إسلام ويب

الهجرة والمهاجرين [2]للشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القلب ملك الأعضاء إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وإن الأعمال الصالحة تجعل القلب أبيض كالصفا، وكلما أذنب العبد ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يصير القلب أسود كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً. وأهم ما يطهر القلب من دنسه: المحافظة على الورد اليومي من أذكار وصلاة ونحو ذلك.

    1.   

    الحث على استجابة القلب لداعي الله والتحذير من الإعراض

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! تحدثنا في الجمعة الماضية عن حقيقة الهجرة، وذكرنا فيها نماذج من مواقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظهر فيها التجاذب والتدافع بين داعي الإيمان وداعي الهوى، بين داعي النفس والركون إلى الحياة الدنيا ولذائذها، وبين الداعي إلى رضا الله والدار الآخرة، وتبين لنا من خلال ذلك العرض كيف ثبت الله عز وجل أقواماً، فاستجابوا لداعي الله، وثبتوا عليه، وفي المقابل -وهذا ما لم نذكره هناك- خذل الله عز وجل أقواماً آخرين، فاستجابوا لداعي الشيطان، وركنوا إلى لذائذ النفس وشهواتها، فقال الله عز وجل عنهم في كتابه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النحل:28]، هذا فريق ممن تخلف عن الهجرة، وركن إلى ما تدعو إليه نفسه من الحفاظ على ماله، ونفسه، وأهله وولده، واستجاب لما طلب منه من الكفر بالله، والرجوع عن دينه، فلما أتتهم الملائكة لتقبض أرواحهم قص الله عز وجل علينا خبرهم، فقال: الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، إنه العذر الذي لا يقبل: قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً[النساء:97]، ليس هذا هو العذر الحقيقي، وليس هذا هو السبب الحقيقي وراء ما وقعوا فيه، السبب الرئيس والداعي الأكبر الذي دعاهم إلى ما دعاهم، وأوقعهم فيما أوقعهم هو ضعف قلوبهم، وخلوها من الإيمان، لما لم تكن هذه القلوب مملوءة بما يحببها، وبما يرغبها في الاستجابة لداعي الله، لما لم تكن هذه القلوب قوية، ثابتة لا تتردد، ولا تتلكلك في الاستجابة لما يطلبه الله ضعفت، وهذا هو موضوع حديثنا اليوم، اليوم نتحدث عن موقف المؤمن في التردد بين الاستجابة لما طلبه الله عز وجل منه، أو الوقوع فيما حرمه الله عز وجل عليه، ما الداعي لهذا؟ ما السر وراء هذا؟

    هذا الإنسان ركبه الله عز وجل من جزئين رئيسين: أحدهما جزء علوي نفخ الله عز وجل فيه من الروح الطاهرة النظيفة، التي قد أخذ عليها العهد والميثاق بمعرفة الله قبل أن تدخل هذا الجسد، فعرفت ربها، وأقرت له بالألوهية والوحدانية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، لكن لما سكنت هذه الروح هذا الجسد المبني من الأرض تجاذبت بعد ذلك دواعي الخير والفضيلة مع دواعي الأرض، ودواعي النفس، التي تأمر برضا الله تعالى مع داعي الهوى الذي ينادي بالإكثار من اللذائذ والشهوات، والمسلم ممتحن مختبر بين هذين الداعيين، وكلما قوي قلبه وثبت وصلب استجاب لنداء الله دون تردد، وكلما ضعف قلبه وفرغ من هذه المعاني الإيمانية، كلما ضعف ووقع في المعصية تلو المعصية.

    أهمية تفقد القلب والعناية به

    هذه هي سنة الله عز وجل في هذا المخلوق، هذا المخلوق بحاجة إلى أن يتعاهد هذا القلب وما الذي يحويه، بحاجة أن يتفقد هذا القلب وبماذا امتلأ، بحاجة أن يتفقد هذا القلب وما الذي ورد عليه، فإن كان ورد عليه خيراً فليستزد، وإن كان ورد عليه خلاف ذلك فليسارع إلى تطهيره وتنظيفه، ما لم يفعل هذا فإنه سيهوي يوماً بعد يوم في مهالك الردى، حتى يصل إلى أعظم الظلمات وهو الكفر والفسوق والعصيان.

    هذه السنة التي من أجلها شرع الله عز وجل أنواع المطهرات، لكن يجدر بنا أن نتذكر هذه الحقيقة أولاً من خلال النصوص الشرعية، ماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن قلب هذا الإنسان؟ ماذا تقول نصوص القرآن عن قلب هذا الإنسان؟ هذا القلب الذي بين جوانحك ماذا يقول الله ورسوله عنه؟ كيف يعرفانك بهذه الحقيقة؟

    في صحيح مسلم يقول حذيفة رضي الله تعالى عنه: كنا عند عمر رضي الله تعالى عنه، فقال للناس: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه يذكرها، قال عمر رضي الله عنه: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وولده وجاره، يعني: ذنبه وتقصيره في حق ولده، في حق نفسه، في حق ماله، في حق جاره، فتلك تكفرها الصلاة والصيام والزكاة، ولكن من سمعه يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة -وهو راوي الفتن، وأمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأمسك القوم، سكتوا، وقلت: أنا سمعته يقولها يا أمير المؤمنين! قال: لله أبوك! كلمة مدح، أنت لله أبوك، فقام حذيفة يتكلم عن الفتن التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلم عن فتن كثيرة، لكن الذي يهمنا الآن أننا نتحدث عن فتن القلب، هذا القلب الذي هو محور النجاة، أو هو مبدأ الفساد، إذا صلح صلحت أمور الإنسان في دنياه وأخراه، وإذا فسد فسدت عليه دنياه وأخراه، وما هي الفتن التي يتعرض لها القلب؟

    يقول حذيفة : سمعته يقول: ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً )، ترد عليه دواعي الشهوات والمحرمات واحدة بعد واحدة، كالحصير عندما يصنع، فإنه لا يصنع دفعة واحدة، إنما يصنعه الصانع وينسجه الناسج عوداً عوداً، فكلما جاءه عامله بعود نسجه مع صاحبه، وضمه إليه، وهكذا الثاني والثالث حتى يتكون الحصير، وكذلك الفتن تفعل بالقلوب، تعرض عليه واحدة واحدة، ذنباً ذنباً، معصية معصية، فما هو موقفه منها؟ تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً، وهنا يختلف الناس ويتفرقون، كما قال الله عز وجل: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ( كل الناس يغدو؛ فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها )، هنا يتفرق الناس، ( فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء )، أي قلب قبلها وتشربها ورضي بها وعمل بما فيها، نكتت فيه يعني: نقط فيه نقطة سوداء، ( وأيما قلب أبغضها وردها نكتت فيه نقطة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين )، يعني: حتى تصير القلوب في آخر الأمر بعد كل هذا العرض على نوعين: ( قلب أبيض كالصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض )، أبيض في صفائه، لونه ناصع، ليس فيه أي دنس من أدناس القبائح والرذائل والمعاصي، وهو أيضاً في القوة والصلابة والثبات على دين الله قد عقد قلبه على محبة الله، وعقده على الطاعة والولاء لله، فهو بالقوة بمثابة الحجر الصلب، لا يمكن أن تتخلله المعصية، ولا يمكن أن تقع فيه الشهوة.

    والثاني: ( وقلب أسود )، قد تكاثرت عليه النقاط السود، لكنه لم يسود فجأة، لم يسود لحظة، لم يكن هذا السواد صنيع ساعة، إنه صنيع أيام وليالٍ توالت عليه أنواع من الذنوب والمعاصي، كل معصية كانت تنقط فيه نقطة فقط، كل معصية تنكت فيه نكتة، لكن صاحبه غافل عنه، وغافل عن المصير والنهاية، صاحبه مسترسل في شهواته، مسترسل في لذائذه، لا يبالي بصلاح دينه، أسود، قد تكاثرت عليه النقاط، وأنى له أن يصل إليه بعد ذلك النور؟! لكن لا يزال فيه شيء من البياض، ولذلك قال فيه عليه الصلاة والسلام: ( أسود مرباد )، والربدة لون النعام، النعام غالباً ما يكون لونها فاشٍ فيه السواد، بل فيه قليل من البياض، هذا لونه، كثرت عليه ذنوبه وسيئاته.

    أما وصفه من حيث القوة والضعف فقال فيه عليه الصلاة والسلام: ( كالكوز مجخياً )، كالكوز المقلوب مجخياً، يعني: منكوساً، لو حاولت أن تملأ هذا الكوز بمياه البحر ما استطعت أن تقر فيه نطفة، لو صببت فيه مياه المحيطات ما قرت فيه قطرة؛ لأنه منكوس مقلوب، وكذلك هذا القلب مهما فعل به من المواعظ والعظات، مهما مر على ناظر جسده من العبر والآيات لا يتعظ، ولا يعتبر، منكوس مقلوب، (كالكوز مجخياً)، ثم وصفه عليه الصلاة والسلام بوصف تطير له أفئدة العقلاء، إنه تتغير فيه الموازين لمعرفة الحق والباطل، هذا أهم ما ينبغي للإنسان المسلم أن يحافظ عليه، كيف يتصور أن يتوب العاصي، إلا إذا كان يعلم بأن هذه معصية؟ كيف يتصور أن يرجع المرابي عن رباه إلا إذا كان يعلم بأن هذه كبيرة، قبيحة موجبة للعنة الله؟ كيف يتصور أن يعود آكل الحرام وسارق الأموال عن فعله إلا إذا كان يتصور بأن هذه كبيرة من كبائر الذنوب؟ كيف سيرجع شارب الخمر، أو الزاني، أو الواقع في أنواع المحرمات إذا كان لا يتصور أنها محرمات؟

    إذا أصيب الإنسان بهذا التصور فقد أصيب في مقتل، وورد على الهلاك من أوسع موارده، وهذه صفة قلب قال فيه عليه الصلاة والسلام: ( لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه )، تراه رجلاً طويلاً عريضاً، من أسرة كريمة طيبة المعدن، نشأ بين أناس صالحين، ولكنك إذا أوردت عليه كلام الله، أو أسمعته حديث رسول الله نفر منك كما تنفر الحمار من الأسود، إنه الهوى حينما يسيطر على هذا القلب فيصبح هو المقياس، ما وافق الهوى والرغبة هو المحبوب، وهو الحق، وهو الذي ينبغي أن نسعى إليه ونبذل الجهود في تحصيله، وما خالف الهوى، وما خالف الرغبة فهو الباطل، ثم بعد ذلك لن يعدم عذراً يعتذر به، سيتعلل بما كان عليه الآباء، أو بما عليه الناس في المجتمع، إنه الهوى حين ينتكس من أجله القلب.

    (لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه)، إذا وافق الحق الهوى رأيته يسارع إليه، وإذا لم يوافق الحق الهوى رأيته معرضاً عنه، أصيب بأعظم مصيبة، وهو لا يشعر، أصيب بالهلاك كله وهو لا يدري، نحن أيها الإخوة! نتحدث في هذه اللحظات عن هذا القلب، هذا القلب هذا سيره، وهذا تاريخه، وهذه خريطة عمله، هكذا يمشي، تنكت فيه نكات سود أو نكات بيض، والحريص منا، والعاقل الذي يرجو فعلاً أن ينجو بين يدي الله إذا لقيه، الحريص الذي يقدر على الهروب من عذاب الله، الذي يحرص على الوصول إلى رضا الله وإلى جنة الله، عليه أن يأخذ بالأسباب الآن، وأن يتعاهد قلبه الآن، كيف يفعل مع هذا القلب؟

    هذه طبيعة القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ( إذا أذنب العبد ذنباً نكتت فيه نكتة سوداء، فإذا هو تاب ونزع -يعني ترك الذنب واستغفر- صقل قلبه )، نظف قلبه، فطبيعة الإنسان أن يقع في الذنب، طبيعة الإنسان أن يقع في المعصية، ولكن الابتلاء الحق بعد ذلك ما هو موقفه بعد الذنب؟ كما أنه ابتلي قبل الذنب، وطلب منه ألا يفعل ففعل، طلب منه بعد ذلك أن يفعل شيئاً بعد الذنب، فما هو الذي فعله؟ (فإذا هو تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه).

    1.   

    تطهير القلوب من فسادها ودغلها

    من أجل هذا جاءت الشريعة بأنواع من المطهرات لهذا القلب، خلال اليوم والليلة، وخلال الأسبوع، وخلال العام، وخلال العمر، أنواع من المطهرات: للقلب، للنفس، للجسد، وهي تسلك في التطهير مسالك شتى، مع كل إنسان بحسبه، كل إنسان مطالب بهذا التطهير مهما ارتفعت درجته، ومهما علا مقامه، فإنه مطالب بأن يتعاهد نفسه بالتطهير، وأعلى القوم درجة ومنزلة، وأشرف الخلق وأكبرهم منزلة عند الله سيد الأولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يتعاهد نفسه أيضاً بهذا النوع من التطهير، لكنه تطهير من نوع خاص، تطهير لا من ذنوب وسيئات، ولكنه تطهير من أحوال أقل إلى أحوال أرفع درجة ومنزلة، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح مسلم : ( إنه ليغان على قلبي )، يأتي على القلب حالات من الغين -يعني: مثل الغين- وما هي هذه الحالات؟ يقول العلماء: الاشتغال بتدبير أمر الأمة، يقسم بينهم الأموال، أو يصلح أحوالهم، لكنه لما انشغل عن الله، وانشغل عن مناجاته، وانشغل عن التفرغ له، عد هذا نزولاً، وعد هذا غيناً عارضاً على قلبه، فطلب من الله أن يطهره من هذه الحال: ( إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم مائة مرة )، يستغفر الله مائة مرة حتى يزيح الله عز وجل عن قلبه هذا الغين، أنا وأنت كم نستغفر في اليوم والليلة؟ أنا وأنت كم نتوب في اليوم والليلة؟ لأننا نظن أنه ليس على قلوبنا غين، نظن بأن قلوبنا على تمام السلامة والكفاية، فلا تحتاج إلى أن نفعل ما يزيل عنها ذلك، لكن لو كنا نفهم الأمور على حقائقها لشغلنا ساعاتنا بل ولحظاتنا بالاستغفار، واللهج إلى الله تعالى بالتوبة والندم على ما كان.

    الحرص على أداء أوارد اليوم والليلة

    المشكلة أيها الإخوة أننا لا ندرك أهمية هذا التطهير، ومن ثم تساهلنا في كثير من المطهرات التي تتوارد علينا في اليوم والليلة، والعلماء يقولون وهم يتكلمون عن أوراد اليوم والليلة كما في الحكم عند علماء السلوك: لا يحتقر الورد إلا جهول، لا يحتقر الورد اليومي ولأعمال التي يعملها المسلم في اليوم والليلة ويزهد فيها إلا عندما يصاب الإنسان بالجهل، فلا يعرف الله عز وجل حق المعرفة، ولا يعرف نفسه حق المعرفة، ولا يعرف العوارض حوله حق المعرفة، إذا عرف الأحوال تمام المعرفة علم بأنه بحاجة إلى هذا التطهير، هذا التطهير أعمال في اليوم والليلة، ولذلك أولاه علماء المسلمين عناية تامة، وألفوا الكتب المستقلة، كما ذكرت هذا غير مرة على هذا المنبر، ألفوا كتباً مستقلة في عمل اليوم والليلة منذ أول دهر الإسلام، (اليوم والليلة) للإمام النسائي ، و(اليوم والليلة) لـابن السني ، وغيرهما، مجلد يحتوي على ما يعمله المسلم في يومه وليلته، منذ أن يستيقظ في الصباح وحتى يغلبه النوم على سريره في آخر لحظات اليقظة.

    أعمال اليوم والليلة المقصود الأعظم منها: تعاهد هذا القلب وتطهيره وإزالة ما فيه من الران حتى يقوى ويصلب، حتى يطهر ويتنظف، فيسارع إلى ما فيه فلاحه وصلاحه ونجاحه.

    الحكمة من تفاوت حكم أوراد اليوم والليلة

    ومن حكمة الله تعالى أن جعل هذه الأوراد وهذه الأعمال في اليوم والليلة مقسمة على أنواع، حتى لا يمل الإنسان من نوع واحد، هذا أولاً، وهي بعد ذلك مقسمة في الحكم الشرعي إلى مراتب ودرجات، منها ما هو مفروض على كل مكلف من المسلمين أن يفعله، كالصلوات الخمس، ومنها ما هو مسنون، لكنه مطلوب طلباً مؤكداً؛ لأن الإنسان بحاجة إليه، ومنه ما هو مطلوب مطلقاً، لكنه ليس مؤكداً؛ ليداوي كل إنسان نفسه بحسب حاجته، فكما قال الله عز وجل في كتابه: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14] أنت طبيب نفسك، أنت مداوي نفسك، الله عز وجل أرشدك، ودعاك، وبين لك الحكمة من هذه العبادات، لماذا هذه العبادات؟ لماذا نصلي خلال اليوم والليلة؟ أترانا نصلي لأن الله عز وجل بحاجة منا إلى ركوع أو سجود كما يظنه بعضنا؟ يوجد فينا من يصلي وهو يمن على الله بأنه صلى، تراه يمشي مشية المتكبر، الفرح بنفسه، المختال، الذي كأنه فعل ما لم يفعله أحد من السابقين والأولين؛ لأنه يجهل لماذا صلى، لا يعرف لماذا صلى، هل نحن نصلي لأن الله عز وجل يستكثر بصلاتنا؟ لأن الله عز وجل محتاج إلى ذكرنا؟ كلا والله، هذه حقيقة يعرفها القاصي والداني، ويؤمن بها الصغير والكبير. إذاً: لماذا نصلي.

    أخبرنا الله في كتابه وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته عن حكمة من حكم هذه الصلاة أهمها وأجلاها: تطهير النفس، تطهير القلب، تطهير الروح، قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، تطهر هذه النفس، تردعها عن أن تحدث نفسها بالمنكر، بالفحشاء، أخبرنا عليه الصلاة والسلام أن هذه الصلاة تطهير لهذا الإنسان من ذنبه وسيئاته في أحاديث كثيرة، كما قال ابن مسعود ويروى مرفوعاً: ( تحترقون -يعني: تفعلون ما يوجب إحراقكم- تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتموها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتموها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتموها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتموها، فإذا نمتم لم يكتب عليكم )، أو كما قال رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    هذه حكمة من حكم الصلاة: تطهير هذا القلب مما نزل به من الأوساخ والأدران والقبائح.

    هذه الصلاة بعد ذلك مراتب، منها ما هو فرض يحتاجه كل واحدٍ منا، جعله الله عز وجل فرض عين على كل واحد منا، لا بد أن يصلي الصلوات الخمس، ولا بد أن يصلي هذه الصلوات على الوجه الذي أراده الله، صلاة يذكر فيها ربه، صلاة يستحضر فيها الوقوف بين يديه، صلاة يستحضر معاني هذه الكلمات التي يقولها، الكلمات التي تغرس في نفسه تنزيه الله، عندما يقول: سبحان الله، وتغرس في نفسه شكر الله والاعتراف له بنعمه عليه عندما يقول: الحمد لله، عبادة تغرس في نفسه تعظيم الله، وأنه أكبر من كل عظيم، عندما يقول فيها ويردد: الله أكبر، فإذا فعلت هذه الصلاة على الوجه الذي أراده الله أثمرت على قلب هذا الإنسان، وظهر ثمار ذلك على جسده صلاحاً فصلحت الدنيا وصلحت الآخرة، هذه سنة الله عز وجل في خلقه، ثم هناك من هذه الصلاة ما هو زائد على الفرض لكنه مطلوب طلباً مؤكداً، ينبغي لك ألا تفرط فيه، وإذا فاتك ينبغي لك أن تسارع إلى قضائه، إذا شغلت عنه، إذا نسيته، فينبغي أن تقضيه إذا ذكرته، تقضيه حينما يزول عنك الشغل، وهي السنن الرواتب، ما قبل الظهر وما بعده، ما قبل الفجر، ما قبل العصر، ما بعد المغرب، ما بعد العشاء، سنة الضحى، سنة الوتر، هذه صلوات أكد الشارع في طلبها، وأكد عليك أن تفعلها خلال اليوم والليلة، لحاجة قلبك إليها، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، أنت إذا كنت لا تدري ما الثمرة فينبغي لك أن تستسلم، وأن تسترشد بإرشاد الله عز وجل لك.

    ثم بعد ذلك نوع ثالث من الصلاة: وهي النافلة المطلقة، يستحب للإنسان أن يكثر من الصلاة بقدر طاقته، لكن هنا أمر في غاية الأهمية أيها الإخوان! هذه المطهرات نحن بحاجة إليها بقدر ما يرد على قلوبنا من المؤثرات، وبقدر ما يرد على قلوبنا من الأوساخ والأدناس، فكلما كانت البيئة التي يعيشها الإنسان أكثر دنساً، وأكثر خطيئة، كان بحاجة أكثر إلى هذه المطهرات، فلا ينبغي للعاقل أن يسوي بين شخص يعيش في بيئات الاختلاط، وتمر أمام ناظريه الفاتنات مساءً صباحاً، وبين شخص آخر يعيش بيئة المساجد، يعيش ذاكراً لله، مصلياً، صائماً، قارئاً، تالياً، ساجداً، راكعاً، هذا وهذا لا يستويان، قلب هذا وهذا لا يستويان، هذا بحاجة إلى التنظيف والتطهير ما لا يحتاجه قلب هذا، واليوم الحال منعكس، الحال عند أكثر الناس إلا من رحم الله مقلوب، نرى كلما كثرت بيئات الفساد، وكلما انغمس الإنسان في هذه البيئات، كلما قلت رغبته في العبادات، نحن بحاجة أن نصحح هذا المفهوم، كلما كثرت البلايا من حولك، وكلما كثرت الفتن عن يمينك وعن يسارك أنت مطالب لتحفظ قلبك، أنت مطالب لتحفظ إيمانك، أنت مطالب لتأتي الله بقلب سليم، أن تكثر من الأعمال ما استطعت، لا سيما الصلاة، حتى تحافظ على هذا المستوى المعقول في قلبك من الإيمان، فـ(إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله ألا وهي القلب).

    هذه الطاعات أيها الإخوة! هي زاد القلب، هي غذاؤه، ما أكثر حرصنا، ما أكثر اهتمامنا لسلامة هذه الأجساد! نحرص على أن نقتني وأن نجلب لها أحسن ما وجدنا من الأطعمة، ونحرص كل الحرص على حمايتها ووقايتها من كل شر وفساد، وإذا تطرق إليها الخلل، إذا أصابها المرض بحثنا عن أحسن الناس طباً، وأمهرهم صناعة؛ لنتداوى على يديه، لكننا إلا من رحم الله غافلون عن سلامة القلوب وغذائها، غافلون عن أمراض القلوب وعللها.

    القلب كالجسد يحتاج إلى غذاء كما يحتاج الجسد إلى غذاء، ويحتاج إلى أن تصرف عنه الداء كما تصرف عن الجسد الداء، ألم تسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن الرجل الذي لا يحسن الصلاة، وليس لا يصلي بالجملة، وهو حال أكثر الناس اليوم إلا من عصم الله، رآه النبي عليه الصلاة والسلام يصلي وهو لا يقيم للصلاة ركوعاً ولا سجوداً، لا يحسن الركوع، وإذا سجد ينقر في سجوده، فقال عليه الصلاة والسلام: ( مثل الذي يصلي ولا يقيم ركوعه وينقر في سجوده كمثل الجائع )، واحفظ هذا المثال بقلبك: ( كمثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين فلا تغنيان عنه شيئاً )، إذا أصيب الإنسان بمبلغ الجوع، وفرط الجوع ماذا سيغني عنه أن يأكل تمرة أو تمرتين؟ إنهما لا تدفعان عنه جوعاً، ولا تردان إليه صحة، وكذلك القلب، إذا صلى صاحبه هذه الصلاة فمثله كمثل الذي يأكل التمرة والتمرتين، لا تغنيان عنه شيئاً، نحن بحاجة إلى زاد القلب: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    أمانة تربية الأولاد والعناية بهم

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي الكرام! أختم هذا الحديث بأن نلفت انتباهنا جميعاً إلى ضرورة المسلك التربوي الذي ينبغي أن نسلكه في تربية أبنائنا وبناتنا، إذا أدركنا هذه الحقيقة، وأن الإنسان يصلح بقدر قوة قلبه، ويفسد بقدر فساد قلبه، فعلينا بعد ذلك أن نتأمل جادين، دعونا من العبث، دعونا من اللعب، دعونا من عدم الاهتمام والاعتبار بالمسئولية، فالله عز وجل سائل كل واحد منا فرداً فرداً عن مسئولياته في هذه الدنيا، (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، والله كل واحدٍ منا سيسأل عن الأمانات التي أوكلها الله عز وجل إليه، وأهم هذه الأمانات الأبناء والبنات، الذين كلفنا الله عز وجل بأن نقيهم النار كما نقي أنفسنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

    إذا كان الواحد منا حريصاً حقيقة على أن ينجي ولده وبنته وزوجته من النار فليسأل نفسه وفق هذا المنهج النبوي في الحفاظ على سلامة القلب وصحته، أبناؤنا وبناتنا كم يصلون في اليوم والليلة؟ أبناؤنا وبناتنا أين هم وقت الفرائض؟ أبناؤنا وبناتنا كم يرتكبون من المحرمات في حجرهم، في بيوتنا، بين أصحابهم إذا خرجوا؟ أبناؤنا وبناتنا من يسأل عنهم إذا ذهبوا إلى الأسواق والمجتمعات، ماذا يفعلون؟ ماذا ينظرون؟ ماذا يسمعون؟ أبناؤنا وبناتنا بماذا يتفكرون؟ لا نكن كما قال القائل:

    ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

    نقذف بهم في أوساط تفسد عليهم قلوبهم، إذا أظلم القلب كيف تنتظر بعد ذلك أن يتوجه البدن إلى النور؟ إذا أظلم القلب كيف تنتظر بعد ذلك من اللسان أن يلهج بالتسبيح والتهليل والتحميد؟ إذا كان القلب مظلماً كيف تنتظر بعد ذلك من الجسد طاعة، أو تنتظر من الجسد قربة؟ أنت بحاجة أن تتفكر في هذه الحقيقة، أبناؤك وبناتك ما هي حصتهم من غذاء الروح؟ وكم هي الواردات من المفسدات التي ترد عليهم خلال اليوم والليلة؟ إننا إذا وضعنا المسلم على هذه الطريق، إذا وضعنا قدمه في هذا الشارع وهو شارع أعمال اليوم والليلة، إذا وضعنا قدمه في المحافظة على واجبات اليوم والليلة، وما يستحب له أن يفعلها، إذا غرسنا فيه ضرورة المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة، إذا غرسنا فيه ضرورة المحافظة على أذكار الصباح والمساء، إذا علمناه أن يقرأ ولو آيات من كتاب الله في اليوم والليلة، إذا عودناه أن يتصدق بصدقة في اليوم والليلة مهما قلت، إذا عودناه هذه الأعمال فقد وضعناه في الطريق الموصل إلى جنة الله، وضعناه على الطريق الموصل إلى رضا الله، فلا تحزن بعد ذلك، ولا تهتم، ولا تقلق، فالله عز وجل ولي المتقين.

    نحن لا نزال في زمن الإمهال، نحن لا نزال في زمن التدارك، من كان منا مفرطاً وكلنا ذلك المفرط، إلا أننا نتفاوت في التفريط فقط، كلنا بحاجة أن نراجع الحسابات، وأن نرجع إلى أنفسنا فنصلح ما فسد، فهي سنة الله عز وجل فينا، ولا ينفع العبد يوم القيامة كما ينفعه هذا القلب إذا جاء به سليماً، فالسلامة في الدنيا والآخرة علقها الله عز وجل بسلامة هذا القلب.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن ينقي قلوبنا، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم خذ بأيدينا إلى كل خير، واصرف عنا كل شر وضير برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين!

    اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين!

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756004683