إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الحدود [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحدود: هي زواجر وجوابر، فهي زاجرة عن الوقوع في المعصية، وهي جابرة ومكفرة لمن وقع فيها وأقيم عليه الحد المقدر شرعاً. وقد اهتم الشارع الحكيم ببيان هذه الحدود، لما فيها من حفظ الحقوق العباد من أن تهدر أو يتساهل بها.

    1.   

    الحدود الشرعية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الحدود].

    تقدم معنا معنى الكتاب، وأنه يطلق في لسان العرب على مادة: الجمع والضم، وأطلقه العلماء رحمهم الله على كتب العلم؛ لأنها تضم المسائل والأحكام بعضها إلى بعض، فإذا ضم بعضها إلى بعض؛ اجتمعت النظائر تحت مسمىً واحد أو أصل جامع، ولا يعبرون بهذا التعبير إلا إذا كانت المادة كبيرة، وبينا منهج العلماء رحمهم الله في ذلك، فكأن المصنف رحمه الله انتهى من شيء ودخل في شيء آخر، وقد كنا في كتاب القصاص والديات وما يتبع ذلك من أبواب، واليوم إن شاء الله نستفتح -بالاستعانة بالله عز وجل، والبراءة من الحول والقوة- بالحدود.

    تعريف الحدود لغة واصطلاحاً

    الحدود في لسان العرب: جمع حد، وأصل الحد كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: الفاصل بين الشيئين، والحائل بين دخول بعضهما على بعض، فإذا فصل الشيء بين اثنين فهو حدّ، ويقال: الحد انتهاء القدر، فإذا كانت نهاية لا يمكن أن يتجاوزها الإنسان فهو حد.

    ومن هنا اختلف العلماء، فقالوا: سمي الباب حداداً، وسمي السجّان حداداً؛ لأنه يمنع الإنسان من الخروج، والباب أيضاً يمنع الخارج عن الداخل، فالمقصود: أن مادة الحد في الأصل: المنع.

    والحدود فيها وجهان:

    الوجه الأول: قال بعض العلماء: إن الحدود مقدّرة من الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن الله عز جل قد حدّها، ووضع لها قدراً معيناً، لا يمكن لنا أن نزيد على ذلك القدر ولا أن ننتقص منه، فصارت حدوداً من هذا الوجه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولا يمكننا بحال أن نزيد على المائة ولا أن ننتقص منها، وأمرنا أن نجلد من قذف المحصنة المؤمنة أو قذف المحصن المؤمن ثمانين جلدة، وهي حد القذف، ولا يمكن لنا أن نزيد على هذا الحد ولا أن ننقص منه، قالوا: فلما حدّ الله عز وجل هذه الحدود بمقادير لا يمكن للمكلفين أن يزيدوا عليها ولا أن ينتقصوا منها سميت حدوداً من هذا الوجه، وبناء على هذا القول -وهو اختيار ابن قتيبة من أئمة اللغة وغيره رحمة الله عليهم- تكون الحدود راجعة إلى التقدير؛ لأنها مقدرات شرعاً، فهي عقوبات محددة من الله سبحانه وتعالى بنص الكتاب وسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

    الوجه الثاني: قالوا: إن الحدود مأخوذة من الحد، وهو: المانع الفاصل بين الشيئين، قالوا: إن هذه الحدود تمنع الشخصين المجرم الفاعل للمعصية ومن لم يفعلها، فالحدود تمنع الفاعل للجريمة إذا أقيم عليه الحد أن يعود أو يفكر مرة ثانية في العودة إلى تلك الجريمة، فمثلاً: لو أن السارق قطعت يده، فإنه غالباً -إذا كان عنده عقل يزجره ويمنعه- لن يعاود الكرة مرة ثانية؛ لأنه كلما أراد أن يعود إلى جريمته؛ نظر إلى يده، فتذكر تلك العقوبة وآلامها، فكفته وزجرته بإذن الله عز وجل ومنعته، فهي مانعة للشخص نفسه، وهي مانعة أيضاً للغير أن يفعل فعله، ومن هنا قال سبحانه وتعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] .

    وعلى هذا فالحدود زواجر وموانع، زواجر؛ لأنها تزجر الإنسان أن يعود مرة ثانية إلى فعل المعصية، وتزجر غيره وتمنعه من العود والتكرار للفعل، قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور:17]، فالخطأ يحرص الشرع على عدم تكراره، والزلة يحرص الشرع أيما حرص على عدم تكرارها من الإنسان، وفي ذلك صلاح لمن فعل المعصية، وصلاح لمن عافاه الله عز وجل من تلك المعصية.

    فالحدود هي: عقوبات مقدرة شرعاً للمنع من الوقوع في المعصية، وهذا التعريف تضمن المعنيين: كون الحدود مقدرة شرعاً من الله عز وجل، وكونها تمنع الغير من الوقوع فيها، فتتضمن معنيي الحد الذين أشرنا إليهما.

    أنواع الحدود الشرعية

    قال المصنف رحمه الله: (كتاب الحدود)، ولم يقل: كتاب الحد، فجمعها رحمه الله لاختلاف أنواعها وتعددها، فهناك حد الزنا، وحد القذف، وحد المسكر، وحد السرقة، وحد الحرابة وقطع الطريق، وحد البغاة، وحد الردة، فهذه سبعة حدود جعل الله عز وجل لها عقوباتٍ محددة مقدرة شرعاً، وألحق العلماء رحمهم الله بهذه الحدود باب التعزير، وهو الذي لا تقدير فيه، ويرجع فيه إلى اجتهاد القاضي وولي الأمر في تحديد عقوبة لمن ارتكب ما لا يصل إلى الحدود، بما يزجره ويتناسب مع فعله، وكذلك يمنع ويزجر غيره من أن يفعل كفعله.

    وهذه الأبواب الثمانية هي التي سيتكلم المصنف رحمه الله عنها في كتاب الحدود، وهذه الجرائم هي: جريمة الزنا، وهي أعظم الفواحش، وجريمة القذف، وهو فاحشة اللسان، وجريمة السكر، وهو من الجرائم المتعلقة بالشرب، وجريمة السرقة، وهي: الاعتداء على أموال الناس، والجرائم الأولى التي هي: الزنا والقذف؛ اعتداء على أعراض المسلمين، وجريمة السكر اعتداء على العقل، وجريمة السرقة اعتداء على أموال الناس، وجريمة الحرابة تشمل في بعض الأحيان الاعتداء على الأعراض، وتارة الاعتداء على الأموال، وتارة الاعتداء على الأنفس، وتجمع أنواعاً مختلفة من الجرائم، ولذلك جعل الله عقوبتها أنواعاً، وجريمة البغاة هي: الخروج عن جماعة المسلمين، ومحاربتهم، والعصيان والتمرد والشذوذ عن الجماعة، وهي تتضمن الاعتداء على جماعة المسلمين، وجريمة الردة هي: جريمة في أصل الدين الذي هو العقيدة، وأما التعزيرات فهي في جرائم مختلفة، تكون تارة بالاعتداء على العرض بما لا يصل إلى الحد، وتارة بالاعتداء على الأموال بما لا يصل إلى الحد، وتكون أيضاً اعتداء بالجنايات المختلفة التي لا تقدير فيها من المشرع سبحانه وتعالى.

    هذه الحدود على اختلافها جمعها المصنف رحمه الله في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الحدود).

    وهنا سؤال: هل نبدأ بالأعلى والأشد ثم نتدرج على حسب الجرائم أم نبدأ بنوع خاص من هذه الجرائم؟

    منهج المصنف رحمه الله أنه ابتدأ بحد الزنا، ثم أتبعه بحد القذف، ثم أتبعه ببقية الحدود، وغيره من العلماء لم يذكروا كتاب الحدود بعد الديات والقصاص، وإنما ابتدءوا بباب البغاة، ثم ذكروا باب الردة، ثم بعد ذلك باب الحدود، وقبل أن ندخل في تفاصيل أبواب العلم نذكر أنه من الأهمية بمكان معرفة المناسبات؛ لأنها تمهد لطالب العلم فهم الأبواب، وتربط المسائل الموجودة في الأبواب، وتبين علاقة بعض هذه الأبواب ببعض.

    أما العلماء الذين ذكروا حد البغاة؛ وحد قطع الطريق، وحد الردة عقب القصاص والديات؛ فذلك لأنها في الغالب تشتمل على القتل، فرءوا أنها أنسب بباب القتل، فجعلوها قبل الحدود، وفصلوها عن باب الحدود لمكان المجانسة في قضية القتل، لكونه قد ينتهي إلى القتل.

    وهذا منهج درج عليه بعض الأئمة مثل الإمام النووي رحمه الله، وغيره من الأئمة كـالبغوي ، فهؤلاء رءوا قوة العقوبة، وأنها وصلت إلى حد القتل، ففي القصاص إزهاق الأنفس والأطراف، والبغي وقطع الطريق قد يوجب القتل.

    والذين بدءوا بحد الزنا -كما درج عليه المصنف- تدرجوا في الحدود، ولهم ما يبرر هذا المنهج، فهم يرون أن أشد الحدود التي نص عليها الكتاب والسنة هو حد الزنا، وسنذكر لماذا أن حد الزنا هو أشد هذه الحدود حينما نبين أن الجلد في الزنا أقوى من الجلد في غيره، ويظهر هذا جلياً في العقوبات المقدرة، قالوا: وكون حد البغاة وقطع الطريق يوجب القتل ليس على كل حال، فقد لا يوجب قتلاً، ومن هنا لا يتأصل في إزهاق النفس فلا يلحق بباب الديات والقصاص، فرءوا أن المفترض أن يبدءوا بحد الزنا، والدليل على قوة هذا الحد:

    أولاً: أن الله سبحانه وتعالى شدد في عقوبة الزنا، ومن هنا نحتاج أول شيء أن ننظر لماذا قدم باب الزنا على باب القذف ثم على باب الخمر وبقية الجرائم؟

    أما تقديمه على باب القذف وباب الخمر فلا يشك أحد أن حد الزنا شدد الشرع فيه أكثر من هذه الحدود المتبقية، فالجلد في الزنا مائة جلدة، وفي القذف ثمانون جلدة، ومن هنا نعلم أن عقوبة الزنا أشد من عقوبة القذف.

    ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى غلظ هذه العقوبة حتى قال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فشدد في إقامة حد الزنا أكثر من غيره، فلم يذكر ذلك لا في حد السكر ولا في حد القذف.

    ثالثاً: أن الزنا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمه، أما الخمر فكان مباحاً في الشرائع التي قبلنا، وفي شريعتنا حرمه الله عز وجل، وجعل في تحريمه الخير والرحمة لهذه الأمة، فهديت هذه الأمة للفطرة، والخمر غواية وشر وبلاء.

    بالنسبة للقذف الأمر واضح، فإن القذف تبعٌ للزنا، وليس أصلاً للزنا؛ لأنه اعتداء على العرض بالمعنى، لكنه ليس اعتداءً على العرض بالحس، واعتداء المعاني دون اعتداء الحس.

    ومن هنا ابتدأ المصنف رحمه الله بحد الزنا، وفي هذا الباب الأول سيذكر المصنف رحمه الله أموراً تتعلق بإقامة الحد بخصوص حد الزنا، ولا يذكر أصولاً عامة للحدود، فالعلماء الذين قدموا حد الزنا -كالمصنف رحمه الله- يرون أن حد الزنا أصل وغيره ينبني عليه، ولذلك فإن عقوبة الجلد تفرعت على ما نص الله عليه في كتابه ووردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حد الجلد للزاني والزانية، ومن هنا قالوا: إن حد الزنا أصل انبنى عليه غيره خاصة في مسائل الجلد، وسيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأول جملة من المسائل والأحكام المتعلق بحد الزنا.

    الأدلة على مشروعية الحدود

    الأصل في شرعية الحدود: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الحدود في كتابه، فنص على حد الزنا، فقال سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، ونص على حد القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، ونص على حد السرقة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، ونص على حد الحرابة: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33].

    كذلك أيضاً في السنة جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جريمة الزنا: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وصح عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما اعترف بالزنا أقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد فأمر برجمه، قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، وفي قصة العسيف -كما في الصحيح- والعسيف هو الأجير، فقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أناشدك الله أن تقضي بيني وبين هذا الرجل بكتاب الله، فقال الآخر: وأنا أناشدك أن تقضي بيني وبينه بكتاب الله، إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا وأقام عليهما الحد، وهذه كلها سنن صحيحة في حد الزنا.

    وأما حد السرقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المخزومية كما في الصحيح، وهي التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها)، وهذا نص في إثبات حد السرقة، وكذلك أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد سارق رداء صفوان ، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن أناساً من عكل أو عرينة اجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسملوا عينيه -كما في بعض الروايات- واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرهم، فأخذوا، فأمر بهم عليه الصلاة والسلام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمرت أعينهم، وفي لفظ: وسملت أعينهم، ثم تركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)، وفي الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد شارب الخمر، فكان من الصحابة الضارب بثوبه، والضارب بنعله، وهذا كله يدل على إثبات الحدود ومشروعيتها.

    الحكمة من مشروعية الحدود

    للعلماء رحمهم الله في حكمة الحدود أوجه، فمنهم من يقول: الحدود زواجر، قصد الله عز وجل من شرعها لعباده أن يجعلها زاجرة لهم ومانعة لهم من الوقوع في هذه المحرمات العظيمة، والكبائر الموبقة والمهلكة، قالوا: إن أصل الشرع المراد به صيانة الناس عما فيه فساد دينهم ودنياهم وآخرتهم، والموجب لهذه العقوبات مفسد، ومن هنا هي زواجر تمنع الناس من الوقوع والتلبس بهذه الجرائم، قالوا: والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر أن تقام علانية ولا تقام خفية، وأمر أن يشهد هذه العقوبات طائفة من المؤمنين اتعاظاً واعتباراً، فهذا يدل على أنها زواجر، وإذا أقيمت هذه الحدود أحيت قلوب الناس وانزجروا، فقل أن يرفع شخص يده راجماً لمحصن أن يقع فيما وقع فيه، وإذا رأت عيناه تألم الزاني الذي يقام عليه حد الجلد؛ فإنه يتألم لذلك، وينكف وينزجر، فهي زواجر وروادع تمنع وتزجر.

    ومن العلماء من قال: إن الحدود جوابر، أي: أن الله سبحانه وتعالى شرع الحد كفارة للذنب، واستدلوا بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في خطبته أن من أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ومن لم يقم عليه الحد -أي مات ولم يتب من ذنبه- فهو إلى مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، إن عذبه فبعدله، وإن غفر له فبفضله، وهذا إن لم يتب، فإن تاب قبل موته تاب الله عز وجل عليه، وهذا بإجماع العلماء، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا واضحة جلية.

    قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الحد كفارة، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أقام الحد على ماعز بن مالك الأسلمي الذي اعترف بالزنا، اختلف الصحابة: هل هو في الجنة أم في النار؟ فقال قوم: إنه فعل كبيرة فهو معذب، وقال قوم: إنه قد تاب، والله يتوب على من تاب، فلما خرج عليه الصلاة والسلام وسمعهم يختلفون قال عليه الصلاة والسلام: (إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة)، فهذا يدل على أن الحد يكفر الذنب، وكذلك لما زنت المرأة واختلفوا: هل هي معذبة أم مرحومة؟ خرج عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم)، وقال: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟)، لكن هذا جاء ما ينسخه، مما يدل على أن الأفضل والأكمل الأخذ بالرخصة؛ لأن ماعز بن مالك خير بين أن يتوب فيتوب الله عليه، وبين أن يقام عليه الحد، فاختار أن يقام عليه الحد، فمن أهل العلم من قال: كيف يختار إقامة الحد الشديد مع أن التوبة أخف وأرحم؟ وأجيب عن هذا بأن ماعزاً شك في قبول توبته، ورضي لنفسه ما هو عزيمة بينة، ولكن السنة دلت دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يستتر، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما اعترف ماعز ، واعترفت المرأتان بالزنا، وأقيم عليهم الحد؛ خطب عليه الصلاة والسلام الناس، وقال: (أيها الناس! من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله)، فهذا نص واضح صريح، وهو متأخر. وبعض الذين يتلبسون بالجرائم في زماننا يشدد بعضهم على نفسه إذا تاب أو زجر بالزواجر، فلا يرضى إلا أن يعترف أمام القاضي ويطلب أن يقام عليه الحد، فمثل هؤلاء ينبغي على طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن ينصحوهم بالسنة، وأن يبينوا لهم أن النصوص واضحة جلية في أن الأفضل والأكمل لأحدهم أن يستتر بستر الله عز وجل، وهذا هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتشديد على الناس في هذا الأمر ليس من السنة، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن كثرة إيراد العذاب بالنار، والتخويف بعذاب القبر، وقرع الناس دائماً بهذا الشيء، دون ذكر الجنة وسعة رحمة الله عز وجل يفضي ببعض الناس إلى الغلو في التوبة، والغلو في الرجوع إلى الله في العبادات، والغلو في الطاعة، ومن هنا كره بعض العلماء أن يتقدم القصاص والوعاظ في الخطب والمواعظ؛ لأنهم لا يفهمون أصول الشريعة في الجمع بين الرجاء والخوف؛ لأن الواقع في الذنب يحتاج إلى نوع من الحكمة والتلطف، فالمستخف لحدود الله المنتهك لمحارم الله عز وجل يزجر بما يناسبه، ومن جاء متفطر القلب، منيباً إلى الرب، تائباً من قرارة قلبه، أو يعلم منه التوبة من دلائل حاله، لا يزاد على ما هو عليه؛ لأنه إذا زيد على حاله ذلك؛ أوجب له القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه).

    والذي يظهر أن الحدود زواجر وجوابر، فيها معنى الزجر وفيها معنى الجبر، فهي جابرة للكسر بإذن الله عز وجل، وأيضاً زاجرة عن حدود الله وعن محارم الله.

    1.   

    شروط من يقام عليه الحد

    قال رحمه الله تعالى: [لا يجب الحد إلا على بالغ].

    قوله: (لا يجب الحد) أي: حد الزنا، (إلا على بالغ)، ومثله بقية الحدود، والبلوغ هو: طور ينتقل فيه الإنسان من الصبا إلى الحلم، وهو العقل، وقد تقدم معنا في مسائل متعددة من العبادات والمعاملات مثل مسائل الحجر العلامات المعتبرة للبلوغ.

    قال: (لا يجب الحد إلا على بالغ) ومفهوم هذا أنه إذا كان صبياً لا يجب عليه الحد، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم)، فدل على أن الصبي مرفوع عنه القلم، فلو وقع صبي في فاحشة الزنا مثلاً؛ فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه لم يثبت شرط إقامة حد الزنا وهو البلوغ، فيشترط في ثبوت حد الزنا على الزاني أن يكون بالغاً.

    قال المصنف رحمه الله: [عاقل].

    العقل شرط تكليف، فمن كان غير عاقل -بأن كان مجنوناً- لا يقام عليه الحد، وهذان الشرطان: (البلوغ والعقل) محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، فكلهم مجمعون ومتفقون على أن الصبي لا يقام عليه الحد، والمجنون لا يقام عليه الحد، بشرط أن يكون الزنا أو الفاحشة أو الجريمة وقعت أثناء الصبا، أي: قبل البلوغ، وأثناء الجنون، فإذا كان مجنوناً فإنه غير مكلف، والأصل في ذلك الحديث المتقدم وفيه: (وعن المجنون حتى يفيق)، فإن كان يفيق تارة ويجن تارة نظرنا: فإن وقع زناه أثناء الإفاقة؛ أخذ بجريمته كما يؤاخذ المفيق والعاقل، وذلك لأنه لا موجب لإسقاط التكليف عنه، فهو مؤاخذ بفعله.

    ويضاف إلى البلوغ والعقل: الاختيار، وبناء على ذلك فإنه لا يقام الحد على مكره، فلو أكره على فعله ولم يكن بيده ذلك؛ فإنه لا يقام عليه؛ لأن الله تعالى أسقط بالإكراه الردة، وهي أعظم الذنوب وأشدها، وهذا خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، فالمكره يسقط عنه التكليف، وقد بينا شروط الإكراه، وبينا الأدلة على أن الإكراه مؤثر.

    إذاً: يشترط: البلوغ والعقل والاختيار، فلا يقام الحد على مكره.

    قال المصنف رحمه الله: [ملتزم].

    الالتزام بأحكام الشريعة معتبر، وهذه المسألة تقدمت معنا، ولكن قد يأتي لها شيء من البيان أكثر إن شاء الله في حد الزنا، وهي مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ فإذا كان الذي زنى ملتزماً بأحكام الشريعة؛ فإننا نقيم عليه الحد، لكن لو كان غير ملتزم كالحربي والمستأمن، أو كان من أهل الذمة، فهل الذميون مؤاخذون بحيث لو أن اثنين من أهل الكتاب زنيا ورفعا إلى قاض مسلم يقيم عليهما الحد أم لا؟

    الصحيح أنه يحكم بينهما بشرع الله عز وجل، كما قال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49]، فأمر الله عز وجل بالرجوع إلى شرعه ودينه، والتخيير في الحكم بينهم في قوله: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42] منسوخ، أو له وجه آخر ذكرناه، وهو في بعض الأحوال التي لا تكون فيها العزيمة، وسيأتي هذا بتفصيل أكثر في كتاب القضاء.

    إذا ثبت هذا، فإن الملتزم تقام عليه الحدود؛ لأنه قد التزمها بإسلامه، وكذلك أهل الكتاب إذا ترافعوا إلينا فإنهم ملزمون بشريعتنا، وقد أكدت السنة ذلك كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقام الحد على اليهوديين الذين زنيا، فأمر بهما فرجما، وفي هذا الحديث تفصيل سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في موضعه.

    قال المصنف رحمه الله: [عالم بالتحريم].

    وهو أن يكون عالماً بحرمة الجريمة التي فعلها، فإذا كان لم يعلم ولم تقم عليه الحجة؛ فإنه يسقط عنه الحد للشبهة، وذكروا من أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فإن الوثنيين والإباحيين واللادينيين عندهم استخفاف بالمحارم، خاصة الإباحيين، فلو أن أحداً منهم أسلم، ولم يعرف شرائع الإسلام، فوقعت منه جريمة الزنا قبل أن يعلم الحكم، فحينئذٍ لم تقم عليه الحجة، وهذه مسألة من المسائل التي يعذر فيها بالجهل، ولها أصل من قضاء الصحابة والسلف رضوان الله عليهم، فإذا كان غير عالم؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى تقام عليه الحجة لمكان الشبهة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدرء الحدود بالشبهات.

    1.   

    القائمون على تنفيذ الحدود الشرعية

    قال المصنف رحمه الله: [فيقيمه الإمام أو نائبه].

    أي: يقيم الحد الإمام أو نائبه، والأصل أن الأئمة والحكام مطالبون شرعاً بالحكم بما أنزل الله عز وجل، ومطالبون شرعاً بالقيام بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأصل في تنصيب الوالي في ولايته أن يطلب المصالح للمسلمين، ويدرء المفاسد عنهم، وقد أجمع العلماء والأئمة رحمهم الله على أن المعني بتنفيذ هذه الأحكام والحدود هم الحكام، وأنه ليس كل إنسان ينفذ الحد بمجرد أن يرى رجلاً يفعل جريمة فيقيم عليه الحد، بل الأصل أنهم هم المخاطبون، أو من يقيمونه مقامهم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تولى الأمر بإقامة الحدود، وتولى من بعده الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون رضي الله عنهم أجمعين.

    ثم إنهم قد أنابوا غيرهم في إقامة الحدود، ففي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب أن ماعزاً لما أقر، قال صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمراً؟) يعني: هل أنت سكران؟ فقام رجل فاستنكهه، أي: شم رائحة فمه، فلم يجد خمراً، ثم قال: (أبه جنون؟) حتى يتأكد من شروط الإقرار، هل هو مؤاخذ بإقراره أم لا؟ فأخبر أنه غير مجنون، قال بريدة رضي الله عنه: (فأمر به فرجم)، وهذا يدل على أن الأصل أن الوالي هو الذي يأمر بإقامة الحد، فأمر به فرجم، كذلك أيضاً أناب غيره عليه الصلاة والسلام في حديث العسيف، فقال عليه الصلاة والسلام: (واغد -يا أنيس- إلى امرأة هذا -لأنها لم تكن بالمدينة- فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، وهذا يدل على مشروعية الإنابة، فالإمام ومن يقيمه مقامه يعتد بهم، وهذا مهم جداً حتى نحكم بتمام الحد واعتباره، ولو أن شخصاً غيوراً وجد زانيين فجلدهما مائة جلدة، فهذا من حيث الأصل ليس حداً، لابد وأن يكون أول شيء عن طريق الحاكم، ويثبت عند الحاكم هذا الحد، ثم بعد ذلك يقضي به وبتنفيذه، فلا بد من وجود هذه الأشياء، وإقراره في غير مجلس القضاء والحكم ليس كإقراره فيهما، ولو أنه أقر بالجريمة وعلم به الناس، ولكنه لم يرفع إلى القاضي، فلا يأخذ حكم الإقرار الشرعي، فهناك أمور لا بد من مراعاتها في هذه الجرائم والحدود، وهذا كله يدل على عظمة هذه الشريعة، ولو أن الناس قرءوا ما ذكره أئمة أهل الإسلام في كتبهم من هذه التراتيب القضائية الإدارية لتعجبوا من حسنها ودقتها، فوالله ثم والله! ما عرف العالم كيف ينظم أمره إلا عن طريق المسلمين، ولقد مرت على أوروبا قرون مظلمة، لا تعرف كيف تدبر أمورها، حتى تعلموا ذلك في مدارس المسلمين في الأندلس، وأخذوا منهم هذه التراتيب الإدارية، والشرائع الإلهية التي جاءت مقننة محددة مرتبة من الله سبحانه وتعالى، وقد فهم المسلمون كيف يسيروا أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، وهذا من فضل الله عليهم، فجاء هؤلاء فنظروا إلى نعمة الله على المسلمين فاقتبسوا كثيراً من الأمور التي يصدرونها اليوم إلى المسلمين الذين ما عرفوها، فلو نظرت إلى كتب المسلمين التي ترجمت، وإلى كتبهم التي قرئت؛ لعلمت أنهم ما تعلموا هذا الانضباط، ورتبوا أمورهم الدنيوية؛ إلا عن طريق المسلمين، ولقد عاشوا حياة مظلمة لا يعلم جحيم ما كانوا فيه إلا الله وحده، ولكن كل ذلك بفضل الله ثم بفضل هذه الشريعة، والناس اليوم تنخدع بأمور الدنيا ولا تفقه، وكثير من المسلمين -إلا من رحم الله- جاهل بهذه الثروات الهائلة من الدقة والتنظيم في العبادات والمعاملات، والانضباط التام في ترتيب الأمور، وحينما كان الإسلام من مشرق الأرض إلى مغربها، وقل أن تغيب عن دولته شمس، رتبت أمور المسلمين حتى في الجرائم، وقل أن تجد أمراً صغيراً أو كبيراً إلا ووضعوا له ما يضبطه، وما يردع الناس عنه إن كان خطأ، وما يحببهم فيه إن كان صواباً، ولكن، يا ليت قومي يعلمون!

    ولذلك شباب المسلمين يحتاجون أن يُبَصَّروا بهذه الحقائق، فبهذا الترتيب والتنظيم لم تكن مجتمعات المسلمين فوضى، بحيث إذا وقعت الأخطاء كل يتحمس ويقيم الحد، وتجد اليوم كل يحس أنه هو وحده الذي يدافع عن الإسلام، فتجد الأمور سائرة هملاً، لكن حينما كانت الأمة الإسلامية قائمة بهذا الانضباط وهذا التأقيت الذي ذكره العلماء والأئمة في أبواب العبادات والمعاملات؛ يجد المتأمل فيها عظيم نعمة الله على هذه الأمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

    فبين المصنف رحمه الله أن إقامة الحد للإمام أو نائبه، أي: من ينوب عن الإمام، ويحضر الإمام إقامة الحد أو يحضر نائبه؛ لأن هذا مهم جداً، فعلى سبيل المثال في حد الزنا لو أن الزاني اعترف فمن حقه أن يرجع عن اعترافه ولو أثناء تنفيذ الحد، فلو اعترف أنه زنى ثم أقيم عليه الحد، فأحس بحرارة الحد، فأراد أن يرجع عن إقراره؛ فله ذلك، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بـماعز أن يرجم فرجم، جاء في الحديث: (فلما أذلقته الحجارة، ووجد حرها؛ فر إلى الحرة؛ حتى لقيه رجل فضربه بلحي جمل فقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه يتوب؛ فيتوب الله عليه)، وهذا يدل على سماحة هذا الدين ويسره، ومن هنا إذا كان الإمام أو نائبه موجوداً؛ فإنه يستطيع أن يأمر بإيقاف الحد وبإيقاف التنفيذ، ويستطيع أن يتدارك ما يمكن تداركه من هذه الأمور، ولا يشكل على هذا ما وقع لـماعز ؛ لأن الصحابة ما كانوا يعلمون الحكم، وكانوا يظنون أنها عزيمة ليس فيها رجعة.

    1.   

    حكم إقامة الحدود في المساجد

    قال رحمه الله: [في غير مسجد].

    تقام الحدود في غير مسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع الرجل وهو ينشد ضالته قال: (لا ردها الله عليه، فإن المساجد لم تبن لهذا)، والله عز وجل يقول: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، والحدود ليست مجانسة لهذا.

    وقد يشكل على هذا أن القضاء يكون في المسجد، والقضاء تكون فيه المخاصمة والمشاجرة حتى تثبت الحدود، وقد استحب بعض العلماء أن يكون مجلس القاضي في المسجد، وفي القديم كان هذا متيسراً، ومن هنا قال الناظم:

    وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد

    فيستحب أن يكون القضاء في المسجد تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، لكن إقامة الحد شيء آخر غير القضاء، فيقام الحد في غير المسجد، وفي حديث السنن -وفيه ضعف- النهي عن إقامة الحدود في المساجد.

    1.   

    كيفية الجلد في الحد

    كيفية جلد الرجل

    قال المصنف رحمه الله: [ويضرب الرجل في الحد قائماً بسوط لا جديد ولا خلق].

    شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة الجلد، والجلد يكون في حد الزنا للبكر، والثيب أيضاً على الصحيح على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى، ويكون أيضاً في حد القذف وحد المسكر، وهذه الثلاثة الحدود شرع فيها الجلد، وجاء في السنة بعض الضوابط لهذه العقوبة، منها أن يكون الجلد بالسوط، ويكون السوط متوسطاً غير جديد ولا قديم، ويعبر عن ذلك أئمة السلف بقولهم: سوط بين سوطين، ومعنى قوله: (لا جديد ولا خلق): الخلق هو: القديم والبالي؛ لأنه يتكسر ويتهشم ولا يؤلم، والجديد أكثر إيلاماً وتمزيقاً للجسد. ويضرب الرجل قائماً في الحد، وهذا شامل لحد الزنا وحد القذف وحد المسكر، والمرأة لها أحكام ستأتي إن شاء الله تعالى، فإذا كان الرجل زانياً أو شارباً للخمر أو قاذفاً؛ فإنه يضرب قائماً، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء رحمهم الله:

    بعض العلماء يقول: يضرب الرجل قاعداً، وقال بعضهم: يضرب قائماً، الأول للمالكية، والثاني للجمهور، والصحيح أنه يضرب قائماً؛ لأنه يمكن الجالد من الجلد، ومن تفريق الجلد على أعضاء الجسم على القول بأنها تفرق على أعضاء الجسم؛ لأنه إذا كان قاعداً لا يفرق على كل الأعضاء بالوجه المعتبر حتى يصيب كل عضو حقه.

    وأما إذا قلنا بعدم التفريق، وهو أقوى؛ لأن الضرب يكون في الظهر، إما أن نقول: إن الضرب يشمل جميع البدن ما عدا الوجه والمقاتل، وسنبينها إن شاء الله تعالى، وإما أن نقول: إن الجلد يختص بالظهر، وأقوى الأقوال أن الجلد يختص بالظهر، ودليلنا على اختصاصه بالظهر حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح أن هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته بـشريك بن سحماء ، فلما قذفها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فدل على أن موضع الضرب إنما هو الظهر، وإذا قلنا: إنه يضرب في ظهره؛ فإن الجلد من قيام يكون أمكن للضرب المتوسط؛ لأنه إذا كان قاعداً والضارب قائماً زاد في الإيلام غالباً، ولكنه إذا كان قائماً والجالد قائماً؛ تمكن الجالد من الضرب بين الضربتين، وتمكن من إيلامه على الوجه المعتبر شرعاً ولم يقصر.

    قال المصنف رحمه الله: [ولا يمد ولا يربط].

    أي: ولا يمد أثناء الضرب ولا يربط، فلا يبطح على وجهه ويضرب، ولا تشد يده؛ لأنه في حال المد يكون الضرب أشد إيلاماً وأشد وقعاً، سواءً إذا كان منبطحاً أو كان قائماً فمد كالمعلق؛ فإن هذا يؤلمه أكثر، ومن هنا كره أئمة السلف ذلك كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه -واختلفت الألفاظ عنه- قال: (ليس في ملتنا مد ولا تجريد)، يعني: أن العقوبة لا يعاقب فيها مرتكب الحد بمده ولا بتجريده من ثيابه، واختار الأئمة هذا خاصة على القول بأن قول الصحابي حجة، والمد زيادة في الإيلام، فلابد من دليل على المد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حد في ظهرك)، وهذا يتحقق بالضرب الذي ذكرناه.

    قال المصنف رحمه الله: [ولا يجرد، بل يكون عليه قميص أو قميصان].

    مسألة: هل نجرده من ثيابه فيضرب على جلده مباشرة أم أننا نعطيه الخيار أن يلبس ما شاء؟ وهل له أن يلبس ثياباً ثخينة فيخف معها الجلد أم يلبس ما لا يقي الضرب قميصاً أو قميصين ثم يضرب؟

    قال بعض العلماء: يجرد صيفاً وشتاءً ويضرب وهو مجرد، وذكرنا أن ابن مسعود وهو من فقهاء الصحابة لم يقل بالتجريد، وعلى هذا يترك عليه ثوبه المعتاد ويضرب، وهذا هو الصحيح، أنه لا يجرد، ولا يمكن أيضاً من لبس الثياب الثخينة التي تمنع وصول الضرب، وتمنع ألم الضرب، بل يكون عليه قميص أو قميصان على حسب نظر الإمام أو نائبه في ذلك بحسب الحاجة، ثم يأمر بضربه بما لا يمنع وصول ألم الضرب للجسد.

    قال المصنف رحمه الله: [ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد].

    المقصود من هذا الضرب إيلام الجسد على وجه يرتدع من الرجوع إلى هذه المعصية، فلا يضرب ضرباً يشق الجلد وهو ضرب المثلة الذي بعد انتهائه تبقى آثاره واضحة بينة في البدن، فهذا ليس من مقصود الشرع، مقصود الشرع إيلامه على وجه ينكف وينزجر به، وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتعزيز رجل في أمر يوجب التعزير، فقال له: والله! لأحيلنك إلى رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، فأحاله إلى بعض التابعين رحمه الله، وكان شديداً في الحق فضربه، فشاء الله أن يأتي عمر رضي الله عنه بعد مضي ثلثا العقوبة، فوجده قد ضربه بسوط ضرباً شديداً، فبقي من العقوبة قدر العشرين سوطاً، فأسقطها عمر رضي الله عنه، وقال: إن هذا مقتص له بما كان من شدة الإيلام، ويقال: إنها في جريمة الخمر؛ لأن عمر كان يرى فيها ثمانين جلدة، وأنه ضربه حتى بلغ الستين، فجعل شدة الضرب في الستين جلدة مسقطة للعشرين الباقية، وهو خليفة راشد، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يرون الضرب المؤلم الذي يؤثر في الجلد، وهو ما يسمونه بضرب الانتقام والتشفي، فليس هذا مقصوداً، إنما المقصود ضرب التأديب، وضرب التأديب شيء، وضرب الانتقام شيء آخر.

    وقال بعض العلماء: يشدد في الضرب في حد الزنا؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، وقد بينا في التفسير وجه رد هذا القول، وأن هذه الآية لا تستلزم الضرب المبرح؛ لأن المقصود منها تنفيذ الحد، وأننا لا تأخذنا الرأفة أثناء تنفيذ الحد بأن نشفق عليهم، أو نخفف مقدار العقوبة، فهذا ليس له علاقة بطريقة الضرب نفسها.

    قال المصنف رحمه الله: [ويفرق الضرب على بدنه].

    اختلف العلماء، فبعض العلماء يقول: يضرب ظهره؛ أعلاه ووسطه وآخره، وتضرب عجيزته، ويضرب الفخذين، وتضرب العضلة في الساقين، ويضرب الرأس على القول بأنه يكون محلاً للضرب إلا الوجه، وله أن يضربه على مقدم صدره من جهة الأضلاع مما لا ينكي، ولا يضربه في المقاتل، مثل الخصيتين، لأنها مقتلة غالباً، فإذا ضربة فيها ربما يموت، ومن المقاتل الرأس من جهة الصدر، فقالوا: يتقي المقاتل، ومنهم من يرى أن الضرب يختص بالظهر، ودليلهم السنة، وهذا القول أميل إليه، وهو أشبه وأولى بالصواب إن شاء الله، وقد جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما يفهم منه جواز الضرب في غير الظهر، وأن عمر في قصة المرأة حينما أمر بجلدها رضي الله عنه وأرضاه أشار إلى ضربها في رجلها، ويضرب الإنسان على الرجلين، ويضرب على القدمين نفسهما، والأشبه ما ذكرنا أن الضرب يكون على الظهر، وضرب القدمين قد يمنع من المشي، ويضره ويعطل مصالحه، أما ضرب الرأس فقد أثر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أمر بضرب الرأس في قصة الرجل الذي جاء وانتفى من أبيه، وقال: إنه ليس ولد فلان، ورفعت قضيته إلى أبي بكر رضي الله عنه فأمر بتعزيره بأن يضرب ويجلد، فلما أمر بتعزيره قال: اضرب الرأس؛ فإن فيه شيطاناً.

    وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلو بالدرة ويضرب بها، ولكن الأشبه ما ذكرنا، وهو -ظاهر السنة- أن الضرب يكون على الظهر.

    قال المصنف رحمه الله: [ويتقي الرأس والوجه]

    ويتقي الرأس لما ذكرناه، ولكن جمهور أصحاب الشافعي والقاضي أبو يوسف من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليهم يقولون: يجوز ضرب الرأس؛ للأثر الذي ذكرناه عن أبي بكر رضي الله عنه، لكن ظاهر السنة أقوى، والآثار عن الصحابة ما وجدت من جزم بصحتها وثبوتها عنهم.

    أما الوجه فليس فيه إشكال، فكلهم متفقون على أن الوجه لا يجوز ضربه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في صحيح البخاري أنه نهى عن ضرب الوجه في الحدود وفي غيرها، وكذلك في الحديث الآخر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لطم الصور)، فالوجه يتقى ولا يضرب، وإنما يكون الضرب على الأعضاء، والخلاف فيما ذكرناه.

    قال المصنف رحمه الله: [والفرج والمقاتل].

    ولا يضرب الفرج؛ لأن ضرب الفرج خاصة في الخصيتين يؤدي إلى القتل، ولذلك يقول العلماء: إن الضرب في هذه المواضع ضرب في المقاتل، وذكرنا من صور قتل العمد وشبه العمد الضرب في المقاتل، ولو كان بشيء خفيف، فالمقاتل تتقى.

    كيفية جلد المرأة

    قال المصنف رحمه الله: [والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسة].

    والمرأة كالرجل في الضرب يفرق الضرب على بدنها، ويتقى مقاتلها على القول بأنه يفرق على البدن، وتخالف الرجل أنها تجرد اتفاقاً؛ لأن الرجل اختلف فيه: هل يجرد أم لا؟ أما المرأة فاتفقوا على أنها لا تجرد، وفي مسألة تجريد الرجل ثلاثة أقوال: منهم من يقول: يجرد، وهو قول المالكية رحمهم الله، ومنهم من لا يرى التجريد وهو مذهب الجمهور، ومنهم من يقول: الأمر راجع إلى الإمام إذا رأى المصلحة أن يجرده جرده، وإذا رأى المصلحة ألا يجرده لم يجرده، وهو قول الأوزاعي فقيه الشام رحمة الله على الجميع، والصحيح ما ذكرناه.

    وهل تضرب المرأة قائمة أو قاعدة؟

    تضرب قاعدة، لأنه أمكن للستر، وهذا قول طائفة من أئمة السلف رحمهم الله.

    قال المصنف رحمه الله: [وتشد عليها ثيابها].

    هذا أثر عن علي رضي الله عنه، وله أصل في السنة في قصة المرأة التي اعترفت بالزنا، فأمر بها فشدت عليها ثيابها، وفي بعض الألفاظ: أمر بها فشكت عليها ثيابها؛ لأن الشوك مثل الرابط الذي يمنع من انكشاف عورتها أثناء الحركة، فإذا ضممت طرفي الرداء ووضعت الشوكة بينهما؛ انحبس الرداء وامتنع من الانكشاف، فلفظ: فشكت عليها ثيابها يعني: أنه جعل فيها الشوك بمثابة الرابط لطرفي الثوب الذي عليها ليمنعها من التكشف، وهذا واضح الدلالة على أنه يطلب سترها أثناء إقامة الحد عليها؛ لأنها تضطر إلى الحركة فتنكشف عورتها، فيؤخذ بالأسباب المانعة من انكشاف عورتها.

    قال المصنف رحمه الله: [وتمسك يداها لئلا تنكشف].

    لأنها إذا ضربت وتحركت فإنه قد يحصل منها انكشاف، فقوله: وتمسك يداها، من درء المفاسد، فالمرأة عورة، وانكشافها مفض للوقوع في الفتنة، فيخرج الناس من الاعتبار بالنظر إلى الفتنة، وهذا خلاف مقصود الشرع، وهو أن يكون النظر موجباً للاتعاض والاعتبار.

    1.   

    الأسئلة

    وجه فصل كتاب الجنايات عن كتاب الحدود

    السؤال: هل تعريف الحدود شرعاً يشمل القتل، وإذا كان ذلك كذلك؛ فلماذا فصلهما المصنف عن بعض؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد: فقوله: (عقوبة) عام؛ لأن العقوبة تكون بالقتل وغير القتل، وهذا الصحيح؛ لأن الحدود فيها قتل، فحد الحرابة يكون فيه القتل، والمرتد حده أن يضرب عنقه إذا استتيب فلم يتب، فهذا التعريف: أن العقوبة مقدرة شرعاً؛ تعريف صحيح، ودخول القتل لا يمنع صحة التعريف؛ لأن من الحدود حد القتل، وعلى هذا لا يكون تعريف المصنف فيه إشكال، ولا يمنع من وجود القتل في الحدود، وانفصالها عن باب القتل؛ لأن القتل متقدم لحقوق العباد، والقتل الذي نعنيه هنا إنما هو في الغالب في حق الله عز وجل كما في حد الردة ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

    حكم الجلد في الحد بغير السوط

    السؤال: هل الضرب بالسوط بالحد متعين أم يضرب بغير السوط؟

    الجواب: الأشبه الضرب بالسوط، وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم في حد الخمر فقط أن منهم الضارب بثوبه، ومنهم الضارب بنعله، ومن هنا اختلف في حد الخمر هل هو حد أو تعزير؟ وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على هذه المسألة، وعلى كل حال الأصل الضرب بالسوط، والله تعالى أعلم.

    حكم إجزاء ركعة الوتر عن تحية المسجد

    السؤال: إذا دخلت المسجد قبل الفجر بدقائق ولم أوتر، هل تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؟

    الجواب: لا تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؛ لأن الأقل لا يجزئ عن الأكثر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، والوتر ركعة واحدة، ولذلك يجب عليك أن تقوم فتأتي بتحية المسجد تامة كاملة، ولا يحصل الاندراج في هذه المسألة؛ لأنه لا يندرج الأكبر تحت الأصغر، والركعة الواحدة لا تجزئ عن الركعتين كما هو معلوم، وجلوسك في الوتر له أصل، وهو مستثنىً كجلوس الخطيب بعد تسليمه يوم الجمعة قبل أن يصلي صلاة الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مباشرة ويسلم ويجلس، وعلى هذا فليس فيه إشكال؛ لأنه مبني على أصل شرعي؛ لأنك جلست للعبادة، وجلوس العبادة لا يؤثر، لكن إذا انتهى الوتر فيجب عليك القيام مباشرة، والإتيان بركعتي التحية، ومن هنا لا يرخص لك بالقعود بعد سلامك من الوتر، والله تعالى أعلم.

    حكم المرأة التي تمنع نفسها من زوجها

    السؤال: زوجتي إذا منعتها من فعل شيء، أو من الذهاب إلى مكان أو من البقاء في مكان ولي الحق في ذلك المنع؛ تمنعني من نفسها، فما التوجيه أثابكم الله؟

    الجواب: أولاً: أوصي هذه المرأة، أن تتقي الله عز وجل في هذه الحقوق التي فرضها الله عليها لزوجها، فلا يجوز للمرأة إذا أمرها زوجها أو نهاها عن أمر وله الحق في ذلك -بمعنى أنه مصيب في أمره ونهيه- أن تمنعه من حقه، فإذا فعلت ذلك انطبق عليها الوعيد، فلو أنها منعته من الفراش باتت تلعنها الملائكة حتى تصبح والعياذ بالله! فإذا كانت لا تبالي بذلك فلتفعل، فعلى كل امرأة مؤمنة أن تتقي الله عز وجل في حقوق زوجها، وأن تؤدي هذه الحقوق كاملة، ومنها السمع والطاعة للزوج، خاصة إذا أمر بطاعة الله عز وجل، ونهى عن معصية الله.

    ثانياً: على المرأة أن تحمد الله وتشكره أن رزقها زوجاً يذكرها بالله إذا غفلت، ويعينها على طاعة الله عز وجل إذا ذكرت، ولم يبتلها بزوج متهتك فاجر، عاص لله سبحانه وتعالى، يجر عليها المصائب والويلات، فكم من امرأة أقض مضجعها مهرب للمخدرات، ومدمن للمسكرات، وكم آلمها، وضيع حقوقها، ولم يبال بها من لا يرعى حدود الله عز وجل ومحارمه.

    فلتحمد الله المرأة المؤمنة، ولتشعر أن زوجها إذا أمرها بطاعة الله ونهاها عن معصية الله أنه يريد لها الخير، وأنه آخذ بحجزها عن نار الله، قائم بحق الله الذي فرضه عليه؛ لأن الله فرض عليه ذلك وجعله راعياً مسئولاً عن رعيته، وما يحدثه أعداء الإسلام في نساء المؤمنين من التمرد، وإشعار المرأة أن على الزوج ألا يتدخل في شئونها، وأن هذا غمط لمكانتها، وانتقاص لقدرها، فأف لهم ولما يدعون، فما هم إلا ظالمون مفترون، فإن الزوج له حق القوامة شاءت المرأة أم أبت، وهذا أمر سارت عليه هذه الأمة سلفاً وخلفاً من السلف الصالحات من الصحابيات رضي الله عنهن والتابعيات وأتباع التابعين من النساء الصالحات.

    وعلى المرأة أن تسمو بنفسها عن مثل هذه الدعوات التي تريد منها أن تتمرد على بعلها، وألا يتدخل في شيء من أمرها، وهذا كله خلاف الفطرة، ولا يمكن أن تستقيم بيوت المسلمين إلا بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، فعلينا أن نرجع إلى حكم الله عز وجل، وأن نرضى بما كتب الله عز وجل لنا، وليس في هذا غضاضة أبداً، وتفضيل الرجل على المرأة لا ينقص من قدر المرأة، فإن العالم أفضل من الجاهل، لكن ليس معنى ذلك أن الجاهل قد هلك، وأنه ليس له حظ من الخير أبداً، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، والعلماء أنفسهم بعضهم أفضل من بعض، والرسل والأنبياء بعضهم أفضل من بعض، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، وإذا فضل ربك من يشاء؛ فلا يستطيع أحد أن يعترض، ولا أن يختلق من تصرفاته ما يشعر بالاعتراض، فبعض النساء عندهن هذا الشعور، فالمرأة التي تتمرد على زوجها لعدم استشعار قوامة الزوج عليها تكون مضادة لشرع الله عز وجل، وللسنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل مسئول عن امرأته وأهل بيته، وأنه والٍ عليهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل راع ومسئول عن رعيته)، فعلى هذه المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأذية الزوج خاصة في الفراش لا خير فيها، والمرأة التي تفعل ذلك ستجني العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن من ذلك إلا تخويف النبي صلى الله عليه وسلم وزجره، حتى إنه صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح)، والملائكة هم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا لعنوا -والعياذ بالله- فلعنتهم مصيبة، فعليها أن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم أن الأمر جد خطير.

    ثالثاً: هذا الأمر يفسد الحياة الزوجية، ويشعر الزوج بأن الزوجة لا تريده ولا ترغبه، وهناك خطوط حمراء - إن صح التعبير- بين الزوج والزوجة؛ وأخطر ما تكون إذا وصلت إلى المحبة، وأفسدت صدق المشاعر بين الزوجين، فإذا فعلت المرأة فعلاً تنبئ الزوج أنها لا تبالي بهذا الأمر الذي بينهما؛ فإن هذا يدمر حياتهما، ويعود بالعواقب الوخيمة على الزوجين، فلتتقي الله المرأة المؤمنة.

    وقد ذكرنا أهل المعاصي وما تعانيه زوجاتهم من الويلات والآهات، حتى تعرف المرأة المؤمنة نعمة ربها عليها، فلتحمد الله سبحانه وتعالى أن الله رزقها زوجاً غيوراً، وعلى كل امرأة أن تفهم أن غيرة زوجها من المحبة لها، ومن كمال الرجولة والفحولة فيه، وهي الفطرة التي فطر الله عز وجل عليها أتقياءه الصلحاء ومن كان على نهجهم، أما من يكون ميت القلب -والعياذ بالله- ديوثاً يصاب بلعنة الله؛ فلا خير فيه.

    رابعاً: نوصي الرجل ألا يستغل حق القوامة على المرأة، ويتخذ من هذا الحق ما يشعر بأنه مستبد ظالم، يريد أن يفرض آراءه وأقواله فقط، بغض النظر عن كونه مصيباً أو مخطئاً، فهنا تكون المشاكل؛ لأن الإنسان إذا كان تقياً نقياً سوياً سائراً على صراط الله عز وجل. بارك الله في قوله، ونصحه وتوجيهه، ورزقه القبول بين أقرب الناس منه فضلاً عن أبعد الناس عنه، ومن هنا على الزوج أن يتقي الله عز وجل، وأن يكون حكيماً في أمر الزوجة ونهيها، فهناك أمور قد تكون دنيوية، وليس فيها ضرر في الدين، وقد تضر منك بعض الشيء في المادة، كأن تطلب المرأة مالاً تتوسع فيه، وهذا الأمر فيه ضرر محدود، لكن قد يكون طلبها مرة أو مرتين في السنة، أو ثلاث مرات، وعندك القدرة، فإنك في هذه الحالة تستطيع أن تتنازل بحيث لا يفلت الزمام، وتكون التوسعة على الأهل، مع أنك ترى أن الأصلح والأفضل شيء آخر، لكنك تكسب من وراء هذا شيئاً كثيراً، والحكماء والعقلاء يراعون هذا خاصة في هذه الأزمنة، فالمرأة بعض الأحيان تريد أن تخرج مع أولادها خارج المدينة في نزهة أو نحو ذلك، فتطلب ذلك من زوجها، وكان المنبغي على الزوج الكريم الصالح التقي أن يبدأ الزوجة بذلك، ولا ينتظر أن تقول له المرأة: أريد أن أخرج، وهذا إذا مضت فترة طويلة، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه كان دقيقاً في معاملته لأهله وأولاده، ومع ذلك في بعض الأحيان كانت إذا مضت فترة -وقد كانت عنده مزرعة- يقول لي: قل لأمك تخرج معك، خذها واخرج بها؛ ويقول لي: هذه امرأة ضعيفة، محبوسة بين هذه الجدران، وأنت نفسك لو حبست في هذا الموضع لشعرت بالملل والسآمة في يوم واحد، فكان يحس ويقول: الحمد لله أننا نجد مثل هؤلاء النساء، فعلينا أن نوسع عليهن حتى يوسع الله علينا. فالإنسان لابد أن يشعر بمشاعر المرأة، المرأة ضعيفة، خاصة إذا كانت في مكان تؤذى من نظيراتها، من أخواتها، من قريباتها، من جاراتها، وقد تأتي المرأة إلى المرأة فتذكر حسنة زوجها عليها، والله يشهد أنها لا تريد أن تذكر الحسنة، وإنما تريد أن تفسدها على زوجها، ولذلك ينبغي الحذر من هذا كله، وعلى الصالح الدين أن يحس أن المرأة الصالحة محتاجة -خاصة في هذا الزمان- إلى شيء يثبت قدمها على طاعة الله، ويكف عنها الألسنة الظالمة الجائرة التي لا تتقي الله في بيوت المسلمين ونساء المسلمين، فعليه أن يوسع على أهله، ولكن بقدر، ويوسع بنية إحسان العشرة، هناك توسيع بنية الدنيا، وهناك توسيع يراد به وجه الله عز وجل، فإذا قصد به وجه الله رحمه الله، وإذا قصد به الخير آجره الله سبحانه وتعالى.

    فنوصي الزوج والزوجة بتقوى الله عز وجل، وجماع الخير كله في التقوى، فمن اتقى الله؛ جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.

    وأوصي الأزواج في حالة اختلاف الرأي في المسائل المباحة أن يكون هناك شيء من المرونة، الحزم مطلوب ولكن بقدر، قال الشاعر:

    قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم

    ولكنها قسوة بقدر مبنية على شوب من الحذر، ومرضاة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن.

    نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756000834