إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب حد الزنا [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشريعة الإسلامية كاملة، وقد جعلت لكل حكم شرعي قدراً، ومن الأحكام التي قيدت فيها الشريعة تقييداً شديداً إثبات الزنا، إذ لابد لإثباته من توافر عدد من الشروط، حتى لا تكون أ‘راض المسلمين غرضاً لأصحاب الأغراض والنوايا السيئة.

    1.   

    شروط وجوب حد الزنا

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط].

    بين المصنف رحمه الله حكم الشريعة في حد الزنا، والحدود التي فصلها دليل الكتاب والسنة بالتفريق بين البكر والثيب، ثم ذكر رحمه الله صفة الجلد وصفة الرجم اللذين ثبت بهما الدليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا شرع في بيان الشروط التي ينبغي توافرها حتى يحكم بوجوب الحد.

    قوله: (ولا يجب) أي: ولا يثبت، والواجب في لغة العرب يطلق بمعنى: اللازم، ويطلق بمعنى: الثابت، وهنا يصح أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يلزم الحد إلا بثلاثة شروط، فحينئذٍ يكون الواجب بمعنى اللازم المحتم؛ لأنه لا يجوز تأخير الحدود، وإذا ثبتت الحدود على الصفة الشرعية؛ فيجب أن تنفذ ولا تعطل، وإما أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يثبت، وكلاهما صحيح، يقال: وجب، إذا ثبت، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، وكذلك أيضاً يقال: وجب، بمعنى لزم، كما تقول: هذا واجبٌ عليك، ومنه الواجبات الشرعية.

    وقوله: (إلا بثلاثة شروط) أي: لا بد من تحقق هذه الثلاثة الشروط حتى نحكم بوجوب الجلد مع التغريب أو الجلد مع الرجم على التفصيل الذي بيناه.

    الشرط الأول: تغييب الحشفة

    قال المصنف رحمه الله: [ أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها ].

    لا يحكم بثبوت الزنا إلا إذا غيّب رأس الذكر، وعبّر عنه المصنف رحمه الله بالحشفة، وهي: رأس الذكر، وقد فصل العلماء رحمهم الله وبينوا هذه الأمور؛ لأنه ينبغي للقاضي وللعالم وللمفتي ألا يحكم بالزنا، ولا يصف الشخص بأنه قد زنى فعلاً إلا بعد أن تتوافر هذه الشروط، ويكون هذا الأمر على وضوح لا لبس فيه، فلا بد أولاً من وجود فعل الجريمة، وتنتفي الشبهة، ثم بعد ذلك يثبت على المجرم فعله، فإذا حصل فعل الجريمة، وانتفت الشبهة، وقام الدليل على وقوعها؛ فحينئذٍ يجب تنفيذ حكم الله عز وجل، هذا من حيث الأصل.

    يبقى سؤال: متى يحكم على نفسه بأنه قد زنى فعلاً؟ ومتى يحكم القاضي بأنه زان؟

    كل ذلك يحتاج إلى وجود الفعل، فبيّن رحمه الله أن تغييب الحشفة -وهي رأس الذكر- يثبت به الزنا، ويترتب ما يقرب من ثمانين حكم شرعي على تغييب هذا القدر.

    قال رحمه الله: (تغييب حشفته الأصلية)، فإذا كان رأس الذكر مقطوعاً، فالعلماء رحمهم الله ذكروا أن العبرة بقدرها، فإذا غيّب قدرها فقد ثبت الزنا، وأما لو لم يحصل التغييب للحشفة بأن استمتع بالمرأة دون تغييب حشفته في فرجها، ولم يحصل الإيلاج؛ فإنه لا يحكم بزناه، فلا بد من وجود هذا الشرط حتى يحكم بفعل الجريمة على الوجه المعتبر.

    وقوله: (تغييب حشفته) أي: في الفرج المعتبر شرعاً.

    قال المصنف رحمه الله: [ في قبل أو دبر أصليين].

    قوله: (في قُبل) إذا كان زنا، وقوله: (أو دبر) إذا كان لواطاً -والعياذ بالله-.

    وقوله: (أصليين) أخرج مثلاً الدمى واللعب الموجودة الآن في زماننا، فإنه لو حصل تغييب لفرجه فيها -والعياذ بالله-؛ فإن هذا ليس بفرج أصلي، ولا يحكم بكونه زانياً، وهكذا لو وضعها في قماش أو قطن أو وسادة أو غير ذلك وغيّب هذا القدر؛ فلا يحكم بكونه زانياً، بل لا بد أن يغيب رأس الذكر، وأن يكون ذلك في فرج أصلي، فخرج غير الأصلي.

    قال المصنف رحمه الله: [ حراماً محضاً].

    قوله: (حراماً) أي: هذا الفرج حراماً، فخرج الفرج المباح، فلو أنه غيب حشفته في قبل امرأته؛ فإنها ليست بحرام، وقوله: (محضاً): أي: لا شبهة فيه، وفي بعض النسخ: محصناً، وهذا تصحيف، والصواب: محضاً، أي: أن هذا الفعل وقع في موضع حرمته لا شبهة فيها، فخرج الموضع الذي فيه شبهة، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، وسيأتي تفصيل هذا في الشرط الثاني.

    والمباح هو في زوجته وفي أمته، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المعارج:29-30]، فجعل الاعتداء وحصول الجريمة فيما خرج عن الحلال، وذلك في قوله: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:7]، إذاً لا بد لثبوت الزنا أن يغيب حشفته في فرج غير معتبر شرعاً، وهو الحرام المحض الخالص الذي لا شبهة فيه، والسبب في هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات كما سيأتي.

    الشرط الثاني: انتفاء الشبهة

    قال المصنف رحمه الله: [ الثاني: انتفاء الشبهة ].

    أي: أن يكون وطؤه لهذا الفرج لا شبهة له فيه، ولا تأويل له فيه، فإن كانت عنده شبهة؛ فإن هذا يدرأ عنه الحد، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، ومن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإن الإنسان الذي التبست عليه الأمور، واختلطت عليه، أو ظن الحرام حلالاً، ووقع فيه وهو يظن أنه مباحٌ له شرعاً؛ ليس كالذي يفعل ذلك عن قصد وطلب ومحبة وعلم بحرمته.

    وقوله: (انتفاء الشبهة) أي: ألا توجد الشبهة بالنسبة للفاعل أو المفعول أو هما، فإذا وجدت الشبهة في أحدهما انتفى الحد عنه، وأما الآخر فإنه يبقى عليه الحد على الأصل الشرعي، وأصل المشتبه: يقال: شابه كذا، إذا كان قريباً منه في الصفات بحيث إذا نظرت إليه ظننته الآخر، ولذلك سميت الأشياء الملتبسة والمختلطة بالشبهات؛ لأن الإنسان الذي عنده شبهة يظنها حلالاً؛ لأن فيها شبه من الحلال، فمن وطئ امرأة يظنها زوجته، وتبين أنها غير زوجته؛ فإنه لا يثبت عليه الزنا، مثلاً: وجدها نائمة على فراش زوجته، فهذا يشبه الزوجة، ويجعله ظاناً حل المكان، وهذا ما يسمى بشبهة المحل، فالشاهد من هذا أن الشبهة تكون في الشيء المختلط والملتبس الذي تتقارب صفاته ونعوته بحيث يصعب على الإنسان أن يميزه عن غيره أو عن ضده.

    إذاً: قوله رحمه الله: (انتفاء الشبهة) يعني: ألا يكون عند الفاعل أو المفعول شبهة في فعله.

    قال المصنف رحمه الله: [فلا يحد بوطء أمةٍ له فيها شرك].

    لو أن رجلين اشتركا في شراء جارية، فدفع كل واحد منهما نصف القيمة، فلما ملكا الجارية ظنّ أحدهما أن ملكه للنصف يحل له وطأها؛ فوطأها على أنها مملوكة ليمينه، ولم يكن يعلم أن الجارية إذا كانت في شرك بين اثنين فأكثر؛ فلا يحل لأحد هؤلاء المشتركين وطؤها، فوطئها وهو يظن -بناءً على ملك اليمين- أنها تحل له، فلا يحد لوجود الشبهة، وهذا ما يسمى بشبهة الملك؛ لأن عنده شبهة في ملكية الجارية، وظن -بناءً على وجود هذه الشبهة- أن الله أحل له وطأها، والله عز وجل لم يحل له وطأها.

    قال المصنف رحمه الله: [ أو لولده ].

    لو وطئ الجارية التي فيها شركٌ لولده أو ملك لولده، وظن ذلك حلالاً له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة وغيره: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل كسب الولد ككسب أبيه، وجعله تابعاً لأبيه، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني)، فجعل الولد بضعة وقطعة من والده كالشيء الواحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)؛ فإذا اشتبه عليه الأمر بهذا فلا يحد، قالوا: إذا ملك الولد جارية؛ فللوالد شبهة في وطئها؛ لأن ملك الولد يشبه ملكه هو، فلو ظن أن ملك ولده للجارية يحل له وطأها، أو كان لولده شرك فيها، وليست ملكاً محضاً لولده وإنما فيها شرك، يشترك ولده مع شخص آخر فيها؛ فوطئها؛ فحينئذٍ يندرئ عنه الحد، ولو وطئ جارية يملكها ولده فلا إشكال؛ لأن الشبهة فيها قوية، وحينما يكون هو أو ولده مشاركاً للغير؛ فإن الشبهة أيضاً مؤثرة، فمن باب أولى إذا كان هو الذي يملك أو كان الشرك له هو.

    قال المصنف رحمه الله: [أو وطئ امرأة ظنها زوجته].

    هذا يسمى بشبهة المحل، مثلاً: رأى امرأة على صفات امرأته، وظنها زوجته؛ فوطئها، أو نامت امرأة أجنبية مكان امرأته ولم يتيسر إعلامه، نحو ما يحصل للرفقة أثناء سفرهم وارتحالهم إذا نزلوا في الأماكن؛ فربما نزل بعضهم في مكان بعض، ولربما نامت المرأة في مكان أختها، فجاء إلى فراشه ووطئ امرأةً يظنها زوجةً له، أو كانت المرأة تشبه زوجته، فظنها زوجة له فوطئها، ثم تبين أنها ليست بزوجة له، فهذا كله شبهة، والشبهة يدرأ بها الحد، ويقولون: إن الجريمة يكون فيها قصد الإجرام بالظاهر والباطن، فالشخص الذي يزني عالماً بحرمته عليه ويفعل ما حرم الله؛ فقد اجتمع فيه الأمران: الظاهر، وهو: فعل الزنا، والباطن، وهو: قصده وإرادته وطلبه ومحبته والتشوق له، وقصد فعل المعصية موجود فيه، والقصد الباطن هو النية، فعنده النية لفعل الحرام، والظاهر هو فعل الزنا.

    ولكن المشتبه وإن وقع في الزنا ظاهراً، فإنه في الباطن يظنه حلالاً له، فلم يجتمع فيه الأمران، وليس فيه معنى انتهاك الحرمة الذي يستحق به العقوبة، وهذا كما أشار إليه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام في مسألة اجتماع الظاهر والباطن في فعل المحرمات.

    قال المصنف رحمه الله: [ أو سريته ].

    ظنها سرية من سراريه فوطئها، فإذا وطئ من يظنها زوجة له أو أمة له، فالحكم واحد، المهم أن يكون هناك اشتباه في المحل، فصورة المسألة: أن يكون المحل في الأصل حلالاً له، زوجته أو سريته، ثم يحصل اشتباه في هذا المحل فيظن أن ذلك المحل حلالاً، فيطأ امرأة يظنها زوجته أو يطأ امرأة يظنها سريته أو أمته.

    قال المصنف رحمه الله: [ أو في نكاح باطل اعتقد صحته ].

    هذا يسمى بشبهة العقد، وتقدم معنا شبهة المحل، وشبهة الملك، وهي أقسام الشبهات، فهنا لو وطئ في عقد يظن صحته، كشخص لبس عليه في نكاح المتعة، وقيل له: إن نكاح المتعة جائز، والصواب أنه محرم، وفي أول الإسلام أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم عندما اشتكوا إليه الضرر، وهم مسافرون في الغزو، فقد كانوا يحتاجون إلى من يغسل لهم، ومن يقوم على شئونهم، فأذن لهم بالمتعة، والعرب كان من عادتهم الخوف من صحبة النساء في الغزو؛ لأنهم إذا غُلبوا أُخذت النساء سبايا، فيخافون على أعراضهم، ولذلك كانوا يحرصون -في الغالب- على عدم مرافقة النساء في مثل هذه الأسفار، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة رفقة أزواجهم لهم، وحاجتهم للنساء، فأذن لهم بالمتعة، ثم نسخ هذا الإذن، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة -كما في الحديث الصحيح- في خيبر، وحرمها في أوطاس، وحرمها عليه الصلاة والسلام في الفتح، وفي خطبة حجة الوداع، فهي حرامٌ إلى يوم القيامة، فلو أن شخصاً لبس عليه أحد من أهل البدع وخدعه حتى ظن أن هذا حلال، وعقد عقد متعة وهو يظن أنه عقد شرعي مباح له، ثم وطئ المرأة في هذا العقد المحرم، فقيل له: أصلحك الله! هذا عقدٌ باطل، والوطء فيه وطء زنا -والعقود الباطلة من اعتقد بطلانها ووطئ بها فكأنه زنى- فقال: ما علمت هذا! وكنت أظن أن هذا حلال، فهذا شبهة في العقد.

    كذلك إذا كان يقول بجواز عقد النكاح بدون شهود أو بدون ولي؛ فهذا ما يقام عليه الحد ولا يحكم عليه بالزنا؛ لأنه لا إنكار في المختلف فيه.

    فلو أن شخصاً عقد على امرأة بدون ولي، سافر إلى بلاد لا يشترط فيها الولي على مذهب الحنفية رحمهم الله وهو قول عن الإمام مالك -كما تقدم معنا في النكاح- فجاء وتزوج المرأة وتولت هي العقد، فهذا العقد لا يصح عند الشافعية والحنابلة، وإذا كان العقد غير صحيح فقد وطئ في عقدٍ غير صحيح، وهذه المرأة لا تحل له على القول الراجح؛ لأنه لا بد من وجود الولي لظاهر الكتاب والسنة، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة : (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، فلما عقد بهذا العقد الباطل رفع إلى قاض يرى بطلان هذا العقد، وأن هذا الوطء غير شرعي، لكن لا يجوز للقاضي أن يقول: هما زانيان؛ لأن هذا عنده تأويل، وعنده شبهة، ولذلك يقول العلماء: لا إنكار في المختلف فيه، أي: أن المسائل الخلافية بين أئمة السلف التي تقرر فيها الخلاف وانتقل إلى الخلف، أو وقع الخلاف فيها بين الخلف ولم تكن موجودة في عصر السلف، وعمل إنسان بأحد القولين معتبراً لفتوى من يجيز أو من يحرم؛ فلا إنكار عليه؛ لأنه كما يحتمل أنه مخطئ في قوله، كذلك أنت يحتمل أن قولك خطأ، وهذا في المسائل المحتملة، والأدلة المحتملة قد أذن الله بالخلاف فيها، كما قال سفيان رحمه الله: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32]؛ لأن دلالتها ليست على وجه واحد، بمعنى أنها ليست نصوصاً قطعية لا تحتمل، بل جاءت محتملة توسعةً من الله على عباده.

    على كل حال، إذا رأى أحد العلماء أو الأئمة أو القضاة بطلان هذا النكاح المختلف فيه ورأى غيره صحته، ثم عمل أحد الناس بالقول الذي يقول بالصحة ورفع إلى القاضي الذي يرى البطلان؛ لم يحكم بأنهما زانيان، ولا يجري عليهما أحكام الزنا، ولكن له أن يبين لهما أن هذا القول مرجوح، ويبين لهما أن الصحيح خلافه، فإذا اقتنع بقوله فذاك، وإذا بقي على القول الذي بخلافه؛ فلهما العمل بذلك القول، ما دام أن له دليله من الكتاب والسنة، وهذا هو الذي استقر عليه العمل عند العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين، هذا بالنسبة للعقود المختلف فيها.

    أمثلة أخرى للعقود المختلف فيها: هل ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين؟ -إذا قلنا: إن الشهادة شرط لصحة عقد النكاح- فهل يشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً؟

    قال طائفة من العلماء: يصح، وقال بعض العلماء: لا بد أن يكون الشهود عدولاً. وهل ينعقد النكاح بولاية الولي الفاسق إذا كان الأب فاسقاً وتولى نكاح ابنته؟ وهل تشترط العدالة في الولي؟

    وإذا قلنا: الولاية شرط، ثم عقد لها فاسق فهل يصح عقدها أو لا؟

    كل هذه المسائل لها وجهٌ من الصحة، فيبقى العقد على ظاهره، ولكن إذا كان القول بالجواز قولاً شاذاً لا يعتد به، وتبعه أحد من باب الشذوذ دون تأويل، فهذا حكمه حكم الزاني بلا إشكال، مثلاً: شخص يفعل المتعة ويقول: والله! المتعة جائزة، وقد استبانت له النصوص والأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا متلاعب ومتهتك يريد انتهاك حرمات الله؛ فلا ينفعه هذا التأويل، لكن من يلبس عليه أو يخدع أو يغتر بمن يقول ذلك من أهل البدع، وظن أن عنده علماً فأفتاه بذلك فعمل به؛ فحينئذ تأويله سائغ، قال بعض مشايخنا رحمه الله: مسائل الشبهات لا يفتي ولا يقضي فيها إلا خواص المفتين والقضاة؛ لأنها تحتاج إلى نظر في الشخص ومعرفة هل هو فعلاً متلاعب أو هو متأول.

    قال المصنف رحمه الله: [ أو نكاح أو ملك مختلف فيه ونحوه ].

    وهكذا ملك مختلف فيه، مثلاً: اشترى جارية ببيع مختلف في صحته، وظن أن هذا البيع صحيح، واشتراه على هذا الوجه، وتبين أن البيع فاسد، وقد استمرت الجارية في ملكيته شهراً أو شهرين أو ثلاثة أشهر وهو يظن أنها في ملكه ويطؤها، فنقول: إن هذا شبهة ملك، ولا يوجب ثبوت الحد عليه.

    قوله: (ونحوه) أي: ونحو ذلك مما يشبهه.

    قال المصنف رحمه الله: [ أو أكرهت المرأة على الزنا ].

    الإكراه تقدم معنا بيانه، وبيان الشروط التي ينبغي توافرها للحكم بكون الإنسان مكرهاً، فلو أن امرأةً هددت وقيل لها: إذا لم تزني نقتلك، وغلب على ظنها أن من هددها سيقتلها، ولا يمكن أن تدفع ذلك الضرر، ولا يمكن أن تستغيث، ووقعت في الإكراه على الصفة المعتبرة شرعاً؛ فإنها في هذه الحالة: لو زنى بها يسقط عنها الحد؛ لأن المكره أسقط الله عنه الكفر الذي هو أعظم الجرائم والذنوب، قال الإمام ابن العربي في تفسير قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]: إن هذه الآية أسقط العلماء بها الردة، وهي أصلٌ في إسقاط مسائل الإكراه كلها، وكما نبه على ذلك أيضاً الإمام القرطبي، وهما من أئمة التفسير رحمة الله عليهما، فإذا كان الكفر -الذي هو أعظم الذنوب- سقط بالإكراه فمن باب أولى الزنا.

    قال: (امرأة) فلو أكره الرجل؛ فهل يقع عليه الإكراه؟

    جمهور العلماء على أن الإكراه يقع على الرجال كما يقع على النساء، وقيل: يختص بالنساء؛ لأن الرجل لا ينتشر ذكره إلا وهو يريد الزنا، ويرغب فيه ويحبه، فلا يتحقق فيه الإكراه، ولكن هذا القول ضعيف، والصحيح قول الجمهور الذين يقولون: إن الإكراه يقع على الرجل ولو حصل منه ذلك؛ لأنه لو هدد بالقتل؛ فإنه يريد أن يدفع عن نفسه القتل، وكذا لو هدد بالضرر في نفسه أو ولده أو زوجته أو في أحد من الناس، وقيل له: إذا لم تفعل هذا، فإننا نقتل فلاناً أو نؤذي فلاناً، وتحقق عليه الإكراه، وهدد على الصفة المعتبرة شرعاً؛ فإنه في هذه الحالة -ولو انتشر ذكره- يعتبر مكرهاً، وإن كان لا يريد الشهوة كشهوة القاصد لها، وإنما وقع منه ذلك تحت الضغط، وهو في الأصل لا يريده، ولكنه يريد أن يدفع الضرر الأكبر، ومن هنا قال جمهور العلماء: إن الإكراه يقع على الرجال كما يقع على النساء، فلو أكره الرجل فحكمه كحكم إكراه المرأة، بشرط وجود الشروط المعتبرة في الحكم بالإكراه.

    الشرط الثالث: ثبوت الزنا

    قال المصنف رحمه الله: [الثالث: ثبوت الزنا].

    هذا الشرط يرجع إلى القضاء من حيث الأصل؛ لأن الحدود تستقر وتثبت عند القاضي، وقد بينا أن إقامة الحدود للسلطان، ومن يقيم مقامه من القضاة والمعنيين بتنفيذ أحكامهم، فلا بد من ثبوت الزنا وثبوت جريمته، وذلك يفتقر إلى أحد دليلين يثبت بهما الزنا ثم يحكم بوجوب تنفيذ حده.

    قال المصنف رحمه الله: [ ولا يثبت إلا بأحد أمرين ].

    ولا يثبت حد الزنا إلا بأحد أمرين، وهذا إجمال قبل البيان والتفصيل.

    قال المصنف رحمه الله: [ أحدهما: أن يقر به أربع مرات ].

    أحد الأمرين اللذين يثبت بهما حد الزنا: أن يقر بالزنا أربع مرات، والإقرار هو أقوى الحجج القضائية، وأقوى الأدلة الشرعية في وسائل الإثبات في القضاء، والإقرار هو: الاعتراف، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه بالضرر؛ فليس أحدٌ عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذباً وزوراً، ولذلك سيخبر عن نفسه بالحقيقة، ولهذا قالوا: إنه سيد الأدلة، وأعلى الحجج وأقواها، وبدأ به المصنف رحمه الله مراعاة لهذا الأصل، ولكن هذا الإقرار له ضوابط شرعية، وسيأتي -إن شاء الله- في باب القضاء الكلام على وسائل الإثبات، ومنها حجة الإقرار، وقد اعتبرت الشريعة هذا الدليل في جريمة الزنا، واعتبره النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم به، ونفذ به الجلد والرجم صلوات الله وسلامه عليه.

    بدأ المصنف رحمه الله بالإقرار مراعاةً للترتيب في قوة الحجج، وقوله: (أن يقر)، أي: يقر الزاني، لكن ما هي شروط من يقر؟

    أولاً: أن يكون بالغاً، فلو أن صبياً أقر بالزنا لم يعتد بإقراره؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم ولا يؤاخذ، وإقراره ساقط؛ لأنه دون التكليف.

    ثانياً: أن يكون عاقلاً، فلو أن مجنوناً أقر، لم يعتبر إقراره، ولذلك حينما اعترف ماعز بن مالك بالزنا وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، قال عليه الصلاة والسلام: أبك جنون؟)، وفي لفظ مسلم : (أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون)، فقوله: (أبك جنون)، (أبه جنون)، بحث عن هذا الشرط، وهو: شرط العقل؛ لأن الإقرار إذا كان من المجنون لا يقبل، والمجنون لا يوثق بقوله، وإنما الإقرار بمن يوثق بقوله، ومن لا يوثق بقوله من الصبيان والمجانين لا يعتد به.

    إذاً: يشترط أن يكون المقر بالغاً عاقلاً.

    وأيضاً أن يكون مختاراً، فلا يكون مكرهاً على الإقرار، فلو أن شخصاً هدده وقال له: إذا لم تقر أقتلك، أو أقتل أحد أولادك، فهدده على وجهٍ فيه ضرر على الصفة المعتبرة في الإكراه، وحمله على أن يقر، وأقر؛ فهذا إقرار ساقط، وكل إقرار بإكراه ساقط؛ لأن الإكراه -كما ذكرنا- يسقط الأحكام.

    واشتراط العقل يخرج أيضاً السكران، فلو أن سكران أقر بالزنا أثناء سكره وقال: إنه زنى، فلما أفاق، قيل له: إن هناك شهوداً شهدوا عليك أنك أقررت بالزنا، وارتفع الأمر إلى القاضي، فسأل الشهود فقالوا: أقر أثناء سكره، نقول: إن السكر يسقط الإكراه، ويعتبر شبهة تسقط الإقرار، والدليل على ذلك ما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقر ماعز عنده أربع مرات، قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، ثم قال: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، يعني: شم رائحة فمه، فأخبر أنه صاح)، فهذا يدل على أن إقرار السكران بالزنا لا يعتد به، سواءً كان سكره بمباح أو بمحرم، بمحرم كشخص شرب الخمر أو تعاطى المخدرات ثم أقر بحضور الشهود، أو بحلال مثلما يقع في العمليات الجراحية، يخدر المريض، وأثناء تخديره أو عند إفاقته يتكلم، فإذا أقر حينذاك بالزنا، أو سأله شخص عن جريمته فأقر بالزنا، فهذا كله لا يعتد الإقرار به، فيشترط في المقر أن يكون على الصفة المعتبرة شرعاً لصحة إقراره، والسكران لا يعتبر إقراره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الإكراه حال السكر.

    يشترط أيضاً أن يكرر الإقرار أربع مرات بأنه زنى، والأصل أنه إذا جاء إلى القاضي ليعترف بالزنا، فالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده، ويذكره بأن الستر أولى له، وأن الشريعة ندبت أن يستر نفسه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب ماعزاً أن يستر نفسه، ففي الصحيح أن ماعزاً قال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم ناداه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم قال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فرده وقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ثلاث مرات وهو يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ولذلك نص العلماء والأئمة على أن القاضي لا يقبل الإقرار من أول مرة، بل يذكر المقر بستر الله عز وجل عليه، ويحثه على ألا يقر، أما إذا أقر على الصفة المعتبرة -على مذهب من لا يرى تكرار الإقرار- فيؤاخذ به، لكن إذا نادى القاضي على وجه لم يبين فيه الجريمة، أو قال مثلاً: إني زنيت، ولم يستفصل منه القاضي؛ لأن قوله: زنيت، فيه نوع من الإجمال، (العين تزني، والرجل تزني)، ولربما ظن أن ما ليس بزنا زنا، ففي هذه الحالة قبل أن يطبق عليه شروط الإقرار يرده القاضي. انظروا إلى سماحة الشريعة! هنا حقوق الإنسان، وهنا الرحمة الحقيقية، وهنا المرونة الشرعية، وهذه المرونة جاءت في محلها، ولمن يستحقها، فإذا جاء من يريد أن يقر فمعنى ذلك أن عنده من الإيمان والخوف من الله عز وجل والصدق في التوبة ما ليس عند غيره، ولذلك لا يظن أحد أن هذا يشجع الناس على الجرائم، فالشريعة لا تترك الأمور هملاً، ولذلك يقول العلماء: إذا بلغت الحدود السلطان؛ فلعنة الله على الشافع والمشفع، وهذا يدل على أن الشريعة تحزم، ولكن هذه الجرائم تنهزم فيها النفوس، ويحصل فيها الضرر على الزاني وعلى قرابته وأهله وولده، وأسرته وجماعته، وهذا كله راعته الشريعة؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، ومن هنا فتح الله عز وجل أبواب التوبة، وضيق في مسائل الإقرار.

    اختار المصنف أنه يكرر الإقرار أربع مرات، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله، وهو الصحيح، وعند الشافعي وغيره لا يشترط تكرار الإقرار، ولو أقر مرة واحدة أخذ بإقراره.

    استدل العلماء الذين يقولون: إنه يشترط في الإقرار بالزنا أن يكرره أربع مرات بأن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ ماعزاً أربع مرات، وكل مرة يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ولم يعتبر منه المرة الأولى مع أنه قال: (إني أصبت حداً فطهرني)، واستدلوا بالقياس، فقالوا: إن جريمة الزنا تثبت بأربعة شهود، وكل إقرار قائم مقام الشاهد، وحينئذٍ لا بد من تكرار هذا الإقرار أربع مرات، وقالوا أيضاً: الأصل في هذه الجريمة إثباتاً ونفياً التكرار، ولذلك في شهادات اللعان يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، أي: أن زوجته زنت -والعياذ بالله- وأن الولد ليس بولده، فنزل الله عز وجل كل شهادة يمين في اللعان منزلة الشاهد، وجعلت هذه الوسيلة من وسائل الإثبات مبنية على البينة الأصلية في جريمة الزنا؛ لأن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأربعة، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4]، وهذا يدل على أنه لا بد من وجود أربعة شهداء، وهذا إجماع بين العلماء رحمهم الله، وإذا كانت البينة في جريمة الزنا لا بد فيها في الأصل من أربعة شهود؛ فالإقرار على الزنا كذلك، فنزلوا الإقرار منزلة الشهادة، وقاسوه على الشهادة وقالوا: يشترط التكرار أربع مرات بالإقرار كما يشترط في الشهود أن يكونوا أربعة، بجامع كون كل منهما بينة تثبت الحد.

    أما الذين قالوا: لا يشترط التكرار، فقد استدلوا بحديث الصحيحين في قصة العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها، فقال له: (إن اعترفت فارجمها)، وما قال له: إن اعترفت أربع مرات، وناقشوا ما استدل به الأولون وقالوا: إن الأصل في الإقرار ليس قول ماعز : إني أصبت حداً فطهرني، إنما جاء الإقرار بعد ذلك حينما صرح بالزنا، وصرح بأنه جامع المرأة، وعند ذلك لم يكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قالوا: لا يشترط التكرار.

    وعند النظر في أصل باب الإقرار، فالأصل أنه لا يشترط التكرار؛ ولذلك لو أن شخصاً ادعى على شخص مائة ريال، وقال له القاضي: هل له عليك مائة ريال؟ قال: نعم، فيكفي بالإجماع إقراره مرة واحدة، مع أن الشهادة في الأموال لا تكفي إلا بشاهدين أو شاهد مع اليمين، أو شاهد وامرأتين، أو أربع نسوة على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله.

    إذا ثبت هذا، فالإقرار في الأصل لا يكرر، ولكن من باب مراعاة مقصود الشرع قلنا: إن القول بالتكرار هنا أقوى وأولى بالصواب، ولكن من حيث النظر في الأدلة، كصنعة أصولية فالقول بعدم التكرار له قوة؛ لأن الإقرار من ماعز وقع في الجملة اللاحقة لا في الجملة السابقة، وهذا يقوي أن التكرار ليس بشرط، وأن الإقرار يكفي مرة واحدة.

    قال المصنف رحمه الله: [في مجلس أو مجالس].

    بعض العلماء يشترط أن يكون الإقرار في مجلس واحد، واعلم أن الإقرار لا يكون حجة إلا إذا كان في مجلس القضاء، وإذا شهد الشهود أن فلاناً جلس في مجلس واعترف على نفسه بالزنا، وشهدوا عليه بذلك؛ فهذا لا إشكال فيه، لكن نحن نتكلم عن الإقرار في مجلس القضاء، هل يشترط أن يكون في مجالس أو مجلس؟ في مجلس واحد يعتبر إقراره، ولكن لو فرق الإقرار في مجالس، فما الحكم؟

    بعض العلماء يقول: إن ماعزاً قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فاستغفر الله، فذهب ثم عاد، وأقر مرة ثانية، ثم ذهب ثم عاد، ثم ذهب ثم عاد، فيعتبرونها مجالس منفصلة؛ لأنه لما ولى ظهره للنبي صلى الله عليه وسلم ذهب ورجع غير بعيد، وكان في المسجد، ولا يكون الإقرار حجة إلا عند القاضي أو الإمام المعني بإقامة الحدود، هذا من حيث الأصل؛ لأن الإقرار يكون في مجلس القضاء والحكم، ومجلس القضاء تترتب عليه أحكام شرعية، وسيأتينا -إن شاء الله في باب آداب القاضي- الإشارة إلى هذا، ونذكر ما يختص به من الأحكام، فبعض الأشياء لو وقعت في غير مجلس القضاء لا تؤثر، ولكنها في مجلس القضاء مؤثرة، ولو حصلت من الشخص قبل مجلس القضاء والحكم؛ فليس كما لو حصلت منه في مجلس القضاء والحكم. إذاً: لا بد وأن يكون الإقرار في مجلس القضاء والحكم حتى يعتبره الإمام أو من يقيمه مقامه.

    قال المصنف رحمه الله: [ ويصرح بذكر حقيقة الوطء ].

    الشريعة راعت دفع اللبس، فإن بعض الناس قد يظن ما ليس بزنا زنا، ويظن أن الشهوة القاصرة تأخذ حكم الشهوة المتعدية، فلابد أن يصرح أنه زنى بالمرأة، وعادة الشريعة أنها تراعي الأدب والأكمل والأفضل، وعلم الله عباده في كتابه كيف يتأدبون إذا تكلموا وخاطبوا، وكيف يتجنبون الألفاظ المستبشعة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مس الختان الختان)، وقبله يقول الله عز وجل: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، يقول ابن عباس : إن الله يكني، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، وهذا من الأدب الرفيع الذي أدب الله به عباده ليتأدبوا به، وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها)، حتى أنه لما جاءته المرأة وسألته عن غسل الحائض، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يفصل بعض التفصيل وكلم المرأة ولكنها لم تفهم، ثم أشاح بوجهه، فجذبتها عائشة رضي الله عنها، وتولت أمرها، وكل هذا من كمال أدبه عليه الصلاة والسلام، لكن إذا كانت مسائل شرعية يتوقف بيانها على التفصيل أو كانت هناك عقوبة شرعية؛ فيأتي الشرع بما يناسب الحال، وبما يوافق المقال، مثلاً إذا جاء من يفتخر بالجاهلية أو ينادي بنداء الجاهلية، بقبيلته أو بجماعته أو بعصبة أو بطائفة أو بجماعة ويتعصب؛ قال عليه الصلاة والسلام: (من سمعتموه يدعو بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، يقال له -أكرمكم الله- عض ذكر أبيك البعيد، وهذا من شدة الشريعة مع أنها تراعي الآداب، لكن يختلف الأمر في مقام الزجر والقرع، فالعالم وطالب العلم يكون على أكمل ما يكون من الأدب، ولكن إذا انتهكت حرمات الله يرد ولا يستطيع أن يصبر، فيبين الحق كما (كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله)، فعند الزجر والتوبيخ تأتي الأمور بوضوح، وكذلك في حق الله عز وجل في القضاء، مثلاً: لو جاء شخص وادعى أنه زنى، لا يقبل منه إقراره ما لم يفصل في الذي فعله، حينئذٍ ويسأل عن الجريمة على وجه يتأكد منه القاضي أنه لم يلتبس عليه الأمر وأنه قد فعل الفعلة المحرمة، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـماعز : (لعلك قبلت؟ لعلك غمزت؟)، ثم قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح البخاري- : (أنكتها؟) يقول الراوي: لا يكني، ما جاء بلفظ الكناية، إنما صرح عليه الصلاة والسلام بذلك، وقال: (أدخل ذلك منك في ذلك منها كالمرود في المكحلة؟)، فبين عليه الصلاة والسلام الإقرار على وجه ليس فيه لبس، فيجب على القاضي أن يراعي هذا، وأن يسأل الزاني على وجه يعلم منه أن الجريمة قد وقعت منه على الصفة المعتبرة شرعاً.

    وقول المصنف: (ويصرح) التصريح ضد الكناية، والشيء الصريح هو: الذي لا احتمال فيه، والكناية مأخوذة من كنّ الشيء إذا استتر، ومنه حديث الاستسقاء (فلما رأى سرعتهم إلى الكنّ؛ ضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواذجه)، والكَنّ هو: الستر، فالمعنى إذا كان مستتراً؛ يقال عنه: كناية، وإذا كان اللفظ دالاً على المعنى دون احتمال؛ فهذا من باب التصريح، فهنا لابد أن يصرح بأنه قد جامع المرأة على وجهٍ ليس فيه احتمال، وهذا إثبات لحق الله عز وجل؛ لأن بعض الناس قد يلتبس عليه أمر الزنا، فمثلاً: لو أنه استمتع بامرأة فقبلها أو باشرها دون أن يولج فيها ذكره، فوضع ذكره على فرجها دون إيلاج وظن أن هذا زنـا كامل يقام به الحد؛ فلا بد أن يسأله على وجهٍ يتبين منه أنه قد فعل ما يوجب الحد.

    قال المصنف رحمه الله: [ ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد ].

    من شروط الإقرار في الزنا ألا ينزع ولا يرجع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، فمن أقر بالزنا له الحق أن يرجع، سواءً رجع قبل التنفيذ أو أثناء التنفيذ، فإذا رجع قبل التنفيذ يمنع التنفيذ ويوقف، ولو رجع أثناء التنفيذ يوقف أيضاً، مثلاً: أقر بكر بالزنا، وقبل أن يجلد قال: إنه لم يزن، ورجع عن إقراره، فإذا رجع عن إقراره فالصحيح من أقوال العلماء أنه يسقط الإقرار، ويسقط الحد، فيشترط ألا يرجع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن ماعزاً فر، حتى جاء في بعض الروايات أنه قال: إن قومي خدعوني، قالوا لي: إن النبي صلى الله عليه وسلم سيستغفر لك أو نحو ذلك، وهذا يدل على تأول منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه فيتوب، فيتوب الله عليه)، فعتب عليهم عليه الصلاة والسلام أنهم قتلوه، وهذا يدل على أنه إذا رجع عن إقراره؛ فرجوعه معتبر، ولذا يشترط العلماء عند تنفيذ الحدود أن يكون هناك الإمام أو نائبه لأجل إذا رجع المقر عن إقراره؛ يعتبر ذلك ويوقف تنفيذ الحد عليه، ولا يجوز أن يقام الحد عليه بعد رجوعه على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين الإكراه في القتل والإكراه في الزنا

    السؤال: لقد أشكل عليّ كيف أن المرأة المكرهة على الزنا لا يقام عليها حد الزنا بينما يقام الحد على من قتل وهو مكره؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

    لا إشكال في هذا إن شاء الله تعالى، وتوضيح ذلك: أن الإكراه شرطه أن يكون ما طلب من الشخص أقل مما يهدد به، فلو هددت المرأة أن تقتل أو تزني؛ فاختارت التوسع وزنت، فإن زناها أقل من القتل، ولو أن بعض الناس يستحب القتل على الزنا، لكن من حيث الأصل؛ جعل الله عز وجل جريمة القتل أعظم من الزنا، لكن حينما يهدد أحد ويقال له: اقتل فلاناً وإلا قتلناك، استوى الأمران؛ لأنه في هذه الحالة لو قتل فلاناً فقد قتله من أجل أن يعيش، فيكون استبقى نفسه بنفس أخيه، والنفس مع النفس حرمتهما واحدة، لكن الزنا مع القتل حرمتهما ليست بواحدة، ومرتبة الاثنان مختلفة، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3]، ولذلك تسقط المؤاخذة بالزنا عند الإكراه، ولا تسقط في القتل، والله تعالى أعلم.

    من هو العسيف؟

    السؤال: قول الصحابي رضي الله عنه: (إن ابني كان عسيفاً) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على البكر جلد مائة، وتغريب عام)، فهل يقوي هذا قول من قال بتغريب الرقيق؟

    الجواب: العسيف ليس له علاقة بالرقيق، من قال لك: إن العسيف هو الرقيق! العسيف هو: الأجير، فهذا حر، كان عسيفاً أي: أجيراً، وليس المراد أنه مملوك، فطالب العلم لا يفسر العبارات من عنده ثم يركب الإشكالات!

    حكم المطلق إذا زنى

    السؤال: هل الرجل المطلق يعتبر محصناً يقام عليه حد الزنا بالرجم أم يعتبر بكراً ويجلد، وكذلك المرأة المطلقة؟

    الجواب: كل من تزوج امرأة ووطئها ولو مرة واحدة، على الصفة المعتبرة في الوطء؛ فهو محصن إلى يوم القيامة، فإذا زنى بعد ذلك يطبق عليه حد المحصن. إذاً: لا يشترط أن تبقى عنده المرأة، ولا يشترط في المرأة أن يكون زوجها معها أثناء الزنا، فمن يثبت إحصانه بالوطء في نكاحٍ صحيح على الشروط التي ذكرناها في الإحصان؛ فلا يشترط بقاء زوجته عنده، ولا أيضاً أن تكون الزوجة معها زوجها، والله تعالى أعلم.

    حكم رجم الزاني بحجارة البيت الذي زنى بأهله

    السؤال: ما قولكم فيمن قال: إن حكم الله بالرجم للزاني يرجع إلى أن هذا الزاني هدم بيتاً، ولذلك يرجم بحجارة هذا البيت؟

    الجواب: نقول: إنه قال على الله بدون علم، هذه والله الجرأة، هل نهدم بيوت الناس من أجل أن نرجم الزناة؟ من قال: إن من زنت أو زنى نهدم بيت من زنى بها، ونأخذ حجارة البيوت للرجم؟ من قال بهذا الكلام؟ هذا قول على الله بدون علم، قوله: إنه هدم بيتاً فيرجم بحجارة البيت الذي هدمه، ما هذا؟ هل هذا علم؟

    علينا أن نحذر من بعض الوعّاظ والقصاص الذين ينمقون ويرقعون، ويحاولون أن يتفيهقوا، وليس عندهم علم ولا فقه، تجد الواحد منهم يتحذلق، ويأتي بالكلمات العجيبة، وسنبين هذا في الجزئية الثانية، والجزئية الأولى أن هذا كذب، وليس له علاقة، وليس بأمر صحيح؛ لأن رجم الزاني يكون بحجارة من الأرض وليس من حجارة البيت.

    ورجم الزاني عقوبة من الله سبحانه وتعالى، أمر بها من فوق سبع سماوات، وهي: تعبدية، جعل الله عز وجل عقوبة من زنى وهو محصن قد استوفى الشروط المعتبرة للإحصان؛ أن يرجم حتى يموت، ألا يقتصر هذا الحد في ردع الناس من فعله؟ بلى، بل يردع الأمة التي فعل فيها أو الجماعة أو القبيلة، فهي عبرة من أشد العبر، حتى إن الشخص لو حمل حجراً يريد أن يرجم زانياً فلا يرجمه إلا وقد أخذ من العبر والعظات ما الله به عليم، يهتز قلبه، ويرجف فؤاده، ويعرف عندها ما هي جريمة الزنا، وكيف يكون عقاب من دمّر بيوت المسلمين؛ لأنه أحصن وزوج ثم بعد ذلك لم يرض بحلال الله، بل ذهب يسعى إلى نساء المسلمين ليفسد أعراضهم ويهتكها عليهم؛ فهذه عقوبته من الله عز وجل، وتكون بالرجم ولا تكون بالسيف، بل تكون بما أمر الله عز وجل به، وليس لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.

    الجزئية الثانية: الشخص قد يأتي لحد من حدود الله عز وجل يريد أن يبين لماذا كان هذا؟ فيقول: من أجل كذا، بلا علم، فهذا من أخطر الأشياء، لا يجوز لأحد أن يقول: إن الحكم الشرعي لعلة كذا، أو لسبب كذا، إلا بطرق معروفة عند علماء الشريعة، تعرف بطرق التعليل، ومسالك التعليل، وهي طرق شابت فيها رءوس العلماء، وحارت فيها ألباب الحكماء، ألف فيها بعض العلماء خمسمائة صفحة في منزع العلة، وبيان ما هو علة، وما هو شبه علة؛ وما هو تخييل، ككتاب: شفاء الغليل وبيان مسالك التعليل، وبيان أوجه الشبه والتعليل. هذه أمور ليست فالتة لكل أحد، وليست نهباً لكل متحذلق يأتي ويتكلم، المصيبة الآن كثرة المتعالمين، الذين يحاولون أحياناً أن يتكلموا عن محاسن الشريعة فيخوضون في شيء لم يعلموه ولم يعوه، ولا يجوز لإنسان أن يصدقهم في هذا، وإذا كان الزاني المحصن هدم البيت ليرجم الزاني المحصن بحجارته، فلو أن بكراً زنى بامرأة متزوجة وهدم البيت، لكنه ما يرجم، انظر كيف التعارض؟ هذه ما انطبقت علته، هو يقول: من هدم البيوت يرجم، هذا خطأ، لو كان عنده علم ما قال هذا؛ لأنه لو كان الأمر كما ذكر لرجم البكر؛ لأنه لو جاء إلى امرأة وأغراها وزنى بها وهي متزوجة فقد هدم بيتها، ولولا أنه زنى ما انهدم البيت، فتعبيره خاطئ، ومثل هذا لا يصدق، ولا يكشف عوارهم إلا العلماء، وينبغي على الإنسان ألا يأخذ علم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ممن يوثق بعلمه، والحذر من القصاص والوعّاظ الذين يحاولون أن يحسنوا وهم مسيئون، زين لهم سوء عملهم، تجد الشخص منهم عجب الناس من بلاغته وفصاحته وتأثيره، فخاض في علم التعليلات، وليس عنده مسلك للعلم، وليس عنده ورع يمنعه عن القول على الله بدون علم، فالحذر من أمثال هؤلاء، والحذر من الخوض في التعليلات، علينا دائماً أن نراعي جانباً يقال له: جانب التسليم، وهذا هو أساس الإيمان والعقيدة، ما سمي الإسلام إسلاماً إلا من الاستسلام، التعليلات إذا لم تأت عن طريق عالم متمكن بصير لا تقبل.

    العلة تعرف بطريقين: الطريق الأول: يسمى الطريق النقلي، والطريق الثاني: الطريق العقلي.

    أما الطريق النقلي فهي: العلة المستنبطة بنص الكتاب أو السنة، وهو أن ينص الكتاب أو السنة على العلة، وهذه العلة المنصوصة مجمع عليها، والإجماع له مستند، وأما العلة المستنبطة بالعقل فهذه فيها كلام للعلماء رحمهم الله، ولها ضوابط وقيود.

    وعلى كل حال؛ أعود إلى أساس الأمر، وهو الرضا والتسليم، وعلينا دائماً أن ننتبه لمن يحاول تعليل الأحكام بلا علم، وأن نكون في الأصل مسلّمين قبل أن نكون معلمين، علينا أن نكون مسلمين مستسلمين قبل أن نكون من أهل الرأي والعقلانيين الذين يقول أحدهم متبجحاً: إذا لم أعرف شيئاً أو لم أعقل شيئاً في دين الله فلا أقبله! يعني لو جاءه نص من أصح النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء لم يبلغه عقله؛ يقول لك: لا، أنا ما أقبله! نسأل الله السلامة، ونعوذ بالله من انطماس البصائر، ونسأل الله بعزته وجلاله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا!

    وعلى المسلم أن يحذر وأن يحذر غيره من هذا، والخطباء والوعاظ عليهم أن يتقوا الله عز وجل، وألا يقولوا على الله بدون علم، وأن يحذروا مسائل التعليل، ويحذروا الكتب التي فيها وعظ وترقيق، وبيان لمحاسن الشريعة التي كتبها أناس لم يضبطوا الفقه وأصوله، وهذا أمر نعرفه عنهم بالخبرة، فهم يقعون في أخطاء شنيعة، لو أن هذه العلل أخذت على ظاهرها، لكانت هدماً لأمور من الشريعة مستقرة، فالحذر من مثل هذه الأمور، الحذر منها ما أمكن.

    وعلى كل حال؛ جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، ومن تقوى الله ألا يقبل العلم إلا من أهله، ومن أخذ العلم عن أهله؛ استنارت بصيرته، وحفظه الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، من كان علمه على أيدي العلماء من السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، يأخذ علمه وفهمه للنصوص عن سلف وأثارة وطريق بينٍ واضح؛ فقد هُدي إلى صراط مستقيم، ومن كان علمه تتبع العبارات، وتنميق الكلمات، وتحسينها خداعاً للمؤمنين والمؤمنات؛ فليبك على نفسه، فإنه قد قال على الله بدون علم، وليقفن بين يدي الله ويسأل عما قال، فعلينا أن نحذر من ذلك، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل، والله تعالى أعلم.

    زكاة الرطب

    السؤال: هل في الرطب زكاة أم أن الزكاة خاصة بالتمر؟

    الجواب: الرطب فيه زكاة، ولكن لا تخرج الزكاة رطباً، وإنما تخرج تمراً بعد الحصاد والجذاذ، بعد أن ييبس يقدر ما في البستان وما في النخل بالخرص عند بدو الصلاح كما تقدم معنا في كتاب الزكاة، فيأتي الخارص وينظر في النخل عند بدو صلاحه، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص النخل عند بدو الصلاح قبل أن يصير رطباً، وقبل أن يصير تمراً، ثم يطرح منه الربع؛ لأن هناك ما تسقطه الرياح، وهناك ما يأكله سابلة الطريق، وهناك المنيحة ونحوها، فهذا يسقط، ثم ينظر لو كانت مثلاً أربعة آلاف صاع، يسقط ألف صاعٍ، ويقول: هناك ثلاثة آلاف صاع، هذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه (وصى الخارص أن يسقط الثلث أو الربع) مراعاةً لذلك، وإذا كنا مثلاً خرصنا أربعة آلاف صاع، وأسقطنا الثلث وحددنا القدر الواجب العُشر أو نصف العشر -على حسب السقي-؛ فإن الواجب أن نخرجه تمراً، فلو أنه أخرج الثلاثمائة صاع الواجبة عليه رطباً؛ لم يجزه، لا بد أن يخرجها تمراً، والله تعالى أعلم.

    حكم بيع المعيب

    السؤال: اشتريت سيارة فوجدتها معيبة، فهل يجوز لي بيعها بهذا العيب أم ماذا أفعل؟

    الجواب: العيوب تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة؛ إن كانت عيوباً مؤثرة، وهي عيوب الزكاة المؤثرة، وضابطها: ما يوجب نقصان المالية نقصاناً مؤثراً، مثلاً: السيارة فيها عيب يؤثر في مشيها ويضر، وقد يقلب صاحبها أو يحدث له ضرراً، فهذا العيب مؤثر، أول شيء يشترط في العيب أن يكون مؤثراً. ثانياً: أن يكون موجوداً في السلعة أثناء العقد، أو قبل العقد، فلو طرأ في السلعة بعد العقد؛ فإنه طرأ على ملكي، ولا يجوز لي أن أرد في هذه الحالة، أي: في حالة إذا كان العيب مؤثراً وطرأ أثناء العقد أو بعده.

    والشرط الثالث: أن يكون المشتري لا علم له بهذا العيب، البائع لم يبين له العيب، أما لو قال له: في سيارتي عيب كذا وكذا وأعلمه به؛ فقد سقط حق المشتري، هذه الشروط لا بد من وجودها للرد بالعيب: أن يكون العيب مؤثراً، وأن يكون موجوداً في السلعة أثناء العقد أو قبل العقد؛ وإذا قلنا: أثناء العقد فمن باب أولى قبل العقد، وأن يكون المشتري لا علم له بذلك العيب، إذا ثبتت هذه الشروط؛ فمن حقك الرد، والأصل في هذا حديث أبي هريرة في الصحيح عنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها)، وفي اللفظ الآخر (فمن اشترى شاة مصراة ثم حلبها؛ فهو بخير النظرين: إن رضي أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، فالشاهد قوله: (إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها)، والصاع من التمر عوضاً عن الحليب الذي حلبه، وهنا السيارة إذا وجدت فيها عيباً، نقول لك: أنت بالخيار، إن شئت تبقي السيارة في ملكك، وإن شئت تردها على البائع، ولا يجوز أن تغش بها المسلمين، فإذا أردت أن تبيعها على غيرك، فإنك تقول له: فيها عيب كذا وكذا، نصيحةً وبراءةً من العيب، وإلا كان بيع غشٍ، وأنت المسئول عن ذلك العيب، والله تعالى أعلم.

    وصايا لطلاب العلم

    السؤال: أنا فتاة منّ الله علي بالاستقامة ولله الحمد والمنة، ولي أكثر من ثلاث سنوات وأنا أحضر هذا الدرس المبارك دون انقطاع، والحمد لله، والمشكلة أني حتى الآن لا أجد نفسي طالبة للعلم كما ينبغي! وسؤالي: كيف أكون طالبة علم مستفيدة؟

    الجواب: في هذا السؤال جانبان:

    الجانب الأول: أوصيك أختي في الله، وأوصي كل طالب علم، وكل من حضر أي مجلس فيه ذكر الله عز وجل على الوجه الذي يرضي الله؛ أن يلهج لسانه بالثناء على الله، وأن يحمد الله على نعمته، فلا يدري كم حاز من الأجر والثواب والدرجات العلى في جنة الله بما تعلمه! لأن الله يرفع الذين أوتوا العلم درجات، وليس درجة، قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، قال بعض العلماء: من جلس مجلساً فتعلم علماً لوجه الله، وضبطه وأتقنه؛ رفع الله درجته، قال الله: (دَرَجَاتٍ)، وما قال: درجة واحدة، وقرن الله العلم بأعز الأشياء وأحبها إليه على الإطلاق وهو: الإيمان والتوحيد، فانظر إلى أي شرف وإلى أي مكان بلغ العلم وبلغ أهله!

    ثانياً: أن تعلمي أن العلم نعمة من الله سبحانه وتعالى يؤتيها من يشاء، وعلى الإنسان أن يدرك أنه متى جلس في مجالس العلماء وهو يريد أن يتعلم، ويريد أن يضبط العلم؛ فأجره على الله سبحانه وتعالى، قد يقوم من ذلك المجلس وقد بدلت سيئاته حسنات، وهذا من أعلى الدرجات، وقد يقوم من ذلك المجلس كيوم ولدته أمه، وقد يقوم من ذلك المجلس برحمة من الله عز وجل لا يعذب بعدها أبداً، عطايا وهبات، يقال لهم: قوموا قد بدلت سيئاتكم حسنات، وقد يقوم من ذلك المجلس بشيء نذر المسلمون والصالحون والأخيار والأبرار وصفوة الله عز وجل أرواحهم في سبيل الله من أجل أن يفوزوا به ألا وهو محبة الله، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ)، فالذين جلسوا في ذكر الله لله وفي الله، فقد وجبت وثبتت لهم محبة الله عز وجل، فأي شيء ثلاث سنوات!

    كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً واحداً يبارك له فيه، ليس من شرط النفحات والخيرات والبركات التي تكون في مجالس العلم أن الإنسان يصير عالماً، قد يُحفظ الإنسان في دينه فلا تضره فتنة، قد يحب العلماء ويحرص على مجالسهم فيعصمه الله عز وجل من البلايا في نفسه وفي عقله، يحفظ له عقله ونور قلبه، وقد يحفظه الله عز وجل في ولده، وقد يحفظه الله عز وجل في قرابته وأسرته، وقد يحفظ الله عليه ماله؛ لأن الله عز وجل لا أوفى منه لعباده، ما أحد يحب العلماء إلا نال خيراً، ولا غشي مجالسهم إلا عن محبة، ولا استمع إليهم إلا عن محبة، ولا جاء زحفاً على الركب إلا عن محبة، يترك مصالحه ويترك دنياه وراء ظهره، ويترك اللهو واللعب وهو في عز شبابه، وقد يكون عنده المال والتجارة ويترك ذلك كله من أجل أن يسمع كلمة تذكره بالله عز وجل، أو يجلس مجلساً تتنزل عليه السكينة وتغشى فيه الرحمة، ثلاث سنوات وأنت تطلبين العلم! فالهجي بحمد الله والثناء عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها في هذه المجالس المباركة، وفي هذا الذكر، وفي هذا الخير، وفي هذه البركة، واحمدي الله سبحانه وتعالى على منه وكرمه، بل إني حينما أسمع ذلك والله! إن القلب يتفطر ألماً وأقول: سبحان ربي! الذي سخر لي أن أجلس للناس سنة وليس سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو عشراً، والله! إن الإنسان لو جلس محاضرة واحدة حفظه الله عز وجل بها، يمشي مسافة الكيلو والكيلوين والعشرة والمائة حتى يصل إلى المكان الذي يلقى فيه كلامٌ يرضي الله ورسوله، فحريٌ به أن يبكي فرحاً بنعمة الله عز وجل عليه، وحريٌ بنا ذلك ونحن في نعم قليل من يتذكرها، كم من دروس مرت علينا إلى الآن ونحن في عافية؟ قد لا يشعر إلا القليل منا كيف أن الله فرغه؟ والله قادر قبل الدرس بدقائق أو أثناء الدرس أن يسلط عليه صداعاً لا يستطيع أن يفهم معه شيئاً، والله قادر أن يسلط عليه حصى في بوله، أو يسلط عليه شغلاً في أهله وماله وولده، من الذي فرغك؟ ومن الذي أمدك بالحول والقوة ويسر لك ذلك؟ ثم لما جلس، من الذي فرغ لك هذا، وصفى لك هذه الحواس؟ ومن الذي أعطاك السمع والبصر لعلك أن تعقل ولعلك أن تشكر الله عز وجل؟ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ[السجدة:9]، قليلاً ما تشكرون إي وربي! فالإنسان يوصى أول شيء بهذا، ولقد كنا أيام طلب العلم نزدري أنفسنا ونقول: ما استفدنا شيئاً، ومن يقول: جلسنا ثلاث سنوات وما شعرنا أنا طلاب علم؟ لا، بل أنتِ طالبة علم، وأنت طالب علم، إذا ما غدوت إلى مجلس علم وأنت تريد وجه الله لا رياءً ولا سمعة؛ فأنت طالب علم على قدر ما حصلت، هذا الجانب الأول.

    الجانب الثاني في السؤال: كيف تصير طالب علم؟

    أولاً: الإخلاص لله عز وجل.

    ثانياً: ليس العيب في الدرس وفي العلم، العيب فينا، وليس العيب في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشا- بل العيب فينا، كل الأمور مسهلة ميسرة، طالب العلم قبل أن يأتي إلى الدرس المفروض أن يقرأ الدرس المرة والمرتين والثلاث والأربع، فمن منا يقرأ الدرس؟ من منا يراجع قبل جلوسه في مجالس العلماء؟ ومن منا إذا راجع حرص أن تكون مراجعته في أعلى الدرجات حتى إنه ليحفظ الكلمات كما هي؟ قليل من يراجع!

    ثالثاً: إذا جلست في مجلس العلم، وطن نفسك على الإخلاص، واحرص كل الحرص على أن تكون كأحسن ما يكون عليه طالب العلم، وكأفضل ما يكون عليه طالب العلم من الإنصات والوعي عن الله ورسوله، ولا يمكن لأحد أن يكون بالمرتبة الطيبة في الوعي عن الله ورسوله إلا إذا قدر الوحي عن الله ورسوله حق قدره، والآية الواحدة من كتاب الله إذا فسرت له أو ذكر له الحكم الشرعي من كتاب الله عز وجل؛ طار بها فرحاً، كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثاً واحداً يضع الله له به البركة فيبلغ الآفاق، وتسير به الركبان، ويبلغ به من النفع ما الله به عليم، بورك لهم في علمهم، فلما تأتي إلى مجالس العلم عليك أن تحس أن كل كلمة لها قيمة، وكل كلمة لها معنى، وكل كلمة لها أثر؛ فيبارك الله لك في علمك.

    إذاً: الإخلاص ثم قراءة الدرس قبل الجلوس، ثم الانتباه أثناء الشرح والضبط لما يقال، وأي إشكال يسجله ويكتبه.

    رابعاً: إذا انتهى مجلس العلم يحرص ألا يشغل نفسه بعد مجلس العلم بشيء عن ذكر الله عز وجل وحمده، أي مجلس تجلسه بمجرد ما تقوم تحمد الله أولاً: أَنِ اشْكُرْ لِي[لقمان:14]، أمر الله بشكره، وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ[البقرة:152]، فأي نعمة لا تشكر فإن الله ينزع منها البركة، وقرن الله العبادة بالشكر، فمن شكر زاده الله عز وجل، فأوصيك بالشكر، ولا تستطيع أن تشكر شكراً على أحسن ما يكون عليه طالب العلم في الشكر إلا إذا عرفت فضل الله عز وجل عليك أولاً، ثم فضل هذه الصفوة من علماء السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فترحمت على علماء المسلمين، وقلت: جزاهم الله عنا خير الجزاء، هذا كتاب الإمام العالم الحجاوي رحمه الله وأصله للإمام ابن قدامة، من منا لما قام قال: رحمة الله عليه، اللهم اجزه عن الإسلام خير الجزاء؟ من منا إذا جاء وجلس مجلس العلم وتعلم من هذا العالم الذي يقرأ كتابه ورأى فضله عليه ترحم عليه؟ ينبغي أن يكون الناس أوفياء لعلمائهم ولسلفهم وأن يتربوا على حب العلماء، فلما نسينا الدعاء لعلمائنا، والترحم على أمواتهم، وحفظ جميل أحيائهم؛ نزع الله شيئاً يقال له: البركة، وإذا نزعت البركة -أجارنا الله وإياكم- من الشيء فكلا شيء، والله! لو أن الشخص ملئ علماً من أخمص قدمه إلى شعر رأسه ولم يضع الله البركة في علمه؛ فكأنه لم يعلم شيئاً! البركة في العلم تكون بالشكر، ومعرفة فضل من له فضل، ولا يبارك للإنسان إلا بهذا، وجرب ذلك، كن وفياً لعلماء السلف والخلف والتابعين لهم بإحسان، وترحم على أمواتهم، واعتقد حبهم وفضلهم، وانظر كيف يبارك لك في علمك، وكيف تجلس المجلس في الأسبوع -ليس الشهر وليس السنة- وترى بركة العلم؟ قد نجلس في مجالس العلماء ولا نعرف قدر ذلك العلم الذي نتعلمه! ونقوم من تلك المجالس وقلّ أن يشعر الإنسان بنعمة الله عز وجل عليه! ثم تترك هذه النصوص دون مراجعة! فكيف نضبط العلم وكيف نراجع العلم؟!

    والوصية الأخيرة: إذا قرأ طالب العلم وضبط الدرس قبل مجلس العلم ثم راجع بعد مجلس العلم؛ أعد نفسه للسؤال، وهذه الوصية الأخيرة التي أختم بها، أن تهيئ نفسك أنك ستسأل عن هذا العلم، وكان من وصايا بعض مشايخنا -نسأل الله بعزته وجلاله أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات وأن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء- أنه كان يقول: يا بني! احرص على أي شيء تتعلمه أن تضع في نفسك أنك ستسأل عنه.

    كانت بعض الفوائد بسيطة نادرة ما كنت أظن أن أحداً يسأل عنها، والله سئلنا عنها على رءوس الأشهاد، فمن وضع نفسه أنه سيسأل عن هذا، وأنه سيبتلى بقضاء أو فتوى أو بتعليم أو تدريس؛ فتح الله عليه، وبارك في علمه، وحفظ هذا العلم وحافظ عليه، وحينما يقوم طالب العلم من مجالس العلم أو يتعلم العلم ولا يستشعر أنه سيسأل عن ذلك؛ فإنه لا يغبط بذلك ولا يبارك له، فإذا كان الإنسان لا يحس أنه مسئول في الدنيا، أو نظر إلى الناس وقد زهدوا في العلم والعلماء وغفلوا عن مكانة الحكمة والحكماء، وقال: من يأتي يسأل عن هذه الأنوار الربانية، والحكم الإلهية، وهذه النصوص التي شرفني الله عز وجل بالعلم بها؟ إذا ظن ذلك الظن؛ فعليه أن يتذكر أنه سيسأل بين يدي الله عن هذا العلم، إذا لم يسأله الخلق فسيسأله الخالق، فاضبط هذا العلم وراجعه وأتقنه لوجه الله، فإن الله يبلغك أجر من علم الناس، وحفظ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم دينها وشرعها.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، اللهم! اجعله خالصاً لوجهك الكريم، ونسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، يا ذا الجلال والإكرام! أن تسبغ شآبيب رحماتك ومغفرتك على قبور علماء المسلمين من السلف الصالحين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأن تجعلنا معهم، وتحشرنا في زمرتهم، وأن ترزقنا حبهم، والسير على نهجهم، وأن ترضى عنا، وأن تجعل ذلك كله لوجهك، وابتغاء مرضاتك يا رب العالمين!

    اللهم بارك لنا في علومنا، وفي أفعالنا، وفي أفهامنا، وفي أوقاتنا، واجعل ذلك كله حجة لنا لا حجة علينا.

    اللهم بلغنا في العلم ما يرضيك عنا، اللهم! بلغنا في العلم ما يرضيك عنا، اللهم! بلغنا في العلم ما يرضيك عنا، اللهم! بلغنا في العلم ما يرضيك عنا، اللهم بلغنا في العلم ما يرضيك عنا، إلهنا لا إله إلا أنت أعطنا في العلم أفضل ما أعطيت عالماً في علمه، وطالب علم في طلبه، وبارك لنا في جميع ذلك حتى تبلغنا الجنة، يا حي يا قيوم!

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756318489