بل قد لا ترى على هذه الدنيا, لكن النتائج لا بد وأن تظهر يوماً, النتائج لا بد وأن تبرز للعيان يوماً, وهناك يظهر المفلحون من الخاسرين, قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81] .

    إن هؤلاء الذين رضوا لأنفسهم بأن يبقوا في المدينة حتى تسلم لهم الأجساد وتسلم لهم الأموال قد أخطئوا في فهم القضية على حقيقتها, إنهم رضوا بأن ينعموا قليلاً ليعذبوا كثيراً, وضحكوا قليلاً ليبكوا كثيراً, هكذا قال الله: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة:82] , قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81] .

    إن من لم تقطع أجزاءه أسلحة أعدائه, ونيران عدوه, وخذل أولياء الله, خذل المجاهدين في سبيل الله, وتعاون عليهم وظاهر عليهم, إن هناك ناراً أشد من هذه النار, إن هناك مصيراً أشقى وأنكى من هذا المصير, إن هناك ناراً ضوعفت على هذه النار بسبعين ضعفاً, وكلما استغاثوا أغيثوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29] . المصير لا يتحدد بيوم أو يومين, ولا سنة ولا سنتين.

    1.   

    حقيقة النصر

    أيها الإخوة! إن من سنة الله أمام هذا الابتلاء أن يبتلي عباده فقط ليرى من يحقق مراد الله عز وجل في هذه الدنيا, النتائج ليست موكولة إليك, ألم يخبرنا سبحانه وتعالى في عشرات الآيات في كتابه العزيز أن رسل الله منصورون, وأن أنبياء الله منصورون, ألم يقل سبحانه وتعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] ؟

    اقرءوا التاريخ لتجدوا فيه أن اليهود كانوا يقتلون أنبياءهم الذين كتب الله أنهم منصورون: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر:51] .

    النصر بعدم الخذلان

    إذاً: ما حقيقة النصر؟ ما هو النصر الذي تتطلع إليه نفوس المؤمنين؟

    الله عز وجل يخبرنا بهذه الحقيقة, ونبيه عليه الصلاة والسلام يشرحها لنا ويوضحها لنا جلياً, قال عليه الصلاة والسلام: ( يأتي الأنبياء يوم القيامة فيمر النبي ومعه الرهط, ويمر النبي ومعه الرهيط, ويمر النبي وليس معه أحد ) . أمضى عمره كله على الدنيا, ابتلي، جاهد, كافح, صابر, خرج من هذه الدنيا بغير شيء, فيأتي يوم القيامة ويمر على الأشهاد وحيداً, ( ويمر النبي وليس معه أحد ) .

    إنه لم يخذل، إنه لم يهزم، إنه انتصر بنوع آخر من الانتصار, النبي عليه الصلاة والسلام خرج من مكة هارباً وحيداً, معه صاحبه وقائد دابته ودليل طريقه, أربعة نفر خرجوا خائفين متوجسين، وجيوش الكفر وجنود الكافرين تلاحقهم ذات اليمين وذات الشمال, وأخبر سبحانه وتعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا المقام وفي هذا اليوم هو المنصور, وفي هذه الساعة هو المنتصر, قال: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] , خرج من مكة وهو ثاني اثنين وهو يودع مكة بكل أسى وحزن, ويقول لها مخاطباً: ( والله إنك من أحب بلاد الله إلي, ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ) .

    هكذا يخاطب مكة وهو يودعها, ويقول له سبحانه وتعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] ,

    النصر بإيمان الناس ودخولهم في التوحيد

    وأخبرنا سبحانه وتعالى في سورة البروج عن أصحاب الأخدود وقصة ذاك الغلام المؤمن المجاهد, وقصته الطويلة مذكورة في صحيح مسلم في أصح الكتب بعد كتاب الله, ليست من أخبار كان يا ما كان, هذا الغلام الذي دعا القوم ودعا الملك إلى توحيد الله, أراد الملك أن يقضي على هذه الدعوة, لكن دون جدوى, أرسله إلى البحر فأنجاه الله وأغرق الكفرة, أرسله إلى أعلى قمة في الجبل فأنجاه الله وأهلك الكفرة, أرسله إلى موارد الهلاك وهو يعود سالماً منجى.

    لكنه -استمع جيداً إلى هذا الموقف العظيم- يقول له: ( إنك لن تستطيع أن تقتلني إلا أن تنصبني أمام الناس, فتأخذ سهماً من كنانتي ) , من هذه الأسهم التي معي, (وتقول أمام الملأ: باسم الله رب الغلام! فإذا قلت: باسم الله رب الغلام ورميتني حينها سأقتل ) .

    الملك تغافل عن نتائج وعواقب هذا الموقف, ولم يعط هذا الموقف حقه من الحساب, وأراد أن يتخلص من خصمه بأي ثمن كان, ( جمع الناس ضحى، واحتشد الناس, ونصب الغلام أمام الملأ, وأخذ الملك السهم من الكنانة, وقال: باسم الله رب الغلام! فخر صريعاً فمات ), أصابه السهم في رأسه فمات, لكن الناس الذين كانوا يعبدون هذا الملك, الذين كانوا يفتنون بسلطانه وقهره, لما سمعوا هذه الكلمة: باسم الله رب الغلام! قالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام!

    ما كان هؤلاء جميعاً ليؤمنوا لولا أن يموت هذا الغلام, ما كان هؤلاء جميعاً سيدخل الإيمان إلى قلوبهم, وسيصل الإيمان إلى شغاف قلوبهم لو بقي هذا الغلام سليماً آمناً في بيته, لكنه لما ضحى بتلك الدماء الزكية وصلت هذه القضية إلى قلوب الخلائق, قالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام! فحفر الأخاديد, وأضرم فيها النار, وألقاهم فيها.

    ويخبرنا عليه الصلاة والسلام عن ( امرأة تأتي معها رضيعها ملتصقاً بصدرها ترضعه, ويريدون قذفها في النار فتتردد, فيقول لها هذا الغلام: اتق الله واصبري فإنك على الحق ) .

    النصر ببقاء العقيدة والمنهج والمفاهيم

    هناك نوع من الانتصار أيها الإخوة! بقاء القضية, هناك نوع من الانتصار بقاء العقيدة, بقاء المفاهيم, بقاء أجيال تحارب وتقاتل من أجل هذه المفاهيم, باد منا من باد, وقتل منا من قتل, هذا لا يعنينا في موازين الله, فإن الله عز وجل تكفل بنصر أوليائه, والغلبة لأوليائه اليوم أو غداً.

    إننا نريد أن نحرر في أنفسنا هذه المفاهيم حتى لا نكون من الذين قال الله عز وجل عنهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى , يعني: غزاة, لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156] .

    أف لهذه العقائد, أف لهذه العبارات, من هذا الذي يموت قبل أن يأتيه الأجل؟ من هذا الذي يموت قبل أن يأتيه مقدور الله؟ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156].

    الذين لا يؤمنون بأقدار الله هم الذين يصابون بالهلع, هم الذين يعانون أنواع الآلام وأنواع الهموم إذا وقع فيهم القتل أو الموت, أما المؤمنون فشأنهم شأن آخر, وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156].

    ليست المعارك هي التي تحيي وتميت, ليست الأسلحة هي التي تدمر وتهلك, إذا لم يسبق قدر الله عز وجل الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] , قال الله عز وجل: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168] .

    يا ألله! إذا كنتم صادقين بأن هؤلاء إنما ماتوا لأنهم خرجوا للجهاد, خرجوا للقتال فادفعوا عن أنفسكم الموت, إنكم تموتون بالعشرات في حوادث السيارات, تموتون بالعشرات بسبب التخمة في المستشفيات, تموتون بالعشرات بأنواع البليات, قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168] .

    الموت لا مدفع منه, لا مفر منه, لا مهرب منه, ولكن يبقى السؤال: كيف يموت هذا الإنسان؟ في سبيل ماذا يموت هذا الإنسان؟ في سبيل ماذا يهلك هذا الإنسان؟

    أيها الإخوة! إننا أمام هذا النوع العظيم من الانتصار, بقاء قضية الإسلام اليوم حية طرية, بقاء قضية الإسلام اليوم نقية طاهرة, بقاء هذه القضية التي تتعاقب الأجيال على نصرتها مهما بذل في سبيل ذلك من ثمن فإن ذلك لا يضر.

    أنموذج لحقيقة النصر

    من روائع التاريخ أن أحد الوزراء الأتقياء البررة, الذين عرفهم التاريخ, وعرفهم الناس بالجود والكرم, عاش سخياً كريماً شجاعاً مقداماً, لكنه لما ظفر به أعداؤه رموه تحت أرجل الفيلة, فداسته الفيلة حتى مات, ثم أخذه خصمه, ونصبه على المشناق وصلبه في تجمع من الناس, في مرأى من الناس, فجاء الناس والشعراء والأدباء يرثونه, هذا الشخص الذي عاش كريماً ماداً يده للناس, ومدها بعد ذلك بعد موته.

    هذا الشخص الذي عاش عالياً في حياته, وأبى بعد الممات إلا أن يكتب الله عز وجل له العلو, فبقي عالياً بعد الموت, ينظر إليه الذاهب والراجع, رثاه الشعراء والأدباء وهم يتكلمون عن حاله, إنه الوزير الكبير نصير الدولة محمد بن محمد بن بقية رحمه الله, رثاه الأنباري فقال:

    علو في الحياة وفي الممات لحق تلك إحدى المعجزات

    كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات

    كانوا في الدنيا هكذا يجتمعون حولك, ينتظرون منك العطاء والبذل والسخاء, واليوم هم أيضاً ملتفين حولك ينظرون إليك بإجلال وإعظام.

    كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات

    كأنك قائم فيهم خطيباً وكلهم قيام للصلاة

    مددت يديك نحوهم احتفاء كمدهم إليهم بالهبات

    ولما ضاق بطن الأرض عن أن يضم علاك من بعد الممات

    أصاروا الجو قبرك واستنابوا عن الأكفان ثوب السافيات

    لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحراس وحفاظ ثقات

    أقام الخليفة من يحرس هذه الجثة حتى لا تؤخذ خلسة وتدفن, يقول: لعظمك في النفوس, ليس لأنك هين, ليس لأنك رخيص.

    لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحراس وحفاظ ثقات

    وتشعل عندك النيران ليلاً كذلك كنت أيام الحياة

    ولم أر قبل جذعك قط جذعاً تمكن من عناق المكرمات

    الخليفة لما بلغته هذه الأبيات تمنى أن يكون هو المصلوب, تمنى أن يكون هو المقتول, وأن يقال فيه هذا الرثاء, وأن يبقى له هذا الذكر عند الناس.

    وإلى اليوم لا يزال الناس يذكرون مواقف الأبطال الذين أحسنوا واختاروا الميتة الحسنة التي يرضاها لهم الله, وترضاها لهم عقيدتهم ودينهم.

    وبعد ذلك أمر بهذه الجثة فدفنت, فقام من يرثيه ثانياً بعد الدفن ويقول:

    لم يلحقوا بك عار إذ صلبت بلى باءوا بإثمك ثم استرجعوا ندما

    وأيقنوا أنهم في فعلهم غلطوا

    لما صلبوك وعلقوك.

    وأيقنوا أنهم في فعلهم غلطوا وأنهم نصبوا من سؤدد علما

    فاسترجعوك وواروا فيك طود علا بدفنه دفنوا الأفضال والكرما

    لئن بليت فما يبلى نداك ولا ينسى وكم هالك ينسى إذا عدما

    كم هالك يموت فيترحم الناس عليه لحظة ثم يترك, وكم هالك يموت فيفرح الناس ويصلون على رسول الله، ويدعون الله فرحاً بموته.

    وكم هالك ينسى إذا عدما

    أيها الإخوة! نحن أمام هذه المفاهيم الحقة في هذه القضية قضية الجهاد, وأن الله عز وجل ابتلى المؤمنين بالجهاد ثم هم ينقسمون بعد ذلك إلى فريقين: فريق يقوم بهذه الفريضة, وفريق ينكل عنها, فريق يقدم ما يقدر عليه, وفريق يتهرب ويجزع منها, واللقاء والمستقر عند الله للحساب والجزاء. المستقر عند الله لينال الأبرار جزاؤهم, وينال الفجار جزاؤهم, والموفق من اختار لنفسه أحسن السبيلين.

    وصدق ابن القيم رحمه الله في كلمته المشهورة المشاعة المنثورة التي قال فيها: إذا لم تكن من أنصار الرسول -فتنازل العدو- فكن ممن ينصب الخيام, وإذا لم تكن ممن ينصب الخيام فكن من نظارة الحرب الذين يرقبون الظفر للمسلمين, ولا تكن الرابعة فتهلك.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    1.   

    حقيقة الصراع في فلسطين

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! لا يتصاعد الدخان إلا من نار تحت الرماد, وكم سمعنا في وسائل الإعلام ومن أحاديث المتخصصين أن هناك مؤامرة كبيرة للقضاء على القضية الفلسطينية, القضية الفلسطينية ليست قضية كيلومترات من الأرض, إنها قضية الأرض المباركة, قضية المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله, أولى قبلتي هذه الأمة.

    قضية فلسطين قضية صراع بين وعد الله ووعد الشيطان, بين أولياء الله وأولياء الشيطان, بين كتاب الله المنزل الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وبين الكتب المحرفة المغيرة المبدلة.

    قضية فلسطين قضية صراع وعراك بين دين الله الحق الخالد وبين الأديان المبدلة المحرفة.

    قضية فلسطين يراد من ورائها هدم المسجد وإنشاء المعبد, يراد من ورائها هدم التوحيد وإقام الكفر والإشراك بالله مقامه.

    هذه القضية باختصار, قامت ثائرة أعداء الله فهداهم شيطانهم إلى التآمر على القضية لإنهائها وتصفيتها بالكلية, وكان ما كان.

    كان من أمر الله عز وجل ما كان, أرادوا أن يريحوا بالهم وأن تهدأ أعصابهم, وأن يضموا فريقاً إلى كذا وفريقاً إلى كذا وتنتهي القضية ولكن:

    يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أراد

    أراد الله لهذه القضية التي تهم كل مسلم على هذه الأرض, التي هي جزء من عقيدة كل مسلم على هذه الأرض, أراد الله أن تبقى هذه القضية حية, أراد الله أن تبقى هذه القضية محل صراع, وسط هذا الدمار تقطع الأشلاء, ويموت الآلاف, وتدمر البيوت, ويهلك الحرث والنسل, وينبري فريق من المؤمنين يقول: ليس لكم عندنا تهدئة دائمة.

    إن الصراع قائم ما دام الاحتلال قائماً، أي نصر أعظم من هذا الانتصار, ماذا تريد هذه الأمة أكبر من هذه الإنجازات؟

    إنه فريق مستضعف, فريق قليل, قليل لكنه عند الله كثير, فريق انفرد به عدوه, ومع ذلك يقول بملء صوته: لن تسكت المقاومة للعدو ما بقيت أرض فلسطين محتلة, لو هادنوا أعداءهم لأعطوا ما أعطوا, ولكنه قدر الله, قدر الله وراء ما يقدره ويدبره سبحانه وتعالى من التدابير.

    إن هذه القضية ليست قضية فئة من الناس تحيا اليوم لتموت غداً, إنها قضية أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا تزال تتوارثها حتى يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها.

    بهذه الروح ينبغي أن ننظر لما يجري من أحداث, وأن نعلم بأن هذه العصابة وهذه الفئة من المؤمنين إنما هي رأس الحربة التي يجب أن توجه إلى هذا الكيان الظالم المعتدي الغاصب, إنهم رأس الحربة التي ينبغي أن توجهها هذه الأمة لحماية مقدساتها, فمتى استهانوا بهم؟ متى كسروهم؟ متى حولوا قضيتهم إلى قضية مناكفات سياسية وتحقيق تحالفات سياسية ومناصب سياسية, إلى غير ذلك من أنواع اللعب, إنما يجنون على أنفسهم, إنما يخربون بيوتهم بأيديهم, إنما يجنون على أمتهم بتدبيرهم.

    وعلى الشعوب أن تتفطن لهذه المسائل، فيقوم كل واحد بما أقدره الله عز وجل عليه, ولن يعدم المسلم من فعل شيء يقدر عليه, ولو لم يكن إلا الدعاء والتضرع إلى الله, التضرع إلى الله عندما لا تجد غيره, من أعظم الوسائل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9] .

    إن من سنن الله عز وجل في الخلق أنه يبتليهم بالسراء والضراء كي يتضرعوا, كي يرجعوا إلى ربهم فيصلحوا حالهم ويتفقدوا أمورهم, فإذا فعلوا ذلك أتاهم نصر الله: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34] .

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! فرج عن المسلمين في غزة ما هم فيه يا رب العالمين!

    اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين! نتوسل إليك بأحب أسمائك إليك, بالاسم الذي إذا دعيت به أجبت, وإذا سئلت به أعطيت, وإذا استرحمت به رحمت, أن تجعل للمسلمين في غزة من كل هم فرجاً, ومن كل ضيق مخرجاً, ومن كل بلاء عافية.

    اللهم يا قوي يا عزيز! اربط على قلوبهم, وثبت أقدامهم, وانصرهم على القوم الكافرين.

    اللهم اربط على قلوبهم, وثبت أقدامهم, وانصرهم على القوم الكافرين.

    اللهم اربط على قلوبهم, وثبت أقدامهم, وانصرهم على القوم الكافرين.

    اللهم يا قوي يا عزيز! أمدهم بمددك, وأيدهم بجندك.

    اللهم قد خذلهم القريب والبعيد فكن لهم ناصراً ومعيناً يا قوي يا عزيز!

    اللهم أعنهم ولا تعن عليهم, وانصرهم ولا تنصر عليهم, وامكر لهم ولا تمكر عليهم.

    اللهم أطعم جائعهم, وأمن خائفهم, واكس عاريهم, واشف مريضهم, وانصر مقاتلهم.

    اللهم تقبل في الشهداء قتلاهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! أنزل بهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.

    اللهم أنزل عليهم سكينتك, وانشر عليهم فضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم عليك باليهود المعتدين الظالمين!

    اللهم عليك باليهود المعتدين الظالمين!

    اللهم فرق كلمتهم! اللهم فرق كلمتهم! اللهم فرق كلمتهم!

    اللهم اقذف الرعب في قلوبهم!

    اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصر المسلمين عليهم يا قوي يا عزيز!

    اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم صل وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755902265