إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حث الشرع على النظافة والطهارة، وجعل ذلك آكد في حق من أراد الصلاة، حتى علق صحتها على الطهور، وكما أن الصلاة تحتاج إلى طهارة حسية كذلك الصدقة تحتاج لأن تخرج من مال طاهر، فلا تقبل إن كانت من مال مسروق أو مغلول، فإن الله طيب لا يقبل من العمل إلا الطيب.

    1.   

    نقد قول الترمذي عن حديث: (لا تقبل صلاة بغير طهور): إنه أصح شيء في الباب

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    ذكرنا حديث ابن عمر رضي الله عنهما، الذي رواه الترمذي عليه رحمة الله، في أول باب من أبواب الطهارة، وهو أول حديث في جامعه، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، وفي لفظ: ( لا تقبل صلاة إلا بطهور، ولا صدقة من غلول )، وتقدم معنا ضبط اللفظين، عن شيخي الترمذي : قتيبة بن سعيد ، وهناد بن السري عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.

    وآخر مبحث من مباحث هذا الحديث الشريف هو قول الترمذي : هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وتقدم معنا أن الحديث حسن، ولتعدد طرقه وشواهده يرتقي إلى درجة الصحة، فالحكم عليه بالصحة صحيح، وحق وصواب، لكن قول الترمذي : إن هذا الحديث هو أصح شيء في هذا الباب، قلنا: حول هذا مؤاخذةٌ لطيفة، ووقفةٌ يسيرة، ينبغي أن نعيها، فحديث ابن عمر رضي الله عنهما خرجه مسلم ، ولم يخرجه البخاري ، وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه الترمذي في قوله: وفي الباب، أخرجه البخاري ومسلم ، وعليه فهو أعلى درجة من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وعليه فقول الترمذي : هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، لو اقتصر على قوله رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح لكان أولى، وبينت هذا كما قلت.

    وتقدم معنا أن حديث ابن عمر أخرجه أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه، ورواه ابن ماجه والترمذي، وقلنا: إن ما قاله المجد ابن تيمية عليه رحمات رب البرية في المنتقى من أن الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري ، وأقره على ذلك الشوكاني ، ووافقهم عليه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي عليهم جميعاً رحمة الله؛ فـأبو داود لم يخرج الحديث، ولا النسائي ، كما تقدم معنا.

    وأما حديث أبي هريرة والذي رجح الترمذي حديث ابن عمر عليه، مع أن حديث أبي هريرة هو أقوى من حديث ابن عمر ، فلفظه: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، ( لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ )، ( لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ ) أخرجه الشيخان في صحيحيهما، ورواه أبو داود، والترمذي ، عليهم جميعاً رحمة الله، وهو أقوى من حديث ابن عمر ، وحديث ابن عمر ليس على شرط البخاري من وجوه كما تقدم معنا ففيه سماك بن حرب ، وقد قلنا: إن البخاري لم يخرج له، وهو صدوق، وإنما خرج له تعليقاً، أما أنه خرج له ضمن رجال أسانيد أحاديثه فلا، فليس هو على شرط البخاري ، ولا من رجال البخاري في الصحيح، نعم هذه الجملة وهذا الجزء من هذا الحديث: ( لا تقبل صلاة بغير طهور ) جعلها الإمام الترمذي ترجمة للباب الأول فقال: باب: ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور، وهذه الترجمة -التي هي جزء من هذا الحديث الشريف- جعلها البخاري عليه رحمة الله ترجمةً لباب عنده في أبواب الطهارة، بما أن الحديث لم يصح على شرطه، ثم دلل عليه بحديث أبي هريرة ، ففي كتاب الطهارة من صحيح البخاري ، يقول البخاري : بابٌ: لا تقبل صلاة بغير طهور، وهذه نفس ترجمة الترمذي ، وهو نص حديث النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أورد البخاري حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ )، ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، ( لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ، فقال رجل من أهل حضرموت لـأبي هريرة رضي الله عنه: ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال: فساء، أو ضراط )، وبينت لماذا اقتصر أبو هريرة على بيان الحدث بهذين الأمرين؟

    قال الحافظ ابن حجر : هذه الترجمة (لا تقبل صلاة بغير طهور) كما في الفتح في الجزء الأول، صفحة: (234)، هي لفظ حديثٍ أخرجه الإمام مسلم وغيره عن ابن عمر ، وأخرجه أبو داود وغيره عن أبي المليح عن أبيه كما سيأتينا هنا، وفي الباب عن أبي المليح ، أخرج هذه الرواية أبو داود ، وأخرجها الترمذي ، فلفظ الترجمة مأخوذ من حديث ابن عمر ، ومن حديث أبي المليح عن أبيه.

    قال ابن حجر : وله طرق كثيرة، لكن ليس فيها شيءٌ على شرط البخاري ، أي: أنه لا يوجد طريق من طرق حديث ابن عمر على شرط البخاري ، فلهذا -يقول الحافظ ابن حجر -: اقتصر البخاري على ذكره في الترجمة، وأورد في الباب ما يقوم مقامه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في الصحيحين، وسنن الترمذي ، وأبي داود .

    وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، قوله: (يتوضأ) يدخل في لفظ الوضوء التيمم؛ لأن الوَضوء -بفتح الواو- شاملٌ لما يُتطهر به من ماءٍ، أو تراب، وهذا ما أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، كما في سنن النسائي ، وصحيح ابن حبان ، من رواية أبي ذر رضي الله عنه -قال الحافظ في الفتح: إسنادُ الحديث قوي- قال صلى الله عليه وسلم: ( الصعيد الطيب وَضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين )، الصعيد الطيب هو: ما صعد على وجه الأرض من تراب أو رمل، ( الصعيد الطيب وَضوء المسلم )، يعني: حكمه حكم الماء، فالماء يُتوضأ به، والتراب يتيمم به، ( وَضوء -بفتح الواو- المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين )، وفي رواية في مسند البزار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( الصعيد وضوء المسلم، ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته، فإن ذلك خيراً له ).

    إذاً: قوله: (حتى يتوضأ) يدخل في الوضوء التيمم، والوَضوء -بفتح الواو- شامل للماء الذي يتوضأ به، وبالتراب الذي يتوضأ به في اصطلاح الشرع.

    إذاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أقوى من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، نعم الأحاديث كلها صحيحة، ولكنها تتفاوت في درجات الصحة.

    تقدم معنا أن أرفع الصحيح وأعلاه: ما اتفق عليه الشيخان، ثم ما أخرجه البخاري ، ثم ما أخرجه مسلم ، ثم ما كان على شرط البخاري وحده، ثم ما كان على شرط مسلم ، ثم ما كان صحيحاً ولم يكن على شرط واحدٍ منهما، مما صححه الإمام الترمذي ، أو أبو داود ، أو الحاكم ، أو غيرهم من أئمة الإسلام، والعلم عند الله.

    قال الناظم:

    وأرفع الصحيح مرويهما ثم البخاري فمسلم فما

    شرطهما حوى فشرط الجعفي فمسلم فشرط غير يكفي

    والمقصود بالجعفي البخاري رحمه الله.

    1.   

    شرح قول الترمذي: وفي الباب عن أبي المليح عن أبيه

    وقول الترمذي -وآخر شيءٍ نختم به الكلام على حديث ابن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين: وفي الباب عن أبي المليح ، عن أبيه.

    إذاً: هنا عندنا حديث ينبغي أن نخرجه، رواية أبي المليح ، عن أبيه، وأبي هريرة ، وأنس .

    ترجمة أبي المليح

    وأبو المليح بن أسامة اسمه عامر ، ويقال: زيد بن أسامة بن عمير الهذلي .

    إذاً: أبو المليح اسمه كما قال الترمذي : عامر ، أو زيد ، وقيل أيضاً: زياد ، فصار معنا ثلاثة أسماء له، اختلف في تعيين واحدٍ منها: عامر ، زيد ، زياد ، قال الحافظ في ترجمته: ثقة من الثالثة، أخرج حديثه الجماعة، أهل الكتب الستة.

    وأبو المليح تابعي، روى عن أبيه.

    ترجمة أسامة بن عمير الهذلي

    وأبوه أسامة بن عمير الهذلي .

    قاله الترمذي ، قال الحافظ في التقريب: أسامة بن عمير الهذلي البصري ، صحابي تفرد ولده بالرواية عنه، أخرج حديثه أهل السنن الأربعة فقط، ولذلك رمز له بعين صغيرة، وليس ع التي للجماعة فهذه تكون مدورة، وتلك تكون صغيرة يمدها بشكل مستقيم، ثمُ ينزلها أيضاً بشكل مستقيم، كما يفعل أحياناً الذهبي في الكاشف يكتب أربعة صغيرة، ثم يمدها بشكل مستقيم، وينزلها بشكل مستقيم، إشارة إلى أنه أخرج حديثه أهل السنن الأربعة.

    والصحابي لا يحتاج إلى توثيق، لكن أين يوجد حديثه؟ من خرج حديثه من أهل الكتب الستة؟ أخرج حديثه أهل السنن الأربعة، وما خرجه أحدٌ من أصحاب الصحيحين؛ لأن رواية أسامة -كما قلنا- لا توجد في أحد الصحيحين، ليس له رواية على الإطلاق.

    إذاً: رواية أبي المليح كما قلنا: عامر ، أو زيد ، أو زياد ، من أخرجها؟ أخرجها أبو داود ، والإمام النسائي ، وابن ماجه ، وأخرجها الإمام الترمذي ، مشيراً إليها بقوله: وفي الباب، وللإمام الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله كتاب سماه اللباب في قول الترمذي : وفي الباب، ليس عندنا خبر عن هذا الكتاب، والكتاب يبين فيه الحافظ هذه الروايات ومن أخرجها من أئمة الحديث.

    وأخرجها أبو عوانة الإسفرائيني ، وأخرجها الإمام أبو داود الطيالسي ، بإسناد صحيح، ولفظ الحديث: ( لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور )، يعني: ليس فيه إلا تقديم الشق الثاني على الأول، عند أبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأبي عوانة ، وأبي داود الطيالسي ، عليهم جميعاً رحمة الله، هذه رواية أبي المليح ، عن أبيه أسامة بن عمير الهذلي ، الوالد صحابي، والولد تابعي عليهم جميعاً رحمة الله.

    تخريج رواية أنس رضي الله عنه لحديث: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور...)

    وأما الرواية الأخيرة: فهي رواية أنس أخرجها ابن ماجه ، في كتاب الطهارة حديث رقم: (273)، وأبو يعلى ، كما في مجمع الزوائد في الجزء الأول، صفحة: (227)، ولفظ الحديث: ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، بلفظ حديث ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

    وأما الإمام البخاري فاقتصر على هذه الأحاديث الثلاثة بعد حديث ابن عمر فأشار إليها.

    قال الترمذي: وفي الباب عن أبي المليح ، عن أبيه، وعن أبي هريرة ، وعن أنس ، يعني: يوجد ثلاثة أحاديث أخرى بمعنى حديث عبد الله بن عمر -وليست بنفس اللفظ- يعني: تدل على أن الله لا يقبل صلاة إلا بطهارة.

    1.   

    روايات بمعنى حديث ابن عمر: (لا تقبل صلاة بغير طهور) لم يشر إليها الترمذي

    وهناك روايات أخرى ما أشار إليها الإمام الترمذي ؛ لأنه لم يُرد الاستقصاء لهذه الروايات الأخرى التي بمعنى حديث الباب، حديث ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين أشار إليها الحافظ في التلخيص الحبير، في الجزء الأول، صفحة: (138).

    والتلخيص الحبير لحذامي المحدثين، وسيد الحفاظ في زمنه، الحافظ ابن حجر صاحب الفتح عليه رحمة الله، وكثير من طلبة العلم يخطئون في النطق به، فيقولون: تلخيص الحبير، فيفهم أن الحبير كتاب لخصه الحافظ ابن حجر كما تقول: تلخيص سنن الترمذي ، تلخيص المغني، لا! اسمه: التلخيص الحبير، يعني: هذا كتاب التلخيص الحبير، الجيد المفيد النافع، لخص الإمام الحافظ فيه كتاب شيخه الإمام ابن الملقن سراج الدين ، الذي توفي سنة: (804هـ)، وكتابه سبع مجلدات، في تخريج أحاديث فتح العزيز في شرح الوجيز المعروف بأحاديث الرافعي ، والإمام الرافعي الذي توفي سنة: (623هـ)، شرح الوجيز للغزالي ، وأورد الأحاديث في شرح الوجيز ، والكتاب هو في فقه الشافعية للغزالي توفي سنة: (505هـ)، فالإمام الرافعي شرح الوجيز في كتاب سماه: فتح العزيز في شرح الوجيز، فجاء الإمام ابن الملقن عليه رحمة الله، فخرج أحاديث الرافعي في سبعة مجلدات، قال الحافظ ابن حجر : رأيت كتابه قد أطال فيه، وأدخل أشياء في غير موضوع البحث، فصعب على طلبة العلم الرجوع إليه، فأردت أن ألخصه بمقدار ثلث حجمه، وحجم الكتاب سبع مجلدات، جعلها الحافظ في مجلدين، وهو الموجود بين أيدينا، وضم إليه فوائد من غير هذا الكتاب -كما فعل مما فعله الإمام الزيلعي ، في نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية في الفقه الحنفي- وقال الحافظ : إذا اكتمل هذا الكتاب أرجو أن يكون شاملاً لجميع أحاديث الأحكام، التي يعول عليها الفقهاء، وواقع الأمر قل أن يوجد حديث في كتاب من كتب الفقه لا يوجد في التلخيص الحبير، سواءٌ استدل بهذا الحديث الحنفية، أو الشافعية، أو المالكية، أو الحنابلة، عليهم جميعاً رحمة الله، فلخص الحافظ كتاب شيخه ابن الملقن سراج الدين عمر بن علي ، وضم إليه ما تيسر من نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، فأسماه التلخيص الحبير، وإياك أن تقول: تلخيص الحبير! فتفهم أن هذا الكتاب تلخيص لكتاب اسمه الحبير.

    يقول الحافظ ابن حجر : وفي الباب عن أبي بكرة نفيع بن الحارث أيضاً بهذا المعنى، وحديث أبي بكرة رواه الإمام ابن ماجه ، وعن أبي بكر صديق هذه الأمة، وعن الزبير بن العوام ، وعن أبي سعيد الخدري وغيرهم.

    إذاً: أضاف إلى الثلاثة أربعةً آخرين، وأنا أقول: ويمكن أن يضاف إلى هؤلاء حديث عمران بن حصين ، وحديث عبد الله بن مسعود ، أخرج الحديثين الإمام الطبراني في المعجم الكبير، كما في مجمع الزوائد في الجزء الأول، صفحة: (227-228)، فصار معنا الآن أربعة، وهم: أبو بكرة ، وأبو بكر ، والزبير ، وأبو سعيد ، واثنان وهم: عمران بن حصين ، وابن مسعود ستة، وثلاثة وهم: أسامة بن عمير ، وأبو هريرة ، وأنس ، تسعة، ورواية ابن عمر عشرة، وهذا العدد قد يعطي للحديث حكم التواتر، والعلم عند الله جل وعلا، وتقدم معنا أن هذا الحديث مقطوع بصحته، وأجمع عليه أئمة الإسلام: ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور )، ( لا يقبل الله صلاة أحد إذا أحدث حتى يتوضأ )، والعلم عند الله جل وعلا.

    1.   

    ترجمة رجال حديث: (إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه...)

    [ الباب الثاني: باب: ما جاء في فضل الطهور ].

    يعني: في فضل التطهر، قال أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي عليه رحمة الله: حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري ، قال: حدثنا معن بن عيسى القزاز ، قال: حدثنا مالك بن أنس ، ح، وقال الإمام الترمذي : حدثنا قتيبة عن مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- أو نحو هذا، وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقياً من الذنوب ).

    قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث مالك ، عن سهيل ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، وأبو صالح والد سهيل هو أبو صالح السمان ؛ لأنه هنا يقول: عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، وأبو صالح والد سهيل هو أبو صالح السمان واسمه ذكوان ، وأبو هريرة اختلف في اسمه فقالوا: عبد شمس ، وقالوا: عبد الله بن عمرو ، وهكذا قال محمد بن إسماعيل البخاري عليهم جميعاً رحمة الله، وهو الأصح.

    قال أبو عيسى : وفي الباب عن عثمان بن عفان ، وثوبان ، وعمرو بن عبسة ، وسلمان ، وعبد الله بن عمرو ، والصنابحي ، وهو غير الصنابحي الذي يروي عن أبي بكر الصديق ؛ فهذا ليس له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ، ويكنى: أبا عبد الله ، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بلاد اليمن، فلما وصل إلى الجحفة جاءه الخبر بأن النبي عليه الصلاة والسلام توفي، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، والصنابح بن الأعسر الأحمسي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، يقال له الصنابحي أيضاً، وإنما حديثه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ألا إني فرطكم على الحوض، وإني مكاثر بكم الأمم فلا تقتتلن بعدي ).

    ترجمة إسحاق بن موسى الأنصاري

    أولاً: في بيان حال رجال الإسناد على وجه الاختصار.

    شيخ الترمذي قتيبة بن سعيد تقدم معنا.

    الراوي الأول: إسحاق بن موسى الأنصاري ، هو إسحاق بن موسى الأنصاري الخطمي المدني ، قال الحافظ في التقريب في ترجمته: ثقة متقن، وهذا اللفظ من أعلى درجات التوثيق، وهو: ما كرر فيه لفظ التوثيق بلفظة واحدة، أو بلفظتين متغايرتين، كأن يقول: ثقة ثقة، ثقة متقن، ثقة جبل، توفي سنة: (44) إذاً: (244) بعد المائتين من العاشرة، وكنا وضعنا اصطلاحاً قلنا: الطبقة الأولى والثانية دون المائة، والثالثة إلى نهاية الثامنة فوق المائة، والتاسعة إلى نهاية الطبقات التي تصل إلى اثنتي عشرة طبقة بعد المائتين، ورمز له الحافظ بـ(م، ت، س، ق) يعني: أخرج حديثه الإمام مسلم في صحيحه، وأهل السنن الثلاثة: تاء للترمذي سين وللنسائي ، وقاف لـابن ماجه القزويني من قزوين.

    الإمام الترمذي له اصطلاح خاص، أشار إليه الإمام الذهبي ، في سير أعلام النبلاء، في الجزء الحادي عشر صفحة: (555) يقول: حدثنا الأنصاري -إذا جاء معك هذا اللفظ في جامع الترمذي : حدثنا الأنصاري فهو إسحاق بن موسى الخطمي المدني الأنصاري شيخ الإمام الترمذي ، ويوجد من يشاركه في هذه النسبة لكن لا يعبر عنه بهذا- وفي تحفة الأحوذي نقل هذا الكلام عن الذهبي ونسبه إلى ميزان الاعتدال، وقد بحثت عن كلام الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال فلم أقف عليه، ولم يورد لـإسحاق بن موسى ترجمة في الميزان مطلقاً؛ لأنه لم يجر حوله كلام، ورجعت إلى ترجمة الإمام الترمذي في الميزان فقال: ثقة مجمع عليه كما تقدم معنا -ولا اعتبار لقول ابن حزم - وما زاد الذهبي على هذا، ما قال: روى عن فلان، فهل شارح الترمذي الشيخ المباركفوري وهم؟ يريد أن يقول: قال الذهبي في السير، فنسبه إلى الميزان، أو أن الذهبي في الميزان ذكر هذا في مكان آخر في ترجمة من التراجم؟ لا أعلم، وعلى كلٍ فإن كان في الميزان فما وقفت عليه.

    ترجمة معين بن عيسى القزاز

    الراوي الثاني: شيخ إسحاق بن موسى : معن بن عيسى القزاز .

    هو معن بن عيسى بن يحيى الأشجعي مولاهم، أبو يحيى المدني القزاز ثقة ثبت، قال أبو حاتم : هو أثبت أصحاب مالك وأعلى رواية يرويها تلميذ عن مالك هي رواية: معن بن عيسى القزاز -هذا رأي أبي حاتم- من كبار العاشرة، مات سنة: (198هـ)، وانتبه لهذا الاصطلاح الذي جرى حوله كلام في السابق الحافظ ابن حجر وقد التزم بشرطه وقال: ما خرج عن ذلك نادراً بينته، وهنا قال: من كبار العاشرة، إذاً: ينبغي أن يكون بعد المائتين! لكنه قال: توفي سنة: (198) فأزال الإشكال، ولو أنه قال: من كبار العاشرة، سنة ثمانٍ وتسعين فقط؛ لقلنا: بعد المائتين، وهذا موجود في التقريب، فلم يذكر سنة ثمانٍ وتسعين فقط، إنما أتبعها بمائة! أخرج حديثه أهل الكتب الستة.

    ترجمة الإمام مالك

    الراوي الثالث: الذي هو أشهر من الشمس في رابعة النهار، ومن القمر في ليلة البدر، وأعلى من أن يعرف، كما قال الإمام العراقي :

    وصححوا استغناء ذي الشهرة عن تزكية كمالك نجم السنن

    فمن العبث أن يبحث الإنسان في توثيق هذا الإمام فيسأل: من عرفه؟ ومن نص على توثيقه؟ أولئك الرواة لا أقول: نهضمهم حقهم، لكن ليس لهم من الشهرة بين المسلمين كما لأئمة الدين الذين لهم هذا الشيوع كالأئمة الأربعة وكبار المحدثين عليهم جميعاً رحمة الله، فلا نهضم إسحاق بن موسى ، ولا معن بن عيسى ! لكني أنا إذا قلت أمام المسلمين: معن بن عيسى القزاز فلعل البعض يقول: لعله حاضر بيننا وأنت تقصده! من الذي يعرف معن بن عيسى ؟ لكن لو قلت: الإمام مالك ، هذا كل واحد يقول: صاحب المذهب المعروف، وهكذا الإمام أحمد ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، والبخاري إذا ذكرتهم فلا لبس، اللهم إلا إذا كان يلتبس بعد ذلك على من لا يفرق بين البيض والباذنجان لاشتراكهما في حرف الباء، فهذه مسألة ثانية!

    من أغرب وأشنع وأسوأ ما مر معي في البحوث العلمية: أن طالباً قدم رسالةً في الدراسات العليا، وأجيزت للطبع، وقال لي: أريدك أن تنظر فيها، فقلت له: أني مشغول! فقال: رجاءً مُرَّ عليها، فرأيت عند الحديث المعروف الذي هو أشرف حديث للأولياء: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، يقول: رواه البخاري ، وترجم للبخاري بقول: محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري ، الكذاب الوضاع! دخل بغداد بعد سنة 500 للهجرة، وانهال في السباب والشتائم عليه! وهذه رسالة في العقيدة وقد أجازها المشرف! فأنا لما قرأتها يعلم الله بدأت أنتفض كأن الحمى أخذتني! وهذه رسالة ستجاز وهي معدة للمناقشة بهذه الحالة! إلى الله المشتكى، تابعت الكلام حتى قال: انظر لسان الميزان، قلت: الحمد لله طالب غبي فقط! صحيح أنه ينقل من لسان الميزان، لكن بمجرد أن قال: لسان الميزان انتهى؛ لأنه لا يوجد في لسان الميزان ترجمة لأهل الكتب الستة، ولا لراوٍ له رواية في الكتب الستة؛ لأن الحافظ ابن حجر جعل كتابه لسان الميزان على الميزان، فـالحافظ يحقق كلام الإمام الذهبي ويذكر من وافقه ومن عارضه، ويزيد في الترجمة، ويضيف تراجم أخرى، واشترط أن كل من له رواية في الكتب الستة لا يورده؛ لئلا يطول الكتاب، ولأنه أورده في تهذيب التهذيب، فلا داعي إذاً لإعادته في لسان الميزان، فلن تر أحداً من هؤلاء في لسان الميزان، فمثلاً الإمام محمد بن عيسى الترمذي هل له ذكر في الميزان؟ ليس له ذكر في الميزان، حذفه لأنه ذكره في تهذيب التهذيب والبخاري ليس له وجود في لسان الميزان قطعاً؛ لأنه من أهل الكتب الستة وواحد منهم، لكن أنا أعجب كيف لهذا الطالب أن يفعل هذا؟! ثم يقول: دخل بغداد بعد سنة: (500)! فعلمت أن الأمر لبس عليه، فأحضرت اللسان لأتحقق حسب الجزء والصفحة كما قال، فرأيت الحافظ يقول: هذا دجال، دخل بغداد بعد سنة: (500) فانتسب إلى نسبة البخاري، فقال بأنه البخاري وتسمى باسمه واسم أبيه، وتكنى بكنيته ليدجل على الناس! لكنه لم يتنبه إلى العمر؛ فـالبخاري مات سنة: (256هـ)، وهذا الدجال توفي بعد سنة: (500)، ثم ذاك إمام المسلمين، وهذا إمام الكذابين، فجعل ترجمة هذا في ترجمة ذاك! فلما قابلت الأخ في اليوم الثاني وهو يدرس في الكليات والمعاهد العالية، قلت: يا عبد الله! أنت تذكر هذا في ترجمة البخاري : كذاب وضاع..؟! قال: هذا موجود في لسان الميزان، أنا نقلت ما في الكتاب! قلت: والله الذي لا إله إلا هو! لو يحل لي الآن أن أضربك بحذاء بالٍ لما تركتك! أنا ظننت أنك ما انتبهت! إذا بك تجيب بأقبحِ مما كتبت! تقول: هذا في اللسان؟! وإذا كان في اللسان، افرض أنه خطأ في الطباعة.

    ولو وجدت سباً لـأبي بكر رضي الله عنه أو لـعمر رضي الله عنه، هل ستنقل هذه العبارات كلها وتقول: إنها في كذا؟! ما عندك عقل! قلت: ثم أنت تقول هذا في اللسان، افتح اللسان! فلما فتح قرأ قوله: دخل بعد سنة خمسمائة، وبين ابن حجر أنه انتسب إلى كنية البخاري وتسمى باسمه زوراً وبهتاناً، فقلت: هذا الإمام ابن حجر أورده ليبين شناعة هذا الإنسان وفعله، وأنت عميت عن هذا الكلام فأخذت فقط الأسطر الأولى من الترجمة وتركت الأخير! لا عقل ولا متابعة للكلام ولا.. ولا.. قلت له: أما تتقي الله؟ هذا يُورَدُ في ترجمة إمام الدنيا وسيد المحدثين؟ نسأل الله العافية!

    نعود إلى مالك وهو أعلى من أن يُنص على توثيقه عليه رحمة الله.

    هو يُسأل عن الناس ولا يُسأل الناس عنه، ابن حجر لابد من أن يذكره في التقريب؛ لأنه من رجال الكتب الستة، فانظر للنعوت التي نعته بها على وجه الاختصار، قال: إمام دار الهجرة، رأس المتقنين وكبير المتثبتين، وهذا حقيقة أعلى ما يقال في بيان وصف الراوي والإخبار عن منزلته، المتثبتين يعني: المتحرين المدققين، يتثبت، وكان أئمتنا يقولون: ما رأينا أشد انتقاداً للرجال من مالك بن أنس ، وكان عليه رحمة الله يقول: لقد رأيت سبعين ممن يقولون: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام عند هذه الأساطين فما كتبت عن أحد منهم! لا أتهمهم، إنما لا أراهم أهلاً لهذا الشأن، وكان يقول عليه رحمة الله ورضي الله عنه: حج أيوب السختياني إمام أهل السنة في زمانه في بلاد العراق، فما كتبت عنه ولا رويت، ما أتهمه! لكن ما كنت أرى بهجة العلم ونوره في وجهه، فلما حج حجته الأخيرة، جلس في فناء زمزم وبدأ يحدث، فكان إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام يبكي حتى إني لأرحمه، فكتبت عنه ورويت، هذا هو التثبت، قد لا يجد في الإنسان مطعناً ولا مغمزاً، ولكنه من حين ينظر إليه يقول: هذا ما أراه أهلاً لأن يروي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.

    كان الإمام مالك لا يمس الحديث إلا على طهارة، ليس القرآن الذي نحن الآن نتفلسف في هذه الأيام نقول: ما الدليل على أنه لا يمس القرآن إلا طاهر؟! وستأتينا صحيفة عمرو بن حزم : أن لا يمس القرآن إلا طاهر، ونص القرآن: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، المطهرون خبر ورد بصيغة النهي، وإذا ورد الأمر أو النهي بصيغة الخبر فهذا أعلا، كأن الله يقول: لا تمسه إلا على طهارة، لا ينبغي أن يقع مس للقرآن إلا على طهارة، والطهارة إذا أطلقت فهي الطهارة الشرعية.

    والمذاهب الأربعة على تحريم مس المصحف على من كان محدثاً حدثاً أصغر، فالإمام مالك عليه رحمة الله كان لا يمس الحديث إلا على طهارة، كتب الحديث عنده ما تمسك إلا على طهارة، وهذا العلم لا يُتعامل معه إلا بالأدب: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

    جاءت عقرب إلى الإمام مالك وهو في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فلدغته ست عشرة لدغة، تلدغه وتذهب ثم تعود فتلدغه وتذهب، وهو يصفر ويلتوي وما قطع المجلس ولا تحرك، ولا استطاع أحد من أهل المسجد أن يتحرك! فلما انقضى قالوا: هلا أشرت لنا لنقتلها، أو هلا قتلتها؟! قال: ما أردت أن أتحرك إجلالاً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام! وهذا في ترتيب المدارك في ترجمة وطبقات أصحاب الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله.

    مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله المدني ، الفقيه إمام دار الهجرة، رأس المتقنين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري : أصح الأسانيد كلها: مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وقال بعض العلماء: سلسلة الذهب: مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أو الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أو أحمد ، عن الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، من السابعة، مات سنة: (79) يعني: بعد المائة، وكان مولده سنة: (93)، قال الواقدي : بلغ تسعين سنة، أخرج حديثه الجماعة، ونحن نذكر ترجمته وترجمة هؤلاء الصالحين لأنه في قصصهم عبرة، وبعض الإخوة الكرام يقول: أوقات تضيع بذكر هؤلاء! ماذا نستفيد؟! نسأل الله أن يرحمنا، عندما نذكرهم ونحن نحبهم ونترضى عنهم فاللهم ارحمنا يا أرحم الرحمين ويا أكرم الأكرمين.

    وحدثنا (حاء) تقدمت معنا، وقلنا: تقال حاء مهملة، حاء الحديث، أي: أكمله، أو تسكت ثم تبدأ، والمعنى أنه سيحول الإسناد إلى إسناد آخر، إسنادان سيلتقيان بعد ذلك في راوٍ معين، فلا يريد أن يورد هذا الحديث بالإسناد الأول إلى آخره إلى أبي هريرة ، ثم يورد الحديث بالإسناد الثاني من شيخه إلى أبي هريرة فيختصر (ح).

    فالحديث الأول: رواه الترمذي من طريق إسحاق بن موسى ، ومعن بن عيسى ، عن مالك .

    والحديث الثاني: رواه الترمذي من طريق قتيبة ، عن مالك ، فبين الترمذي ومالك في الإسناد الأول راويان، وفي الإسناد الثاني راوٍ واحد.

    إذاً: قتيبة بن سعيد ترجمناه في الحديث الأول، ومالك ذكرنا ترجمته قبل قليل.

    ترجمة سهيل بن أبي صالح

    الراوي الرابع: سهيل بن أبي صالح قال الحافظ في التقريب: صدوق، تغير بأخرة، وهذا اصطلاح الحافظ في التقريب، ومعناه: أن حديثه دون درجة الحسن، ويحسن حديثه إذا وجد له تابع أو شاهد، وأما معنى صدوق تغير بأخرة، أي: أنه في آخر حياته وعمره صار عنده نسيان وذهول واختلاط، وبدأ يهم وينسى، ولا يتقن ولا يضبط، أخرج له البخاري مقروناً وتعليقاً.

    إذاً: حال البخاري كحال مسلم عندما يخرج للراوي في المتابعات والشواهد؛ لا يُخرج له استقلالاً، إنما يخرج له مع وجود رواية أخرى تشهد له؛ لوجود شيءٍ في حفظه، من السادسة، ولم يحفظ الحافظ سنة الوفاة، وكأنه لم يقف عليها كما تقدم معنا قوله: ومن علمت سنة وفاته ذكرتها، وإلا اقتصرت على ذكر الطبقة، يعني: فهو دون المائتين وفوق المائة، والله عليم في أي سنة، ورمز له بالعين، أي أنه أخرج حديثه أهل الكتب الستة، لكنه هنا قال: البخاري مقروناً؛ ليبين أن البخاري أخرج له مقروناً، ولم يعتمد عليه عند انفراده في رواية واحدة، فكأنه يشير أنه ليس على شرط البخاري مادام قرنه بغيره، أما مسلم -فيما يظهر- فأخرج له في الأصول، ولم يبين الحافظ في التقريب أنه أخرج له في الشواهد والمتابعات.

    وسهيل الذي تغير بأخرة اتفق أئمتنا على أن مالكاً روى عنه قبل أن يطرأ عليه تغير في حفظه وذهنه، رحمه الله ورضي عليه.

    ترجمة أبي صالح السمان

    سهيل بن أبي صالح عن أبيه.

    الراوي الخامس: أبوه كما عندنا هنا اسمه ذكوان أبو صالح السمان الزيات المدني ، قال الحافظ في التقريب: ثقة ثبت، توفي سنة: (101هـ)، من الطبقة الثالثة، ع، أخرج حديثه الجماعة، أهل الكتب الستة.

    1.   

    ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه راوي حديث: (إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه...)

    الراوي السادس: الذي ينبغي أن نترجمه ولم تسبق معنا ترجمته، هو الصحابي أبو هريرة الدوسي اليمني ، شيخ أهل اليمن، وهو شيخ الإسلام، وشيخ الحفاظ في كل زمان، أبو هريرة رحمه الله ورضي عنه الدوسي الصحابي الجليل، حافظ الصحابة: عبد الرحمن بن صخر ، توفي سنة: (58)، وقيل: (59)، وقيل: (57)، حديثه في الكتب الستة، ونقف وقفة عند هذا الصحابي، أبو هريرة وكان له شأن.

    إجلالاً للنبي عليه الصلاة والسلام ومحبةً له ينبغي أن نحب أبا هريرة محبةً خاصةً، مع محبتنا للصحابة عامة؛ فهو أكثر من روى حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ونشر علمه، فنحن محبتنا للنبي عليه الصلاة والسلام كثيرة؛ فينبغي أن تكون لـأبي هريرة كثيرة أيضاً؛ من أجل أنه هو الذي نقل هذا النور وهذا العلم.

    أبو هريرة رضي الله عنه هو أحفظ الصحابة، وأكثر الصحابة رواية عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذلك وجهت إليه طعون بغير حساب، وإياكم أن تظنوا أن هذه الطعون لشخصه، لا والله! أكثر ما وجه من الطعون لـأبي هريرة ، وللخلفاء الراشدين الأربعة.

    أما أبو بكر فالطعن فيه طعن في القرآن والسنة، والله لو كان في أبي بكر منقصة لما كان في القرآن وفي السنة فضيلة؛ فهذا القرآن جُمع في عهد أبي بكر ، وهذه السنة التي لها شأن تشيد بقدر أبي بكر ، وهو من أهل الجنة، وهو خير الصديقين عند رب العالمين، ولا يتقدمه إلا الأنبياء والمرسلون عليهم صلوات الله وسلامه، إن السنة هي التي تصرح بهذا.

    وهكذا عمر ، وعثمان ، وعلي ، فالثلاثة الأول طعن فيهم الروافض، وعلي طعن فيه الخوارج والنواصب.

    وأما أبو هريرة فما سلم من الزنادقة والمستشرقين ولاسيما في هذه الأزمنة؛ لأن الطعن إذا ثبت فيه ترد رواياته، وما رواه عن النبي عليه الصلاة والسلام يزيد على خمسة آلاف حديث، كلها بعد ذلك ينبغي أن يضرب بها عرض الحائط إذا كان أبو هريرة كذاباً غشاشاً محتالاً مخادعاً! وهذا ما يريده الزنادقة، فهذا طعن في الدين الذي حمله هذا الصحابي الكريم، ولذلك لماذا لَمْ يطعنوا في الصنابحي الذي روى ثلاثة أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقط، فهل وجدتم أحداً من المستشرقين في يوم من الأيام أو سمعتموه سل سيفه ولسانه وقلمه وجرد كتاباً في الطعن في الصنابحي ؟! لا، إنما يأتي لـأبي هريرة لأنه روى أحكاماً كثيرةً، في إثبات الحلال والحرام، وبناءها على هذه الروايات، فإذا ضاعت ضاع الإسلام، لن تستطيع أن تفهم القرآن!

    إذاً: فالطعن فيه ليس له قيمة كبيرة، إنما الطعن في أبي هريرة سيفتح في الإسلام ثلمة لا نهاية لها، ويفتح خرقاً واسعاً يبطل الإسلام، ويشوش دين الرحمن من أوله إلى آخره، وهكذا الطعنُ في أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ولذلك عندما طعن أعداء الله عرفوا فيمن يطعنون، جاءوا إلى الذين لهم شأن ومنزلة في الإسلام عالية في الحكم وفي العلم، فقالوا: نوجه الطعن إلى هؤلاء، فإذا استطعنا أن نثبت للناس ما نقول فيهم والناس قبلوا ما نقول؛ شوشنا عليهم بما نقول، فيبطل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من أوله إلى آخره.

    أبو هريرة رضي الله عنه ما سلم من طعون الطاعنين، فعند الرافضة، أبو هريرة ألعن من الشيطان الرجيم! وعندهم الشيطان أطهر من أبي هريرة ، الرافضة قاطبة، والمستشرقون في هذا الزمان أخبث من الشيطان الرجيم! فقد ساروا على هذا المنوال، فقالوا: أبو هريرة هذا -زعموا كذباً وزوراً أنه- هو الذي كان يفتري على النبي عليه الصلاة والسلام ويكذب، ويقول الحديث مقابل دريهمات يأخذها من بني أمية! وكل واحد يقول ويفتري ما يشاء، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وهم يتكلمون عن معادنهم؛ لأن معادنهم خسيسة وخبيثة، ممكن أن تقول أي شيءٍ من أجل عرض دنيوي، فيظنون أن ما في نفوسهم من الحقارة موجود عند الصحابة الكرام الأبرار.

    من علامات الإيمان حب أبي هريرة رضي الله عنه

    عندما نذكر أبا هريرة لا يوجد مؤمن على وجه الأرض إلا ويحبه، ولا يوجد منافق على وجه الأرض إلا ويبغضه.

    وسأستهل ترجمته بهذا الحديث الثابت في صحيح مسلم ، انظر شرح النووي مع صحيح مسلم في الجزء السادس عشر، في صفحة: (50) فما بعدها، ومسند الإمام أحمد في بيان فضل هذا الصحابي المبارك.. وفيه نص صريح على أن من علامات الإيمان حب أبي هريرة ؛ لنعلم أن الطعون إذاً وراءها نفاق بلا شك.

    فعن أبي كثير يزيد بن عبد الرحمن قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره -أي: قالت: كلاماً قبيحاً نالت فيه من النبي عليه الصلاة والسلام- فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره -هذه دمعة الحزن وهي حارة ستنقلب إلى دمعة فرح، وهي باردة بعد لحظات- فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة والمعنى: أنت رسول الله، ولك شأن عند ربك، وأنا انقطعت حيلتي، فادع لها حتى تؤمن، لقد بدأت تنال منك فماذا أعمل؟ وهذه أمي! فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة -وانظر لوثوق أبي هريرة واليقين- قال: فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف -أي: مغلق- فسمعت أمي خشف قدمي -يعني: صوت مشي قدميه عند الباب- فقالت: مكانك يا أبا هريرة ، وسمعت خضخضة الماء -أي: أنها كانت تغتسل وتتطهر، استعداداً للدخول في الإسلام- قال: فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها -يعني: حتى الخمار ما لبسته، لبست الدرع وقامت مسرعة لتفتح لولدها أبي هريرة - ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة ! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -عليه صلوات الله وسلامه- قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكى من الفرح -دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارة ساخنة- قال: فقلت: يا رسول الله! أبشر قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة ، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً، قال: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا -يعني: يحبوننا ونحبهم، فلا يوجد مؤمن إلا وأنا وأمي نحبه، وكل مؤمن إلى يوم القيامة إذا سمع بي وبأمي يحبنا، اللهم إنا نشهدك أنا نحب أبا هريرة وأمه وسائر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين- ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب عُبَيدَك هذا -يعنى: أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين، قال أبو هريرة : فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني ).

    وهذا إلى قيام الساعة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام، دعا بأن يحبب الله أبا هريرة وأمه إلى كل مؤمن، فمن كان مؤمناً فيحب أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وهو ناقل حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن كان في قلبه نفاق وزيغ فسيعادي أبا هريرة كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إن حب الصحابة الكرام دين نتقرب به إلى رب العالمين، وحبهم تبع لحب نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فمن أحبهم فلحبه للنبي عليه الصلاة والسلام أحبهم، ومن أبغضهم فلبغضه للنبي عليه الصلاة والسلام أبغضهم، لا يبغضهم إلا من كان مبغضاً للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا يحبهم إلا من كان محباً للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذه دعوة خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، بأن يحبب الله أبا هريرة وأمه إلى كل مؤمن إلى قيام الساعة، فمن وجد في قلبه هذا فليحمد الله، وهي بشارة خير قطعاً وجزماً، ومن وجد خلاف ذلك فليعلم أن قلبه خبيث خبيث.

    ولذلك قال النووي عليه رحمة الله في هذا الحديث -بعد أن ذكره الإمام مسلم - في الشرح: في الحديث استجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفور لمن دعا له، وهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، واستحباب حمد الله عند حصول النعم، هذا مما يؤخذ من هذا الحديث، فمن وجد في قلبه حب أبي هريرة فليعلم أنه على إيمان، ونسأل الله حسن الختام، ومن وجد في قلبه بغضاً لهذا الصحابي الطاهر فليعلم أنه يبغض النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا -كما قلت- حال أعداء الله من الروافض والمستشرقين ومن أذنابهم في هذا الحين؛ ممن يدرسون أحياناً في المعاهد والجامعات، وتلقوا دراستهم عن الكافرين، بل والكافرات، وعن القسس والعاهرات! وسيحمل بعد ذلك شهادة طويلة عريضة كما يقال! من قبل أعداء الله ليطعن في أولياء الله، لم يستح أن شهادته في العلوم الشرعية من قسيس في معاهد أولئك في بلاد الغرب، أو من امرأة لا تصون عرضها ولا تحفظ عفافها، متهتكة! ثم ليته جاء وقال: أخذتها من أجل عرض دنيوي وأرجو الله أن يتوب علي، كل بني آدم خطاء، بل جاء وجرد قلمه بعد ذلك على خيار الأمة! كـأبي هريرة فكم عانى وقاسى في حمل العلم، وملازمة النبي عليه الصلاة والسلام، وكثيراً ما كان يصرع في الروضة المشرفة بين منبر النبي عليه الصلاة والسلام وبيوته من الجوع، وكثيراً ما كان يشد الحجر على بطنه، وكثيراً ما كان يعتمد بصدره على الأرض من أجل أن يستوي البطن ويخف فيه قرص الجوع! هذا حاله رضي الله عنه وأرضاه، وهو من الصحابة الكرام، وله منزلة خاصة من الرواة.

    كل صحابي يأتي معنا لم يرد له ذكر فيما سبق لا بد من أن نقف عنده وقفة يسيرة؛ لأنهم تلاميذ النبي عليه الصلاة والسلام، والتلاميذ هم صورة شيخهم، فهؤلاء هم صورة للنبي عليه الصلاة والسلام، هذه الكمالات التي في الصحابة الكرام تبين لنا كمال نبينا عليه الصلاة والسلام.

    الاختلاف في اسم أبي هريرة

    أولاً: البحث في اسمه وفي كنيته، يقول علماؤنا: لم يختلف في اسم أحد وفي كنيته وفي اسم أبيه كما اختلف في أبي هريرة رضي الله عنه! واسمه في الجاهلية، وفي الإسلام، وما هي كنيته؟ وما اسم أبيه؟ هذا كله حصل حوله اختلاف كثير ولكنه لا يترتب عليه أي أثر؛ فالعين معروفة وتلقب بهذا اللقب، لكنها تحمل أسماء متعددة، في الجاهلية وفي الإسلام، فلا يضر هذا ولا يغير من حقيقة الأمر شيئاً.

    يقول ابن عبد البر في الاستيعاب: بلغت الأقوال في اسمه وفي كنيته وفي اسم أبيه في الجاهلية وفي الإسلام عشرين قولاً، ويقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ، وفي تهذيب الأسماء واللغات: أنها قاربت الثلاثين، ويقول الحافظ الهيتمي في فتح المغيث في شرح الأربعين لـابن حجر الهيتمي بالتاء المثناة ليس بالثاء المثلثة فـالهيثمي بالمثلثة هو صاحب الزواجر: بلغت الأقوال خمسة وثلاثين قولاً، في اسمه واسم أبيه وكنيته في الجاهلية والإسلام.

    إذاً: الأقوال فيه من عشرين إلى خمسة وثلاثين قولاً.

    قال النووي عليه رحمة الله: أصحها عند المحققين، وهو الذي ذهب إليه سيد المحدثين البخاري : أنه عبد الرحمن بن صخر في الإسلام، وكان اسمه في الجاهلية عبد شمس ، فغير اسمه بعد الإسلام إلى هذا الاسم المبارك؛ لأن العبودية لا ينبغي أن تضاف إلا إلى رب البرية، فقول بعضهم: عبد شمس، أو عبد نجم، أو عبد النبي عليه الصلاة والسلام، هذا مما لا ينبغي أن يقال! بل نقول: عبد الله، عبد الرحمن، عبد الرحيم.

    يقول أئمتنا: من جملة النكات في عدم تسمية أبي لهب باسمه في القرآن، أنه كان اسمه عبد العزى، فلو قال الله عز وجل: تبت يدا عبد العزى؛ لكان في ذلك إضافة العبودية لصنم وهذا مستقبح، فذكره بكنيته وهذه من جملة الأسباب.

    كنية أبي هريرة وإقرار النبي له عليها

    وأما كنيته فكان يكنى بـأبي هريرة في الجاهلية، وأقر النبي عليه الصلاة والسلام هذه الكنية بعد إسلامه، أما تكنيه بـأبي هريرة في الجاهلية فسببه قد أخبر به هو، كما في سنن الترمذي ، كتاب المناقب، باب فضل أبي هريرة ، وسيأتينا هذا عند كتاب المناقب إن شاء الله، ورقم الحديث: (3840) عن عبيد الله بن رافع قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه فقال: كنت أرعى غنم أهلي، وكانت لي هرة صغيرة، فكنت أضعها في الليل في شجرة، فإذا كان النهار، ذهبت بها معي عندما أرعى الغنم، فألعب بها.

    هرة صغيرة، في الليل يضعها على الشجرة وفي النهار يمر على هذه الشجرة، ويأخذ هذه الهرة فيلعب بها، فإذا انتهى من الرعي عاد بالغنم إلى ديار قومه، فكنوه بـأبي هريرة .

    وقد أقره النبي عليه الصلاة والسلام على هذه الكنية وخاطبه بها، ففي صحيح البخاري كتاب النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء، وفي كتاب الوكالة، باب: إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل، أما الحديث الأول ففي كتاب النكاح من صحيح البخاري : ( جاء أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! إني شاب وأخاف على نفسي العنت -يعني: المشقة وشدة الشهوة والوقوع بعد ذلك في المحذور وفي الحرام ولا أجد ما أتزوج به ) -كأنه يستأذنه في الخصاء كما ورد التصريح بذلك في روايات أخرى في غير صحيح البخاري - ( فقال النبي عليه الصلاة والسلام: جف القلم بما أنت لاقٍ، يا أبا هريرة ! اختص على ذلك أو ذر )! والمعنى: ما قدر سيقع فلا داعي إذاً للمخالفة، والخصاء منهي عنه، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا تختصي؟ فإذاً اربط قلبك بالله جل وعلا، وجاهد نفسك، وأما المقدور فلا مفر منه فقد جف القلم بما أنت لاقٍ، وأنت ما اطلعت على الغيب أنك ستزني إذاً: لم تختصِ؟ والقدر لا يجوز أن يستدل به الإنسان على مخالفة شرعية، فيقول: كتب علي؟! هل اطلعت قبل وقوع المعصية على أن هذا كتب عليك؟ لا، إذاً: هذا تقدير الرب، وأنت تلام على اختيارك وعلى كسبك وعلى فعلك، فإذا كان الأمر مقدوراً فعلام تختصي؟ وإذا لم يقدر عليك الزنا لم تختصِ؟ لماذا آذيت نفسك وعطلتها عن إنجاب الذرية؟ فعليك أن تعبد الله وتوحده، وما قدر عليك وقوعه سيقع، وإذا قدر بعد ذلك فهذا لا مفر منه، ونسأل الله أن يقدر لنا ما فيه رضاه علينا، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.

    (جف القلم بما أنت لاقٍ، فاختص على ذلك أو ذر)، فما اختصى هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه.

    والشاهد: (يا أبا هريرة !)، خاطبه النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الكنية.

    والحديث الثاني: في صحيح البخاري تقدم معنا في فضل آية الكرسي، عندما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة )؟ ثم آخر الحديث: ( تدري من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث؟ )؟ فأقر النبي عليه الصلاة والسلام هذه الكنية وخاطبه بها.

    وكناه أيضاً بـأبي هر ومن الظرافة في هذه الكنية، والملاحة، أنك إذا اختصرت اللفظ كان أسهل في النطق، وفيه شيء من التحبيب إلى النفس، وعندما تختصر من اللفظ شيئاً فهذا لتحسينه ولمداعبة من تفعل هذا باسمه، وهذا جرى من النبي عليه الصلاة والسلام.

    الحديث الثالث: بوب الإمام البخاري على هذا باباً في كتاب الأدب فقال: باب: من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفاً، ثم أورد الحديث الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يا أبا هر ).

    وذكر البخاري حديثاً في صحيحه، وهذا الحديث في مكانين: في الأدب، وفي كتاب الأطعمة، وهذا لفظه في كتاب الأطعمة، وفيه: أن أبا هريرة كان جائعاً، فخرج من بيته فرأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فتعرض له، تعرض له وسأله عن آية، يقول أبو هريرة : أنا أحفظها أكثر مما يحفظها عمر ، والمعنى أريد أن أمشي معه حتى أصل إلى بيته فيقول: تفضل؛ فأدخل لأملأ بطني، وهذا هو المقصود من السؤال، فسأله فما فهم عمر رضي الله عنه مراده، فأجابه ومشى في طريقه، يقول: فلو رأيتني في شوارع المدينة أبحث عمن يخرج من الصحابة لأتعرض له بسؤال، فرأيت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ( أبا هر ! الحق بنا )، يقول أبو هريرة : وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي -( أبا هر ! الحق بنا )، هذا هو الشاهد- فأخذه وأطعمه النبي عليه الصلاة والسلام، فأخبر أبو هريرة بعد ذلك عمر ، فقال: لئن كنت أطعمتك، لكان أحب إلي من حمر النعم، ويعني: لو كنت أعلم هذا كان إطعامك أحب إلي من أنفس مالٍ عندنا وهي الجمال التي فيها هذه الصفة، فقال أبو هريرة : أطعمني من هو أحق بالإطعام منك، رسول الله عليه الصلاة والسلام، أكلت، وملأت بطني ولله الحمد.

    والشاهد أبا هر .

    والحديث الرابع: أورده الإمام البخاري في كتاب الرقاق، وفيه تسمية أبي هريرة ، بـأبي هر رضي الله عنه، وفي الحديث معجزة عظيمة لنبينا عليه الصلاة والسلام في تكثير الطعام، عندما يخبر أبو هريرة أنه خرج جائعاً يبحث عمن يطعمه، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن رأى أبا بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء ما فهموا مراده، ولعلهم فهموه ولكن ما كان عندهم ما يطعمونه -والعلم عند الله جل وعلا- فتعرض للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما رآه قال: ( أبا هر ! الحق بنا، فلما دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيته قال: عندنا شيء؟ قالوا: نعم، قدح من لبن أهدي إلينا من قبل الأنصار رضي الله عنهم أجمعين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا هريرة ! اذهب فناد أهل الصفة )، وأهلُ الصفة أحياناً كانوا يصلون إلى ثمانين صحابياً! وهؤلاء مهنتهم ومهمتهم أشرف مهنة وأشرف مهمة على وجه الأرض، يقومون بمهمتين اثنتين، على واحدة منهما تدفع الآن الأموال الطائلة بغير حساب.

    أولها: الجهاد في سبيل الله، ويؤخذ من ميزانيات الدول أحياناً خمسين أو سبعين بالمائة لأجل الجيش الذي يربى كما تربى الأنعام! انظر لذاك الجيش الذي يطوي جائعاً الأيام والليالي، كلما صار النفير أول من يخرج أهل الصفة.

    والمهمة الثانية: حمل العلم، ومعاهد التاريخ العالمي ينفق عليها بغير حساب؛ من أجل أن يخرج طلبة علم فلا يفلحون!

    فانظر لأهل الصفة يقومون بهاتين المهمتين: علم يحملونه، وجهاد يقومون به، وليس أهل الصفة أناس كسالى كانوا يجلسون من أجل أن يأكلوا ولا يريدون أن يقوموا بعمل، كما يتراءى لبعض الخبثاء في هذه الأيام من المستشرقين! العلم الذي قام به أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه لا يصلح للمقارنة معه أكبر شخصية علمية في هذا الوقت إن كان فيها صلاح وهدى وتقى وورع، ومع هذا لا تصل إلى عشر معشار ما عند أبي هريرة من جهد في طلب العلم ونشره، إذاً: فأهل الصفة هؤلاء أهل الجد والاجتهاد، وأهل العزيمة والعطاء، جهاد يقومون به، وعلم يتحملونه وينشرونه ويوصلونه إلى الأمة.

    فقال: اذهب فناد أهل الصفة، وأهل الصفة هم أضياف الإسلام كما يقول أبو هريرة ، ليس لهم أهل ولا أولاد يؤوون إليهم في أول الإسلام، هذا حالهم، فكان إذا جاء للنبي عليه الصلاة والسلام صدقة أرسلها إليهم؛ لأنه لا يأكل الصدقة، وإذا جاءه هدية أصاب منها وشاركهم، يشترك معهم في الهدية التي تهدى إليه، قال: ( اذهب فنادهم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فقلت: أنا أحق بهذا اللبن من أهل الصفة! لقد اشتد بي الجوع، وماذا يفعل هذا اللبن مع أهل الصفة إذا جاءوا؟ ثم يحسبها حساباً آخر فيقول: الآن إذا جاءوا وأخذوا مجالسهم كان عريف أهل الصفة والمسئول عليهم والقائد أبو هريرة ، فسيقول لي النبي عليه الصلاة والسلام: قم فاسقهم، فإذا هذا القدح لثمانين يشربون منه فماذا سيبقى لي؟ يقول: ولم يكن بدٌ من طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فذهبت ودعوت الجميع وأخذوا مجالسهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا هريرة ! قم فاسقهم، يقول: فأخذت القدح وأناوله للصحابي الأول فيشرب ويشرب إلى أن يرتوي، ثم يعطيني فأعطيه للثاني... حتى انتهوا، فجئت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأعطيته، قال: بقيت أنا وأنت؟ فقلت: صدقت، فنظر إلي النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أبا هر ! اجلس فاشرب، قلت: اشرب أنت يا رسول الله، قال: بل اشرب أنت، (اجلس أبا هر) -هذا الشاهد- فجلس فشرب حتى ارتوى، قال: اشرب الثانية، فشرب حتى ارتوى، قال: اشرب ثالثة! فشرب، قال: اشرب، قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً! لا يدخل في جوفي قطرة بعده أبداً، فسمى النبي عليه الصلاة والسلام وشرب بعد ذلك ما بقي في هذا القدح ).

    الشاهد: كناه بـأبي هر ، وبـأبي هريرة ، فكان أبو هريرة يحب هذه الكنية: أبو هر أكثر من أبي هريرة ؛ لأن هذه كنية في الجاهلية واستعملها خير البرية، وأما تلك الكنية فهي خاصة به من قبل خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، فكان يقول كما في المستدرك في الجزء الثالث صفحة: (507)، وإسناد الحديث صحيح، ورواه البغوي كما قال الحافظ في الإصابة في الجزء الرابع صفحة: (206) وقال: إسناده حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: لا تكنوني أبا هريرة ، ولكن قولوا: أبا هر ؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كناني بـأبي هر ، ولئن تكنوني بالذكر الهر خير من أن تكنوني بالأنثى، رضي الله عنه وأرضاه.

    أبو هر هذه كنية من النبي عليه الصلاة والسلام، نقف عند إسلامه ثم بعد ذلك علمه ومكانته رضي الله عنه وأرضاه.

    نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756221894