إسلام ويب

شرح متن الورقات [14]للشيخ : خالد بن علي المشيقح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • البيان هو: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي؛ وقد يكون بالقول أو الفعل أو الإشارة أو ترك الفعل أو الإقرار. ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإن ورد قول أو فعل بعد مجمل وكل منهما صالح لأن يكون مبيناً فإن اختلفا في الحكم فالقول مقدم، وإن لم يختل

    1.   

    المبين

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [والبيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.

    والنص: ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً، وقيل: ما تأويله تنزيله، وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي.

    والظاهر: ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر، ويؤول الظاهر بالدليل، ويسمى ظاهراً بالدليل].

    تقدم لنا المخصصات المتصلة، وذكرنا من المخصصات المتصلة: الشرط، وكذلك أيضاً من المخصصات المتصلة: الصفة، ثم بعد ذلك أيضاً تكلمنا عن المخصصات المنفصلة، والمراد بالمخصصات المنفصلة: ما كانت مستقلة، وهذه تشمل الحس والعقل وكذلك أيضاً الشرع.

    ثم بعد ذلك تكلمنا عن المطلق والمقيد وعرفنا كلاً من المطلق والمقيد، ومتى يحمل المطلق على المقيد ومتى لا يحمل؟ ثم بعد ذلك تكلمنا عن المجمل، وذكرنا تعريفه في اللغة والاصطلاح، وأسباب الإجمال.

    ثم بعد ذلك ذكر المؤلف رحمه الله وبين المبين، والنص والظاهر والمؤول، وهذه من دلالات الألفاظ التي سنتعرض لها إن شاء الله.

    وقوله رحمه الله تعالى: (والمجمل: ما افتقر إلى البيان) تقدم تعريف المجمل في اللغة وذكرنا أنه في اللغة: المجموع، ومن ذلك قولهم: أجمل الحساب إذا جمعه.

    وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف رحمه الله بقوله: (ما افتقر إلى بيان)، أي: اللفظ المجمل المفتقر إلى بيان؛ إما بالقول أو بالفعل، وقلنا في تعريفه: ما له دلالة على معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه.

    تعريف المبين

    ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله: (والبيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي).

    التبيين في اللغة أو المبين في اللغة: بالفتح المبين لغةً: اسم مفعول من التبيين, وهو الموضح والمفسر.

    وأما تعريف المبين في الاصطلاح: فهو الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان.

    مثال ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله )، فهذا خطاب مبين مبتدأ أي: في ابتدائه مستغنٍ عن البيان، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين وقت صلاة الظهر بأنه من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، والمبيَن: اسم مفعول، وأما المبيِن: فهو اسم فاعل من بين يبين إذا فسر وأوضح غيره، والموضح وهو في اللغة: المفسر والموضح لغيره، وهذا هو البيان الذي أراده المؤلف رحمه الله بقوله: (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي).

    وهذا التعريف الذي ذكره المؤلف رحمه الله -بقوله: (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي)- انتقد من قبل بعض الأصوليين؛ لأن المؤلف ذكر الحيز، والتبيين أمر معنوي، والأمر المعنوي لا يوصف بالاستقرار في الحيز؛ لأن الحيز هو الفراغ الذي يشغله شيء، ويكون في الأمور المحسوسة، أما في الأمور المعنوية فإنه لا يكون فيها.

    وقوله رحمه الله: (من حيز الإشكال) أي: من صفة الإشكال، والمراد بالإشكال: خفاء المراد منه بحيث لا يدرك.

    وقوله رحمه الله: (إلى حيز التجلي) أي: إلى حيز الوضوح بحيث يتبين هذا المجمل؛ إما بالقول أو بالفعل أو بالصفة أو غير ذلك من طرق البيان التي سيأتي بيانها.

    فقول المؤلف رحمه الله في تعريف المبين أو البيان بأنه (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي) قلنا: بأن قوله: (حيز) هذا موضع انتقاد؛ لأن الحيز إنما يكون للأمور المحسوسة، والبيان هذا من الأمور المعنوية، أو التبيين أمر معنوي لا يوصف بالاستقرار في الحيز؛ لأن الحيز هو الفراغ الذي يشغله شيء.

    وقوله: (من حيز الإشكال) أي: من صفة الإشكال, والإشكال هو: خفاء المراد منه بحيث لا يدرك.

    وقوله: (إلى حيز التجلي)، أي: إلى حيز الوضوح وذلك ببيان المراد منه: إما بالقول أو بالفعل أو بالصفة.

    وعرف المبين أو البيان بأنه الدليل، وتقدم تعريف الدليل بأنه: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.

    وهناك تعريف ثالث للبيان بأنه: العلم الحاصل من الدليل، وهذا أحسن.

    طرق تبيين المجمل

    بالنسبة للتبيين أو البيان ورد له طرق في الشرع لتبيين المجمل، فمن هذه الطرق:

    الأول: التبيين بالقول، والمراد بذلك التلفظ صراحةً بالمراد، مثال ذلك: قول الله عز وجل: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فهذا بين بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فيما سقت السماء أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالسواني نصف العشر ).

    ومن ذلك قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، ثم بعد ذلك بين ذلك بقوله: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69].

    ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، هذا بينه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله في حديث عبد الله بن عمرو وهو مخرج في صحيح مسلم عندما بين النبي عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة، فقال: ( صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله ما لم تحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت الفجر من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس )، ففي هذا تبيين بالقول.

    الثاني: التبيين بالفعل، ومثال ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام بين كثيراً من أفعال الصلاة بفعله دون قوله، فالصلاة حصل بيانها بالقول، وحصل بيانها بالفعل. ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وأيضاً قول الله عز وجل: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وأيضاً قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، فالسعي بينه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، والطواف أيضاً بينه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، والحج أيضاً حصل فيه بيان من النبي عليه الصلاة والسلام بالفعل.

    الثالث: تبيين النبي عليه الصلاة والسلام بالإشارة، وهذا من أمثلته ( أن النبي عليه الصلاة والسلام آلى من نسائه شهراً، فلما مضت تسعة وعشرون يوماً دخل على نسائه، فقيل له: إنك آليت شهراً، فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، أو هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه في الثالثة )، يعني: الشهر هكذا وهكذا هذه ثلاثون، أو: هكذا وهكذا وهكذا وهذه تسعة وعشرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين الشهر بالإشارة.

    الرابع: التبيين بالكتابة، وهذا أيضاً كثير، فالنبي عليه الصلاة والسلام كتب إلى عماله، ومن ذلك حديث عمرو بن حزم المشهور، وفيه كتابة النبي عليه الصلاة والسلام لأمور الصدقات والديات.

    الخامس من طرق التبيين: ترك الفعل؛ فترك النبي عليه الصلاة والسلام الفعل يدل على عدم وجوبه -وسيأتينا أيضاً في أفعال النبي عليه الصلاة والسلام إذا ترك النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً- ومثال ذلك: قيام النبي عليه الصلاة والسلام عن التشهد الأول في الركعة الثانية، فلم يرجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى التشهد الأول فهذا يدل على أنه ليس واجباً.

    واعلم أن المراد بالمبين أو بالتبيين: كل ما يزيل الإشكال، فكل ما يزيل الإشكال فهو داخل تحت البيان؛ فيدخل في ذلك تخصيص العام، ويدخل في ذلك تقييد المطلق، ويدخل في ذلك تأويله -يعني: صرف الظاهر عن المعنى المتبادر إلى معنىً آخر بدليل- ويدخل في ذلك النسخ، ويدخل في ذلك الترجيح، المهم أن البيان شامل لكل شيء يقصد به إزالة الإشكال.

    السادس من طرق التبيين: إقراره وسكوته عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك: إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر لما قال: ( السلب للقاتل )، فأقر النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ذلك، فهذا مما يدل على ما ذكره أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وسيأتينا إن شاء الله إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، وحكم إقراراته.

    تأخير البيان عن وقت الحاجة ووقت الخطاب

    من المسائل المتعلقة بالبيان: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأمرين: أولاً: لأن ذلك يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق.

    وثانياً: أنه يؤدي إلى عبادة الله على غير بصيرة.

    وأما تأخير البيان عن وقت الخطاب فهذا جائز، ومن ذلك ما تقدم من قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، ثم بعد ذلك بينت هذه البقرة بقوله: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] .

    وأيضاً من الأدلة على ذلك قول الله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:18-19]، فقوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

    ومن الأدلة على ذلك أيضاً فرض الصلوات، فإن الله عز وجل فرض على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في ليلة الإسراء، ولم تبين في تلك الليلة كيفية الصلوات ولا أوقات الصلوات حتى نزل جبريل عليه الصلاة والسلام على النبي عليه الصلاة والسلام فبين أوقات الصلوات ( فصلى به في أول الوقت وفي آخره، وقال: ما بين هذين الوقتين وقت ).

    ورود القول والفعل بعد لفظ مجمل

    كذلك أيضاً من مسائل التبيين: إذا ورد بعد لفظ مجمل قول وفعل كل منهم صالح لأن يكون بياناً، فهذه المسألة لا تخلو من أمرين:

    الأمر الأول: أن يتفقا في الحكم، فهذه اختلف فيها الأصوليون، والصحيح في ذلك أن أحدهما يكون مبيناً، والآخر يكون مؤكداً له، وهذا ما عليه جمهور الأصوليين.

    الأمر الثاني: أن يختلفا في الحكم، فالحكم عند جمهور الأصوليين أنه يرجع في ذلك إلى القول، فيكون المبين هو القول؛ لأن الفعل هذا يتطرق له احتمالات، فجمهور الأصوليين أن المبين هو القول، سواء تقدم القول أو تأخر، ومن الأمثلة على ذلك: القارن، فقد ورد في السنة أنه يكفيه طواف واحد وسعي واحد، فقول النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة رضي الله تعالى عنها: ( يجزئك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك )، فهذا الحديث فيه بيان لقول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، فالحديث فيه بيان شيء لهذه الآية؛ لأن القران هذا من صور الحج ومن صور المناسك، ففيه بيان لشيء من هذه الآية، وفي هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يجزئك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك )، ففيه أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، وورد أيضاً (أن النبي عليه الصلاة والسلام طاف طوافين وسعى سعيين)، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قارناً، فالبيان هنا للقران، فورد فيه قول وورد فيه فعل، والحكم مختلف، فهذا فيه طوافان وسعيان، وهذا فيه طواف واحد وسعي واحد، فجمهور الأصوليين على أن المبين هو القول، فالقول هو المقدم سواء تقدم أو تأخر.

    بيان الظني للقطعي

    كذلك أيضاً من المسائل المتعلقة بالبيان أنه يجوز عند جمهور الأصوليين أن يبين الأقوى بالأظهر وبالمساوي، ويبين الأضعف بالأقوى من باب أولى، يعني: لا يشترط تساوي الدليلين في القوة، هذا عند جمهور الأصوليين، وهذه مسألة يرتب عليها الفقهاء رحمهم الله فروعاً -فالخلاف فيها ليس لفظياً وإنما هو معنوي- هل يبين القطعي بالظني؟ يعني هل يقوى الظني على تبيين القطعي؟ فالمسألة فيها ثلاث حالات:

    الحالة الأولى: أن يكون كلاً من المبين والمبين قطعياً فهذا لا إشكال فيه.

    الحالة الثانية: أن يكون المبَين ظنياً والمبين قطعياً وهذا أيضاً لا إشكال فيه.

    الحالة الثالثة: يترتب عليها الخلاف وهي عكس الحالة الثانية: أن يكون هذا المبَين قطعياً، والمبِين ظنياً، فهل يقوى الظني -كخبر الآحاد- على تبيين القطعي أو لا؟ هذا له شأن عند الحنفية رحمهم الله، والصحيح في ذلك: ما عليه جمهور الأصوليين، والعلة في ذلك: أن المبِين وإن كان ظنياً فهو أوضح من المبَين؛ لأن المبَين مجمل، فالمبِين وإن كان ظنياً أوضح من المبين في الدلالة على المراد، فوجب العمل بالواضح.

    1.   

    مبحث النص والظاهر والتأويل

    ثم قال المؤلف رحمه الله: [والنص ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً، وقيل: ما تأويله تنزيله، وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي].

    تعريف النص

    النص في اللغة كما قال المؤلف رحمه الله: (مشتق من منصة العروس) أي: مأخوذ من منصة العروس، وليس المراد من قوله: (مشتق) الاشتقاق اللغوي، وإنما المراد: الملاحظة في المعنى وهو الارتفاع، والأحسن أن يقال في تعريفه في اللغة: هو رفع الشيء إلى أقصى غاية، ومن ذلك ما ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام (لما دفع من عرفات إلى منى أنه كان يسير العنق، فإذا وجد فجوةً نص) أي: أسرع السير.

    وأما في الاصطلاح فقال المؤلف رحمه الله: (ما لا يحتمل إلا معنى واحداً). والأحسن أن نقول في تعريفه: هو اللفظ المفيد بنفسه من غير احتمال.

    فقولنا: (اللفظ) هذا جنس يشمل النص، ويشمل الظاهر أيضاً، ويشمل المجمل.

    وقولنا: (بنفسه) يخرج المجمل؛ لأن المجمل لا يفيد بنفسه؛ فالمجمل لا يفيد معنىً من معانيه إلا بدليل آخر لا بنفسه.

    وقولنا: (من غير احتمال) هذا يخرج الظاهر، فإن الظاهر يفيد معنىً بنفسه لكن مع احتمال معنىً آخر، وإن كان ضعيفاً -كما سيأتينا-، وهذا المعنى الآخر يسمى تأويلاً، كما في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] فظاهر الآية أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة يغسل ويتوضأ، لكن عندنا معنىً آخر وهو التأويل، يعني: إذا أردتم القيام فاغسلوا. ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل:98] فالظاهر أن الاستعاذة بعد القراءة، لكن عندنا معنىً آخر وهو التأويل يعني إذا أردتم القراءة، فصرفناه عن المعنى الظاهر كما سيأتي إن شاء الله.

    وقوله رحمه الله: (وقيل -أي في تعريف النص-: ما تأويله تنزيله) (ما) أي: لفظ، و(تأويله) أي: حمله على معنى وفهم المراد منه، وقوله: (تنزيله) أي: بمجرد نزوله يفهم معناه ولا يتوقف على دليل آخر، فالنص ظاهر العمل به، أي: يجب العمل به ولا يتوقف على أمر آخر.

    إذاً: المجمل -كما تقدم لنا- ليجب أن يتوقف فيه حتى يأتي دليل خارجي يدل على أحد المعنيين، أما النص فإنه لا يحتاج إلى التوقف بل يجب العمل به مباشرة، ومثال ذلك في النص: قول الله عز وجل في كفارة اليمين: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] فنص على عشرة مساكين، أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة:89] نص على الكسوة، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89] نص على الثلاثة الأيام؛ فالنص هذا لا يحتمل إلا معنىً واحداً.

    وقد يكون الدليل نصاً من وجه ومجملاً من وجه آخر، فمثلاً: قول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، فهذا نص في الأمر بإقامة الصلاة، لكنه مجمل من حيث الكيفية.

    تعريف الظاهر

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والظاهر: ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر، ويؤول الظاهر بالدليل، ويسمى ظاهراً بالدليل).

    الظاهر في اللغة: الواضح، أيضاً هذا من دلالة الألفاظ.

    وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف رحمه الله بقوله: (ما احتمل)، (ما) أي لفظ، (أمرين) أي معنيين فأكثر، وقوله: (أمرين) هذا يخرج به النص -فإن النص لا يحتمل إلا معنى واحداً- (أحدهما) أي: أحد المعاني (أظهر من الآخر).

    وقوله: (أظهر من الآخر) يخرج المجمل، فالمجمل يحتمل معنيين لكن على سواء، وليس أحدهما أظهر، لكن الظاهر يحتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر؛ إما لكونه موضوعاً لذلك، أو لغلبة الاستعمال، فكونه موضوعاً لذلك مثل: رأيت أسداً، فقولنا: (أسد) عندنا ظاهر، وعندنا معنىً آخر غير ظاهر، فالظاهر: الحيوان المفترس، وغير الظاهر: الرجل الشجاع. أو لغلبة الاستعمال مثل: الدابة، فالظاهر هو: ذوات الأربع لغلبة الاستعمال، وإلا فهي لكل ما يدب على الأرض لغة.

    وأيضاً من أمثلة الظاهر: حمل الحقائق الشرعية في لسان الشرع عليه وليس على الحقائق اللغوية، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( توضئوا من لحوم الإبل )، فالوضوء في الشرع: غسل الأعضاء الأربعة، وفي اللغة: النظافة، فما المراد هنا الحقيقة الشرعية أو الحقيقة اللغوية؟ المراد: الحقيقة الشرعية، هذا هو الظاهر.

    حكم العمل بالظاهر

    أما حكم العمل بالظاهر فالأصل أنه يعمل بالظاهر، ولا يجوز صرف الظاهر عن ظاهره إلا بدليل أقوى منه يدل على وجوب هذا الصرف، وإذا صرفناه إلى دليل آخر فالمعنى الذي صرفناه له يسمى التأويل، ولهذا قال رحمه الله: (ويؤول الظاهر بالدليل ويسمى التأويل)، فالأصل أننا نعمل بالظاهر، ولا نصرف الظاهر أو الدليل الظاهر عن ظاهره إلا بدليل أقوى منه، فلا نصرفه إلى احتمال مرجوح إلا بدليل أقوى منه، فمثلاً قول الله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، الأصل أن الإنسان يستعيذ بعد القراءة، لكن صرفناه عن ظاهره بدليل أقوى منه.

    1.   

    التأويل

    معنى التأويل

    قال رحمه الله: (ويؤول الظاهر بالدليل).

    قوله: (يؤول) أي: يصرف الدليل الظاهر عن ظاهره بالدليل، ويسمى هذا بالتأويل.

    والتأويل في اللغة: مأخوذ من الأول، مصدر آل يئول أولاً إذا رجع.

    وأما في اصطلاح الأصوليين فالتأويل له ثلاثة معانٍ: معنيان عند السلف ومعنىً عند المتأخرين من الأصوليين.

    أما معانيه عند السلف، فالمعنى الأول: هي الحقيقة التي يئول إليها الأمر، ومن ذلك قول يوسف عليه الصلاة والسلام: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100]، يعني: وقوعها الآن، ومن ذلك أيضاً قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( كان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر مما يقول في سجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك يتأول القرآن )، يعني: يطبق القرآن.

    فالمعنى الأول: الحقيقة التي يئول إليها الأمر.

    والمعنى الثاني: أن المراد بالتأويل: التفسير والبيان، وهذا كقولهم: تأويل هذه الآية كذا، يعني: تفسيرها، وهذا كثير، فلو رجعت إلى تفسير ابن جرير تجد أنه يقول: القول في تأويل قول الله عز وجل، يعني: في تفسير وبيان هذه الآية.

    أما عند المتأخرين من الأصوليين خاصة فالمراد بالتأويل: هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده، أو صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى المعنى المرجوح بدليل. فقولنا: (حمل اللفظ على غير مدلوله) أخرج الظاهر؛ فالظاهر هو حمل اللفظ على مدلوله.

    وقولنا: (الظاهر منه) أخرج المشترك، فالمشترك يحتمل معنيين، ومع ذلك لا يسمى تأويلاً.

    وقولنا: (مع احتماله له) يعني: هذا يخرج ما إذا صرف اللفظ إلى معنىً لا يحتمله، وهذا يسمى بالتأويل الفاسد.

    وقوله: (بدليل يعضده) يخرج أيضاً حمل اللفظ على معنىً غير الظاهر منه بغير دليل، وهذا أيضاً من التأويل الفاسد، فأصبح التأويل الفاسد ينقسم إلى قسمين كما سيأتي بيانه. وعلى هذا نفهم أن التأويل عند المتأخرين من الأصوليين ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: التأويل الصحيح، وهو ما دل عليه الدليل الصحيح، وهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنىً آخر بدليل صحيح، ومن أمثلته قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، فظاهره أن الإنسان وهو قائم يصلي يتوضأ، لكن صرفنا هذا الظاهر إلى معنىً آخر بدليل وهو إذا أردتم القيام، ومثل ذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، فالظاهر في الأمر الوجوب، لكن صرفنا هذا الظاهر بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام ورد عنه أنه لم يشهد، وأيضاً قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، ظاهره أن الاستعاذة تكون بعد القراءة، فصرف ذلك عن هذا الظاهر بدليل.

    القسم الثاني: التأويل الفاسد، وينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنىً آخر بلا دليل؛ مثل قول الرافضة في قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، قالوا: المراد بذلك عائشة ، فهذا تأويل فاسد؛ لعدم وجود دليل عندهم.

    القسم الثاني: وجود دليل لكنه دليل فاسد، ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا نكاح إلا بولي )، حيث حمله الحنفية فقالوا: لا نكاح إلا بولي المرأة الصغيرة، أما الكبيرة العاقلة فهذه تزوج نفسها، فهذا حمل لدليل بدليل فاسد، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل )، فهذا قال الحنفية: المراد بذلك المرأة الصغيرة، نقول: هذا تأويل فاسد يحتاج إلى دليل، والدليل عليه فاسد.

    ومن ذلك أيضاً تأويلات المعطلة من الجهمية والمعتزلة والأشعرية لنصوص الصفات، فهذه كلها يؤولونها بدليل فاسد، فنقول: بأن هذا تأويل فاسد؛ فصرف ظواهر النصوص التي تدل على الصفات إلى معانٍ أخرى بلا دليل أو عليه دليل فاسد فهذا نسميه تأويلاً فاسداً.

    قال رحمه الله: (ويسمى ظاهراً بالدليل). يعني: أن المؤول يسمى ظاهراً بسبب الدليل، يعني: إذا دل على هذا المعنى دليل فإننا نسميه ظاهراً، لكنه ليس ظاهراً على الإطلاق وإنما هو ظاهر بقيد دل عليه.

    شروط التأويل

    التأويل نشترط له شروطاً:

    الشرط الأول: أن يكون اللفظ محتملاً للمعنى الذي تأوله المتأول في اللغة العربية، فإذا كان لا يحتمل فلا يصح، ومثال ذلك قول الله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، فتأويل اليدين بالسموات والأرض لا يصح؛ لأنه هذا لا يحتمل في اللغة العربية.

    الشرط الثاني: لا بد أن يقيم المتأول أن المراد ذلك دون غيره من المعاني.

    الشرط الثالث: لا بد من إثبات صحة الدليل، فلا بد أن يكون الدليل الصارف للفظ عن ظاهره إلى المعنى المؤول صحيحاً ثابتاً، أما كونك تأتي بدليل ضعيف نقول: هذا لا يصح.

    الشرط الرابع: أن يسلم الدليل الصارف عن المعارض.

    واعلم أن كل شيء يكون خلاف الأصل فإنك تجد أن العلماء يجعلون فيه شروطاً، ويجعلون فيه تقييدات؛ لأن كونه يخرج هذا الأصل لا بد من شيء يخرجه، وهذا الذي يخرجه لا بد أن تتعرضه عوارض، فلا بد أن تكون هناك تقييدات لهذا المخرج، ولكن لو تأملت أن الأشياء التي تكثر فيها الشروط تجد أنها خلاف الأصل، يعني كل شيء مخالف للأصل العلماء رحمهم الله يتحرزون به، وتكثر تقييداتهم وشروطهم.

    وحكم العمل بالتأويل مقبول لكن بشرط تحقق الشروط.

    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756215996