إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الديات [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله سبحانه وتعالى أوجب الدية في القتل، وهي استحقاق شرعي جعله الله ضماناً للتلف الحاصل بسبب الجناية، والدية تعطى للمجني عليه أو لوليه وهو وارثه من بعده، والدية لها أحوال، ففي العمد المحض تكون حالة ولا تلزم بها العاقلة، وأما في شبه العمد والخطأ فتكون آجلة وتلزم بها العاقلة وهذا من حكمة الشريعة.

    1.   

    الديات

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الديات].

    (الديات): جمع دية، وهي المال الذي يعطى للمجني عليه أو لوليه بسبب الجناية، وبناء على ذلك تكون الدية عوضاً عن الجناية، وهذا في حالة العفو عن القصاص، وكذلك أيضاً في حال الخطأ وشبه العمد، وذكر المصنف رحمه الله هذا الموضع بقوله: (كتاب الديات) وذلك لكثرة أبوابه وتعدد مسائله واختلاف أحكامه، ولذلك يعبر العلماء رحمهم الله بالكتب في المادة الكثيرة، ونظراً لأن الديات منها ما يتعلق بالأنفس، ومنها ما يتعلق بالأعضاء، وهناك أمر مستتبع من أروش الجنايات التي تقدر فيها الجناية، ولا يكون هناك تقدير من الشرع للجناية، وكل هذا يذكره العلماء رحمهم الله في كتاب الديات، وقول العلماء: إن الدية هي المال الذي يعطى للمجني عليه أو وليه. وهذا استحقاق شرعي جعله الله ضماناً للتلف الحاصل بسبب الجناية، وقد جعل الله عز وجل العوض عن الجنايات: إما أن يكون بالقود، فيفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا يختص بالعمد كما تقدم معنا، وإما أن يعفو المجني عليه، وحينئذ يكون هناك الضمان بالأموال، وقد يعفو بدون مال.

    وقول العلماء رحمهم الله في الدية: إنها المال الذي يعطى للمجني عليه أو وليه؛ لأنه إذا جني على شخص ومات لا يمكن إعطاء المال والدية للمقتول، وإنما يعطى لوليه وهم ورثته من بعده، وقوله رحمه الله: (كتاب الديات) أي: في هذا الموضع سأذكر لك من الأحكام والمسائل التي تتعلق بديات الأنفس والأعضاء، وما يلحق بذلك من أروش الجنايات، والأصل في هذا الباب كتاب الله عز وجل.

    إن الله سبحانه وتعالى أوجب الدية في القتل، قال سبحانه وتعالى في قتل الخطأ: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92] فنص الله عز وجل على لزوم الدية، وهذا النص يدل على لزومها في الأنفس، وأما بالنسبة للأعضاء، فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأعضاء والأطراف حديث يعتبره العلماء رحمهم الله أصلاً في ديات الأعضاء والأطراف، وهو حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان عاملاً له رضي الله عنه وأرضاه، فكتب له مقادير الديات في بعض الأعضاء والأطراف، وأجمع العلماء رحمهم الله أيضاً على اعتبار هذا الأصل -وهو الدية- في الأنفس وفي الأعضاء.

    وأما بالنسبة لتقدير هذه الدية، وبيان ما يجب في النفس وفي الأعضاء والأطراف، فالعلماء رحمهم الله يبحثونه في أبواب متفرقة من هذا الموضع وهو كتاب الديات، فيبدءون بالأنفس أولاً؛ لأن دياتها تختلف على حسب نوعية النفس المجني عليها، سواء كانت الجناية جناية عمد أو كانت الجناية جناية شبه عمد، أو كانت خطأ أو جارية مجرى الخطأ عند من يقولون به.

    وعلى هذا سيبدأ المصنف رحمه الله -أولاً- في بيان لزوم الدية وتقرير هذه الدية، ثم بعد ذلك يفصل في أنواعها وعلى من تجب، والأحوال التي يتحمل فيها الجاني الدية بنفسه، والأحوال التي تتحمل فيها العاقلة عنه جنايته.

    وجوب الدية على القاتل

    قال رحمه الله: [كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته].

    (كل): من ألفاظ العموم.

    وقوله: (كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته) هذا الحكم فيه عموم، وبناء على ذلك كل من جنى جناية، أوجبت هذه الجناية زهوق النفس وقتل النفس المحرمة، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية، سواء كانت الجناية بالسببية أو كانت بالمباشرة، وبينا أن القاتل إما أن يقتل مباشرة كمن أضجع شخصاً فذبحه بالسكين، أو أطلق عليه النار فقتله، هذه مباشرة، أو سببية -مثلما ذكرنا- كما لو دفعه في بئر أو دفع حائطاً عليه فقتله أو نحو ذلك من صور السببية التي ذكرناها.

    (كل من أتلف إنساناً).

    يشترط في هذا الإنسان أن يكون له حرمة على الضوابط التي ذكرناها.

    (بمباشرة) كما ذكرنا في الصور التي يحكم فيها بأن القتل قتل مباشرة أو سببية بحيث فعل فعلاً أفضى إلى القتل لا على سبيل المباشرة، وإنما كان موصلاً إلى القتل، كما ذكرنا في الإلقاء من شاهق، والحبس في زريبة فيها أسد أو أنهشه حية.. ونحو ذلك من الصور التي ذكرنا فيها قتل السببية.

    (لزمته ديته) الضمير عائد على الجاني القاتل، ولما قال: (كل) يشمل العاقل والمجنون، فلو أن مجنوناً قتل فإننا نجعل قتله خطأً، ونلزم أولياء المجنون الدية على التفصيل الذي يأتينا في عمد الصبي والمجنون، فإن عمد الصبي والمجنون خطأ ويجب فيه الضمان كما سنبين إن شاء الله تعالى.

    بين المصنف رحمه الله عظمة هذه الشريعة في صيانة الأرواح والأنفس أن يجنى عليها، حيث أوجبت ضمان الجناية والتلف الحاصل، يستوي أن يكون القتل عمداً أو يكون خطأً، فلو أن إنساناً ساق سيارةً فدهس شخصاً خطأً لزمته ديته، ولو أنه ركب معه شخص ثم انقلبت السيارة وكان هناك سببية في انقلابها بإهمال ونحو ذلك لزمته الدية؛ فإذاً: كل من أتلف بمباشرة أو سببية، فإنه يلزم بضمان ما أتلفه.

    وجوب الدية حالة في قتل العمد المحض

    قال رحمه الله: [فإن كانت عمداً محضاً ففي مال الجاني حالَّةً].

    (الفاء) للتفريع.

    وقوله: (فإن كانت الجناية عمداً محضاً ففي مال الجاني حالّة) أي تجب الدية، فهناك ثلاثة أحكام:

    الحكم الأول: أن من تعمد القتل وعفا أولياء المقتول عن القصاص لزمه أن يدفع الدية.

    الحكم الثاني: أن تكون هذه الدية حالة نقداً.

    الحكم الثالث: أنها في مال الجاني دون عاقلته.

    فإذاً: عندنا ثلاثة أحكام:

    الحكم الأول: لزوم الدية في قتل العمد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقادَ، وإما أن يودى)، فبين عليه الصلاة والسلام أن القاتل المتعمد إما أن يقتص منه أو يدفع دية المقتول، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.

    الحكم الثاني: أن هذه الدية حالة، يعني يجب عليه أن يدفع فوراً، وهذا الإلزام مبني على أن الأصل في الجنايات والإتلافات أنها تكون حالّة، فلو أن شخصاً كسر زجاج بيت أو كسر نافذة بيتٍ، فإننا نقول له: اضمن هذا الزجاج واضمن هذه النافذة فوراً ليس هناك تأجيل، فالأصل في الضمان أنه يكون فوراً؛ لأن حقوق الناس مضمونة، والتأخير والمماطلة ظلمٌ لأصحاب الحقوق وتعطيل لمصالحهم، ولذلك يلزم بدفعها فوراً، وهو معنى قوله: (حالة)، لكن سيأتي إن شاء الله أن دية الخطأ مؤجلة وفيها قضاء الخلفاء رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا مما تفترق فيه دية العمد ودية الخطأ، أن دية العمد: حالة، ودية الخطأ: مؤجلة.

    ثم هذه الدية الحالة تكون في مال الجاني ولا نلزم عاقلته بدفعها، وأما في الخطأ فإننا نجعلها على العاقلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها عليها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

    وقد بين المصنف رحمه الله ما يترتب على قتل العمد، فإذا عفا أولياء المقتول يجب أن يدفع الدية، والأصل في ذلك النصوص التي بيناها في الكتاب والسنة.

    الحكم الثالث: أن تكون في مال الجاني وليس في مال العاقلة.

    لزوم الدية على العاقلة في شبه العمد والخطأ

    قال رحمه الله: [وشبه العمد والخطأ على عاقلته].

    وقتل شبه العمد وشبه الخطأ الدية فيهما على عاقلة المخطئ؛ وذلك لأن شبه العمد والخطأ قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنين بغرة؛ وليدة أو عبد، ثم قضى بديتها -يعني دية المرأة- على عاقلتها) أي: على عاقلة المرأة الجانية. وهذا يدل على أن من قتل خطأ فعاقلته تحمل عنه، فمثلاً: لو أن رجلاً أركب معه أشخاصاً في سيارته ثم حصل حادث، وكان متحملاً لجميع ما في هذا الحادث من خطأ دون اشتراكٍ مع غيره وأزهق ثلاثة أنفس، فنقول: إن هذه الثلاث ديات على عاقلته. وعاقلته تحمل عنه هذه الديات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم عاقلة المخطئ بتحمل الدية، وهذا فيه حكمة من الشريعة؛ لأن المخطئ ليس كالمتعمد؛ ولأن العاقلة وهم القرابة يرثون، فالإنسان إذا لم يكن له قريبٌ وارث فإن العصبة ترث جميع المال، ولذلك : الغُنم بالغرم، فهم يغرمون كما يغنمون، ويغنمون كما يغرمون، ولذلك قال الله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]وقد تقدم معنا هذا في مسائل عديدة بينا فيها لماذا تلزم الشريعة الأقرباء بضمان بعض الأشياء لقراباتهم. وهنا نلزم العاقلة بدفع دية الخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها على العاقلة، وسيأتي إن شاء الله ضابط العاقلة وكيف تقسط هذه الدية عليهم.

    ثم بين المصنف رحمه الله أن هذه الدية على العاقلة معاً.

    قوله رحمه الله: (وشبه العمد والخطأ على عاقلته).

    المفروض أن يُضاف مؤجلة؛ لأنه نص في العمد على أنها حالة، وسكت عن كونها حالة في الخطأ وشبه العمد من أجل أن طالب العلم يدرك أنها لو كانت حالة لنص على ذلك، لكن لما كان هذا قد يوهم، كان الأولى أن يقال: مؤجلةً، فهي على العاقلة مؤجلة ثلاث سنوات وقيل أكثر من ذلك، والذي قضى به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولم يخالف ذلك أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الدية إذا أُلزمت بها العاقلة تقسط على ثلاث سنوات، وبناء على ذلك تخالف دية العمد، فدية الخطأ مؤجلة، ودية العمد معجلة.

    حكم من كان سبباً في القتل

    قال رحمه الله: [وإن غصب حراً صغيراً، فنهشته حية، أو أصابته صاعقة، أو مات بمرض، أو غل حراً مكلفاً وقيده؛ فمات بالصاعقة أو الحية، وجبت له الدية].

    قوله: (وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية).

    تقدم معنا في الغصب أن العلماء رحمهم الله يقولون: (يد الغاصب يد ضمان) وبينا وجه ذلك؛ لأنه باعتدائه على المغصوب يتحمل جميع ما يحصل لهذا المغصوب من ضرر، فإن حصل هذا الضرر بفعله لا إشكال، وإن حصل بآفةٍ سماوية أو نحو ذلك فهو ضامن؛ لأن يده يد ضمان؛ كان المفروض أن يرده إلى صاحبه حتى يصبح صاحبه ضامناً له، فمثلاً: من غصب منك سيارة فإن هذه السيارة مدة بقائها تحت يدك تأخذ منفعتها وتتحمل ضررها، لكن إذا أخذها منك أصبحت يده يد ضمانٍ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فجعل يد الغاصبِ يد ضمان، وبينا ذلك ووجهناه وذكرنا له صوراً وأمثلة.

    قوله: (وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية) الصغير لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا يستطيع أن يقاتل، ولذلك لا يتحمل مسئولية نفسه، ولا يكون هناك تحمل من النفس المقتولة للجناية، ويصبح الغاصب متحملاً لدية هذا المقتول. (نهشته حية) الموت حصل بنهش الحية، لكن لولا الله ثم كونه جاء به إلى هذا الموضع وغصبه إلى هذا الموضع ما حصل الموت، فيتحمل التبعة وما يترتب على هذا الفعل وعلى هذه الجناية فيكون ضامناً لهذه النفس.

    قال: [أو أصابته صاعقة].

    يعني: الإتلاف قد يكون بالعوارض التي لا دخل للمكلف فيها، أو بالعوارض التي يكون فيها دخل على جهة السببية بالحيات والعقارب ونحو ذلك، فإذا نزلت عليه صاعقة فمات، فإن الذي قتله هي الصاعقة في الأصل، لكن كونه حمله إلى هذا الموضع الذي أصابته فيه الصاعقة فإنه غاصب ومتحمل لما يترتب على غصبه، وبهذا الحمل وقع هذا الضرر على الصبي فيتحمل مسئوليته.

    قال: [أو مات بمرض].

    أو مات هذا الصبي بمرض؛ لأنه بحمله أصبح ضامناً له حتى يؤديه، فإذا لم يؤده ولم يرجع فإنه ضامنٌ له، وبعض العلماء يفرق بين موته بالأسباب الإلهية التي لا دخل فيها للمكلف، وهي الموت بالشيء الطبيعي، وبين موته بأسباب يكون للغصب فيها تأثير، ولكن من أهل العلم من لم يفرق، والسبب في هذا أنه يجعل مرد المسألة إلى أن يده يد ضمان، فلا يزال ضامناً حتى يرد المغصوب، وهذا أصل قرره العلماء في مسائل الغصب، وينبغي أن يكون مطرداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا فقال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فهو ضامن له حتى يرده كما أخذه.

    قوله: [أو غل حراً مكلفاً وقيده، فمات بالصاعقة أو الحية].

    الأول كان صغيراً وهذا مكلف، فإنه لما وضع الحر في الأغلال ومنعه من الحركة، أصبح هذا المكلف والكبير في حكم الصغير، وحينئذٍ لولا الله ثم هذا الغل لما مات؛ لأنه مقيد ولا يستطيع الحركة، والغل في جسده يمنعه من الحركة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لو نزلت عليه صاعقة فمن الذي جاء به في هذا الموضع، ومن الذي حبسه في هذا الموضع؟ ولولا الله ثم هذا الحبس وهذا المجيء لما حصل الزهوق، ولذلك يتحمل المسئولية عنه ويضمنه، ولو قال قائل: إنه كبير وإنه مسئول عن نفسه، نقول: إنه لما قيده وغله أصبح في حكم المشلول العاجز. وحينئذ كونه كبيراً ومكلفاً لا تأثير له؛ لأنه لا يستطيع أن ينقذ نفسه، ولا أن يبذل الأسباب لنجاة نفسه فيكون ضامناً لها.

    قال: [وجبت الدية فيهما].

    وجبت الدية على الغاصبِ، ويده يد ضمان لما ذكرنا. هذا بالنسبة للنفس، فإنها تجب الدية إن مات كما ذكرنا، وإن أتلفت هذه العوارض ففيه بعض الدية، فإن أتلف عضواً كيده أو رجله وجب عليه أن يدفع نصف الدية، وهكذا لو عورت عينه أو فقد إحدى أذنيه، أو أصابه ضرر في لسانه فأصبح لا يتكلم، وجبت عليه دية اللسان.. وهكذا.

    إذاً: كما يجب ضمان النفس كاملةً يجب ضمان الأعضاء، فمثلاً: لو أنه قيده ثم وضعه على حالة انكسرت يده فيها، أو وضعه على حالة جرحت فيها أصبعه، ثم سرى هذا الجرح حتى شلت يده، فحينئذ نوجب عليه ضمانه بنصف ديته. فكما يجب ضمان النفس كاملة يجب ضمان الأعضاء والأطراف وما يحصل من هذا الغصب من ضرر، فوجبت الدية إن كان زهوقاً للنفس كاملة، ووجبت أيضاً دية الأعضاء على حسب ما ترتب من هذه الجناية.

    1.   

    الأسئلة

    الرد على من يقول بعدم أخذ الدية

    السؤال: شاع في عرف بعض الناس أن الدية مال لا بركة فيه، وأن أخذه ينافي المروءة وكذلك أخذ الأرش، مما يدفع بعض أهل المجني عليه إلى التنازل عن حقهم مع عدم رضاهم بذلك وعدم قناعتهم، فما توجيهكم أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    الدية شرع الله عز وجل، ومن قال: إن الدية لا بركة فيها بل بعضهم يقول: من أخذها أضره الله في ماله، فهذا قول باطل ومصادمٌ لشرع الله عز وجل، وهناك قاعدة تقول: كل حكمٍ يحلل حراماً أو يحرم حلالاً فإنه خلاف شرع الله عز وجل، وهو ردٌ على من قاله. قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها) فهؤلاء كأنهم يريدون أن يحرموا على الناس ما أحل الله لهم، والدية حقك؛ إن شئت أخذتها، وهذا حسن؛ لأنك لم تظلم أحداً وأخذت حقك؛ كما لو جاء شخص -مثلاً- واعتدى على سيارتك فكسرها وجئت وأخذت قدر جنايته وقدر خطئه، ما ظلمته، كأن تكون سيارتك واقفة فجاء وصدمها، فقال أهل الخبرة: أنه هو المخطئ ولزمه أن يصلح هذا الخطأ، فلو كانت كلفة إصلاح السيارة ثلاثة آلاف ريال، فأي ظلمٍ في هذا؟!! وأي جناية في هذا؟ وأي اعتداء؟ فلماذا يُحرم ما أحل الله ؟ وهل كل الناس يستطيع كلما جنيت عليه جناية أن يصفح؟ دعوا الأنفس والأرواح؟

    لكن نقول: إذا كان هذا في الأموال العادية فكيف بالأنفس؟ السبب في هذه الديات في الأنفس: أن الإنسان إذا اُعتدي على قريبه وأعطي الدية وأخذها سكنت النفس واطمأنت وحصل أنه عوض عن حقه، وحينئذ لا توغر صدور المؤمنين بعضهم على بعض، فإذا قطعت يده بالخطأ وأعطي نصف الدية جبر خاطره وجبرت نفسه، فإذا نظر إلى يده المقطوعة وتذكر ثوابه عند الله عز وجل واطمأنت نفسه للآخرة، فإذا جاءت النفس تتحدث عن الدنيا وجد شيئاً من الدنيا يسليه ويجبر خاطره، وهذا تشريع الحكيم الحميد سبحانه وتعالى، وحكم الله الذي لا يعقب في حكمه سبحانه وتعالى.

    ولو علم الله أن فيها شراً ما سكت عن ذلك، ولا يشرع سبحانه لعباده إلا ما فيه الخير لهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ولقد جاءت رسل ربنا بالحق، فهذا من كلام الجاهلية ودعوى أهل الجاهلية، لكن إن تنازلت عن هذه الدية فهذا أحسن، وأعظم لأجرك وأثقل لميزانك. فإذا تركتها محبة لأخيك في الله ورحمة به، وشفقة عليه آجرك الله، وأحسن لك الخلف، ولكن من تركها خوفاً من أن تأتيه المصيبة، فهذا لم يتركها لله، وإنما تركها خوفاً من الضرر الأعظم، وحينئذ لا ينال الدنيا ولا ينال الآخرة؛ لأنه لم يتركها لله عز وجل، فهذا من تلبيس الشيطان نسأل الله السلامة والعافية، انظروا كيف يصرف الناس وتجتالهم شياطين الإنس والجن بالأهواء والآراء التي ما أنزل الله بها من سلطان، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23]. فهذا أمر الله الذي لا يعقب، فهو سبحانه الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وليس لأحد أن يستدرك على الله في شرعه، ولو علم الله أن في هذه الضمانات والديات ضرراً لما شرعها؛ لأنه قال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فكل تشريع أوحي إليه في كتاب الله وسنته عليه الصلاة والسلام فهو الرحمة والخير والبركة، وعلى كل حال: ينبغي أن يعلم الناس ذلك، وأن يقال لهم: إن هذا حقهم، فالحسن أن يأخذوه والأحسن أن يتنازلوا عنه، مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، فمن صبر ظفر وأحسن الله له العاقبة، ولا شك أن الخلف مضمونٌ من الله عز وجل لمن ترك شيئاً لله. (فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) والله تعالى أعلم.

    تربية الأيتام وعظم أجرها

    السؤال: هل ينطبق على تربية الأيتام من حيث الأصول والتربية الكاملة ما ينطبق على تربية الأولاد أثابكم الله؟

    الجواب: أما اليتيم فأمره عظيم جداً، الأيتام جنة ونار، ومن عال الأيتام وكفلهم واتقى الله فيهم فقد أفلح وأنجح، وأصاب خير الدنيا والآخرة، وكم أسعد الله أقواماً كفلوا الأيتام، حتى إن الله سبحانه وتعالى جعل لهم من عاجل البشرى في الحياة أن جعل حياتهم سعيدة، وجعل خاتمتهم طيبة حسنة، ولقد رأينا ذلك فيمن كان يعول الأيتام ويحسن إليهم. وجدنا من لطف الله به ورحمته وإحسانه به الشيء الكثير، فكفالة الأيتام والإحسان إليهم جنة للعبد في الدنيا قبل الآخرة.

    وأما عدم الرعاية لمشاعرهم، والتقصير أثناء تربيتهم فهذا خطر عظيم، وتربية الأيتام، دحضٌ فيه زلل كثير، ولذلك من يربي الأيتام ينبغي أن يكون على حذر شديد في التعامل معهم. فإن اليتيم لا يجد من يكفكف دمعه، ولا يجد من يجبر كسره، فإذا قسا عليه من يعلمه تذكر أباً كريماً أن لو كان حياً ما عامله بهذه المعاملة، ولو قسا عليه معلمه نظر إلى ذلك المعلم مع ولده، فقل أن يؤذي أحد يتيماً ويكون عنده أولاد إلا راقبه اليتيم في أولاده، فإن رآه محسناً لولده اغرورقت عينه ودمعت؛ لأنه لا يتصور أن هذا المعلم يريد مصلحته. فإذا كان المعلم ظالماً أو آثماً أو جائراً وكان الكافل شديداً، خاصة إذا كان اليتيم يعيش تحت كفالة عمه، أو خاله، أو نحو ذلك من أقربائه، فإذا أوذي أي أذية ولو كانت لسبب ورأى إحسان ذلك المؤذي إلى ولده تفطر قلبه بالحزن الذي لا يعلم قدره إلا الله.

    ولذلك قال الله عز وجل: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى:9]، فقهر اليتيم أمره عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وقرن بين السبابة والتي تليها)، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على علو درجته عند الله في الآخرة، لكن لابد أن تكون كفالة طيبة كاملة، وكفالة رحمة لا كفالة عذاب، وكفالة إحسان لا كفالة إساءة، وكفالة ود ورحمة وبر وإدخال سرور لا كفالة وحشة وضيق وعسر وتنكيد وتنغيص في العيش، فعلى كل من يعامل الأيتام عموماً أن ينتبه، حتى لو دخلت فصلك -لو كنت معلماً- فانتبه من اليتيم، فإنه أحوج ما يكون إلى إحسانك وبرك وعطفك، واجعل له ميزة على غيره، وهذا ليس من باب الظلم، وإنما من إنزال كل إنسان منزلته، وليس معنى ذلك أنك تفضله على غيره، لكن له شأن خاص، فالابن إذا آلمه مدرسه رجع إلى أبيه، فواساه وأحسن إليه وأنساه ما حصل له من إساءة ، ولكن اليتيم يرجع إلى بيته بلا أب، وقد لا يجد أماً، وقد يرحم أمه حينما يراها في همها وغمها، فيصعب عليه أن يدخل عليها هماً إلى همها، أو غماً إلى غمها.

    فلذلك من الرحمة ومن هدي الإسلام وسنن الإسلام: النظر إلى هؤلاء والإحسان إليهم، وأن يحاول كل معلم يحبُ الكتاب والسنة، ويلتزم بالشريعة التزاماً صادقاً أن يجعل لهؤلاء في قلبه وفي معاملته وفي إحسانه وبره أوفر حظ ونصيب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وما أعظم جبر القلوب المنكسرة عند الله ثواباً، وما أحسن ما يكون لأهلها عاقبة ومآباً.

    ومن أراد أن يجرب حسن العاقبة في الإحسان إلى القلوب المنكسرة والنفوس الضعيفة فليجرب ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة كالصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر) ؛ فجعله في هذه المنزلة العظيمة؛ لأن الأرملة لا أحد يعولها، وهي تحتاج إلى من يقوم عليها، فإذا نظر إلى أرملة من أرامل المسلمين، فأمست وأصبحت وهو يسعى عليها يقضي حوائجها وينفس بإذن الله كرباتها، ويدخل السرور عليها جعل الله ما كان منه من حسنات لا يعدل بصيام النهار ولا بقيام الليل. وهذا يدل على عظم الأجر عند الله في جبر القلوب المنكسرة. (وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، فيحرص طلاب العلم والأخيار على النظر في تربية الأيتام، وإذا كان عندك في حلقة التحفيظ يتيماً فإنك تكرمه وتجله وتعامله معاملة خاصة، وتنظر إليه نظرة خاصة، وتؤويه إلى حنانك، وإلى برك وإحسانك، فإنك إن فعلت ذلك رحمت أموات المسلمين وخلفتهم في ذريتهم بخير، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، وأن يفتح على أيدينا وعلى أيديكم أبواب الخير.

    الخلاصة: أن اليتيم ينبغي على من يؤدبه ويعلمه أن يكون على حذر شديد، وأن يعامله معاملة خاصة؛ لأنه أضعف من غيره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الضعيف أمير الركب) فينبغي مراقبة مشاعره. ونسأل الله العظيم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا وأن يتجاوز عنا، والله تعالى أعلم.

    تقديم تحية المسجد على السلام

    السؤال: إذا دخلت المسجد فهل أبدأ بالسلام على من في المسجد أو بتحية المسجد أثابكم الله؟

    الجواب: بسم الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد. فالسنة أن يبدأ المسلم بتحية المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه ودخل رجل -وهو المسيء صلاته- فصلى ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل). فكون الرجل بدأ بالتحية، ثم جاء وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، دل على أن السنة أن يبدأ المسلم بالتحية قبل السلام.

    وقال بعض العلماء: إن هذه هي السنة، ولذلك قالوا: من زار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ أولاً بصلاة التحية ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الرغم من عظم حقه صلوات الله وسلامه عليه، إلا أن الداخل يبدأ بالتحية قبل السلام عليه. فإذا كان هذا مع رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فما بالك بغيره؟

    فالسنة أن يبدأ أولاً بتحية المسجد، لكن لو سلم له وجه. وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الأعرابي وسلم رد عليه السلام ثم قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فمعناه أنه وقع سلامه قبل الصلاة. ولكن هناك سبب في هذه الحالة وهو أنه إنما رد عليه السلام لأن رد السلام واجب، والمسلم سلم لشبهة الإتمام. والمراد حكاية صورة الحال، فكونه يبدأ بالتحية قبل السلام عليه، يدل على أنهم كانوا يفعلون ذلك، وأنه هو السنة المستقرة أن يبدأ بالتحية قبل السلام. وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، والله تعالى أعلم.

    حكم الوضوء من المياه الموضوعة للشرب

    السؤال: ما حكم الوضوء من المياه الموضوعة للشرب في المسجد الحرام وغيره من المساجد أثابكم الله؟

    الجواب: المياه الموضوعة للشرب موقوفة للشرب، ولا يجوز صرفها في غير ذلك. هذه أوقاف مسبلة في المسجد الحرام وغيره. ولكن إذا حصل عند الإنسان اضطرار، بحيث ضاق عليه وقت الصلاة وكان هناك سبب موجب صعوبة خروجه من مرض أو ضعف وتوضأ بها، فهذا مغتفر إن كان شيئاً يسيراً لا يضر بالشاربين، وإلا فالأصل أنها موقوفة مسبلة للشرب. ولذلك كان العباس رضي الله عنه يقول في زمزم: إني لا أحله لمغتسل وهو لشارب حل، والله تعالى أعلم.

    حكم من صلى المغرب جماعة بنية العصر

    السؤال: رجل لم يصل العصر ودخل المسجد ووجدهم يصلون المغرب. فهل يصلي معهم بنية العصر ويزيد ركعة بعد التسليم، أثابكم الله؟

    الجواب: يشترط في صحة الصلاة وراء أخرى: أن تتحد صورة الصلاتين، فلا تصح المغرب وراء العشاء، ولا العصر وراء المغرب؛ لأن المغرب ثلاث ركعات، والعصر أربع. وحينئذ سيضطر إلى الجلوس بين الثالثة والرابعة، وليس في شرع الله أن يجلس بين ثالثة ورابعة؛ لأن الله ألزمه أن يصلي أربعاً لا جلوس بين الثالثة والرابعة فيها، وإنما يجلس بين الاثنتين على الصورة المعروفة في صلاة المغرب وصلاة العصر، وعلى هذا: لا يجوز أن يصلي المغرب وراء العشاء، ولا أن يصلي العصر وراء المغرب، وإذا دخل المسجد وأقيمت الصلاة وتذكر أنه لم يصل العصر، يدخل وراءهم بنية النافلة، ثم يصلي العصر قضاء. ثم يصلي المغرب بعد ذلك. فيتعذر عليه أن يصلي العصر؛ لعدم اتفاق صورة الصلاتين. ثم يتعذر عليه أن يصلي المغرب؛ لأنه لا تصح المغرب حتى يصلي العصر. وحينئذ يصليها نافلةً، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فمن حضر المسجد فإنه يصلي نافلة ثم يعيد بعد ذلك، فيصلي العصر ثم يصلي المغرب بعدها. والله تعالى أعلم.

    أسباب استجابة الدعاء

    السؤال: ماذا أقول حتى يستجاب لي، أثابكم الله؟

    الجواب: فتحت أبواب رحمة الله عز وجل فاسأل ما تشاء، فأنت أمام ملك الملوك الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار، لا تغيضها نفقة. يقول صلى الله عليه وسلم: (ألم تر إلى ما أنفقه منذ أن خلق السموات) فهو سبحانه الكريم الجواد الذي يحب من سأله ويرضى عمن سأله. فمن سأل الله فقد وحده، ولذلك الدعاء هو العبادة؛ لأنك لا تسأل الله إلا وأنت تعتقد أنه هو المسئول، ولا ترجو الله إلا وأنت تعتقد أنه هو المرجو سبحانه وتعالى.

    أما كيف تستجاب الدعوة؟

    فالدعاء يستجاب إذا حصلت آدابه، وهي كالآتي:

    أولها وأعظمها: توحيد الله، قال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:14] فمن دعا الله مخلصاً موقناً فتح الله له أبواب السموات، واستجيب له ما قال من دعوات، وحقق له ما رجا في تلك الكلمات الطيبات المباركات، فعلى العبد أن يدعو بقلبٍ موقنٍ موحدٍ مخلصٍ لله عز وجل، وإذا وقف العبد بين يدي الله، فأحس أنه لا أكرم من الله سبحانه وتعالى! وأنه لو سأل الله عز وجل ذلك الأمر الذي يراه عسيراً أنه أيسر ما يكون عند الله جل وعلا، فإن الله تعالى إذا أراد أن يفتح أبواب رحمته لا يستطيع أحد أن يغلقها، وإذا أمسك رحمته لا يستطيع أحد أن يرسلها، فإذا أحس العبد وأيقن بربه سبحانه وتعالى، وعرف من الذي يسأل، وعرف أن الذي يسأله أرحم به من نفسه التي بين جنبيه، وأن الذي يرجوه أعظم براً وأعظم إحساناً من كل شيء، وأنه المنتهى في الكرم والجود، وأنه المنتهى في الإحسان واللطف والرحمة؛ عندها تنساب نفسه وكأنه يدلَل بين يدي الله جل جلاله، وعندها يعرف من الرب الذي يسأل، فلا يحس أن هناك مسألة تعيي الله عز وجل، ولا يحس أن الله عز وجل يمنع عنه شيئاً.

    فإذا أحس بهذا الإحساس دعا وهو موقن بالإجابة، الرجل المشلول لا يتحرك فيه شيء ومع ذلك لا يقنط من رحمة الله عز وجل، وتجده يطلب الأمور فتستعصي عليه وتغلق في وجهه أبوابها، كلما طلب أمراً عسر عليه، وأصبح يسيره عسيراً وسهله حزناً، حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، ومع ذلك لا يقنط من ربه ولا ييأس من رحمته، فيرفع يديه للحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فيدعوه ويقول: يا رب! من قلب يعلم ما معنى قوله (يا رب) أنه الذي رباه بالنعم، وأنه الذي دفع عنه البلايا والنقم، وأنه الذي يحفظه، وأنه الذي يكلؤه، وأنه الذي يرحمه ويحسن إليه، فإذا دعا بهذا الشعور، فإن الله سبحانه وتعالى يستجيب دعاءه.

    ثانياً: الثناء على الله بما هو أهله، فإنه إذا استفتح الدعاء بتوحيد الله فلن تغلق أبواب السموات دون اسم الله جل جلاله، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب) الثناء على الله بما هو أهله يعين العبد ويحقق للعبد رجاءه.

    ثالثاً: أن يكون مضمون دعائه غير مشتمل على قطيعة رحم، ولا على إثم، ولا يدعو على المسلمين، وإنما تكون الدعوة طيبة، يدعو العبد لصلاح دينه، ثم لصلاح دنياه، ثم يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، فلابد لك حين تبدأ مسألتك أن يكون أول ما تبدأ به دينك؛ لأنه رأس مالك في هذه الحياة، وفي الدين تسأل الله عز وجل مسألتين في الرجاء: أولهما: أن يعينك على أداء فرائضه، والثانية: أن يعينك على بلوغ الكمال في الطاعات والخيرات والباقيات الصالحات، ثم ضد ذلك أن يعينك على ترك المحرمات، وأن يبلغك في الورع والزهد منزلة تدع فيها ما لا شبهة فيه خشية الوقوع في ما فيه شبهة، فإذا وفقت في هذا عصمت في دينك. ثم تسأل الله عز وجل بعد ذلك أن يرزقك الزيادة من الخير والثبات على الحق حتى تلقاه، ثم تسأله حسن الخاتمة، ثم تسأله بعد ذلك أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ثم تسأله أن يعيذك من عذاب القبر، ومن فتنة القبر، ومن أهوال القبر، وتتصور كأنك وحيدٌ فريدٌ في قبرك، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مشاهد الآخرة، فتسأل الله عز وجل أن يرحم في موقف العرض عليه ذلَّ مقامك بين يديه، وتسأل الله جل وعلا أن ييمن كتابك، وأن ييسر حسابك، وأن يعيذك من الصراط وزلته، وأن يعيذك من بطشته ونقمته، وأن يجعل حسابك يسيراً، ثم تسأل الله أن تدخل الجنة دون عناء ودون هم ودون غم، ثم تسأل الله أن يرفع درجاتك فيها، فإذا انتهيت من هذه المسائل التفت إلى أقرب الناس إليك من والديك، ثم أولادك وذريتك، ثم إخوانك وقرابتك، ثم أهل ودك الذين أحبوك في الله من علمائك الذين كانوا سبباً في هدايتك من أمواتهم، فتسأل الله أن ينور لهم قبورهم، وأن يفسح لهم فيها، فتدعو لعلماء المسلمين حيهم وميتهم، ثم حتى تعم دعوتك جميع المسلمين، فتعيش مع المسلمين في همومهم وغمومهم وأشجانهم، فتدعو الله للمكروبين من المسلمين أن يفرج الله كربهم، فتحس بأحاسيس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. فلا تسمع بنكبة إلا بسطت كفك إلى الله سائلاً إياه أن يفرج عن المكروبين والمنكوبين.

    وبهذا تكون رحمة لعباد الله. ثم تدعو على أعداء الله وأعدائك الذين هم من شياطين الإنس والجن، الذين يحولون بينك وبين ربك. فتسأل الله عز وجل أن يحول بينك وبينهم، وأن يكفيك شرورهم، وتسأل الله عز وجل للأمة كذلك.

    ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم في هذا المقام أن يصلح لنا أمور الدنيا والآخرة، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه، ونسأله أن يحسن لنا ولكم الختام، وأن يدخلنا وإياكم دار السلام، دون حساب ولا عذاب، ولا سبق خصومة ولا عتاب، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفرج عن كل مهموم منكوب مكروب، وأن يفرج عن إخواننا في أفغانستان من أراملهم وضعفائهم، ونسأل الله العظيم أن يجبر كسرهم، ونسأل الله العظيم أن يرحم ضعفهم.

    اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وأنهم جياع فأطعمهم. اللهم ارحم ضعفهم واجمع شملهم. يا حي يا قيوم! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، أن تفرج عن المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية يا حي يا قيوم! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755917571