إسلام ويب

الهمللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كل إنسان متصف بالهم، وكلهم يطلب الخلاص منه، لكن هموم الناس تتفاوت، فمن الناس من همه في العش، ومنهم من همه تحت العرش. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلاج لطرد الهم فقال: من جعل الهموم هماً واحداً هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك. فحصر الهموم في هم الآخرة يجعل الحياة سعيدة خالية من كل الهموم.

    1.   

    طرد الهم مطلب كل إنسان

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوة الإسلام! أوصيكم ونفسي بتقوى الله! فإنه من اتقى الله كفاه، ومن آمن به هداه، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].

    خير الحديث كلام الله، وخير الهدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    نقف هذه اللحظات أيها الإخوة مع مداواة مرض من أمراض النفوس "مرض الهم" , فما من أحد في الدنيا إلا وهو مهموم! المريض مهموم كما الصحيح مهموم، والفقير مهموم كما الغني مهموم، والأمير مهموم كما المأمور مهموم، فما من أحد في هذه الدنيا إلا وله هم! وصدق القائل:

    كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن

    لم يوجد أحد في هذه الدار إلا وهو يعاني لوناً من ألوان الهموم، لكن بين مقل ومكثر، وبين مصيب ومخطئ.

    العلماء الذين اعتنوا بتربية النفوس ومداواتها واستقرءوا أحوال الناس، وتتبعوا أخبارهم وأحوالهم قرروا هذه الحقيقة، ودونوا فيها المصنفات، وكتبوا فيها الكتب.

    وأنا أنقل لكم حقيقة واحدة قامت على استقراء عام لأحوال الناس, ودونت في كتاب (مداواة النفوس) للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى؛ يتكلم عن أحوال الناس، وأنه لا يخلو أحد من هم، وأنه ما من حركة يتحركها الإنسان إلا والدافع إلى هذه الحركة هم موجود في نفس هذا الإنسان. لكن الهموم أوزاع وأنواع، والقلوب متفرقة بين أنواع هذه الهموم, فمن مصيب ومخطئ في مداواة همومه.

    يقول رحمه الله تعالى: تطلبت -يعني: تتبعت- غرضاً يستوي الناس كلهم في استحسانه وطلبه، فلم أجده إلا واحداً وهو: طرد الهم، فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولا في طلبه فقط، ولكني رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم، وعلى تباين هممهم وإرادتهم، لا يتحركون حركةً أصلاً إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلاً إلا فيما يأملون به إزاحة الهم عن أنفسهم، فمن مخطئ وجه سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره.

    فطرد الهم مذهب قد اتفقت الأمم كلها منذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتلاء ويعقبه عالم الحساب. اتفقت المذاهب على ألا يعتمدوا بسعيهم شيئاً سواه، الناس كلهم، العالم يتعلم ليطرد عن نفسه هم الجهل، والغني يجمع المال ليطرد عن نفسه هم الفقر، والرجل يتزوج ليطرد عن نفسه هم الوحشة والعقم، والمريض يتداوى ليطرد عن نفسه هم المرض والموت، وهكذا حركة الناس كلها في طرد الهم عن أنفسهم.

    علاج الهم

    لكننا نتحدث عن هذا الهم بعلاج نبوي نافع، نتحدث عن معالجة هذه الهموم المتفرقة والمتشعبة بعلاج جاء به من لا ينطق عن الهوى، إننا نتحدث عن حديث واحد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة هذه الهموم, وهو ما رواه ابن ماجه رحمه الله وحسنه الألباني وغيره من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال عليه الصلاة والسلام: ( من جعل الهموم هماً واحداً هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك ) .

    هذه عبارة ممن أوتي جوامع الكلم, فيتكلم عن المعنى الكبير بألفاظ قليلة يسيرة، إنه لابد من أن يحمل الإنسان هماً، لكن من جعل هذه الهموم هما ًواحداً, واقتصر على العمل من أجله كفاه الله عز وجل سائر الهموم، ( من جعل الهموم هماً واحداً هم آخرته )، يعني: جعل الهموم كلها في هم الآخرة، كيف يصلح الآخرة؟ كيف يقدم على الله؟ كيف يصلح علاقته بالله؟ ( كفاه الله عز وجل هموم دنياه )، كفاه الله هم الفقر، كفاه الله هم المرض، كفاه الله هم الذرية، كفاه الله كل هموم الدنيا، كفاه الله هم دنياه. ( ومن تفرقت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك ).

    هذا العلاج النبوي لمداواة الهم، كيف تطرد الهم عن نفسك؟ إنه لا سبيل إلى ذلك إلا بأن تصلح علاقتك بالله، أن تصلح ما بينك وبين الله، أن تتعهد علاقتك بالله، فتؤدي ما أمرك به، وتجتنب ما حرمه عليك، وبهذا تنطرد عنك الهموم، هذا ليس قولاً بلا رصيد! ليس قولاً للاستهلاك الشعبي!

    إنه قول جاء من عند من خلق هذه النفس وهو يعلم سبحانه وتعالى كيف يداويها ويعالجها، إذا جعل الإنسان همه هو إصلاح الآخرة فإن هذا الهم سيقوده إلى أنواع من العبادات، سيقوده إلى أنواع من الأعمال، وسأضرب لك أمثلة:

    إذا ما كان الإنسان همه الآخرة فإن أول ما سينشغل به دائماً ذكر الله والدار الآخرة، فلن يفارقه هذا الذكر، وإذا ما رزق الإنسان ذكر الله فإنه قد أعطي أعظم أسباب الطمأنينة والسكينة في هذه الدنيا، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    إذا جعل الإنسان همه الآخرة فإن هذا الهم سيدفعه إلى الاعتناء بالصلاة، والاهتمام بها في مواقيتها، وأدائها كما أمر بها ربها، سيؤديها وهو حاضر فيها، سيناجي فيها ربه، والصلاة هي المفتاح الأعظم لقرة العين، الصلاة هي المفتاح الأعظم لانشراح الصدر، هكذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) .

    إذا ما جعل الإنسان همه هو الدار الآخرة، إذا ما جعل الإنسان همه هو لقاء الله فسيكثر من ذكر الله وتسبيحه وتحميده وتهليله، وهذا أعظم دواء لضيق الصدر، أعظم دواء لقلق النفس أن تعتني بذكر الله والتسبيح والتهليل، ماذا قال الله لنبيه وهو يواسيه فيما يلقى من الشدائد في مجابهة الكفار؟ قال له كما في آخر سورة الحجر: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر:97]، نعلم مدى ضيق الصدر الذي تعيشه عندما تقابل بالتكذيب قالوا: ساحر، قالوا: كاهن، قالوا: مجنون، قالوا: يفرق بين المرء وزوجه، قالوا وقالوا! وهو الصادق الأمين، فقال الله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر:97] ، ثم دله على العلاج فقال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر:98] .

    إذا أردت أن يتسع الصدر بعد ضيقه، إذا أردت أن يهرب عنك هذا الهم وذلك الضيق فلا سبيل إلا بالاشتغال بمناجاة الله، إلا بالاشتغال بالإقبال على الله، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر:98] ، هذا هو العلاج الحقيقي لطرد هذه الهموم، العبادات بأنواعها، الصلاة والذكر، والصدقة فقد قال عنها عليه الصلاة والسلام: ( إنها تذهب وحر الصدر )، يعني: تذهب ضيق الصدر.

    فائدة الاشتغال بهم الآخرة

    من اشتغل بالآخرة وجعل الآخرة هي الهم الأعظم فإن هذا كفيل بأن يصدر منه كل حسن، بأن يخرج منه كل جميل، بأن يصدر منه كل ما يجعله الله عز وجل سبباً لانشراح صدره.

    إذا جعل الإنسان همه الآخرة آمن وأيقن بأنه لن يكون إلا ما قدره الله عز وجل له، آمن وأيقن بأنه لن يكون إلا ما قد كتبه الله عز وجل في الأجل.

    سبقت مقادير الإله وحكمه فأرح فؤادك من لعل ومن لو

    لا يتأسف على ما فات، ولا يحزن مما هو آت إلا من نقص في قلبه الاشتغال بالآخرة، إلا من نقص في قلبه الإقبال على الآخرة، أما من كان مقبلاً عليها، متفكراً فيما يصلحه فيها فهذا له شأن وللناس شأن آخر.

    ولذلك قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه وهو يتكلم عن وصية جامعة مانعة نفعته، هذا كلام حبر هذه الأمة، عالم هذه الأمة، ترجمان القرآن، الذي دعا له عليه الصلاة والسلام بأن يؤتيه الله العلم والحكمة.

    يقول رحمه الله وهو يبين انتفاعه بكلمات جامعة، يقول كما روى هذا ابن الجوزي وغيره، ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما انتفعت بكتاب كتبه إلي علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه كتب إلي فيه، أما بعد:

    فإن المرء يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، ويسره إدراك ما لم يكن ليفوته.

    هذه حقيقة عند العقلاء، إنك تحزن إذا فاتك شيء، والله عز وجل قد قضى بأنه فات، فحزنك لن يرد الفائت، ولن ينفع في جلبه بعد أن قضى الله بأنه لن يكون.

    يقول: فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها فلا تأس عليه حزناً، وليكن همك فيما بعد الموت.

    ما قدره الله عز وجل للعبد في هذه الدنيا فهو آت لا محالة، فلا تكثر به الفرح، وما فاتك منها فهو فائت لا محالة، فلا تكثر عليه الحزن.

    إذاً: ما الذي ينبغي أن ننشغل به؟

    إذاً: ما الذي ينبغي أن نعمل فيه الفكر؟

    وأن نصحو وننام ونحن نسعى ونجد من أجله؟

    إنه ما بعد الموت، ما تكفل الله عز وجل به لنا لا ينبغي أن نعطيه كبير اهتمامنا، وما طلبه منا لا ينبغي أن يكون أول ما يضيع منا.

    إننا خلقنا لأمر عظيم وهو الاستعداد للقاء الله، وخلق كل ما في هذه الدنيا خادماً لتلك الحقيقة، ( إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة )، مال الدنيا وما عليها كله لخدمة هذه الحقيقة، إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:7-8].

    في لحظة من اللحظات سيفنى كل شيء إلا الله، في لحظة من اللحظات سيبيد كل شيء إلا الله، هذا الله هو الذي ينفعك فيما يستقبل من أمرك، فمن أحسن علاقته بالله كفاه الله عز وجل كل شيء، ومن أساء هذه العلاقة فإن عمره في ضياع.

    استمع إلى هذه النصيحة العزيزة الجميلة من هذا الإمام العظيم ابن حزم رحمه الله وهو يتكلم عن هذه الحقيقة يقول: إذا تعقبت الأمور كلها فسدت عليك، وانتهيت في آخر فكرتك باضمحلال في جميع أحوال الدنيا، انتهيت إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة فقط، لأن كل أمل ظفرت به فعقباه إلى حزن، إما بذهابه عنك، وإما بذهابك عنه، ولا بد من أحد هذين الشيئين، إلا العمل لله عز وجل فعقباه على كل حال سرور في العاجل والآجل، أما العاجل: فقلة الهم بما يهتم به الناس, وإنك به معظم من الصديق والعدو، وأما في الآجل: فإن ثمرته الجنة.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه! إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    علامات الانشغال بالهم المطلوب

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! الاشتغال بالآخرة والاهتمام بها وحب الوصول إليها ليس ادعاءً يدعيه كل أحد! فلذلك علامات، وقد جاء في الحديث المرسل: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن تفسير قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125] ، سئل كيف يشرح الله عز وجل صدر الإنسان؟ فقال: نور يقذفه الله عز وجل في القلب فيتسع وينفسح ) ، نور يقذفه الله عز وجل في القلب، معارف، علوم، إدراك للحقيقة، تصور الأمور كما ينبغي، فهم للحقيقة كما هي عليه، فهم يقذفه الله عز وجل في القلب، ( فيتسع وينفسح، قالوا: هل لذلك من أمارة؟ -هل عليه علامة؟- قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل الموت ).

    هنالك علامات تظهر على هذا الإنسان يقيس بها مدى سلامته وصحته في باب الهم، كيف تقيس نفسك وتعرف أنك مشغول بالهم الذي خلقت له؟ كيف تعرف بأنك مشغول بالهم الذي جعله الله عز وجل سبباً لسعادتك، سبباً لطرد الهموم عنك، كيف تعرف ذلك؟

    إنه معرفة حالك في أحوال، معرفة حالك في ساعات، إذا رأيت نفسك متجافياً عن دار الغرور، يعني: غير منشغل بالدنيا، إذا رأيت نفسك مقبلاً على الاستعداد للآخرة والعمل لها، إذا فكرت في تربية ولدك، فينبغي أن تفكر كيف تكون تربيتك لهذا الولد نافعة لك عند الله، إذا أديت حق زوجتك فينبغي أن تسأل نفسك: كيف يكون تعاملك مع زوجتك نافعاً لك عند الله؟ إذا ذهبت إلى عملك فينبغي أن تسأل نفسك: كيف تكون هذه الساعات رصيداً لك عند الله؟ في كل لحظة إذا سألت نفسك لماذا تعمل؟ وماذا ترجو؟ وماذا تريد؟ فإن هذا علامة على أنك تعيش الهم الذي خلقك الله عز وجل له.

    1.   

    لحظات تمكن الإنسان من معرفة تعلق همه بالدنيا أوالآخرة

    هناك ساعات، هناك لحظات يتفرغ القلب من كل هم إلا الهم الأول، يتفرغ القلب من كل مطلوب إلا المطلوب الأول، لحظات وساعات تمر على هذا القلب يمكن للإنسان أن يقيس بها نفسه، وأن يعرف بماذا يشغل قلبه.

    هذه الساعات ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله- وهو يتكلم عن مقياس وجود حب الله في قلبك، إذا أردت أن تعرف أنك مشغول بحب الله أم بحب غيره؟! إذا أردت أن تعرف بأنك مشغول بطلب الله أم بطلب غيره؟ إذا أردت أن تعرف بأنك مهموم بالوصول إلى الله أم بالوصول إلى غيره؟ فقس نفسك في هذه اللحظات، في هذه الساعات.

    أول اللحظات: عند الاستغراق قبل أن يذهب بك النوم، وقبل أن تغمض العينين فإن القلب في هذه اللحظة يتخلى من جميع الهموم ليتفكر في الهم الذي يشغله، ليتفكر في الهم الذي يطلبه، فإذا كان فكرك في هذه اللحظة هو تذكر الله وأداء أذكار النوم، وتذكر الموت بعد الحياة، والنشور بعد الممات، وتذكر نعمة الله عز وجل عليك، وتذكر ما طلبه الله عز وجل منك في هذه اللحظات، فأنت مشغول بحب الله، أنت مشغول بالهم الذي أراده الله عز وجل منك.

    وإذا كنت تستلقي على الفراش ولا تفكر إلا في الحساب المالي لتجارتك كم بلغ اليوم وكم نقص؟ أو في العقارات ما أجر منها وما لم يؤجر، لا تفكر إلا فيما فعلت اليوم وما ستفعله غداً، فاعلم أنك مهموم بغير ما طلبت له، مهموم بغير ما أريد منك، هذه اللحظة الأولى.

    اللحظة الثانية: عند أول لحظة في الاستيقاظ. يقول العلماء: إذا استيقظ الإنسان من نومه فإن أول وارد يرد على قلبه، أو شيء يتذكره قلبه هو المطلوب الأول له، هو المحبوب الأول له، هو المرغوب الأول عنده، فإذا استيقظت من نومك فتذكرت الله ونعمته عليك بهذه الحياة بعد النوم وأديت أذكار الاستيقاظ، وفكرت أول ما تفكر بصلاة الصبح والذهاب إليها وإكمال طهارتها فأنت مشغول بما طلبه الله عز وجل منك.

    أما إذا كنت أول ما تفتح العينان منك تتذكر ما ستفعله اليوم؟ وما هي المهام التي ستنجزها؟ وكم ستربح؟ وما هي الصفقات التي ستجريها؟ فإنك مشغول فيما لا يعود عليك بالنفع.

    اللحظة الثالثة: عند اشتداد المخاوف، عندما تنزل بك المخاوف، عندما تحدق بك الأخطار، عندما تشتد بك الهموم والغموم من تتذكر؟ فإذا كنت تتذكر الله، إذا كنت تتذكر هذا المحبوب فإن هذا من أعظم الأمارات على أن هذا القلب مشغول ومعلق بالله.

    ولم يزل المحبون في تاريخهم الطويل يمتدحون أنفسهم بأن الواحد منهم يذكر حبيبته وهو يلاقي الفرسان، يذكر حبيبته والرماح تعمل في جسده، والسيوف تقطع أشلاءه، وقلبه معلق بحبيبته، لم يزل المحبون وأخبارهم في هذا كثيرة، وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن الله تعالى يقول في عباده مثل ذلك, فيقول وهو يتحدث عن أحب أوليائه إليه: ( من ذكره وهو ملاقٍ قرنه ) .

    عندما يذكر الله عز وجل في ساحة المعركة في ساحة الحرب وهو يشاهد الموت، يلاقي قرنه يلاقي الفارس في مقابله، فيذكر ربه، ويستغفر ربه، ويسبح، هذا من أعظم الدلالات على أن هذا القلب مشتغل بالله معلق بالله.

    أيها الأخ الكريم! هذه الحياة لا تصفو من كدر، ولا يصفيها إلا التعلق بالله، هذه الحياة لا تخلو من هموم وأحزان، ولا يطرد عن القلب همومه وأحزانه إلا أن يعرف ربه ويتعلق به, فإذ فعل ذلك صدق فيه قول الشاعر:

    ألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عيناً بالإياب المسافر

    إذا عرف هذا القلب ربه وتعلق به وأحبه فإنه والله قد هدي إلى الصراط المستقيم، هدي إلى خير الدارين: خير الدنيا وخير الآخرة، ومن فعل سوى ذلك فإنما كده في ضياع، وسعيه في تباب, فعليه أن يتدارك نفسه قبل ألا ينفع التدارك.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.

    اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

    اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا.

    اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756531729