إسلام ويب

مباحث النبوة - خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهلهللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من حكمة الله عز وجل أن يختار من عباده أناساً لأداء رسالاته ويصطفيهم لتبليغ دعوته، ومن أجل تهيئتهم لهذه المهمة العظيمة والوظيفة الجسيمة فإنه سبحانه يربيهم تربية عملية، ومما جاء في ذلك ما أخبر به النبي المصطفى من رعي الرسل للغنم ليحصل لهم بذلك السكينة والرحمة والرأفة لمن يبعثون إليهم من أقوامهم.

    1.   

    اختيار الله عز وجل لعباده المؤمنين حياة الزهد والفقر في الغالب

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء المرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    إخوتي الكرام! لازلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة، وعنوانه كما تقدم معنا مراراً: الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

    وهذه الأمور إخوتي الكرام قلت: إنها على كثرتها وتعددها وتنوعها يمكن أن تجمل في أربعة أمور:

    أولها: النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه.

    ثانيها: النظر في دعوته ورسالته.

    ثالثها: النظر إلى حال أصحابه.

    رابعها: النظر في المعجزات التي أيده الله بها وأكرمه وهي خوارق العادات.

    وقد كنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور الأربعة، والنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، في خلقه وخلقه، على نبينا صلوات الله وسلامه، وتقد تقدم معنا إخوتي الكرام أن الله أعطى رسله وأنبياءه الكمال في الأمرين: الجلال والجمال في خلقهم وفي أخلاقهم على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    وقد تقدم معنا ما يتعلق بالشق الأول فيما يتعلق بخلق النبي عليه الصلاة والسلام، ودلالة ذلك على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً، ثم شرعنا بعد ذلك في مدارسة الشق الثاني في خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ودلالة ذلك على أنه رسول الله حقاً وصدقاً، وتقدم معنا في أول هذا الشق الثاني من المبحث الأول من الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا صلوات الله وسلامه، تقدم معنا أنه ليس في وسع بشر أن يحيط بخلق النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الكمال والتمام، فخلقه عليه الصلاة والسلام كمعاني القرآن، وكما أنه ليس في وسع الإنسان أن يقف على وجه التمام على معاني كلام ذي الجلال والإكرام، فهكذا هو الحال تماماً بالنسبة لأخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام.

    نعم إذا أردنا أن نقف على صورة واضحة من خلقه عليه الصلاة والسلام لنستدل بذلك على أنه رسول ربنا الرحمن، فقلت: نبحث في سبعة أمور على وجه الاختصار كما يليق بحالنا وحسبما في وسعنا، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهل بيته، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من عتاة الإنس، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الشياطين والجن، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتات، هذه الأمور السبعة قلت: إنها كلها فيما يتعلق بخلق المصطفى عليه الصلاة والسلام مع الخلق، وأختمها بأمر آخر ألا وهو خلقه مع الحق عليه الصلاة والسلام بعد الانتهاء من هذه الأمور السبعة.

    وشرعنا أيضاً إخوتي الكرام في مدارسة أول واحد من هذه الأمور السبعة ألا وهو خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل بيته، مع أسرته، مع أزواجه أمهاتنا على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه، وقلت: هذا الخلق سأبينه بأربعة أمور أيضاً: مسكن النبي عليه الصلاة والسلام، أثاث ذلك المسكن ما يقدم فيه من طعام، وقد تقدم الكلام على هذه الأمور الثلاثة في مواعظ متعددة بأدلتها كما سمعتم، وسننتقل إلى الأمر الأول من خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله.. في كيفية معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لمن في بيته من أمهاتنا على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه، وقبل أن أبدأ في هذا الأمر لأربط ما تقدم بما سأذكره الآن.

    إخوتي الكرام! عندما استعرضت مسكن النبي عليه الصلاة والسلام وأثاثه وطعامه الذي يقدم في تلك الحجر المباركة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، تقدم معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام قنع بالضرورة، وأخذ مقدار البلغة فيما يتعلق بسكنه وأثاثه وطعامه عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا أنه أخذه اختياراً عليه الصلاة والسلام لا اضطراراً، فقد خيره الله جل وعلا بين أن يكون رسولاً ملكاً، وبين أن يكون رسولاً عبداً عليه الصلاة والسلام، وبين أن يصير له بطحاء مكة ذهباً، فاختار عليه الصلاة والسلام الآخرة، وسأل ربه أن يجعل رزقه ورزق آله كفافاً وقوتاً على نبينا صلوات الله وسلامه.

    وختمت المبحث على هذه الأمور الثلاثة بما ذكرته في آخر الموعظة الماضية بأن هذه الحالة التي اختارها نبينا صلى الله عليه وسلم لنفسه هي التي شاءها الله جل وعلا لأكثر المؤمنين وأكثر الصالحين في هذه الأمة المباركة المرحومة وهي حالة الكفاف، حالة الفقر، لا يكون عندهم سعة وغناء، وتقدم معنا أن هذا الأمر هو أسلم للإنسان وأحسن في هذه الحياة، وأرفع لدرجته بعد الممات، سأذكر بعض الآثار التي تقرر ما تقدم ذكره ثم أنتقل إن شاء الله إلى الأمر الرابع بعون الله.

    1.   

    الحكمة من زوي الدنيا عن النبي صلى الله عليه وسلم

    إخوتي الكرام! كما قلت: إن الله زوى الدنيا عن نبيه عليه الصلاة والسلام، وعن أوليائه وأحبابه في هذه الحياة الدنيا؛ لئلا يشغلهم بغير طاعته سبحانه وتعالى، ولذلك يحمي الله جل وعلا عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدنا سقيمه ومريضه من الماء، ثبت الحديث بذلك في سنن الترمذي وقال عنه: حسن غريب، والحديث رواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي ، ورواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعب الإيمان، وهو حديث صحيح صححه عدا عمن تقدم ذكرهم شيخ الإسلام الإمام عبد الرحيم بن الحسين الأثري في تخريج أحاديث الإحياء، ولفظ الحديث: عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه وأرضاه وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء)، وفي رواية: (كما يحمي أحدكم مريضه الماء)، فما زويت الدنيا عمن زويت عنهم من الصالحين إلا لكرامتهم عند رب العالمين، (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا، كما يحمي أحدكم سقيمه الماء).

    والحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وإسناده صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب)، كما تمنعون المريض من الطعام والشراب براً به ورفقاً به وإحساناً إليه وشفقةً عليه، هكذا يزوي الله الدنيا عن أنبيائه وأحبابه في هذه الحياة من أجل ألا يشغلوا بغير الغاية التي خلقوا من أجلها على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

    والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند حسن كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة خمس وثمانين ومائتين، وشيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة ثلاث وثلاثين من رواية رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء)، والحديث رواه أبو يعلى أيضاً بسند حسن، كما في الكتابين المتقدمين مجمع الزوائد والترغيب والترهيب من رواية عقبة بن رافع رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الماء ليشفى)، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وهو في المسند في الجزء الخامس صفحة سبع وعشرين وأربعمائة من رواية محمود بن لبيد .

    وقد تقدم معنا إخوتي الكرام! أن المعتمد أنه صحابي كما أثبت ذلك الإمام البخاري وابن عبد البر وابن خزيمة رضوان الله عليهم أجمعين، وأما قول أبي حاتم عليه رحمة الله: لم تثبت صحبته، أي: لم يثبت سماعه، وقلت: لا يشترط للصحبة ثبوت السماع، فقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام -وهذا باتفاق- وهو صغير فهو صحابي، وروايته بعد ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام بواسطة صحابي آخر فلا يضر، وقد أشار الإمام الترمذي إلى هذه الرواية في سننه فقال: روي الحديث عن محمود بن لبيد مرسلاً، أي: من مراسيل الصحابة، وحكمها أنها موصولة كما قال أئمتنا:

    أما الذي أرسله الصحابي فحكمه الوصل على الصواب

    الحديث أيضاً روي من رواية محمود بن لبيد في المسند وغيره، هذه الأحاديث تقرر ما تقدم معنا من أن اختيار نبينا عليه الصلاة والسلام لما اختاره في هذه الحياة من عيشة الكفاف فيما يتعلق بمسكنه وأثاثه وطعامه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا أسلم له ولمن يقتدي به من أمته، وأرفع له في درجته عند ربه على نبينا صلوات الله وسلامه.

    1.   

    كمال النبي صلى الله عليه وسلم خلقة وخلقاً

    بعد هذا إخوتي الكرام أنتقل إلى الأمر الرابع في خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع من كان يعيش في بيته، وهذا هو المقصود أصالةً من مقدمة هذا البحث؛ لأننا إذا أردنا أن نبحث في خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وكيف كان يعامل من في بيته هذه الصورة المثالية المثلى لا بد لها من مقدمة، ما وضع ذلك البيت؟ وضع ذلك البيت كما تقدم معنا وصفه من سكن وأثاث وطعام، فلا يجلس الإنسان فيه إلا إذا أراد الله والدار الآخرة فقط، وإذا كان لا يريد ذلك لا يمكن أن يستقر في ذلك البيت طرفة عين، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من ذكر الأمور الثلاثة المتقدمة من أجل أن نعلم بعد ذلك كيف كان النبي يعامل نساءه عليه وعليهن صلوات الله وسلامه في تلك الحجر.

    إخوتي الكرام! هذا المبحث الذي هو المبحث الرابع أيضاً سنتدارسه ضمن أربعة أمور:

    أولها: سأثبت في أول هذا المبحث وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك أيضاً عند بيان هذا الأمر الأول من الأمور الأربعة التي يعرف بها صدق النبي على نبينا صلوات الله وسلامه النظر إليه في نفسه.. في خلقه وخلقه، تقدم الكلام على أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه على خلق عظيم، سأشير الآن أيضاً إشارةً موجزة إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو أحسن الخليقة خلقاً.. أحسن الخليقة خلقاً مع الحق ومع الخلق عليه صلوات الله وسلامه، هذا الأمر الأول.

    والأمر الثاني: سأقرر هذا بشهادة أخبر الخلق بنبينا عليه الصلاة والسلام ألا وهي أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها التي عرفت حاله في الجاهلية قبل أن تقترن به، وقبل أن يكرمها الله جل وعلا بالزواج منه، ثم عرفت حاله أيضاً في الجاهلية قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام عندما تزوجته وأكرمها الله بالزواج منه، وبقيت معه خمس عشرة سنة قبل أن يبعثه الله بالرسالة، ثم بعد ذلك عرفت حاله بعد أن أكرمه الله بالرسالة وهي زوج له مدة عشر سنين، فعرفته قبل البعثة عندما لم تقترن به، وهذا الذي دعاها للاقتران به وعرض نفسها عليه كما سيأتينا، وعرفته عندما اقترنت به قبل البعثة أيضاً، وعرفته عندما اقترنت به بعد البعثة، فهي أعلم الخلق حقيقةً بحال هذا المخلوق عليه صلوات الله وسلامه، سأذكر شهادتها وقولها في نبينا عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بكلامها فيه قبل أن تقترن به، وبعد أن اقترنت به، وبعد أن جاءه الملك في غار حراء.

    والأمر الثالث: سأستعرض حسن صلة النبي بنسائه وصلتهن به عليه وعليهن صلوات الله وسلامه.

    الأمر الرابع كما وعدت: سيكون لمحة موجزة مختصرة في التعريف بأمهاتنا أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام، وبذرية نبينا الطاهرة المطهرة، وكيف ذلك يدل دلالةً واضحةً على أن هذا البيت الفريد هو بيت النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه.

    حسن عشرة النبي لنسائه ووصيته لأمته بالنساء

    أما الأمر الأول إخوتي الكرام فيما يتعلق بأن نبينا عليه الصلاة والسلام هو كما تقدم معنا أحسن الخليقة خلقاً، فما خلق الله ولا ذرأ مخلوقاً أجمل من نبينا عليه الصلاة والسلام، تقدم معنا كأن الشمس تجري في جبهته عليه الصلاة والسلام، ونور القمر ليلة البدر يتضاءل عند نور وجهه عليه صلوات الله وسلامه، وكما تقدم معنا هذا في خلق نبينا الشريف عليه صلوات الله وسلامه.

    وأما خلقه عليه الصلاة والسلام فكذلك، فهو أنفع الخلق للخلق عليه صلوات الله وسلامه، وهو أرحم الخلق بالخلق عليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان كذلك فأزواجه اللائي يعشن معه عليه وعليهن صلوات الله وسلامه ينبغي أن يكون لهن من ذلك الخلق.. من تلك الرأفة والرحمة وحسن المعاملة، أن يكون لهن من ذلك النصيب الأوفى، وهذا الذي حصل من نبينا عليه الصلاة والسلام لأمهاتنا زوجاته الطاهرات المطهرات الكريمات على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه.

    وليس حسن الخلق إخوتي الكرام كما يفهم كثير من الناس كف الأذى، لا، حسن الخلق احتمال الأذى، وبذل الندى، تبذل المعروف ثم تتحمل بعد ذلك من هذا المخلوق ما يجري عليك من جهل وتقصير، وحقيقةً سنستعرض هذا في الأمر الثالث، وكيف كان يجري منهن ما لا تنفك عنه الطبيعة البشرية، فمهما كان حالهن فيهن ما فيهن، وصدر نبينا عليه الصلاة والسلام يتسع لهن، وصدره أوسع من السموات والأرض عليه صلوات الله وسلامه حلماً ورحمةً ورأفةً عليه صلوات الله وسلامه، ويجري منهن أحياناً بعض التصرفات، حقيقةً لعلها لو جرت لبعضنا من زوجاته لما صبر، وأين نحن من نبينا عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يحلم ويصبر ويشفق ويرحم عليه صلوات الله وسلامه مع ما يجري منهن ويداعبهن، وهو الصورة المثلى للزوج الكريم في تلك البيوت الطاهرة المباركة المشرفة على نبينا صلوات الله وسلامه.

    ولا يستبعد هذا إخوتي الكرام من خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو الذي أوصانا بالنساء في مناسبات كثيرة آخرها أعظم مناسبة شهدها النبي عليه الصلاة والسلام مع أمته في حجة الوداع، في تلك المناسبة العامة الشهيرة العظيمة الكثيرة يذكر بعشرة النساء والرفق بهن والحديث ثابت في صحيح مسلم وسنن أبي داود وابن ماجه ، ومسند الدارمي من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفة في حجة الوداع في خطبته الطويلة الشهيرة: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، اتقوا الله في النساء، أحسنوا صحبتهن، وعشرتهن، ومعاملتهن، واقتدوا بنبينا عليه الصلاة والسلام بذلك، (أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، وهي قول الله: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] ، بكلمة الله وهي لا إله إلا الله.. كلمة التوحيد، فلولا أنكم على التوحيد لما حل لكم النساء الصالحات المؤمنات، (بكلمة الله) بقول الله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، بالكلمة التي أمر الله بها عند اتصال الرجل بالمرأة عن طريق ما أحل ألا وهي الإيجاب والقبول، (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، هذا في أعظم اجتماع يقوله خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    وهذه العشرة الطيبة سيأتينا إيضاحها في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام إنما قلت أن حسن الخلق لا أن تكف أذاك، إنما أن تحتمل الأذى من غيرك، يقع عليك وأنت تحتمل، وهذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام، وسيأتينا حديث الصحيحين إنما أذكره الآن محل الشاهد في هذه الجزئية، وسيأتينا ضمن المبحث الثالث من هذه الأمور الأربعة، الحديث في الصحيحين وفي سنن الترمذي والنسائي من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم أجمعين: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما هاجرنا إلى المدينة المنورة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم)، الأمر انعكس، كان الرجال يغلبون النساء في مكة معشر قريش، فلما جاءوا إلى الأنصار وجدوا أن النساء يغلبن الرجال، (قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فطفق نساؤنا يتعلمن من أزواج هؤلاء الرجال -يعني: من النسوة من أجل أن تغلب الواحدة الرجل منا- فتغضبت يوماً على امرأتي فردت في وجهي الكلام، فأنكرت ردها، فقالت: علام تنكر علي ونساء النبي عليه الصلاة والسلام يراجعنه الكلام وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل؟ يقول: فدخلت على حفصة لأسألها قلت: أتراجعن النبي عليه الصلاة والسلام الكلام وتهجرنه يوماً إلى الليل؟ فقالت حفصة : نعم نراجعه الكلام، ونهجره اليوم إلى الليل، فقال: لقد خبتن وخسرتن) كما سيأتي الحديث بكامله.

    انظر لهذا الخلق لنبينا عليه الصلاة والسلام، خير خلق الله، تتبرك الملائكة برؤيته وصحبته، ويتشرف الجماد بمشي نبينا عليه الصلاة والسلام عليه، فهو خير العباد، ومع ذلك أمهاتنا لا أقول من باب طياشتهن لكن هذا هو حال القصور البشري والضعف الإنساني، يجري منهن أحياناً ما يجري، فيتسع صدره عليه الصلاة والسلام ويحمل، ثم هو الذي يبدأ بعد ذلك عليه الصلاة والسلام بالمصالحة وحسن الكلام على نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، ولا يستبعد هذا ممن نعته الله جل وعلا بأنه رءوف رحيم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:128-129].

    بعض ما ورد عن النبي في وصيته بحسن معاشرة النساء

    وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن خيرنا خيرنا لأهلنا، فهو خير البشرية لأهله عليه صلوات الله وسلامه، فاستمع لتقرير هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام في المبحث الأول لنتدارس بعد ذلك ما بعده من مباحث.

    ثبت في المسند وسنن الترمذي وصحيح ابن حبان ، والحديث إسناده صحيح كالشمس، قال عنه الترمذي : حسن صحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)، الخير فيكم هو صاحب الخلق الحسن مع أهله، وتقدم معنا مراراً إخوتي الكرام أن دين الله يقوم على دعامتين: تعظيم لله، وشفقة على خلق الله، وأولى الناس بشفقتك وحسن معاملتك أهلك، أولى الناس بإحسانك ومعروفك ولين كلامك زوجتك، (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم).

    والحديث رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند، والترمذي في السنن، والحاكم في المستدرك، وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبي ، فقال: فيه انقطاع، والحديث صححه الإمام الترمذي ، ومع ذلك قال: لا نعرف لـأبي قلابة سماعاً من أمنا عائشة ، والحديث مروي عن أمنا عائشة رضي الله عنها بواسطة هذا الراوي ألا وهو أبو قلابة ، وهو عبد الله بن زيد الجرمي ، ثقة فاضل كثير الإرسال، حديثه مخرج في الكتب الستة، توفي سنة أربع ومائة للهجرة وتوفي في بلاد الشام بعد أن هرب من بلاد البصرة، وهروبه لأنه أريد منه أن يتولى القضاء في تلك البلاد فتخفى وهرب حتى وصل بلاد الشام فقبض فيها، وكان يقول: ما لي وللقضاء، مثل القاضي كمثل من وقع في البحر فما عسى أن ينجو.

    ومن كلام هذا العبد الصالح ما ذكرته أيضاً مراراً في بعض المواعظ أنه كان يقول: إذا حدثت الرجل بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقال: دعنا من هذا وهات القرآن، فاعلم أنه ضال. وهذا الأثر رواه عنه الإمام ابن سعد في الطبقات، أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة أربع ومائة للهجرة، روى عن أمنا عائشة ولم يسمع منها، والترمذي يقول: لا نعرف لـأبي قلابة سماعاً من عائشة ، إذاً كيف صححت الحديث؟ صححه لشواهده، فالمتن ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، تقدم معنا من رواية أبي هريرة ، وهذا من رواية أمنا عائشة ، سيأتينا روايات كثيرة بهذا المعنى، مع أنه هو الذي يقول: لا نعرف لـأبي قلابة سماعاً من أمنا عائشة رضي الله عنها، ثم يقول: إن الحديث صحيح، ولفظ حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله)، هذا أكمل أهل الإيمان إيماناً: خلق حسن، وملاطفة للأهل في البيت، (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله).

    وهذا المعنى ثابت إخوتي الكرام في أحاديث كثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، منها ما في المستدرك في الجزء الرابع صفحة ثلاث وسبعين ومائة بسند صحيح على شرط الشيخين، أقره عليه الذهبي من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الأول من رواية أبي هريرة ، والثاني من رواية أمنا عائشة ، وهذا من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، قال النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن عباس الرواية الثالثة لكن مختصرة، ولفظها: (خيركم خيركم للنساء)، دون الشق الأول من الحديث، يعني: الخير فيكم هو صاحب المعاملة الحسنة مع أهله وأزواجه، (خيركم خيركم للنساء).

    والحديث رواه الطبراني من رواية أبي كبشة ، وفي إسناده عمر بن روبة ، (روبة) الواو ساكنة وليس عليها همزة، وثقه ابن حبان وغيره، وقال الحافظ في التقريب: صدوق، وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة، من رواية أبي كبشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم للنساء).

    ورواه الطبراني أيضاً من رواية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين، وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي ، قال الإمام الهيثمي : أنكر عليه كثرة الغلط، وتماديه فيه، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ ويصر، توفي سنة واحدة ومائتين للهجرة، وحديثه في السنن الأربعة إلا سنن النسائي ، إذاً هنا من رواية معاوية أيضاً: (خيركم خيركم للنساء).

    والحديث رواه ابن ماجه بسند صحيح على شرط الشيخين من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خياركم خياركم لنسائهم)، وإذا كان الأمر كذلك فخير الناس فينا، خيرنا خلقاً ومعاملةً مع أهله، فخير الخليقة على الإطلاق نبينا عليه الصلاة والسلام، فينبغي إذاً أن يكون خير الناس مع أهله عليه صلوات الله وسلامه، وهذا هو الواقع والحاصل.

    ثبت في سنن الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه ابن حبان من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وإذا مات صاحبكم فدعوه)، والحديث رواه الإمام الدارمي دون الجملة الثانية، ولفظه: (خيركم خيركم لأهله، وإذا مات صاحبكم فدعوه).

    قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (إذا مات صاحبكم فدعوه)، إما أن يريد به غيره، أي: هذا الصاحب هو غير النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: إذا مات واحد منكم من قريب أو غيره فدعوه، أي: لا تتكلموا عليه، كما أمرنا بأن نحسن أخلاقنا مع الأحياء فلنحسن أخلاقنا مع الأموات، والمجاملة وحسن المعاملة مطلوبة منك نحو الأحياء والأموات، لا ينبغي أن تتكلم على صاحبك في حال حياته فمن باب أولى بعد مماته، (وإذا مات صاحبكم فدعوه).

    ويحتمل أيضاً الحديث معنىً آخر: (إذا مات صاحبكم فدعوه)، أي: دعوا التعلق به والبكاء عليه فقد قضى نحبه، وجاءه أجله، (إذا مات صاحبكم فدعوه)، ولذلك إذا مات المريض فانتهى، أما في حال مرضه قد الإنسان يبذل ما في وسعه لعلاجه والشفقة عليه، لكن إذا مات دعوه، لا داعي بعد ذلك للتعلق به والصراخ والعويل.

    والمعنى الثالث الذي يحتمله الحديث على أن الصاحب وهو غير النبي عليه الصلاة والسلام، (إذا مات صاحبكم فدعوه)، إلى رحمة الله، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198] ، وهو قد انتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فدعوه إلى رحمة الله، ودعوه يلقى كرامة الله جل وعلا في قبره، وعجلوا بدفنه. وقيل: إن الصاحب هو النبي عليه الصلاة والسلام، يعني نفسه، إذا مت فدعوني، وإن صاحبكم خليل الله، وعلى هذا فتحتمل هذه الجملة المباركة أمرين اثنين:

    أولهما: (فدعوه)، أي: لا داعي للجزع والتحسر، ففي الله خلف من كل فائت، وحياة النبي عليه الصلاة والسلام خير لكم، وموته خير لكم عليه الصلاة والسلام، فإذا مات فدعوه، ولا داعي للجزع والتحسر كما هو الحال أيضاً في حق غيره عليه صلوات الله وسلامه.

    والمعنى الثاني: (وإذا مات صاحبكم -يعني النبي عليه الصلاة والسلام- فدعوه)، أي: فلا تؤذوه عليه الصلاة والسلام في أهل بيته، وصحابته، وفي المؤمنين به من أهل ملته من أمته على نبينا وعليها صلوات الله وسلامه، فإيذاء هؤلاء إيذاء له، (وإذا مات صاحبكم -يعني النبي عليه الصلاة والسلام- فدعوه)، من الأذى، وحذار أن تصيبوه بأذى بواسطة إيذاء آل بيته وصحابته والمؤمنين به عليه الصلاة والسلام.

    (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وإذا مات صاحبكم فدعوه)، والحديث إخوتي الكرام مروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما في سنن ابن ماجه وصحيح ابن حبان من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).

    والحديث رواه البزار من رواية عبد الرحمن بن عوف كما في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة ثلاث وثلاثمائة: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). وفي إسناده محمد بن عمرو بن علقمة ، قال الهيثمي : وثق وفيه ضعف، وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه صدوق وله أوهام، وحديثه في الكتب الستة، أي: في الصحيحين وغيرهما، وتوفي سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن، وللشواهد المتقدمة يرتقي إلى درجة الصحة، فالحديث ثابت من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها، ومن رواية ابن عباس ، ومن رواية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).

    إذاً هو عليه الصلاة والسلام أحسن الخليقة خلقاً مع الخلق، وهذا يظهر بصورة جلية واضحة مع أهله وأسرته عليه صلوات الله وسلامه.

    1.   

    تربية الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء برعي الغنم

    إخوتي الكرام! قبل أن أنتقل إلى شهادة كما قلت أعرف الخلق به ألا وهي أمنا خديجة رضي الله عنها أحب أن أقدم بين يدي ذلك أمراً يرتبط بهذا ألا وهو: أن حكمة الحكيم العليم شاءت لنبينا الكريم ولجميع أنبياء الله الطيبين الطاهرين أن يسهل الله عليهم، وأن يوفقهم قبل بعثتهم برعاية الغنم، لينتقلوا بعد ذلك إلى رعاية الشعوب والأمم، وحقيقةً رعاية الغنم تحتاج إلى سعة صدر وخلق ليتعود الإنسان هذا الخلق بعد ذلك عندما يأتيه ملك الله جل وعلا لتكليفه برسالة الله.

    رعي النبي لغنم أهل مكة

    وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يشير إلى هذا ويتواضع بهذا الإخبار لربه جل وعلا فهو سيد العالمين ومع ذلك وفقه الله لرعاية الغنم قبل بعثته عليه صلوات الله وسلامه، ثبت الحديث في ذلك من رواية عدة من الصحابة الكرام منها ما ثبت في صحيح البخاري وسنن ابن ماجه ، والحديث رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة، في الجزء الثاني صفحة خمس وستين، وهو في السنن الكبرى للإمام البيهقي في الجزء السادس صفحة ثمان عشرة ومائة، وهو في طبقات ابن سعد في الجزء الأول صفحة خمس وعشرين ومائة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)، ونبي نكرة في السياق وهي تفيد العموم، فلا يوجد نبي من أنبياء الله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه إلا وقد رعى الغنم، (ما بعث الله نبياً إلا وقد رعى الغنم) قال أبو هريرة : فقال له أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: (وأنت يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟)، يعني: هل المتكلم يدخل في خطابه وكلامه أم لا؟ أنت تخبر عن الأنبياء المتقدمين، وأنت أيضاً قمت بهذا الأمر، وأنت أفضلهم وأكملهم أو استثنيت من هذا؟ (وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)، وحرف (على) يحتمل معنيين اثنين:

    أولهما وهو الذي ذهب إليه الجمهور: أن على بمعنى الباء، فهو للسببية أو للمعاوضة، (فكنت أرعاها على قراريط)، يعني: بسبب وبمعاوضة قراريط، والقراريط جمع قيراط، والقيراط إما أن يكون نصف العشر، أو واحداً من أربعة وعشرين كما هو في اصطلاح أهل الشام والمصريين عندهم القيراط جزء من أربع وعشرين جزءاً، وبعضهم يقول أن القيراط نصف العشر، يعني: جزءاً من عشرين، (أرعاها على قراريط)، جمع قيراط، يعني لو أخذت الدرهم وقسمته إلى أربعة وعشرين قسماً، الجزء الواحد يقال له: قيراط، (فكنت أرعاها على قراريط)، يعني: على أجزاء من الدراهم، إذاً (على) بمعنى باء السببية أو المعاوضة، وهل هذا القيراط يعني أجرة شهر أو أجرة سنة؟ العلم عند الله، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن هذا أجرة شهر أو أجرة سنة، ولم تكن القراريط أجرة يوم قطعاً وجزماً، إما شهرية مشاهرة، وإما سنوية، كل شاة بقيراط، قاله سويد بن سعيد ، كل شاة بقيراط، يدل على هذا رواية واردة في سنن ابن ماجه ، وطبقات ابن سعد ، ومستخرج الإسماعيلي ، قال: (كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط).

    إذاً (على قراريط) يعني: بقراريط بأجرة آخذها معاوضةً على الرعاية، وسويد بن سعيد هو شيخ الإمام ابن ماجه ، كما أنه هو شيخ الإمام مسلم ، وقد أخرج هذان عنه من أصحاب الكتب الستة، وهو سويد بن سعيد الهروي ، صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه فيحدث به، توفي سنة أربعين ومائتين للهجرة، وكما قلت: حديثه في صحيح مسلم ، وهو من شيوخ الإمام مسلم ، وحديثه في سنن ابن ماجه ، ومن شيوخ الإمام ابن ماجه ، وقد تكلم على الإمام مسلم لإخراجه حديث سويد بن سعيد ، لكن الإمام مسلم هو أخبر الناس بشيخه، والجرح الذي وجه إليه كما قلت مطلق، وقوله: إنه بعد أن عمي صار يتلقن، الإمام مسلم أخذ هذه الرواية عنه قبل العمى مما هو ثابت عنده من أجل علو الإسناد، أما بعد أن تلقن فما روى عنه، ولذلك الجرح إذا لم يكن مفسراً لا يقبل عند الجهابذة الحذاق، مع أن البخاري وغيره طعنوا في سويد ، لكن بدون بيان سبب الجرح، غاية ما قيل أنه بعدما عمي تلقن، طيب إذا روينا عنه قبل العمى كما قلنا صدوق في نفسه، ولذلك يقول الإمام العراقي في ألفيته:

    واحتج مسلم بمن قد ضعف نحو سويد إذ بجرح ما اكتفى

    يعني: ما اكتفى الإمام مسلم بما وجه إليه من جرح، وما عول عليه، ولا قبله؛ لأنه جرح مطلق، ولا يقبل الجرح إلا إذا كان مفسراً، وكما قلت: أنه بعد أن عمي تلقن، إذا حدث عنه قبل العمى فلا يضر، فالإمام مسلم حدث عنه وهو من شيوخه، وهكذا الإمام ابن ماجه ، وابن ماجه ينقل عن شيخه سويد ، الرواية الأخرى: (كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط)، هذا المعنى الأول لحرف على، (كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).

    والمعنى الثاني: قيل: إنها تفيد الظرفية، (أرعاها على قراريط)، يعني: في أمكنة تسمى قراريط، كان النبي عليه الصلاة والسلام يرعى فيها غنم أهل مكة، والذي يظهر كما قال الحافظ ابن حجر : أن القول الأول أولى؛ لأنه لا يعرف في مكة مكان اسمه القراريط، وعليه المراد من القراريط كل شاة بقيراط كما قال سويد بن سعيد ، والعلم عند الله جل وعلا.

    إذاً ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)، وهذه الرواية كما قلت إخوتي الكرام هي في صحيح البخاري وغيره، فهي في أعلى درجات الصحة، ومنقولة أيضاً عن غير أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، رويت أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري ، رواها الإمام أحمد في المسند، ورواها الإمام البزار وعبد بن حميد أيضاً، وفي الإسناد الحجاج بن أرطأة وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، توفي سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة، وحديثه في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري وصحيح مسلم والسنن الأربعة.

    ويشهد لرواية أبي سعيد حديث أبي هريرة المتقدم فهو في صحيح البخاري ، ولفظ هذا الحديث من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال: (افتخر أهل الإبل وأهل الغنم عند النبي صلى الله عليه وسلم)، هؤلاء يقولون: مهنتنا أعلى، وهؤلاء يقولون: مهنتنا أعلى، وهؤلاء يقولون: نحن نكتسب صفات حميدة من هذه الحيوانات التي نرعاها، وهؤلاء يقولون: نحن نكتسب صفات حميدة من الحيوانات التي نرعاها، (افتخر أهل الإبل وأهل الغنم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بعث موسى وهو يرعى غنماً، وبعثت وأنا أرعى غنماً لأهلي بجياد)، ويقال: أجياد، وهي جمع جيد وهو العنق، ويسمى به جبل معروف في مكة.. في جهة منها، أجياد وجياد بغير ألف أو بالألف، كما قال الألوسي في مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع في الجزء الأول صفحة ثلاث وثلاثين، (بعث موسى وهو يرعى غنماً، وبعثت وأنا أرعى غنماً لأهلي بجياد)، ولا يصح أن يتعلق بهذا الحديث أعني القول الثاني لـإبراهيم الحربي ومن معه من أنه كان يرعاها لأهله بجياد وبمكان يسمى قراريط، وما كان يأخذ أجرةً؛ لأنه فسر المكان هنا وأنه كان يرعاها لأهله ما كان يرعى بالأجرة، لا يصح التعلق بذلك كما قال أئمتنا؛ لأن الأهل هنا إذا أريد بهم حقيقة الأهل فهم القرابات الذين ينتمي إليهم الإنسان، فكان يرعاها لأهله بغير أجرة، كما أنه كان يرعى غنماً لقومه بأجرة، فلا تعارض بين الأمرين، ويمكن أن يقال من الأهل ما هو أعم من القوم، (أهلي) أي: لقومي، أرعاها لهم بجياد، بأجرة على قراريط آخذها، كنت أرعاها في مكان أجياد أو جياد، لكن بقراريط، فالمراد من الأهل هنا القوم لا خصوص القرابات والأهل، ولذلك قال الحافظ ابن حجر : في أحد الخبرين بين الأجرة، وفي الآخر بين المكان، فهنا يقول: يرعاها بجياد.. بأجياد، وهناك: يرعاها على قراريط، وهذا يرجح القول الأول كما قلت.

    إذاً (بعث موسى وهو يرعى غنماً، وبعثت وأنا أرعى غنماً)، وهذا الحديث رواه الإمام أيضاً أبو داود الطيالسي كما في منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود ، في الجزء الثاني صفحة ست وثمانين، ورواه البخاري في الأدب المفرد صفحة خمس وثمانين، ونسبه الإمام ابن حجر في الفتح في الجزء الرابع صفحة واحد وأربعين وأربعمائة إلى الإمام النسائي ولعله في السنن الكبرى وليست عندي، والحديث رواه ابن السكن أيضاً، ورواه البغوي وابن منده وأبو نعيم كما في جمع الجوامع للإمام السيوطي في الجزء الأول صفحة ستين وأربعمائة، والإصابة للحافظ ابن حجر من رواية عبدة بن حزن ، والرواية المتقدمة من رواية عبدة بن حزن ، ويقال له: بشر بن حزن ، ويقال له: نصر بن حزن ، عبدة .. بشر .. نصر . عبدة بن حزن النصري مختلف في صحبته، له حديث في رعي الغنم كما قال الحافظ في التقريب، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد فقط، ولم يخرج لهذا الصحابي رضي الله عنه في غير كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري أحد من أصحاب الكتب الستة.

    والحديث رواه ابن سعد في الطبقات موقوفاً على أبي إسحاق السبيعي الراوي عن عبدة بن حزن أو بشر بن حزن أو نصر بن حزن ، فلم يروه عن عبدة عن النبي عليه الصلاة والسلام، إنما رواه موقوفاً عليه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: وقفه الإمام ابن سعد من رواية زهير عن أبي إسحاق السبيعي ، ولفظ الحديث كرواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين، ولفظه: (تفاخر أهل الإبل وأصحاب الشاة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت أنا وأنا أرعى غنم أهلي)، وفي رواية: (وأنا أرعى غنماً لأهلي بجياد)، وفي رواية: (بأجياد).

    هذه رواية ثالثة من رواية أبي هريرة وأبي سعيد وعبدة بن حزن ، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري بسند جيد، ورواه الطبراني في الأوسط من رواية عبد الرحمن بن عوف ، لكن أبا سلمة ولد عبد الرحمن بن عوف لم يسمع منه، ويشهد للحديث ما تقدم، ورواه ابن سعد من رواية أبي سلمة ، وحذف الصحابي ألا وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين، أما حديث أبي سعيد في المسند كما قلت إسناده جيد، وحديث عبد الرحمن بن عوف في سنده انقطاع ويشهد له هذا الحديث من رواية أبي سعيد والروايات المتقدمة.

    لفظ الحديث يقول عبد الرحمن بن عوف وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نجتني الكباث -وهو النضيج من ثمر الأراك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بالأسود منه فإنه أطيب -أي: الثمرة السوداء من الكباث ناضجة تمام النضج- فإني كنت أجتنيه وأنا أرعى الغنم، قالوا: يا رسول الله! وقد رعيت الغنم؟ قال: نعم، وما من نبي إلا وقد رعاها )، وفي رواية: (وهل من نبي إلا قد رعاها).

    والحديث ثابت أيضاً من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم في كتاب الأشربة رقم خمس وستين ومائة قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران -وهي مكان دون مكة بمرحلة كما قال علماؤنا- ونحن نجتني الكباث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بالأسود منه فإنه أطيب، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! كأنك رعيت الغنم؟ فقال: نعم، وهل من نبي إلا وقد رعاها )، والأثر رواه الإمام مالك في موطئه بلاغاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، قيل: وأنت يا رسول الله؟! قال: وأنا ).

    قال الإمام الزرقاني في شرح الموطأ في الجزء الرابع صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة: صح الحديث موصولاً من رواية عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وجابر، وزيدوا عليه وأبي سعيد الخدري، وزيدوا عليه كما تقدم معنا وعبدة بن حزن النصري ، هذه روايات خمس واقتصر على ثلاثة، وزيدوا عليه رواية ثالثة أوردها الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الأول صفحة خمس وعشرين ومائة من رواية عبيد بن عمير مرسلاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي إلا قد رعى الغنم، قيل: وأنت يا رسول الله؟! قال: وأنا).

    وعبيد بن عمير هو أبو عاصم المكي ، ولد في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، مجمع على ثقته وإمامته، قيل: مات قبل عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وموت عبد الله بن عمر كان سنة واحد وسبعين للهجرة، وقيل: مات قبل ذلك، يعني سنة سبعين أو قبل عبيد بن عمير ، وكان قاص أهل مكة ويحضر ابن عمر وعظه رضوان الله عليهم أجمعين، روى الحديث مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو تابعي فحديثه مرسل وإسناده صحيح ويشهد له ما تقدم.

    ما يكتسبه رعاة الغنم من الخصال وكذلك رعاة الإبل

    إخوتي الكرام! هذه ست روايات تفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام رعى الغنم، وأن جميع أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه قد قاموا بتلك المهمة ألا وهي رعاية الغنم ليتهيأ لهم بعد ذلك رعاية الأمم على نبينا وأنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه.

    قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الرابع صفحة واحد وأربعين في شرح الحديث المتقدم ألا وهو حديث أبي هريرة -وقلت: إنه في صحيح البخاري - يقول: قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفون به من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم به من الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريب على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياداً من غيرها.

    وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن عَلم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه، والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.

    إخوتي الكرام! وكما حصل من نبينا عليه الصلاة والسلام رعي الغنم قبل بعثته، فسيأتينا إن شاء الله أنه رعى الإبل أيضاً، وهذا مما خص الله به نبينا عليه الصلاة والسلام، رعى الغنم ثم رعى الإبل ليجمع الله له السكينة، ويجمع له العزة والسيادة، فسيأتينا أهل الإبل فيهم صفة النخوة والفخر والخيلاء، وما أحسن ذلك إذا كان في الحق وفي طاعة رب الأرض والسماء، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو سيد العالم وأفضل المخلوقات، وهو أكثر المخلوقات تواضعاً ومسكنة عليه صلوات الله وسلامه، سيد مسكين متواضع عزيز كريم عليه صلوات الله وسلامه.

    وحقيقة هو مظهر الكمال الإلهي، والكمال الإلهي جمع الجلال وجمع الجمال، ونبينا عليه الصلاة والسلام جمع الأمرين فهو الضحوك القتال عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يغلظ على الكافرين والمنافقين، وهو الذي بالمؤمنين رءوف رحيم عليه الصلاة والسلام.

    فمن صفات الإبل أخذ العزة والسيادة، وفي ذلك إشارة إلى ما سيحصل له عليه الصلاة والسلام من علو المقام والرتبة في الدنيا والآخرة، ومن صفات الغنم أخذ المسكنة والتواضع والليونة عليه صلوات الله وسلامه، عزيز متواضع لين، ولا يوجد أحسن من هذا الوصف، تواضع مع عز.. عز في تواضع، هذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام، وسأقرر هذا إن شاء الله بعد الانتهاء مما يتعلق بالغنم، سأقرر هذا بأحاديث صحيحة أن النبي عليه الصلاة والسلام رعى الإبل كما رعى الغنم، وهذا مما انفرد به نبينا عليه الصلاة والسلام، فمن قبله رعوا الأغنام، وأما هو فقد رعاها ورعى الإبل أيضاً على نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.

    ما جاء في صفات الغنم وبركتها

    أما الغنم إخوتي الكرام حقيقة الذي يرعاها ويعتني بها تحصل فيه السكينة والليونة والرحمة والرأفة لهذا الخلق الذي فيها، ولما تحتاجه أيضاً من رأفة ورحمة وشفقة وحنو ورعاية، وقد جعل الله في الغنم سكينة وبركة خاصة لا توجد في غيرها، ومن رعاها وأشرف على خدمتها وتربيتها تسري إليه تلك البركة بإذن الله جل وعلا وقدرته ولطفه وتوفيقه.

    إذاً: الغنم مباركة بنص كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد بوب أئمتنا على الغنم أبواباً في كتب الحديث فاستمعوا للطافتهن وذكائهن في تلك التراجم، يقول البخاري في كتاب الأدب المفرد صفحة أربع وثمانين باب: الغنم بركة، ويقول الحافظ ابن حجر في المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية في الجزء الثاني صفحة اثنتين وثلاث مائة: باب تسمية الشاة ببركة. سبحان ربي العظيم! يعني: أنا أعجب للسفهاء في هذه الأيام الذين ينكرون علينا أن نقول: إن المؤمن مبارك، والنبي عليه الصلاة والسلام يجعل البركة في الشاة، وأما بركة المؤمن حياً وميتا فسيأتي الكلام عليها في البحث الذي أشرت إليه ووعدت به، وأقطع به إن شاء الله لغط اللاغطين وإرجاف المرجفين الذين ينسبون أنفسهم إلى السلف، ولا سلف لهم إلا الخوارج، والذين يدعون التوحيد ثم بعد ذلك يكرون على العبيد بالتضليل والتسفيه، ولا ضال غيرهم، ونغمة التوحيد التي يدعي إليها من يدعي في هذه الأيام قد ادعاها قبلهم المعتزلة فنسبوا أنفسهم إلى ذلك، وكانوا يسمون أنفسهم أهل التوحيد والعدل، المعتزلي لا يسمي نفسه إلا بهذا، أهل التوحيد والعدل، وكل من جعل لنفسه لقباً خاصاً تميز به عن عامة المسلمين فاعلم أنه على ضلالة.

    ولذلك قال شيخ الإسلام إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس : أهل السنة ليس لهم لقب يعرفون به، أي لقب خاص وجماعات يتمايزون بها عن غيرهم، نحن ديننا يقوم على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وبعد ذلك اصطلاحات حدثت من هنا وهناك، ليس لهم لقب خاص، أما أنه يأتي المعتزلي ويدعي أنه من أهل التوحيد والعدل، ويأتي محمد بن تومرت الذي ادعى أنه المهدي في بلاد المغرب في القرن الخامس للهجرة، وادعى أنه على التوحيد، وأنه أهل التوحيد، وكان يسمي جماعته بالموحدين! هذه دعاوى المبطلين في كل حين، ولا لقب لنا ننتمي إليه إلا لقب أهل السنة والجماعة حسبما كان عليه سلفنا الكرام وأئمة الهدى.

    قلنا: الشاة فيها بركة، وبركة الشاة يعنون بهذا العنوان إمام أهل السنة وشيخ المحدثين وسيد المسلمين الإمام البخاري ، والإمام ابن حجر في المطالب العالية: تسمية الشاة ببركة، وقد صرح نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك فاستمع للأحاديث التي تدل على بركة الشاة، وقد اختار الله جل وعلا لأنبيائه رعاية الشاء لما فيها من بركة تسري إلى من يرعاها بإذن خالقها ومولاها، ثبت في سنن ابن ماجه في كتاب التجارات، باب اتخاذ الماشية، والحديث إخوتي الكرام إسناده صحيح ورجاله ثقات كما قال الإمام البوصيري في الزوائد، انظروا كلامه في الجزء الثاني صفحة ست ومائتين، والحديث في سنن ابن ماجه في الجزء الثاني صفحة ثلاث وسبعين وسبعمائة.

    ولفظ الحديث عن أم هانئ رضي الله عنها وأرضاها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا أم هانئ ! اتخذي غنماً فإن فيها بركة)، والحديث رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الجزء السابع صفحة إحدى عشرة بلفظ: (اتخذوا الغنم فإنها بركة)، هذا تصريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بكون الغنم مباركة، (اتخذوا الغنم فإنها بركة)، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، انظروه في الجزء السادس من المسند صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الرابع صفحة ست وستين: فيه موسى بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة لم أعرفه، ولفظ الحديث عن أم هانئ أيضاً رضي الله عنها وأرضاها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتخذي غنماً فإنها تغدو بخير وتروح بخير)، والحديث رواه الخطيب البغدادي أيضاً في تاريخه في الجزء الثامن صفحة اثنتين ومائتين من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأم هانئ : (يا أم هانئ ! اتخذي غنماً فإن فيها بركة فإنها تغدو بخير وتروح بخير).

    وقد صرح نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الغنم من دواب الجنة، ثبت الحديث بذلك في سنن البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الثاني صفحة تسع وأربعين وأربعمائة، والحديث رواه ابن عدي والخطيب في تاريخ بغداد، ورواه البزار كما في مجمع الزوائد في الجزء الثاني صفحة سبع وعشرين، وانظروه في كشف الأستار عن زوائد مسند البزار في الجزء الأول صفحة واحد وعشرين ومائتين، والحديث روي من طرق -وإسناده حسن- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغنم من دواب الجنة؛ فامسحوا رعامها، وصلوا في مرابضها)، (فامسحوا رعامها) والرعام: ما يسيل من أنفها، فامسحوا رعامها، (وصلوا في مرابضها) المكان التي تربض فيه وتجلس فيه وتستقر، هذا مكان مبارك، وهي بركة، وإذا رأيت ما يسيل من منخريها امسحه، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

    (فامسحوا رعامها) رفقاً بها ورحمة، ولما فيها من خير وبركة، ولا تتأفف لأن هذه مباركة وهذه من دواب الجنة، إذا رأيتها يسيل منها هذا المخاط فامسحه بيدك طلباً للأجر عند الله وامتثالاً لأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام، والحديث في درجة الحسن.

    قال الإمام ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث في الجزء الثاني صفحة خمس وثلاثين ومائتين: الرعام ما يسيل من أنوفها، وقد يتأفف الإنسان، وأنا أعجب لمن غلظت أكبادهم في هذا الحين، إذا كان رعام الغنم نمسحه بأيدينا، ألا نتبرك بعد ذلك بفضل سؤر المؤمن إذا شرب من ماء؟! سبحان ربي العظيم! والبركة التي في الغنم دون دون ما في المؤمن من بركة بكثير كما سيأتينا بركة المؤمن بعون الله جل وعلا في الموعظة التي أشرت إليها.

    ( فامسحوا رعامها وصلوا في مرابضها )، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من رواية ابن عمر ، والرواية المتقدمة قلنا من رواية أبي هريرة ورواية أبي هريرة إسنادها حسن وهي مروية من طرق، والرواية الثانية في معجم الطبراني الكبير من رواية ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بالغنم؛ فإنها من دواب الجنة، فصلوا في مُراحها)، بمعنى مرابضها، المكان التي تستريح فيه، (فصلوا في مراحها، وامسحوا رعامها)، قال الإمام الهيثمي في المجمع: فيه صبيح الراوي عن ابن عمر لم أجد من ترجمه.

    وقد ثبت في سنن ابن ماجه من رواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشاة من دواب الجنة)، لكن في الإسناد زربي الأسدي وهو ضعيف كما قال الحافظ في التقريب، أخرج حديثه الترمذي وابن ماجه ، فهو من رجال الترمذي وابن ماجه ، (الشاة من دواب الجنة)، وهناك (عليكم بالغنم فإنها من دواب الجنة، فصلوا في مراحها وامسحوا رعامها)، (صلوا في مراحها) (صلوا في مرابضها) فهذه بركة وليس حالها كحال الإبل التي خلقت من الشياطين كما أخبر عن ذلك نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وسأذكر ما يشير إلى هذا إن شاء الله عما قريب، فشتان شتان، هذه مباركة من دواب الجنة، صل في مرابضها، وإذا رأيت هذا الرعام يسيل ومن أنوفها فامسحه ولا تتأفف من ذاك واطلب الأجر من ربك جل وعلا.

    وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة المتكاثرة عن وجود البركة في الغنم، ففي سنن ابن ماجه ومسند أبي يعلى من حديث عروة البارقي ، والحديث قال عنه الإمام البوصيري في الزوائد في الجزء الثاني صفحة ست ومائتين: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بجميع رواته، ولفظ الحديث كما قلت عن عروة البارقي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الإبل عز لأهلها، والغنم بركة، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة)، الإبل عز لأهلها، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:6-7]، ( الإبل عز لأهلها، والغنم بركة )، والله يقول في سورة النعم التي هي سورة النحل: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ [النحل:5]، الأنعام جمع نعم، وهي تطلق على خصوص الإبل ولا تطلق على غيرها من بهيمة الأنعام إلا إذا كان معها إبل، يعني لا يقال للغنم: أنعام إلا إذا كان معها إبل، وتطلق على خصوص الإبل، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:5-7].

    ( الإبل عز لأهلها، والغنم بركة، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة )، وهذا الحديث إخوتي الكرام رواه البزار أيضاً كما في مجمع الزوائد في الجزء الخامس صفحة تسع وخمسين ومائتين من رواية حذيفة لكن في الإسناد الحسن بن عمارة ، قال عنه الإمام الهيثمي في المجمع: ضعيف، وقال عنه الحافظ في التقريب: متروك، أخرج حديثه الترمذي وابن ماجه ، وكان الحسن بن عمارة قاضي بغداد.

    من بركة الغنم مشروعية الصلاة في مرابضها

    والأحاديث في ذلك كثيرة إخوتي الكرام، ففي مسند البزار بسند رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عبد الله الرازي وهو ثقة كما قال الإمام الهيثمي في المجمع، وهو صدوق كما قال الحافظ في التقريب، وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة إلا الإمام النسائي من رواية البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الغنم بركة).

    والحديث رواه أبو داود بإسناد حسن في سننه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ( أنه سئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ ) الحديث من رواية البراء بن عازب أيضاً، لكن هناك رواية البزار : (الغنم بركة)، وهذه رواية أبي داود : ( سأل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة )، وحقيقة فيها بركة، وهي مباركة، وقد قال حبر الأمة وبحرها وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري صفحة أربع وثمانين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: عجبت للكلاب والشاء، يعني الغنم، إن الشاء يذبح منها في السنة كذا وكذا، ويهدى كذا وكذا، والشاء أكثر منها، والكلب تضع الواحدة كذا وكذا، يعني: الكلبة عندما تلد تلد عدد ثلاثة أو أكثر، والغنم الغالب على ولادتها واحدة وإن زادت إلى اثنين، وما زاد على اثنين في حكم الندرة، ثم يذبح منها في العام كذا وكذا، وما يخلو يوم من ذبح مئات بل ألوف وإن قلت ملايين لا تبالغ، ومع ذلك سبحان من بارك فيها، لو أن هذا الذبح استعمل في الكلاب لما بقي كلب من زمن، يعني: هي مع عدم إعمال السكين فيها وأكل لحمها سبحان من قلل عددها.

    يقول ابن عباس رضي الله عنه: عجبت للكلاب والشاء، حقيقة أمر عجيب، لكن هذا بارك الله فيه، وما بارك الله فيه لا يمكن أن ينقطع ولا أن يقل، هذا مبارك، وأما تلك فهي نحسة نجسة، نعوذ بالله منها شر المخلوقات، فلذلك ما وضع الله فيها البركة، فمع كثرة توالدها ترى قلة عددها، وأما هذه مع قلة عدد توالدها سبحان الله تنمو كما ينمو الدود، الغنم من أين تأتي؟ تأتي من عند الكريم الوهاب سبحانه وتعالى بغير حساب.

    ( سئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة )، ولذلك اختار الله لأنبيائه على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه رعاية الغنم، من أجل أن يحصل فيهم هذه البركة، ولأجل أن يحصل فيهم هذا الخلق الكريم في رعاية هذا الحيوان البهيم الذي هو مبارك مسكين أنيس، هو خير الحيوانات وأكثرها أنساً ولطافة، فاختار الله لأنبيائه هذا، ثم بما أنها فيها هذا الأمر تحتاج إلى حنو وسعة صدر وحسن رعاية، ضعيفة إذا انقض عليها الذئب يأكلها من أولها لآخرها، أما الإبل إذا رآه الذئب يهرب منه، ولو أن الذئب اقترب من الإبل لضربه بيده فقطعه قطعاً لا تعد ولا تحصى، أما هذه المسكينة قد يأتي ذئب واحد إلى زريبة غنم لا يترك منها شاة حية، فتحتاج إلى رعاية.. إلى حنو.. إلى شفقة مدة حراستها ورعايتها، وهكذا دعوة الله تحتاج إلى مواصلة ومواظبة، ليس هناك غفلة ولا دعة ولا راحة.

    سكينة أهل الغنم وما يقابله من خيلاء وجفاء أهل الإبل

    يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]، ليس هذا وقت تدثر ووقت راحة ووقت كسل ووقت فتور، هذا وقت جد ونشاط، وأنت كنت ترعى الغنم، ثم أكرمك الله جل وعلا بعد ذلك برعاية الإبل ليحصل فيك وصف السيادة كما قلت، وهذا حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام رعى الغنم ثم رعى الإبل كما سيأتينا هذا في الحديث الصحيح إن شاء الله.

    إخوتي الكرام! لذلك كما قلت اختار الله لأنبيائه رعاية الغنم ليحصل في الأنبياء السكينة والرحمة والرأفة والرعاية التامة للأمة، وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن كل من رعى الغنم وكان معها سيكون فيه سكينة، وهذا الوصف سينتقل إليه، وكما قال أئمتنا: الصاحب ساحب، إلى الخير أو إلى الشر، وأنت عندما تكون مع هذه الحيوانات الأليفة المسكينة الطيبة ستسري فيك تلك السكينة، وسينتقل إليك ذلك الخلق.

    ثبت في المسند والصحيحين، والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ، والإمام الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر)، (السكينة في أهل الغنم، والفخر) وهو: تعداد محاسن الآباء على حسب أعراف الجاهلية، (والخيلاء) التعالي والتكبر على الناس، (في أهل الخيل والإبل الفدادين) جمع فداد، والفداد هو: الذي يعلو صوته في إبله وخيله وحرثه، مأخوذ من الفديد وهو الصوت الشديد، الفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر، وأهل الوبر لأن الغالب على من يرعى الإبل أن يكون في البادية، يقال بمقابل الحاضرة الذين يقال لهم: أهل المدر، مدر ووبر، أهل الوبر فيهم فخر وخيلاء، أهل الخيل والإبل الفدادين الذين يصيحون بأصواتهم في هذه الإبل عند زجرها، وجمعها ورعايتها.

    وفي بعض روايات صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أصحاب الشاء)، وثبت في المسند والصحيحين من رواية ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين)، كما قلت جمع فداد، وهو الذي ينعق ويصيح ويرفع صوته، (إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل)، فاختار الله لأنبيائه على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه رعاية الغنم ليكون فيهم السكينة والرحمة، وحسن الرعاية والتعهد التامين، أما الإبل فالغالب كما قلت من كان معها ورعاها سيصاب بجفاء وغلظة، ويحتاج رعايتها إلى البعد عن المدر واللحوق بأهل الوبر، ( ومن بدا جفا ) كما قال المصطفى عليه صلوات الله وسلامه.

    ولذلك ثبت في المسند وسنن أبي داود والنسائي والترمذي ، والحديث رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى، وانظروه في الجزء العاشر في السنن الكبرى صفحة واحد ومائة، ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وأبو نعيم في حلية الأولياء من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتَتَن أو افتُتِن )، (من سكن البادية جفا) أي: صار فيه جفاء وبعد عن العلم؛ لما في تلك الحالة والطبيعة من غلظ وقسوة، إبل وبادية كيف سيكون حاله؟! (ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن)، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.

    والحديث قال: وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه الترمذي رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند والبزار ، ورواه أبو داود في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن)، ثم زاد جملة رابعة: (وما ازداد عبد من السلطان دنواً)، وفي رواية: (قربى إلا ازداد من الله بعداً).

    والحديث أورده الإمام الهيثمي في المجمع من رواية أبي هريرة ، وهو في سنن أبي داود ، والأصل ألا يورده؛ لأنه يذكر الزوائد على الكتب الستة، ثم قال الإمام الهيثمي معتذراً عن فعله: لم أجده في نسختي من سنن أبي داود ، أي حديث أبي هريرة ، نسب إلى أن أبا داود أخرجه وقال: لكن لم أجده في نسختي من سنن أبي داود ، وهو كما قلت لكم موجود في سنن أبي داود .

    إذاً من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن، افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً ودنواً إلا ازداد من الله بعداً، إذن هذا كله يشير إلى أن الغلظ والجفاء والقسوة في أهل الوبر في الفدادين، ولذلك اختار الله لأنبيائه الطيبين المباركين على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه رعاية الغنم ليحصل فيهم السكينة والليونة والرحمة والرأفة وحسن التعهد والرعاية.

    إخوتي الكرام! البحث يحتاج إلى تكملة فيما يتعلق بهذه القضية الأولى لأنتقل بعدها إلى رعاية نبينا عليه الصلاة والسلام للإبل بعد أن رعى الغنم، ثم ننتقل إلى الأمر الثاني فيما يتعلق بشهادة أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755986424