إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [20]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الاستعانة بالجن كالاستعانة بالإنس، فما جاز منها في حق الإنس فهو في حق الجن جائز، وما منع في حق الإنس منع في حق الجن. وقد سخر الله سبحانه وتعالى لسليمان الشياطين، وكان يستعملهم في أعمال متنوعة فمنهم البناء، ومنهم الغواص لاستخراج اللؤلؤ وغيره، ومن خالفه منهم قرنه في الأصفاد. ومن أعمال الشياطين لسليمان بناؤهم المحاريب وهي القصور الشامخة أو المساجد العظيمة.

    1.   

    قصة سليمان مع الجن في سورة سبأ

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    فكنا نتدارس مبحث صلتنا بالجن، وصلة الجن بنا، وهذا المبحث كما قلت يقوم على أربعة أمور:

    أولها: حكم استعانة الإنس بالجن.

    وثانيها: حكم المنافعة بين الإنس والجن.

    وثالثها: تلبس الجني بالإنسي.

    ورابعها: زواج الإنس من الجن.

    وهذه الأمور كنا نتدارس أولها ألا وهي الاستعانة بالجن، وما حكم ذلك؟

    وخلاصة الكلام في ذلك كما تقدم معنا: أن استعانة الإنس بالجن كاستعانة الإنس بالإنس تماماً، فالاستعانة بهم فيما هو مشروع مشروعة، والاستعانة بهم فيما هو ممنوع ممنوعة، وكنت أقرر بأن الله قد ذكر نموذجاً لاستعمال الجن من قبل الإنس في كتابه كما جرى لنبيه وعبده سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما استعمل الجن، وقد سخرها الله له، فذكرت الآيات في سورة الأنبياء، وانتهينا من توضيح معناها ودلالتها، وكذلك الآيات التي في سورة النمل، وتقدم معنا أن الجن من جنود نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومنهم أحد العفاريت الذي قال له: أَنَا آتِيكَ بِهِ [النمل:39] بالنسبة لعرش بلقيس قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39]، والموضع الثالث في سورة سبأ وانتهينا أيضاً من توضيح معناها ودلالتها وأن الجن كانوا يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] إلى آخر الآيات الكريمات.

    المقصود بالمحاريب التي عملها الجن لسليمان

    في هذه الآيات من سورة سبأ يضاف حكم شرعي ألا وهو ما يتعلق بالمحراب الذي يوجد في المساجد، في سورة سبأ يقول الله: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13] ، والمحاريب جمع محراب، والمراد منه القصور أو المساجد، فقد فسر بالأمرين، يعملون له مساجد واسعة، كما استعملهم في بناء المسجد الأقصى، ويبنون له القصور الشامخة المرتفعة، فالمحراب نسبة إلى هذا الأمر، وقلت: يطلق المحراب على العلية، كما يطلق على أعلى المجلس، وأحسن مكان فيه.

    وأما المحراب الذي جرى عليه عرف الناس أعني المكان المخصوص الذي يكون في وسط المسجد علامةً على القبلة، فليس المراد من هذه الآية الكريمة، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13].

    حكم المحاريب المتخذة في المساجد

    وهنا سؤال: هذه المحاريب التي جعلت في المساجد ما حكمها؟

    أولاً: لم يكن هناك محراب في مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، وإنما طرأ هذا المحراب في العصور المتأخرة في عهد بني أمية، ثم فشا بعد ذلك وجود المحاريب في المساجد، من أجل أن يكون علامةً على القبلة، لكن لم ينتبهوا إلى ما فيه من محظور التشبه بأهل الكتاب، فقد كانوا يزعمون أن في محراب دور العبادة طاقة يدخل فيه الإمام الذي يصلي بهم، وهم يأتمون به أن فيه مزية، فجعل ذلك في المساجد كما قلت في العصور المتأخرة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام علامةً على القبلة، وبإمكاننا أن نجعل علامةً على القبلة دون أن نجعل محراباً يدخل فيه الإمام، بإمكاننا أن نجعل في وسط المسجد طاقة يسيرة بحيث لا يدخل فيها الإمام ولا يمكن أن يدخل، تدل على أن جهة القبلة في هذا الاتجاه حتى لو دخل أحد غريب لا يعرف اتجاه القبلة فيعلم جهتها، أما ما يعمل في أيامنا من محراب يكون الإمام في وسطه ولا يرى عن يمينه ولا عن يساره، فهذا ممنوع والعلامة مطلوبة في المساجد حتى لا تشتبه جهة القبلة، لكن لا بد أن تكون بما هو مشروع لا بما هو ممنوع.

    وأنا أخبركم عن نفسي عندما ذهبت إلى مصر ودخلت الجامع الأزهر، بمجرد أن دخلت إلى صحن المسجد بدأت مباشرةً بصلاة ركعتين، فصليت في الجهة المقابلة للقبلة تماماً وكان ظهري مقابلاً للقبلة، ووجهي للباب الذي دخلت منه، أظن أن القبلة في هذه الجهة على حسب تخيلي، وبينما أنا أصلي جاء بعض الإخوة فقال: يا مولانا أنت تصلي في الاتجاه المعاكس، فقطعت الصلاة، وقلت: أين اتجاه القبلة؟ فدلني عليها، فقلت: جزاك الله خيراً.

    حقيقةً: لو أنني دخلت إلى باطن المسجد لعرفت القبلة بواسطة المنبر والمحراب الموجود.

    إذاً: لو جعل محراب دون أن يكون فيه تشبه بأهل الكتاب لكان أولى.

    ذكر الآثار التي تحذر من وجود المحاريب في المساجد

    وردت الآثار عن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه، وعن الصحابة الأبرار في التحذير من وجود المحراب في المساجد.

    من هذه الآثار ما رواه البيهقي في السنن الكبرى، في الجزء الثاني، صفحة تسع وثلاثين وأربعمائة، في كتاب الصلاة باب كيفية بناء المساجد، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، وقال عنه السيوطي في الرسالة التي سماها إعلام الأريب لحدوث بدعة المحاريب: إسناده ثابت، ولفظ الحديث من روايات عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا هذه المذابح) يعني: المحاريب، وأهل الكتاب كانوا يسمونها المذابح، يزعمون أن الإنسان يذبح فيها نفسه لربه؛ ليس ذبحاً حسياً، وإنما عن طريق المجاهدة، فإنه إذا دخل في المحراب يتخلى عن الدنيا ويذبح الشهوات والمغريات ويتفرغ لطاعة رب الأرض والسموات.

    وقد روي موقوفاً -أيضاً- على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في مصنف ابن أبي شيبة في الجزء الثاني صفحة تسع وخمسين في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الطاقة، والطاقة هي فتحة كالمحراب، فهي مذابح وطاقة ومحراب.

    وكان إبراهيم النخعي لا يقوم فيها، وروى هذا الأثر عن عبد الله بن مسعود رواه إبراهيم النخعي بلفظ: قال عبد الله بن مسعود : اتقوا هذه المذابح يعني: المحاريب.

    تقدم معنا أن النخعي لم يلق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهنا يقول: قال عبد الله بن مسعود ، وتقدم معنا في ترجمته أنه عندما قال له الأعمش : سم لي من تروي عنهم عن عبد الله بن مسعود ، فقال: إذا ذكرت من حدثني عن عبد الله بن مسعود فهو الذي سميت، وإذا لم أذكر فقد حدثني عنه جماعة، ذكر هذا ابن رجب في كتابه العلل صفحة واحدة وثلاثين ومائتين، وتقدم معنا هذا عند الحديث السادس عشر في الباب الثاني عشر من أبواب الطهارة.

    ثم قال ابن رجب : وهذا الأثر عن إبراهيم النخعي يقتضي ترجيح المرسل على المسند، لأنه يقول: إذا أسندت فهو من طريق واحد، وإذا لم أسند أي: أرسلت، فهذا حدثنيه جماعة، لكن فيما أرسله النخعي خاصةً عن عبد الله بن مسعود ، فإذا قال النخعي : عن عبد الله بن مسعود ولم يذكر الواسطة بينه وبين عبد الله بن مسعود فهذا أعلى مما يقال: حدثني فلان وفلان عن عبد الله بن مسعود ، وتقدم معنا أن الإمام أحمد صحح مراسيل النخعي بلا استثناء، وقال: مراسيله لا بأس بها، فإذا رفع النخعي الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام لا إلى صحابي لم يدركه فهو مقبول لجلالته ومكانته.

    قال ابن حجر في تهذيب التهذيب في الجزء الأول صفحة تسع وسبعين ومائة: وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى تصحيح مراسيل إبراهيم النخعي ، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن عبد الله بن مسعود خاصةً، وهذا مقبول بالاتفاق، لكن الكلام في غير ذلك، فجماعة من الأئمة قالوا: مراسيله أيضاً مقبولة وحجة، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل وقال البيهقي أيضاً: هذا خاص فقط في مراسيله عن عبد الله بن مسعود .

    وخلاصة الكلام: فهذا الأثر من طريق النخعي عن عبد الله بن مسعود مقبول قطعاً وجزماً، وهو صحيح؛ لأنه رواه عن عبد الله بن مسعود بدون أن يذكر الواسطة فقد حدثه عنه جماعة، وهذا الأثر في حكم شرعي لا يمكن أن يقوله هذا الصحابي بناءً على رأي، ويشهد له ما تقدم من الأثر المرفوع، والعلم عند الله جل وعلا.

    وأثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رواه البزار أيضاً كما في مجمع الزوائد في الجزء الثاني صفحة خمس عشرة بسند رجاله موثقون، وفي كشف الأستار في الجزء الأول صفحة عشر ومائتين روي عن علقمة ، وهو أبرز تلاميذ عبد الله بن مسعود ، قال: كره عبد الله بن مسعود الصلاة في المحراب، وقال: إنما كانت المحاريب للكنائس، فلا تشبهوا بأهل الكتاب.

    إذاً: معنا أثر ابن مسعود الموقوف عليه، عند البزار وابن أبي شيبة وأثر عبد الله بن عمرو مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، هذان الأثران الصحيحان الثابتان يشهدان لأثر ثالث مرفوع رواه ابن أبي شيبة في مصنفه في المكان المشار إليه في الجزء الثاني صفحة تسع وخمسين، عن موسى بن عبد الله الجهني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال هذه الأمة -وفي رواية- لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا مذابح كمذابح النصارى)، يعني: محاريب كمحاريب النصارى.

    وهذا الحديث إسناده صحيح لكنه منقطع في آخره، فـموسى بن عبد الله الجهني من أتباع التابعين، لم يرو عن أحد من الصحابة، نعم هو ثقة عابد، توفي سنة أربع وأربعين ومائة للهجرة، وحديثه في صحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود ، وعليه فحديثه لو كان تابعياً لكان مرسلاً، ولكن هو دون التابعين وسقط اثنان من السند على أقل تقدير، وإذا سقط راويان على التوالي فالحديث يقال له: معضل؛ لأنه أعضل الأمر فيه واشتد اللبس والخفاء في إسناده بذهاب راويين، إذا سقط راو واحد يشكل عليك أمر الإسناد وتتوقف فيه، فإذا ذهب راويان فبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعي وصحابي على أقل تقدير، وقد يكون أكثر من تابعي فالعلم عند الله، وهذا الأثر يمكن أن ينجبر، برواية عبد الله بن عمرو وأثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين؛ لأنه هنا لا يوجد عندنا ضعف بسبب كذب راوٍ، إنما بسبب الانقطاع وجهالة الراوي، فالأمر أيسر مما لو علم الراوي وكان متروكاً أي: روايته منكرة، أو كان كذاباً، فلا ينجبر بحال، وأما هنا فبسبب سقط راو، فإذاً: وجد ما يشهد له فينجبر إن شاء الله.

    و موسى بن عبد الله الجهني يقول عنه مسعر بن كدام كما في تهذيب التهذيب: ما رأيته إلا وهو في اليوم الآتي خيراً منه في اليوم الماضي؛ ولذلك وصفه ابن حجر فقال: ثقة عابد -ينعته بالعبادة- من أئمة الخير والصلاح والزهاد العباد، فالرجل في اجتهاد دائم، وعبادة وتقدم، وهذا حال الأسياد رضي الله عنهم أجمعين.

    وهناك آثار أخرى كثيرة بمعنى ما تقدم في مصنف عبد الرزاق في الجزء الثاني صفحة اثنتي عشرة وأربعمائة، ومصنف ابن أبي شيبة في الموضع المشار إليه آنفاً، منها أثر علي رضي الله عنه وإسناده ضعيف: أنه كره الصلاة في الطاقة أي: المحراب.

    ومنها عن سالم بن أبي الجعد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدون أن من أشراط الساعة: أن تتخذ المذابح -يعني المحاريب- في المساجد.

    ومنها أثر أبي ذر رضي الله عنه قال: من أشراط الساعة: أن تتخذ المذابح في المساجد.

    قال موسى بن عبيدة : وقد رأيت مسجد أبي ذر -وكان في الربذة- فلم أر فيه محراباً، ولم أر فيه طاقة.

    و موسى بن عبيدة قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في التقريب: ضعيف، وكان عابداً، وتوفي سنة ثلاث وخمسين ومائة، وهو من رجال الترمذي وابن ماجه ، وما ورد في سلسلة الأحاديث الضعيفة صفحة ثمان وأربعين وأربعمائة بعد أن ذكر قول موسى بن عبيدة : رأيت مسجد أبي ذر ، فلم أر فيه طاقة، ثم قال: هذا إسناده صحيح، فهو غير صحيح كما قلت لكم؛ لأن موسى بن عبيدة ضعيف، ولكن معنى الأثر ثابت كما تقدم معنا.

    وممن كره المحاريب سالم بن أبي الجعد وهو ثقة من التابعين، توفي سنة سبع أو ثمان أو تسع وتسعين وقيل: سنة مائة ولم يجاوزها قال: لا تتخذوا المذابح في المساجد، أي: المحاريب.

    ومنها عن إبراهيم النخعي : أنه كره المحراب في المسجد، وقال الثوري : ونحن نكرهه.

    وفي مصنف عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان بن طرخان ، قال: رأيت الحسن البصري جاء إلى ثابت بن أسلم البناني فلما حضرت الصلاة قال الحسن لـثابت : تقدم فصل، قال: والله لا أتقدم عليك، بل تقدم أنت فصل، فتقدم الحسن فصلى واعتزل الطاقة. أي لم يدخل في المحراب، قال المعتمر : ورأيت أبي -وهو سليمان بن طرخان - وليث بن أبي سليم لا يصليان في الطاقة.

    وروى أيضاً ابن أبي شيبة في مصنفه عن ليث عن الضحاك أنه قال: أول شرك كان في هذه الأمة: اتخاذ المحاريب في المساجد. يقصد: أول موافقة للمشركين، وليس الشرك الذي يخرج من الملة.

    هذه آثار ستة مع الآثار الثلاثة المتقدمة وكلها تشهد على المنع من وجود المحراب في المسجد، ولا مانع من وضع علامة في المسجد كالطاقة بمقدار عشرة سنتي بحيث لا يتسع أن يدخل فيه قدم ولا رأس.

    ذكر من قال بجواز المحاريب في المساجد

    ثم إن ابن أبي شيبة بعد أن أورد هذه الآثار السابقة في المكان المتقدم أتبعه بباب آخر فقال: باب من رخص الصلاة في الطاقة، ثم نقل عن قيس بن أبي حازم أنه كان يصلي في الطاقة وهو المحراب.

    وفي مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه كان يصلي في الطاقة أيضاً.

    قال عبد الرزاق في مصنفه: ورأيت معمراً -وهو شيخ عبد الرزاق - إذا أمنا يصلي في طاق الإمام، أي يدخل في المحراب ويصلي.

    وفي مصنف ابن أبي شيبة عن سويد بن غفلة ، وعن أبي رجاء العطاردي ، وعن البراء بن عازب من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أنهم صلوا في الطاق.

    كيفية الجمع بين آثار الكارهين لاتخاذ المحاريب في المساجد والمجيزين لذلك

    قد يقول قائل: فما وجه الجمع إذاً بين هذه الآثار؟

    والجواب: كما قرر أئمتنا الفقهاء: أن الصلاة في الطاق مكروهة ومذمومة إلا لضرورة، ففي الفتاوى الهندية من فقه السادة الحنفية في الجزء الأول صفحة ثمان ومائة يقول الحنفية: يكره قيام الإمام وحده في الطاق وهو المحراب، ولا يكره سجوده فيه إذا كان قائماً خارج المحراب، وإذا ضاق المسجد بمن خلف الإمام فلا بأس بأن يقوم الإمام في الطاق، لأنه سيوفر على المصلين صفاً، وعليه فلعل من فعل ذلك من السلف فعله للضرورة، كأن يضيق المسجد فيتقدم في الطاق من أجل أن يتسع المسجد للمصلين.

    وفي المغني لـابن قدامة في الجزء الثاني صفحة سبع وأربعين قال: ويكره أن يدخل الإمام في طاق القبلة إلا أن يكون المسجد ضيقاً.

    الحكمة من كراهة المحاريب في المساجد

    وعلة الكراهة عدة أمور:

    أولها -وهو أشنعها- التشبه بأهل الكتاب.

    ثانيها: تميز الإمام عن المأمومين، ولا يجوز أن يتميز عليهم بشيء، فلا يصل أعلى منهم، ولا أنزل منهم، ولا يتقدم عليهم بأن يدخل في هذه الطاق أي: في هذا المحراب.

    والأمر الثالث: استتار الإمام عن المأمومين، فعندما يدخل في الطاق يستتر عنهم، فلا يراه من على يمينه، ومن على شماله -أيضاً-، فلو كان بارزاً لرآه أهل الصفوف خلفه.

    الخلاصة في معنى المحاريب وحكمها

    بناء على ما سبق فقول الله جل وعلا: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13]، ليس المراد منها محاريب المساجد، بل المقصود منها إما قصور عالية شاهقة، وإما مساجد عظيمة فخمة، ومنها المسجد الأقصى.

    ومعنى المحراب في اللغة: العلية وصدر المجلس من الأرض، ويطلق على القصور والأبنية الشامخة المرتفعة.

    وأما المحراب بالمعنى الاصطلاحي العرفي فهو حادث في مساجد المسلمين بعد عهد نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    ولو وجد من يحيي السنة ويميت هذه البدعة في المساجد لكان حسناً، لكن بدون تشويش وبدون ضوضاء؛ لأن المحراب صار عند الناس من عمدة المسجد، فلا يمكن أن يشيد مسجد بلا محراب، ولعله لو وجد مسجد بلا محراب لقالوا: هذا ليس بمسجد، وسبب ذلك تتابع الناس على التقليد الأعمى بلا بصيرة وبلا بينة، فلو منع وجوده من أول الأمر لكان أولى وأحسن، هذا ختام الكلام في هذا الباب والعلم عند الله عز وجل.

    1.   

    قصة سليمان في سورة ص وما فيها من ذكر استعماله للجن

    نعود إلى الآيات التي ذكرت استخدام نبي الله سليمان للجن ووصلنا إلى الموضع الرابع الذي ذكر الله فيه استخدام نبيه سليمان للجان وهو في سورة ص، يقول رب العباد: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ [ص:30-31]، عرضت عليه الصافنات الجياد في العشي بعد الزوال، والصافنات: هي الخيول جمع صافن، وهي التي تقوم على ثلاث قوائم، وترفع الرابعة إما الرجل وإما اليد، وتضع طرف الحافر على الأرض، هذه يقال لها: خيل صافنة، وهذا من علامات الخيل الكريمة العظيمة.

    والجياد إما أن يكون من الجودة وهي الخيل الجياد المسرعة، وإما أن يكون من الجياد التي هي طويلة العنق، وهذا من الصفات المستحسنة أيضاً في الخيل، والأول أولى فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:32-33] .

    ومعنى الآية باختصار كما قرر أئمتنا الأبرار: عندما عرضت عليه هذه الخيل في العشي قيل: إنه عندما بدأ يتفقد هذه الخيل -وهي الآلة المفضلة في القديم للجهاد، ولذلك كره الإمام أبو حنيفة أكلها فهي آلة الجهاد ولا يصلح للكر والفر غيرها، وإذا أعمل الناس سكاكينهم فيها فنيت، فعلى أي شيء يقاتلون خاصة أن الخيل يقاتل مع صاحبه، فإذا وجهته للعدو ضرب بيديه في صدره فألقاه على الأرض قبل أن تضربه أنت بسيفك، واللحم كثير في غير الخيل من سائر الأنعام الأخرى- عرضت على هذا النبي الصالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام حتى توارت بالحجاب، قيل: الضمير يعود إلى الشمس، ولم تذكر لأنه يوجد ما يدل عليها وهو العشي (وتوارت بالحجاب) أي: غربت الشمس وانقضى النهار، ولم يقم بورده الذي عليه من ذكر الله وأداء الصلاة نسياناً، شغل بتفقد أمر الخيل فنسي أمر الصلاة دون تعمد، وكل إنسان يذهل وينسى، ولا إثم عليه ولا حرج، و(إذا نام الإنسان عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فذلك وقتها لا وقت لها إلا ذلك).

    إذاً: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32] ، أي: الشمس توارت وغابت.

    المقصود بمسح نبي الله سليمان للخيل المعروضة عليه

    قال تعالى: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:33] ، فطفق يعني: يمسح سوقها وأعناقها، قيل: يمسحها بالسيف، وعلى هذا فللمسح كيفيتان كل منهما مقررة في كتب أئمتنا الكرام:

    الأولى: مسحها عن طريق الضرب الخفيف بسيفه ليجرحها جرحاً يشعرها به؛ ليعلم أن هذه وقف في سبيل الله لا يجوز لأحد أن يتملكها، كما تشعر الهدي في الحج، ولا حرج في ذلك، إذاً معنى فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:33] ، أي يمسحها بالسيف في أعناقها وفي سوقها من أجل أن يظهر أن هذه المشعرة المعلمة وقف في سبيل الله لا يتملكها أحد ولا تباع، وكأن هذه الخيل عندما أشغلته عن طاعة الله وقفها وحبسها لله وأخرجها عن ملكه، فتصدق بها لله رب العالمين.

    الكيفية الثانية: أن المسح بالسيف في قوله: فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:33] أي ضرب رقابها وقطع سوقها، أي عقرها وذبحها من أجل أن يأكلها الفقراء والمساكين والمسلمون، وإنما فعل هذا حرقة لدينه، وغضباً لربه عندما تلهى بها عن واجبه، ولا منقصة عليه فيما حصل له، فالإنسان إذا شغل عن صلاة نسياناً فلا إثم عليه، وهذا من قوة عزيمته عليه الصلاة والسلام.

    وقيل: طفق مسحاً بالسوق والأعناق على القول بأن: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32] أي: توارت الخيل، فالضمير يعود للخيل لا للشمس، فكأنها عرضت عليه حتى ابتعدت عنه فما عاد يراها فقال: ردوها مرةً أخرى لأستعرضها ولتكون أمامي فهي كريمة لها شأن ونحن نقاتل عليها في سبيل الله، فلما عادت عليه طفق يمسح بيده الكريمة المباركة سوقها وأعناقها براً بها وإكراماً لها وشفقةً عليها، وحنواً لها، بدأ يمسحها كحال الرجل الرحيم عندما يمسح دابته فإنه يمسح سوقها، ويمسح أعناقها، ويلاطفها، ويرحمها، ويشفق عليها، والله أعلم بالذي وقع، لأنه لا يوجد نص صريح عن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، وهذه الأقوال الثلاثة منقولة عن سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

    إذا: حتى توارت بالحجاب أي الخيل، فلم يشغل نبي الله سليمان عن صلاة، ولا عن ذكر، ولا عن عبادة، بعد أن توارت الخيل فقال: أعيدوها مرةً ثانيةً لأجل أن ألاطفها، وأن أشفق عليها، وأن أرحمها فبدأ يمسحها، وإذا قلنا: توارت أي: غابت الشمس، وفاته ما هو واجب عليه نسياناً وذهولاً فردوها عليه، فإما أنه عقرها وذبحها كما قلت تقرباً إلى الله، وإما أنه أشعرها وأوقفها.

    المقصود بالفتنة في قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب)

    المعنى الأول لفتنة سليمان

    المعنى الأول: هو الذي عليه جمهور أئمتنا وهو أحسن ما يحمل عليه كلام ربنا، ومال إليه الألوسي واستظهره وارتضاه شيخنا كما قرره في أضواء البيان، وخلاصة هذا القول في الفتنة التي حصلت له: أنه عندما عزم ونوى أن يطوف في ليلة على ستين أو سبعين أو تسعين أو تسع وتسعين أو مائة من نسائه -كما يأتينا بيان ذلك في الروايات الثابتة في الصحيح- لتحمل كل واحدة فتلد رجلاً فارساً يقاتل في سبيل الله ولم يقل: إن شاء الله، فالله تعالى عاتبه على ذلك، وما حملت من المائة إلا واحدة ولدت شق إنسان أي: نصف إنسان ميت ألقي على كرسيه عندما ولدته أمه، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34] هذا بسبب عدم استثنائه وعدم تفويضه الأمر إلى مشيئة ربه، والله تعالى يقول لنبينا عليه صلوات الله وسلامه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24].

    فنبي الله سليمان كما في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لأطوفن الليلة على ستين امرأة).

    وفي الصحيحين وسنن الترمذي : (على سبعين امرأة)، وفي الصحيحين وسنن النسائي : (على تسعين امرأة)، وفي صحيح البخاري : (على تسع وتسعين امرأة)، وفي المسند وصحيح البخاري وسنن الترمذي : (على مائة امرأة).

    (لأطوفن الليلة عليهن فتحمل كل واحدة منهن فتلد غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله)، قال عليه الصلاة والسلام: (فلو قال: إن شاء الله لكان دركاً لحاجته، ولولدت كل واحدة غلاماً فارساً يقاتلون في سبيل الله)، فلما لم يقل: إن شاء الله ولم يستثن عوتب من قبل الله، فما قدر الله من وطئه لنسائه في تلك الليلة حملاً إلا لواحدة، وما ولدت ولداً كاملاً حياً وإنما ولدت نصف إنسان، كما قال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ [ص:34] هذا المولود الذي هو جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، أي أناب سليمان إلى الله، وعلم أن هذا بسبب عدم استثنائه وتفويضه الأمر إلى مشيئة ربه، وهذا ليس فيه معصية ولا سيما إذا جرى من باب الذهول والنسيان، ولكن مقام الأنبياء جليل وكبير، فأدنى تقصير يؤثر فيه، كالثوب الأبيض الناصع في البياض إذا وقع عليه أدنى غبش كدره.

    وأما الخلاف في تعدد النساء من ستين إلى مائة، فقال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء السادس صفحة ستين وأربعمائة: الستين حرائر وما زاد فكن إماء، أو العكس الستون إماءٍ وما زاد فكن حرائر، قال: وأما من قال: إنهن سبعون فهذا للتكثير، وهن في الأصل ستون حرائر والباقي إماء، أو ستون إماء والباقي حرائر، قال: وأما من قال: مائة فكن دون المائة ولكن جبر الكسر، وأما من قال: إنهن تسع وتسعون فهذا أخبر فيه عن الحقيقة ولم يجبر الكسر.

    إذاً: ستون زوجة حرائر، وتسع وثلاثون من الإماء، هذا على القول بأنهن تسع وتسعون مجموع العد، أو العكس ستون من الإماء وتسع وثلاثون زوجة من الحرائر، والسبعون للتكثير كما قلت، والتسعون لإلغاء الكسر، والمائة لجبر الكسر، وتسع وتسعون للإخبار عن الحقيقة، أي: عن العدد الكامل من حرائر وإماء.

    هذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله هو في الحقيقة جواب سديد، لولا رواية السبعين، فقوله: إنها للتكثير يحتاج إلى دليل، ولذلك كان الجواب الأولى من هذا ما قاله الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الجزء الحادي عشر صفحة عشرين ومائة قال: لا تعارض بين هذه الأعداد؛ لأنها مفهوم عدد وليس بحجة، فلا اختلاف بين ذكر القليل والكثير من هذه الأعداد، فإذا كان عنده مائة -مثلاً- فأخبر عنها تارة بأنها دون الستين أو أنها سبعين أو تسعين أو أنها تسعة وتسعين، ثم مائة فكل ذلك صحيح؛ لأن هذا مفهوم عدد، فإذا ذكر أنه عنده ستون امرأة لم يمتنع أن يكون عنده مائة، لأن هذا مفهوم عدد ولا حجة في هذا المفهوم، وعليه فلا تعارض بين هذه الروايات، والعلم عند رب الأرض والسموات.

    وعلى كل حال فالله جل وعلا يعطي أنبياءه من القوة ما لا يعطيه لغيرهم وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ [ص:34] ، هذه هي فتنته عندما لم يستثن ما ولدت منهن إلا واحدة ولدت نصف إنسان، فقال بعد ذلك: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] ، أناب إلى الله، ولما علم أنه فرط في الاستثناء طلب من الله جل وعلا علامة تكون برهاناً له ولغيره على أنه مكرم عند الله، وأنه نبي لله حقاً وصدقاً.

    واعلم أن الأنبياء لا يطلبون شيئاً إلا بعد إذن من الله، فكونه طلب من الله أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده هذا مما أذن الله له أن يسأله فسأله، ولذلك لا داعي لما أثاره بعض الناس: كيف يتمنى شيئاً ويمنع الآخرين منه ويريد أن يحصر هذا الأمر فيه، وقالوا: هذا فيه شائبة حسد؛ لأنه يريد أن يستأثر بالنعم دونهم. والجواب ما ذكرت، وأنه نبي ولا يطلب من الله ذلك إلا بعد إذنه، وطلب ذلك ليكون برهاناً على نبوته، وليكون من معجزاته، فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35]، فأعطاه الله ما أذكره من نعم وما قرره سبحانه وتعالى.

    المعنى الثاني لفتنة سليمان

    والمعنى الثاني للفتنة التي حصلت لنبي الله سليمان أنها فتنة حصلت له في نفسه، وهي أنه مرض وتعب فصار بمثابة الجسد الذي لا روح فيه، كما يقال: لحم على وظن، والوظن هي الخشبة أو الكرسي الذي يوضع عليه اللحم، وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34] وهذه الفتنة مما يحصل للأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فالتجأ إلى الله جل وعلا، فكشف ما به من الضر، ثم أعطاه ما أعطاه من الكرامات.

    الأقوال المردودة حول الفتنة

    أما التفاسير الأخرى فكلها مردودة مثل ما ذكر من أنه كان عنده زوجة أو سرية اسمها جرادة، وأنها كانت تتحسر دائماً على أبويها، فطلبت منه أن ينحت لأبويها تمثالاً، فأمر الجن فنحتوا له تمثالاً في قصره وفي بيته، فبدأت هذه المرأة تسجد لأبويها وتعبدهما من دون الله في غيبة نبي الله سليمان -وهذه خرافات تترتب عليها بعد ذلك خرافات أخرى- فبعد ذلك سلط الله الجن عليه بعد أن كان هو مسلطاً عليهم، فكان عنده بعض العتاة من الجن، وكان نبي الله سليمان إذا دخل إلى الخلاء لقضاء حاجة ينزع خاتمه الذي يتصرف ويحكم بسببه -كما يقولون-، وموضوع الخاتم وهذه القصة كلها فيها من هذا التلبيس والتضليل شيء كبير ولا حقيقة لها، قالوا: فكان ينزع الخاتم ويعطيه لجارية من الجواري، فلما حصل في بيته ما حصل جاء هذا الجني وتقمص صورة نبي الله سليمان، وقال: أين الخاتم؟ فأخذه، فصار بمنزلة نبي الله سليمان وجلس مجلسه، فخرج سليمان عليه السلام بعد ذلك من الحمام وجاء إلى نسائه فطردنه، وقلن له: لا نعرفك من أنت؟ فخرج بعد ذلك هائماً على وجهه إلى شاطئ البحار يلجأ إلى العزيز القهار، والجني يتصرف في ملكه ثم سطا على نسائه ووطئهن في حيضهن، كل هذا ضلال، لعنة الله على مفتريه وعلى واضعه.

    قال: ثم سقط هذا الخاتم من هذا الجني عندما ذهب إلى البحر ليسبح فيه فابتلعته سمكة، فلما أناب نبي الله سليمان إلى ربه ألهمه الله أن يصطاد سمكةً في البحر، فشقها فوجد خاتمه في جوفها، قال: وهذه هي الفتنة. هذا كلام كله باطل وضلال، قائله من الزنادقة الذين يفترون على أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    والتفسير الأول عليه الجمهور، والثاني مقبول، فَتَنَّا سُلَيْمَانَ [ص:34] فتنة الله له: امتحانه له واختباره له ومعاتبته له عندما لم يقل: إن شاء الله فلم يدرك حاجته، بل ولدت له واحدة من مائة من نسائه نصف إنسان ميت.

    فاستجاب الله له فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً [ص:36] رخاء أي ليناً، وتقدم معنا وجه الجمع بينها وبين عاصفة، رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36].

    قال أئمتنا: بعد أن عقر الخيل -على القول بعقرها أو أشعرها وأخرجها من ملكه وسبلها- عوضه الله ما هو خير منها، (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه)، فسخر له الريح بدلاً عن الخيل، فتحمله حيث أراد، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36]، وتقدم معنا قوله تعالى: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12].

    استعمال سليمان للشياطين في أعمال شتى

    قال الله تعالى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:37-38] ، من خلال هاتين الآيتين نجد أن الشياطين على ثلاثة أحوال مع نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام:

    منهم من يسخره في العمل والبناء.

    ومنهم من يغوصون ويستخرجون له اللآلئ والجواهر الثمينة من قعر البحار.

    ومنهم عاص متمرد يصفده سليمان عليه الصلاة والسلام ويقيده بالأغلال في يديه وفي رقبته.

    قال الله: هذا عطاؤنا ومنتنا، والله يعطي من يشاء بغير حساب سبحانه وتعالى، (فامنن) أي تفضل يا سليمان على من شئت، (أو أمسك) أي: وامنع من شئت (بغير حساب)، فلك الخيار ومطلق التصرف فيما وهب لك، فأنت نبي كريم مسدد من قبل الله العظيم، فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص:39] ، ولك في الآخرة منزلة أعظم من ذلك وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:40].

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واشرح صدورنا، ونفس كروبنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم اغفر لوالدينا ولمشايخنا ولمن علمنا، ولمن تعلم منا، اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756342606