إسلام ويب

الوقف ودوره في حياة المجتمع المسلمللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من فضل الله على الإنسان أنه لم يقطع تصرفه بموته، بل جعل له أشياء ينتفع بها بعد موته وتعود عليه بالأجر الجزيل، ومن ذلك الوقف، وقد تسابق سلف الأمة إلى هذا الخير، لعلمهم بنفعه بعد موتهم، ولم يزل الوقف في هذه الأمة شاملاً لكل نواحي الحياة، فبه يعلم الجاهل ويعان المحتاج ويؤوى الغريب الشارد.

    1.   

    فضل الوقف ومنزلته

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! حديثنا اليوم عن الوقف، فقد طلب منا أن نتحدث عن هذه العبادة العظيمة عبادة الوقف وأثرها على الواقف والموقوف عليهم.

    الوقف ودوره في حياة المجتمع المسلم: الوقف عبادة جليلة, وهي مظهر من مظاهر صدقات الله تعالى على هذا الإنسان بعد مماته، صدقة من الله تعالى تصدق بها على هذا الإنسان ليتصرف في ماله بما ينفعه بعد انقطاع تصرفه، فإذا مات انقطع عنه عمله؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إلا من ثلاث )، وأولها: ( صدقة جارية ).

    الصدقة الجارية هي الوقف، (جارية) أي: ثوابها جارٍ على صاحبها بعد انقطاع العمل، وهذا بمحض اختياره وتصرفه، ومن فضل الله عليه أن شرع له أن يتصرف هذا التصرف، وإلا لو شاء سبحانه وتعالى لقطع جميع التصرفات بموت الإنسان، لكنه جعل الصدقة الجارية وقفاً لازماً لا يرجع إلى الورثة بعد موت المورث، بل لا يرجع إلى الموقف نفسه، فمن أوقف شيئاً خرج عن ملكه وانتقل إلى ملك الله، وهذا من فضل الله تعالى على هذا الإنسان.

    1.   

    بعض الأمور المؤثرة في أداء الوقف

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أمانة الواقف والقائم على الوقف

    إخوتي في الله! وحتى يؤدي الوقف دوره وأثره لا بد أن يكون الواقف والقائم والناظر عليه أميناً مستشعراً عظم المسئولية، وأن الخيانة في أموال الوقف خيانة في أموال جهات عديدة.

    السارق الذي يسرق مال شخص معين إنما جنى على واحد، والمفرط في أموال الوقف جنى على أموال جهات ليسوا أشخاصاً محصورين! ولهذا كان من سنة الواقفين أنهم يختارون أرشد الناس للقيام على أوقافهم، ويختارون أشد الناس حرصاً وأمانةً للنظر في أوقافهم.

    وكان من سنة عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه اختار حفصة رضي الله تعالى عنها لتكون ناظرةً لوقفه بعد موته، بقي هو رضي الله تعالى عنه وأرضاه يتصرف في مال الوقف الذي أوقفه بنفسه، يتصدق بالثمرة التي تخرج من تلك الأرض التي أوقفها مدة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدة خلافة الصديق ، ومدة خلافته هو.

    فلما جاءه الأجل كتب وصيته وكتبها كاتبه معيقيب ، وأشهد عليها بأن هذا الأمر في نظر حفصة , فإذا هي ماتت فإلى ذي الرأي والرشد من أهلها، أو كما قال رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    يختارون الأشد أمانة، والأكثر حرصاً ليقوم على الوقف فيصرفه في الوجهة الصحيحة.

    وهذا يبين لنا عظم المسئولية لمن كان ناظراً على وقف، وأن مسئوليته أمام الله عز وجل عظيمة، فيجب عليه أن يحفظ مال الوقف بقدر استطاعته، وأن ينفذ شروط الواقف كما شرطها، فإن هذا الواقف أخرج ماله الحبيب إلى نفسه بشروط اشترطها، فيجب أن تراعى تلك الشروط.

    الالتزام بشروط الواقف

    لقد أصبح من القواعد المرعية المقررة عند فقهاء الشريعة قولهم: شروط الواقف كنصوص الشارع، كما أن الله إذا نص على شيء أو نص رسوله على شيء, فشروط الواقف تقام مقام نصوص الشارع، فيجب على الناظر أن يطبقها كما يطبق نصوص الشارع، ولم يجز العلماء مخالفة شرط الواقف إلا لما هو خير منه. وأفتى بهذا شيخ الإسلام رحمه الله وغيره، فيجوز مخالفة شروط الواقف إلى ما هو أنفع؛ لأن مراد الواقف تحصيل الأجر، فإذا اقتضى النظر تحويل وقفه من باب إلى باب أنفع كان ذلك أعظم لأجره، وأكثر لحسناته، وهو لم يرد إلا تحصيل الحسنات، فلا بأس بمخالفة الشرط إلى ما هو أنفع منه وأولى، أما ما عدا ذلك فلا يجوز.

    فعلى الجهات المعنية بالأوقاف أن تولي هذا الجانب اهتماماً ورعاية، وعلى الواقف نفسه أن يتحرى أيضاً في شروط وقفه، وأن يتحرى الأنفع للناس.

    مراعاة الأولويات في الوقف

    من الأخطاء الشائعة اليوم: أن كل من يريد أن يتصدق يظن بأن الصدقة العظمى في إقامة المساجد.

    صحيح أن بناء المساجد عبادة جليلة عظيمة القدر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة )، ولكن ليس هذا دائماً، فقد تكون حاجة المسلمين إلى بئر ماء أشد من حاجتهم إلى المسجد، وقد تكون حاجتهم إلى الدواء وفقرهم إليه أعظم من فقرهم إلى المسجد، فينبغي أن تراعى حاجة المسلمين، وحاجة الفقراء؛ ولهذا كان وقف بئر رومة أعظم من وقف غيرها في تلك اللحظة، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ( من يشتري بئر رومة وله الجنة؟ )، مع أنه عليه الصلاة والسلام بدأ بوقف المساجد.

    فعلى الواقف أن يعرف بأن هناك أولويات، وهناك مهمات، وقد سئل عليه الصلاة والسلام كما في سنن النسائي عن ( أفضل الصدقة! فقال: الماء )، حينما يكون الناس بحاجة إلى الماء يكون توفير الماء لهم أهم من بناء مساجد مشيدة مزينة جميلة؛ لأن المقصود من الصدقة رفع الحاجة عن الناس، رفع الضرر عن العباد، فكلما كان الأمر إليه أحوج كان الأجر فيه أعظم.

    فينبغي للمتصدق أن يعلم هذا.

    الحاجة إلى تعريف البشر اليوم بالإسلام، ما هو الدين؟ الهيئات التي تقوم على دعوة غير المسلمين للإسلام في كثير من البلدان تشتكي بأنها بحاجة إلى طباعة المصحف، إلى طباعة ترجمة المصحف، خاصة إلى طباعة ترجمة المصحف طبعات شعبية، يعني: رخيصة السعر، زهيدة الثمن. ونحن نتسابق إلى بناء المساجد المتزاحمة, وبين المسجد والمسجد ثلاثمائة متر وأحياناً أقل من ذلك، فعدم فقه الأولويات يعطل دور الصدقة عن الوجه المطلوب.

    المسلم بحاجة أن يعيد ترتيب الأولويات في ذهنه، وأن الأجور مرتبة عند الله تعالى أيضاً بحسب حاجة العباد إليها.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يعيدنا إليه، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يوفقنا لكل ما يرضاه عنا.

    يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه, وافتح للموعظة قلبه وأذنيه, أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الوقف في حياة النبي وصحابته والتابعين له

    صدقة الوقف، عبادة الوقف، وأثرها على الواقف قبل الموقوف عليه، هذا الأثر العظيم علمه خيار الناس الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم من بعده من أصحابه، والخيرين الصالحين عبر تاريخنا الطويل.

    وقف النبي لما له صدقة

    أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء في صحيح البخاري عن صهره أخي جويرية قال: ( لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة إلا سلاحه وبغلته, وأرضاً جعلها صدقة )، لم يترك عليه الصلاة والسلام شيئاً من متاع الدنيا للورثة، وقال كما في الصحيحين: ( إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة ).

    ترك عليه الصلاة والسلام أرضاً، ومات وهو من أغنياء الناس، لكن ما تركه عليه الصلاة والسلام جعله كله صدقة بحكم الله، ( إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة )، فلم يترك إلا أرضاً كانت صدقة.

    نماذج من أوقاف الصحابة عليهم رضوان الله

    وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم لما سمعوا ما سمعوا من كلام الله وكلام رسوله في الترغيب بالوقف بادروا إلى وقف أحب الأموال إلى أنفسهم، وأنفسها عندهم، وأغلاها ثمناً في نظرهم، فكان الواحد إذا اقتنى مالاً نفيساً عنده بادر إلى جعله وقفاً، وهذا دليل على رجحان عقولهم، وسداد نظرهم، فإن الإنسان ليس له من ماله إلا ما انتفع به، كما جاء في الحديث: ( يقول ابن آدم: مالي مالي؟ وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأمضيت أو فأبقيت؟ )، هذا هو المال الذي تنتفع به على الحقيقة، المال الذي تنتفع به بعد الموت.

    وقال في الحديث الآخر: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فإن مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر )، لقد علموا يقيناً أن أحب الأموال إليهم هي الأموال التي ينتفعون بها هم بعد مماتهم إذا تركوا ورثتهم أغنياء فخصوا أنفسهم بأموال لهم.

    ولذلك جاء في صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قسم الغنائم يوم خيبر وكانت أرض خيبر أرضاً طيبة معطاءة زراعية، من أصاب شيئاً منها أصابه الغنى، قسم السهام بين المجاهدين, فنال عمر رضي الله تعالى عنه حظه من الغنيمة, وكان له مال فاشترى به مائة سهم في خيبر, ولما اجتمع هذا المال حظه من الغنيمة وحظه مما اشتراه بماله جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عمر والحديث في الصحيحين، قال: ( يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه فبم تأمرني؟ )، أي: ماذا تشير علي أن أتصرف به؟ ولو كان ينظر كنظرة الكثير منا اليوم لما احتاج إلى أن يستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذهب إلى أرباب الدنيا الذين يشيرون عليه كيف يثمره، وكيف ينميه، وكيف يستغله؟ لكنه قصد رسول الله دليل الدار الآخرة، قصد رسول الله الذي يدله على ما ينفعه، قال: ( فبم تأمرني يا رسول الله؟! قال عليه الصلاة والسلام: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرها، لا تباع، ولا تورث، ولا توهب، ففعل عمر رضي الله تعالى عنه ذلك. قال ابن عمر : فتصدق بها عمر في الرقاب، وفي القربى، وفي سبيل الله، والمساكين، وابن السبيل، والضعيف، لا تباع، ولا تورث، ولا توهب، ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف غير متأثل مالاً ).

    فكان وقف عمر رضي الله تعالى عنه من الأوقاف المشهورة في تاريخ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.

    وجاء غيره من الصحابة ينافسونه في هذه الخصلة لما نزل قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] ، أعظم البر وأولاه أن ينفق الإنسان المال الذي يحبه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن أنفع الصدقة وأفضل الصدقة: ( أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر )، لما تغالب نفسك وهواك فتخرج جزءاً من المال مع هذه الظروف في صحتك، وحال شحة الموارد لديك، وأنت تخشى الفقر وترجو الغنى، إذا غلبت هواك وأخرجت شيئاً لله دل هذا على عظيم إيمانك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: ( الصدقة برهان )، يعني: برهان على الإيمان، برهان على التصديق، لأن الإنسان لا يخرج شيئاً إلا وهو يرجو الخلف والعوض.

    ولذلك أخبرنا الله في كتابه في مواطن عديدة عن الصدقة بأنها القرض: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245] ، يعني: الصدقة راجعة لا محالة، لكنها راجعة بزيادة، هي بنفسها الله مخلفها على صاحبها وراجع إليه الزيادة عليها في دنياه وفي آخرته؛ كما يرجع القرض: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245] ، أي: لا تعد ولا تحصى.

    جاء الصحابي أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا رسول الله! لقد سمعت قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ) وهو بستان نخيل كان في قبالة المسجد, إذا خرج رسول الله من الصلاة خرج إلى بستان أبي طلحة إلى بيرحاء وشرب من مائها الطيب، وتلذذ بالنظر إلى أشجارها الخضراء الطيبة، أحب الأموال إلى أبي طلحة ، قال: ( وإني أريد أن أتصدق بها يا رسول الله! قال: بخ! بخ! يا أبا طلحة ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، أرى أن تجعلها في الأقربين, فقسمها رضوان الله تعالى عليه في الأقربين )، وهذا هو التسابق إلى ما ينفع هذا الإنسان.

    قال جابر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: لم يبق واحد من الصحابة له قدرة على الوقف إلا وقف. كلهم وقف، منهم الموقف كثيراً، ومنهم الموقف يسيراً.

    عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حاجة الناس إلى الماء ليشربوه، فقال: ( من يشتري بئر رومة وله الجنة؟ ) وفي مقام آخر قال: ( من يشتري بئر رومة غفر الله له!، فاشتراها عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه وأوقفها على المسلمين، وكان دلوه فيها كدلو غيره )، يعني: يشرب منها كما يشرب غيره.

    لقد تسابق الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى الأوقاف لمعرفتهم بعظيم أثرها، وأوقف الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه داراً بمكة للفقراء والغرباء الذين يردون مكة، حتى قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: أكثر دور مكة وقفاً؛ لأن السلف رضي الله تعالى عنهم كان كل من ملك شيئاً حاول إيقافه ما دام قد ترك الورثة أغنياء، وعندهم ما يكفيهم، فإنه يسابق إلى ما يتصدق به عن نفسه.

    استمرار الوقف حتى هذا العصر

    وجاء الصالحون بعدهم على هذا المنوال من عهد التابعين إلى عصرنا هذا، ولم يزل أهل الخير يتسابقون في هذا الباب بين قلة وكثرة إلى زمن قريب في الدولة العثمانية، وولايات الدولة العثمانية فيها ما يسمى بالمطعم الخيري، وهو مطعم يوزع الوجبات على الفقراء والمحتاجين من مال الوقف، وفي المدينة الواحدة بلغت الإحصاءات أنه يوزع أكثر من عشرين ألف وجبة مجانية في العصر الواحد، يعني: في الوقت الواحد من اليوم والليلة.

    1.   

    أصناف الوقف وأثرها في حياة المسلمين

    لم يزل الوقف فاعلاً مؤثراً في حياة المسلمين، ففي حياتهم العلمية نجد أن المدارس العلمية عبر تاريخ المسلمين الطويل كلها أو أكثرها قامت على الوقف، أوقاف للمعلم الذي يعلم، أوقاف للعلماء الذين يفتون ويحدثون ويتصدرون حتى لا يتمندل بهم السلاطين، كان الواحد منهم يتحدث بملء فيه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو مكفول لقمته ولقمة أولاده من مال الوقف، وكانوا في غنى تام عن الدولة؛ لأن هناك من يكفلهم من أموال المسلمين.

    الطالب يأتي من بلدان بعيدة لطلب العلم، له الدار التي تؤيه، والنفقة التي تكفيه، والكتاب الذي يحتاجه، والمدرس الذي يعلمه، كل ذلك من مال الوقف.

    والغرباء إذا جاءوا إلى بلاد كانت هناك دور خاصة موقوفة للغرباء، ودور موقوفة للعجزة، كانت هناك أوقاف للكسوة لمن احتاج إلى كسوة، وكانت هناك أوقاف لتجهيز البنات للعرس إذا احتاجت البنت الفقيرة لأن تتجهز للعرس, وليس لها ما يكفيها، هناك قسم في الأوقاف يعتني بهذا القسم خاصة.

    أوقاف إذا قرأنا تاريخها الطويل وجدناها شملت وعمت كل جوانب حياة الناس، في حياتهم المادية، في حياتهم العلمية، تغني فقيرهم، وتعلم جاهلهم، وتجهز معوزهم، وتؤوي غريبهم وشاردهم، كل ذلك من هذه الأموال، وتعطلت لما تولى على هذه الأوقاف من عطل منافعها، وانحرف بها عن وجهتها، وصارت كالعدم.

    ولما عاد الوقف إلى حياتنا في حياتنا المعاصرة بدأت تنهض الحياة من جديد، ونشأت هيئات ومؤسسات تدعو إلى الوقف، وتدعو إلى استثماره بالتي هي أحسن، ونحن نأمل أن يعود الوقف كما كان، وقد سمعنا مسئولين كباراً يتحدثون عن الوقف, فهذا رئيس الوزراء الماليزي السابق يتحدث عن الوقف وأهميته, ويدعو إلى إنشاء صندوق عالمي للوقف ليعيد للوقف حياته وأثره في حياة الناس.

    وسمعنا في بلدان مجاورة قبل سنين إنشاء مؤسسات علمية خاصة قامت على الوقف تدعو إلى الأبحاث العلمية، وتزود الأبحاث والباحثين من أموال الوقف، جعلت الوقف هو المصدر الأساس لتمويل أعمالها وأنشطتها.

    الوقف إذا عاد إلى حياة الناس عادت هذه الروح من جديد، وساهمت في إحياء الأمة وبعثتها.

    وإذا رأينا تاريخ القوة في حياة المسلمين، إذا ركزنا على عصور الازدهار رأينا الأوقاف لا سيما الأوقاف الكبرى، إذا قرأنا تاريخ الولاة والخلفاء الكبار والملوك الكبار رأينا أن من أهم اعتنائهم واهتماماتهم الأوقاف.

    صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه من أجل أعماله أوقاف كبيرة على المتعلمين، وأوقاف كبيرة على الغرباء، وأوقاف كبيرة على المحتاجين، وهكذا غيره من الولاة في عصر القوة والازدهار.

    نحن بحاجة أن نحيي هذه السنة من جديد، وأن ندعو إلى إعادة هذه العبادة إلى حياة الناس، هي عبادة قبل أن تكون ممارسة.

    ومن فضل الله تعالى أن طرق الوقف أصبحت ميسرة سهلة، فيستطيع الإنسان أن يوقف سهماً إذا كان لا يستطيع أن يوقف عقاراً، إذا كان لا يستطيع أن يوقف الشيء الكثير فإنه يستطيع أن يتعبد لله بالشيء اليسير، وما نحن إلا بحاجة أن نحيي هذا السلوك من جديد.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756380061