إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب العفو عن القصاصللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله تعالى بخلقه أن شرع لهم القصاص إبقاءً لحياة النفوس وحفاظاً عليها، وقد تقع الجناية على النفس عمداً لغضب ونائرة أو غير ذلك، فيجب حينئذٍ القصاص وقد جعله الله تعالى حقاً لأولياء الدم، وما دام حقاً لهم فإنه يصح منهم العفو إن عفوا، وبالتالي فعفوهم إما على دية وإما على إسقاطها.

    1.   

    العفو عن القصاص

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب العفو عن القصاص].

    هذا الباب يتعلق بعفو ولي المقتول عن حقه في القود، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل لولي المقتول الحق في أن يأخذ بحقه فيقتص، وبين أن يسامح فيعفو، فبعد أن بين المصنف رحمه الله تعالى الشروط المعتبرة للقصاص ولاستيفاء القصاص؛ شرع في الخيار الثاني وهو العفو عن القصاص.

    فقوله: (باب العفو عن القصاص)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعفو ولي المقتول عن القصاص والقود.

    مشروعية العفو عن القصاص

    والأصل في مشروعية العفو دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، حيث أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو.

    فأما دليل الكتاب: فإن الله تعالى يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، فجعل الله عز وجل لأولياء المقتول أن يعفوا عن القاتل، ورغب الله سبحانه وتعالى في العفو فقال سبحانه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، فمن عفا عن القصاص والقود فإنه بخير المنازل عند الله سبحانه وتعالى، وذلك أن العفو إذا كان عن الجناية العظيمة كان أجره أعظم، وثوابه عند الله تعالى أكبر؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يعفو عن دم قريب من أقربائه إلا بقوة إيمان وحسن ظن بالله عز وجل، ورجاء في عفوه وكرمه وإحسانه، والله عز وجل يعامل عبده بالإحسان إذا عمل الإحسان مع خلقه، وإذا تولى الناس بالرحمة تولاه الله تعالى برحمته.

    ولذلك جاءت السنة تؤكد هذا المعنى، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، وهذا الحديث رد النبي صلى الله عليه وسلم فيه ظنون أهل الجاهلية، فإن أهل الجهل في كل زمان إذا أراد الإنسان أن يعفو قالوا له: أنت جبان، وأنت ضعيف، وأنت لا تحترم حقك ولا تأخذ بحقك، وأنت وأنت...، فيجعلون العفو في نظره منقصة، وذلة وهواناً، فكَذَّب النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقال: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، فمن عفا عن أي ذنب، وعن أي جريرة، وعن أي أذية من إخوانه المسلمين، فإن الله عز وجل يبدله بهذا العفو عزاً، فإذا عظم العفو عظمت رفعة الله عز وجل للعبد وإعزازه له وإكرامه له.

    ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو، وقد جعل الله تعالى لهذه الأمة الخيار بين القصاص وبين العفو إلى الدية، وبين العفو بدون أخذ الدية، فالعفو عفوان: عفو بدون عوض، وهو أعظم العفوين وأجلهما وأكثرهما ثواباً عند الله عز وجل، فلو أن شخصاً قتل له قريب فقيل له: تقتص؟ قال: لا أريد القصاص، فقيل له: تعفو وتأخذ الدية؟ قال: لا أريد الدية، وإنما عفوت لوجه الله عز وجل، فهذا وأمثاله ينطبق عليه قوله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، فإذا كان يوم القيامة تولى الله أجره وثوابه، ولذلك انظر إلى قوله سبحانه: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، ولم يبين الله عز وجل هذا الأجر والثواب كيف يكون؟ وكم يكون؟ وهذا يدل على أن الله تعالى يتولى جزاءه؛ لأن الأذية والشرور والمظالم والجنايات تتفاوت، والنفوس تتفاوت، وضيق الحال يتفاوت بالإنسان، فالذي يعفو عن القصاص والدية عمن يرجو صلاحه ويرجو هدايته واستقامته، ويكون سبباً في هدايته واستقامته، ولا يُحمِّله الدية، بل يستغني بغنى الله تعالى، فإن الله عز وجل يعوضه عن ذلك كله خيراً، فيعوضه خيراً في الدنيا، وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، ويعوضه خير الآخرة، فأجره على الله تعالى إذا كان يوم القيامة.

    وقد جاء في الأثر: (أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله فليقم، فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا من عفا عن مظلمة)؛ لأنه جعل الأمر إلى الله عز وجل أن يتولى جزاءه وثوابه، وقل أن تجد إنساناً يعامل الناس بالعفو إلا وجدت أمره على اليسر وعلى السماحة وعلى العزة والكرامة، فعدوه يريد أن يهينه والله تعالى يكرمه، وعدوه يريد أن يذله بتلك الأذية فإذا به بعفوه يرفعه الله تعالى ويعزه، والله جل وعلا عليم بخلقه، حكيم في تدبيره سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فهو العدل سبحانه وتعالى الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن أعظم الإحسان العفو، ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو عن القصاص.

    حكم العفو عمن عرِف بالشر والفساد وسفك الدماء

    لكن هنا مسألة وهي: إذا كان القاتل الذي قتل المظلوم معروفاً بالشر والأذية والبغي والإضرار، فهل يشرع العفو عنه؟ وهل تشرع الشفاعة من أجل العفو؟ لأنه إذا كان العفو محموداً شرعاً فإن الشفاعة من أجله شأنها كذلك، فلو أن إنساناً شفع ودخل بين قوم بينهم دم وأصلح ودعاهم إلى العفو، فإنه يكون له مثل أجر من عفا، فمن دعا إلى خير وهدى كان له أجره وأجر من عمل به، فإذا رغبهم في ذلك، وأسكن النفوس، وأطفأ ثائرات النفوس، وحاول أن يدعوهم إلى العفو وإلى المجاوزة والصفح فعفو، فله مثل أجرهم، وله أجر الشفاعة وما يتحمل فيها من المشاق والمتاعب، فالله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، و(عظيماً) من الله تعالى ليست بالهينة، ولذلك قال: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114].

    فإن أعظم شيء يفسد الناس هو الدماء، فإذا وقعت بينهم الدماء ووقعت بينهم الخصومات والنزاعات، فخرج الشخص للصلح بينهم، بشرط أن لا يخرج إلا لوجه الله تعالى، لا حمية ولا عصبية ولا رياءً ولا سمعة، وإنما يخرج لله تعالى وفي الله تعالى، كما قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، و(ابتغاء) أي: طلباً، أي: أنه يخرج وهو يريد أن يرضى الله تعالى عنه بذلك الذي يفعله، وهو يعلم أن الله تعالى يرضى عنه حين يصلح بين هذين المتخاصمين، أو يطفئ ثارات النفوس بالعفو عن القصاص والمسامحة والمجاوزة عن الجاني؛ فإن الله تبارك وتعالى يأجره على عمله وسعيه.

    فالشفاعة في العفو عن القصاص مشروعة، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه تأخر عن الصلاة مع الجماعة من أجل أن يصلح بين حيين من بني عوف، والحديث في الصحيحين، وهذا يدل على فضل الشفاعة، وأنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولكن إذا كان القاتل معروفاً بالشر والفساد والبغي ففيه تفصيل: إذ يقول بعض العلماء: إذا شفع أحد في إسقاط القصاص عنه وهو يرجو صلاحه، ويغلب على ظنه أن هذا يتسبب في إصلاحه وحسن حاله، فإنه يدخل في فضل الشفاعة، ولا يمنع من ذلك بل يندب إليه ويرغب فيه، ولا يعاتب بل إنه مثاب على هذا العمل.

    أما إذا كان رجلاً شريراً لا يزداد بالعفو إلا شراً، ولا يزداد إلا تسلطاً على دماء المسلمين وأذيتهم، كأن قتل فعفي عنه، ثم قتل مرة ثانية، وعرف منه بعد القتلة الثانية أنه على حاله، وأنه مصر على بغيه، ومصر على كبره، ومصر على أذيته للناس، فهذا لا يجوز أن يسلط على دماء المسلمين، فالعفو عنه إبقاء لشره، ومن هنا نص جماعة من أهل العلم على أنه لا تشرع الشفاعة في مثل هذا.

    وقد وقع ذلك لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وأذكر أن رجلاً كان معروفاً بذلك وطلب من الوالد أن يشفع، فامتنع الوالد رحمه الله تعالى؛ لأنه سأل عنه وتبين من حاله أنه لا يزيده العفو إلا بغياً وفساداً، فمثل هؤلاء لا يعانون على الإضرار بالناس والإضرار بمجتمعاتهم والإضرار بالأبرياء، فهؤلاء إذا عفي عنهم تسلطوا على دماء المسلمين، وتسلطوا على الناس بأذيتهم والإضرار بهم، وليس الأمر خاصاً بالقتل بل إنه شامل لكل عقوبة، بحيث إذا كان الجاني يتسلط ويزداد أذية وبغياً وفساداً فمثله لا يعان على بغيه وفساده.

    العفو عن القصاص إلى الدية

    قال رحمه الله تعالى: [يجب بالعمد القود أو الدية].

    قوله: (يجب بالعمد القود) أي: القصاص، وقد تقدم؛ لأن الله تعالى يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، وقال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، وقال صلى الله عليه وسلم: (فمن قُتل له قتيلٌ فهو بخير النظرين إما أن يقاد وإما أن يودى)، فقوله: (إما أن يقاد) يدل على مشروعية القود، والإجماع على هذا، وقد تقدم.

    وقوله: (أو الدية) أي: يخير فيقال له: إما أن تقتص وتأخذ بحقك بقتل من قتل وليك، كما قال تعالى: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33]، فيقال له: اقتل من قتل أباك، أو اقتل من قتل أخاك، فإن الله تعالى أعطاك هذا الحق، فإن قال: لا أريد أن أقتله، وقد عفوت عن القاتل، فنقول: لك الدية؛ لأن الله عز وجل أمر إذا عفا ولي الدم عن الدم والقصاص بإعطاء الدية له، وقد صحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فإذا قتل وعفا ولي المقتول فإنه ينتقل إلى الدية، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله تعالى.

    قال رحمه الله تعالى: [فيخير الولي بينهما].

    أي: يخير الولي بين أن يقتل قصاصاً وبين أن يأخذ الدية -وسيأتينا في باب الديات توضيح الدية وضوابطها وأحوالها- فهذا بإجماع أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم؛ لانعقاد نصوص الكتاب والسنة على أنه بالخيار بين الأمرين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا، وهو ظاهر الكتاب، فإن الله عز وجل أمر بالقصاص فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:178]، فهذا يدل على أنه يخير بين القصاص وبين أخذ حقه وهو الدية، فإذا كان لا يريد القصاص يأخذ حقه من المال وهو الدية.

    العفو عن القصاص والدية جميعاً

    قال رحمه الله تعالى: [وعفوه مجاناً أفضل].

    أي: وعفوه بدون أن يأخذ شيئاً أفضل؛ لأنه إذا فعل ذلك تولى الله تعالى أجره وثوابه، ولأن غاية الإحسان أن يعفو عمَّن ظلمه وعمَّن آذاه، ولا يأخذ منه شيئاً، وإنما ينتظر من ربه العوض والخلف، ولو أنه عفا ثم أخذ الدية فلا يلام. ومن أدران الجاهلية والعصبيات الممقوتة عند بعض الناس: أن أولياء المقتول إذا قالوا: لا نريد القصاص ونريد الدية، فإنه يعتب عليهم، ويأتي أولاد العم والقرابة ويقولون: أنتم لا تقدرون أباكم، وأبوكم لا يقدر بثمن، وما هذه الدية؟ أترضون بالمال دون دم أبيكم؟ أنتم كذا أنتم كذا.. ولربما هددوهم بالقطيعة -والعياذ بالله تعالى- وهذا من مضادة شرع الله عز وجل، ومن المحادَّة، ومن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

    فإن الله تعالى يحب العفو ويقول: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، وهؤلاء -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- بخلاء على أنفسهم، ويأمرون غيرهم بالبخل، فهؤلاء لا يجوز طاعتهم؛ لأنهم لا يريدون الخير لمن عفا أو أراد أن يعفو، فالذي يريد أن يعفو ويقول: أسامح لوجه الله تعالى، فأجره على الله عز وجل، والأفضل أن لا يأخذ شيئاً.

    أخذ الدية والصلح على أكثر منها

    قال رحمه الله تعالى: [فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط فله أخذها والصلح على أكثر منها].

    إذا اختار القود مكن منه، وإذا قال: أريد أن أقتص، فحاول معه أولياء القاتل، وقالوا له: اعفُ عنه، ورضي بالدية، فلا إشكال، لكن في بعض الأحيان لا يرضى بالدية، فيبذلون أكثر من الدية، وهذا البذل لأكثر من الدية على سبيل الصلح، فيقولون له: إن تنازلت نعطك ديتين، أو إن عفوت نعطك ثلاث ديات، أو إن عفوت نعطك أربع ديات، أو خمس ديات، فهذا من باب الصلح.

    وفي الحقيقة من حيث الأصول أن الدم له دية مقدرة شرعاً لا يزاد عليها، لكنه يزاد عليها صلحاً، وقد كنا نميل إلى الوجه الأول، ثم تبين في الأخير بعد تصحيح حديث الترمذي صحة الوجه الثاني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن صالحوا فلهم ما أخذوا) أي: ما اصطلحوا عليه، وهذه الزيادة حسنها غير واحد، وملنا إلى تحسينها في الأخير في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وعلى هذا يجوز الصلح بأكثر من الدية، ولكن من حيث الأصل ينبغي أن ننبه على مسألة ستأتينا في الديات وهي: أن القرابة والعصبة هم الذين يتحملون دية الخطأ في الأصل، فإذا صالحوا بأكثر من الدية ألزموا القرابة أن يدفعوا ثلاث ديات أو أربع ديات، ويقع فيها من الإحراج والأخذ بسيف الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلا يجوز إحراج القرابة بمثل هذا، وإذا أراد أحدٌ أن يتبرع بدية ثانية أو ثالثة فلا يضر بقرابة القاتل؛ لأنهم لا ذنب لهم، والأصل أنهم يحملون ما في طاقتهم، فتحميلهم فوق طاقتهم وتحميلهم الديون من أجل جانٍ قد لا يستحق أن يبذل له ذلك، وقد يكون شريراً كما ذكرنا؛ كل هذا لا يجوز.

    فالمقصود: أن الأصل يقتضي أن يقتصر على الدية، وإن حصل صلح فيجوز أن يصالح على أكثر من الدية، وفي هذا قصة هدبة بن خشرم المعروفة أنه قتل رجلاً، وكان أولياء المقتول يتامى قاصرون، منهم ابن المقتول، فحبس هدبة ، ووقعت الحادثة في زمان معاوية رضي الله تعالى عنهما، فشفع سعيد بن العاص وكذلك الحسن والحسين رضي الله عنهم من أجل أن يعفو وليُّ المقتول، وبذلوا لابن القتيل سبع ديات حتى يعفو، فأبى إلا القتل، فقتل به، والشاهد في كون هؤلاء الصحابة بذلوا أكثر من الدية، فاجتمع دليل السنة ودليل الأثر عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى هذا فجمهور العلماء رحمهم الله تعالى على أنه يجوز في الصلح في الديات بأكثر من الدية.

    إذا اختار الدية أو عفا مطلقاً أو هلك القاتل فليس له إلا الدية

    قال رحمه الله تعالى: [وإن اختارها أو عفا مطلقاً أو هلك الجاني فليس له غيرها].

    أي: إن اختار الدية فليس له إلا الدية، بمعنى أنه لو قال: عفوت، ثم رجع وقال: أريد القصاص، فإنه لا يمُكن من القصاص؛ لأنه إذا قال: عفوت؛ سقط حقه في القصاص إلى الأبد، ولا رجوع عن هذا الحكم، وليس له إلا الدية إن اختارها.

    قوله: (أو عفا مطلقاً)

    إذا قال: عفوت عنه، ثم رجع إلى القاضي وقال: أريد القصاص، فقال بعض العلماء: لا قصاص ولا دية، وقيل: لا قصاص ولكن له الدية؛ لأنه إذا عفا عن الدية ثم رجع فيكون مثل الهبة إذا وهب شيئاً ثم رجع فيه، فكأنه وهب الدية للقاتل، ثم رجع عن هبته، وهذا مذموم شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يأكل قيأه).

    وقوله: (أو هلك الجاني)

    أي: لو أن شخصاً قتل عمداً عدواناً، ثم جاءته نقمة من الله تعالى فأخذه الله تعالى وأهلكه، فحينئذٍ لا يمكننا القصاص، لكن يبقى حق أولياء المقتول في الدية، وحينئذٍ تثبت لهم في تركته الدية، فتؤخذ من تركته.

    وقوله: (فليس له غيرها)

    أي: ليس لولي المقتول غير الدية، وليس له القصاص، ولو قال: رجعت، وأريد أن أقتص، فإنه لا يعطى القاتل ولا يمكن من قتله.

    1.   

    السراية وأحكامها

    قال رحمه الله: [وإذا قطع أصبعاً عمداً فعفا عنها، ثم سرت إلى الكف أو النفس، وكان العفو على غير شيء فهدر].

    هذه المسألة صورتها: لو وقعت مخاصمة بين اثنين، فقام أحدهما وقطع أصبع الآخر عمداً وعدواناً، فثبت القصاص أن تقطع أصبعه بأصبعه، فعفا المجني عليه، فلما عفا سرت الجناية -والعياذ بالله تعالى- حتى أتت على يده، ثم سرت على جسمه حتى مات، فالموت وقع بسبب سراية الجروح؛ لأن الجروح تسري في البدن، إما بسبب التلوث، أو بسبب قوة الجناية، أو بسبب الجراثيم التي تدخل، فإذا سرت الجناية فقد تسري على عضو لكون الجناية في جزء العضو، مثل الأصبع والأصبعين، ثم تسري إلى العضو كاملاً، وقد تسري إلى البدن بكماله، وقد تسري إلى نصف البدن كأن تشل نصفه -والعياذ بالله تعالى-، فهذا يسميه العلماء: السراية، وهي في الأصل جناية في موضع، ثم تتوسع حتى تسري إلى مواضع، وقد تأتي على النفس فتهلك صاحبها.

    فلو أنه جنى عليه جناية في الطرف الذي هو الأصبع، أو قطع يده، فلما قيل له: إن شئت أخذت بالقصاص وإن شئت عفوت، قال: قد عفوت، فلما عفا سرت الجناية وأتت على نفسه، فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة، فقال بعض العلماء وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى: يجب القصاص، فإذا عفا عن الأصبع وسرت الجناية إلى البدن كله فالعفو عن الجزء ليس عفواً عن الكل، وهو إنما عفا عن جناية قاصرة متعلقة بجزء من البدن، ولم يُسأل عن بدنه كله، وبعبارة أدق: أن الجناية لم تتضح بعد، بمعنى أنه سبق عفوه حقيقة الجناية؛ لأن الجناية وقعت على البدن كله، وهي في الأصل على الأصبع، لكنها سرت إلى البدن كله، فهذا الإتلاف إزهاق للنفس أتى على النفس بكاملها، وقد جاء من فعل الجناية، والجناية عمد، فيثبت القصاص في البدن كله.

    وخالفه جمهور العلماء فقالوا: ليس هذا موجباً للقصاص، حتى لو قلنا: إنه يقتص منه فإن الشبهة قائمة، فهذا لم يرد إزهاق روحه كلها، وإنما اعتدى على جزء بدنه، فكيف ينزل منزلة من اعتدى على البدن كله، فهناك فرق بين الاثنين، ثم إن القتل لم يحصل بالقطع، أي: أن القطع نفسه للعضو ليس مما يوجب الإزهاق في الأصل، ومن هنا رد الجمهور هذا القول، وقولهم أقوى.

    فإذا قطع الأصبع وقال المعتدى عليه: أريد الدية، وأعطي دية أصبعه، ثم سرت إلى بدنه كله فقال أولياؤه: نريد الدية كاملة، فإنهم يعطون الدية كاملة، فإذا لم يعف وأخذ الدية عن الأصبع، وسرت الجناية إلى البدن كله، وجب ضمان الدية كاملة إذا طالبوا بها ولا إشكال في هذا، لكن الإشكال إذا طالبوا بالقصاص، فـمالك رحمه الله تعالى يقول: يمكنون من القصاص، والجمهور يقولون: لا يمكنون، لكن لو أنه أخذ الدية عن أصبعه ثم سرت الجناية إلى بدنه كله وطالب أولياؤه بالدية، كان من حقهم أن يأخذوا الدية؛ لأنه ليس هناك عفو والولي لم يعفُ.

    ومما وقع فيه الخلاف بين العلماء: أنه لما قطعت أصبعه فعفا عن الأصبع، وإذا بالجناية تسري فتأتي على النفس، فالسؤال: هل يلزم بالدية كاملة؟ أو يلزم بالدية إلا ما عفا عنه وهو الأصبع؟

    فمذهب طائفة من العلماء وفي مذهب الحنابلة أيضاً أنه تؤخذ الدية كاملة ما عدا القدر الذي عفا عنه وهو الأصبع؛ لأنه قد عفا عن أصبعه، وحينئذٍ يؤخذ من الجاني بقية الدية وهي تسعة أعشار الدية، وعلى هذا يقولون: إن الجناية في سرايتها مضمونة. وهذا أصل عند العلماء، على تفصيل سنذكره -إن شاء الله تعالى- في باب الديات.

    ولعل الأشبه أن الذي عفا عنه -وهو الأصبع- يسقط حقه فيه، ويبقى الضمان فيما عداه، والقائلون بوجوب الدية كاملة يقولون: يجب ضمان الدية كاملة؛ لأن الجناية على الأصبع جناية، والجناية على البدن جناية ثانية، وحينئذٍ يكون كأنه قتل مباشرة؛ لأنه قتل بسببية هنا؛ فتسبب الجرح في إتلاف البدن كله، فقالوا: ما عفا عنه فهو عفو، وكتب الله تعالى له أجره، ولكن لأوليائه أن يأخذوا الدية كاملة.

    على أن السراية إذا كانت بالسلاح فهي أقوى، فإذا كان السلاح آلة كالَّةً، مثل أن يقطعه بسكين ملوثة، أو يقطعه بسكين مسمومة، فالقطع بالسكين المسموم قوي جداً في مذهب القصاص؛ لأن السكين المسمومة معروف أنها مما يفضي إلى إزهاق الروح، فمذهب مالك رحمه الله تعالى فيها قوي، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمه الله تعالى يستثني هذه الحالة، وهي: أن يقع القطع بآلة أو بطريقة تفضي إلى السريان، ويكون السريان غالباً، وحينئذٍ تكون سببية على العضو ولكن المراد بها كل البدن.

    العفو في السراية

    قوله: (وكان العفو على غير شيء فهدر).

    إذا قال: عفوت عن الأصبع، فهذه صورة، وكل الذي ذكرناه فيما إذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، ويبقى قوله: عفوت عن هذه الجناية، فإذا قال: عفوت عن الجناية فلا شيء له، حتى ولو سرت إلى البدن كله؛ لأنه لما قال: عفوت عن الأصبع، حدد عفوه بالعضو، وحينما قال: عفوت عن الجناية، فقد عفا عن الشيء وما يترتب عليه، ومن هنا لا يُعطى ولا يضمن، ولا يطالب الجاني بضمان سراية الجناية؛ لأنه عفا عن الجناية كلها، فلما قال: عفوت عن هذه الجناية يسقط حقه، وإذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، فالتفصيل الذي ذكرناه، والخلاف الذي بيناه بين أهل العلم رحمهم الله تعالى في تلك المسألة.

    قال رحمه الله تعالى: [وإن كان العفو على مال فله تمام الدية].

    المصنف رحمه الله تعالى اختار أن العفو عن الأصبع عفوٌ عن جزء، ولكن إذا سرت إلى البدن فهو إتلاف مستأنف، وحينئذٍ تجب فيه الدية كاملة، فهذا الذي اختاره رحمه الله تعالى، واختاره أيضاً غيره من أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى، وهو قوي جداً من حيث الحجة والدليل.

    1.   

    التوكيل في القصاص

    قال رحمه الله تعالى: [وإن وكل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما]

    حكم التوكيل في القصاص إثباتاً واستيفاءً

    هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل:

    أولاً: هل يشرع التوكيل في إثبات القصاص، والقصاص؟

    جماهير العلماء وأئمة السلف على أنه من حق أولياء المقتول أن يوكلوا شخصاً يتولى في القضاء إثبات الجناية، فإذا وكلوا شخصاً وقالوا له: أثبت جناية فلان على عمنا، أو أثبت جناية فلان على أبينا، فإن هذا مشروع، والدليل على مشروعيته عموم الأدلة الواردة على مشروعية الوكالة، وقد بينا في باب الوكالة ذلك، وذكرنا أدلة النقل والعقل، فيشرع للإنسان أن يوكل غيره في إثبات حق من حقوقه، فإذا قالوا له: وكلناك فعلى صورتين:

    الصورة الأولى: أن يوكلوه في إثبات الجناية التي هي القتل العمد العدوان الموجب للقصاص.

    الصورة الثانية: أن يوكلوه في استيفاء حقهم، أي: في القصاص وقتل القاتل.

    ففي الصورة الأولى يقوم هذا الشخص بإحضار الأدلة والشهود على أن فلاناً قتل فلاناً، فهذا يسميه العلماء: التوكيل في الإثبات، والتوكيل في الإثبات مشروع فيما قاله جمهور العلماء والأئمة من المذاهب الأربعة وغيرهم، إلا القاضي أبا يوسف رحمهم الله تعالى من فقهاء الحنفية رحمهم الله تعالى، فيقول: لا يشرع أن يوكل شخص لإثبات الجناية، فالإثبات يكون على أولياء المقتول، وهم الذين يحضرون عند القاضي، وهم الذين يكون عليهم عبء الإثبات. والصحيح هو مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف وأهل العلم رحمه الله تعالى أجمعين؛ أنه يشرع لأولياء المقتول أن يقوموا بأنفسهم، وأن يوكلوا غيرهم لإثبات حقهم، شأنه في ذلك شأن سائر الحقوق. هذه المسألة الأولى.

    المسألة الثانية: إذا وكله على الإثبات فهل من حق الوكيل إذا أثبت أن فلاناً قتل فلاناً أن يطالب بالقصاص؟ أي: هل التوكيل في الإثبات توكيل في الاستيفاء؟

    جمهور العلماء يقولون: ليس التوكيل في الإثبات توكيلاً في الاستيفاء، وهذا الوكيل ليس من حقه إلا الإثبات فقط، فيحضر الأدلة ويثبت أن فلاناً هو القاتل، فإذا أثبت وحكم القاضي بصحة إثباته انتهت الوكالة.

    وخالف في هذه المسألة ابن أبي ليلى من أئمة السلف رحمه الله تعالى فقال: إذا وكل في إثبات الجريمة وإثبات القصاص، كان من حقه أن يطالب بالقصاص؛ لأن المقصود من الإثبات هو القصاص، فإذا وكل في الإثبات فمعناه أنه موكل في القصاص، كما لو وكل في البيع فله حق القبض.

    والصحيح هو مذهب الجمهور؛ أنه إذا وكل في الإثبات فقد اختصت الوكالة بالإثبات، فهي وكالة خاصة، ولا يكون من حقه أن يطالب بالاستيفاء.

    فإذا ثبتت مشروعية الوكالة على الإثبات، فيبقى الكلام على الاستيفاء فنقول وبالله التوفيق:

    الاستيفاء: هو تنفيذ الحكم، فقد نص العلماء على جواز أن ينصب ولي الأمر شخصاً، أو جهة معينة تقوم بتنفيذ هذه الحدود والحقوق، وارتاح الناس من كثير من الإشكالات الموجودة في الفقه بهذه الطريقة والحمد لله تعالى.

    لكن الأصل أن استيفاء القصاص حق لولي القتيل، وله أن يوكل في ذلك كشأن سائر الحقوق، وهنا يجيء الكلام على مسألة الوكالة في القصاص.

    فقد كان في القديم إذا ثبت عند القاضي أن رجلاً قتل رجلاً، فيقول القاضي لولي القتيل: هذا قاتل وليك فاقتله إن أردت، ويمكنه من قتله، فيأخذ الولي سيفه ويقتله، فيكون ولي الدم هو الذي يباشر القتل، كما ذكرناه في الاستيفاء.

    إلا أن ولي الدم قد لا يستطيع أن يقتل قاتل وليه، إما لصغر سنه، كصغير بلغ ولا يحسن الضرب بالسيف، أو يكون رجلاً كبيراً في السن، أو مشلولاً، أو مقعداً، أو زمناً، أو مريضاً، فقد تكون هناك أعذار في ولي المقتول، فحينئذٍ يحتاج إلى شخص يقيمه مقامه من أجل تنفيذ القصاص، فهذه مسألة التوكيل في الاستيفاء.

    عفو ولي الدم بعد التوكيل في الاستيفاء

    فإذا وكل شخص شخصاً من أجل أن يقتل قاتل وليه، فلهذه الوكالة صور:

    الصورة الأولى: أن يوكله ولا يرجع عن الوكالة، ويذهب الوكيل ويقتص، فهذه الصورة لا إشكال فيها، فالوكالة صحيحة والتنفيذ صحيح، ولم يرجع الموكل عن وكالته حتى حصل التنفيذ، وكما أن الأصيل له حق الاستيفاء فقد قام الوكيل مقامه، والقاعدة: أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل أو من وكله.

    الصورة الثانية: أن يرجع الموكل عن وكالته، وهذه هي التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى، فيقول الموكل لوكيله: اقتل من قتل أبي، أو وكلتك في قتل من قتل أبي، أو وكلتك في استيفاء حقي في القصاص من فلان، فخرج هذا الوكيل من أجل أن ينفذ الوكالة، فلما خرج رجع الموكل عن وكالته، رجوعاً بالعفو لا رجوعاً مطلقاً؛ لأن الرجوع المطلق الأمر فيه أخف، لكنه رجع بالعفو بقوله: قد عفوت عمن قتل أبي، فالوكيل ذهب، والعفو وقع من صاحب الحق، وحنيئذٍ فلذلك حالتان:

    الحالة الأولى: أن يقع العفو بعد التنفيذ، كما لو خرج الوكيل وطالب بالدم وقتل القاتل الساعة الواحدة ظهراً، والموكل عفا عن الدم الساعة الثانية ظهراً، أو الواحدة والنصف، فمعنى ذلك أن العفو وقع بعد استيفاء الحق، فلا شيء على الوكيل ولا على الموكل؛ لأن العفو لم يصادف محلاً، فإن الوكيل حينما قتل القاتل قتله وعنده مستند شرعي؛ لأن الوكالة شرعية، وصاحب الحق لا زال على حقه، فقتله بدون أي شبهة، ولا غبار على قتلهِ، لأن عفو ولي الدم بعد القتل، وإذا قتل القاتل سقط حق الموكل؛ لأنه لم يعد للموكل حق، فقوله: (عفوت) عفوٌ عن شيء غير موجود أصلاً؛ لأن حقه قد انتهى بتنفيذ القصاص.

    ففي هذه الحالة إذا حصل العفو بعد التنفيذ فإنه لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل الذي عفا، أما الوكيل فقد نفذ الوكالة، وقتله لمن قتل وقع في محله، وإذن صاحب الحق مستصحب، وأما عفو من عفا -وهو صاحب الدم- فقد وقع في غير موقعه؛ لأنه وقع بعد الاستيفاء، ولما وقع بعد الاستيفاء فقد سقط الحق لولي المقتول بالكلية، وحينئذٍ فقد عفا عن شيء غير موجود أصلاً؛ لأنه قد انتهى حقه.

    الحالة الثانية: أن يقع العفو قبل التنفيذ، فيقول ولي القتيل: اشهدوا أني قد عفوت عن القاتل، سواءٌ قال: أريد الدية، أم قال: عفوت مطلقاً، فلهذه الحالة صورتان:

    الصورة الأولى: أن يبلغ الوكيل رجوع من وكله، فحينئذٍ لا يجوز له شرعاً أن يقتل القاتل بإجماع العلماء، إذا بلغه أناس عدول رجوع موكله، وقالوا له: إن فلاناً رجع عن وكالته لك، وقد عفا عن الدم، فإن ماطل وكابر وقتل القاتل، وهو عالم أن الوكيل قد رجع؛ فحينئذٍ يكون قاتلاً عمداً عدواناً فيقتص منه. هذا إذا علم وثبت عنده الرجوع.

    الصورة الثانية: إذا لم يعلم، كأن يكون بين الوكيل والموكل مسافة أيام، وبلوغ الوكيل لمكان القصاص لم يبق عليه سوى يومين، فالمسافة ما بين الموكل والوكيل لا يمكن أن يتوصل بها إلى إبلاغ الوكيل رجوع موكله، فقتل، ثم علم أن موكله رجع قبل تنفيذ القتل، فهل يتحمل المسئولية الوكيل بناءً على أنه بعفو الموكل سقط حق القصاص، والذي نفذ القصاص هو الوكيل؟ أم أنه يكون الاستحقاق على الموكل؛ لأنه هو الذي عفا وغرر بالوكيل، وكان المفروض أن يتعاطى الأسباب لإعلام الوكيل؟

    هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله تعالى، وبعض أهل العلم رحمهم الله تعالى يقول: لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل، أما الوكيل فلأنه يستند إلى أصل شرعي، والأصل مستصحب وهو الإذن، فلما كان العفو على وجه لا يمكن فيه البلوغ كان ضرباً من العبث، فوجود هذا العفو وعدمه على حد سواء؛ لأنه لم يبلغ الوكيل، فصار عفو الموكل في هذه الحالة واقعاً في غير موقعه؛ لأنه قد انتهى الأمر، وإنما يكون مؤثراً لو كان هناك مجال لإعلام الوكيل وتنبيهه وتلافي القتل، فلما أصبح الأمر على هذا الوجه الذي لا يمكن فيه التدارك سقط، وأما بالنسبة للموكل فلا شيء عليه؛ لأنه حينما وكل كان معذوراً شرعاً، وحينما عفا عفا على وجه لا يؤثر؛ لأنه لا يمكن تدارك الوكيل وإعطاؤه الخبر بالرجوع، وهو معذورٌ؛ لأنه يتعذر عليه إعلام الوكيل.

    وهناك وجه ثانٍ للعلماء رحمهم الله تعالى: أنه يضمن الموكل؛ لأنه يعلم أنه لا يبلغ عفوه الوكيل لو عفا، فخاطر بالوكيل، والوكيل معذور في تنفيذ ما أمر به، ولما عفا تحمل عاقبة عفوه؛ لأن كلا الأمرين وقع بسببه، فالوكالة بسببه والعفو جاء بسببه، ففي هذه الحالة إذا رجع تحمل مسئولية الرجوع؛ لأن الرجوع منه، فهو متحمل لتبعة ما نجم عن عفوه، وهذا القول الثاني في الحقيقة من القوة بمكان، فيتحمل الموكل عن الوكيل في الضمان.

    1.   

    حقوق الرفيق في الحد والقصاص

    قال رحمه الله تعالى: [وإن وجب لرقيق قود أو تأثيرُ قذف فطلبه وإسقاطه إليه].

    هذه مسألة أخيرة يختم بها هذا الفصل، وهي: مسألة حقوق العبد إذا كانت في قتل أو قذف، فإذا كان للعبد حق معنوي، فإنه يتولى الأخذ والعفو، فله أن يطالب وله أن يعفو، ولا أحد يستطيع أن يجبره على أمر خيَّره الله عز وجل فيه؛ لأن هذه الأمور لا يملكها السيد، فليس للسيد أن يقول: أنا أتولى أمر عبدي في هذا؛ لأن الحق للعبد، فإذا قذفه شخص فإنه حق ليس بمادي وإنما هو معنوي، والحقوق المعنوية مردها إلى صاحبها، فيتولى العبد أمر نفسه، وليس لسيده عليه سلطان، فبين المصنف رحمه الله تعالى بهذا أن الحق في القصاص في النفس والأطراف راجع إلى العبد وليس إلى السيد، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق كما في القذف ونحوه.

    قال رحمه الله تعالى: [فإن مات فلسيده].

    أي: فإن مات فإنه ينتقل الحق إلى سيده؛ لأنه وليه، ومعلوم أن الولاء لحمة كلحمة النسب، وهذا في حال العتق، فإذا لم يعتق فمن باب أولى وأحرى، وكما أن النسيب والقريب يرث نسيبه وقريبه في الحقوق، فكذلك السيد يرث حق عبده في هذا، كورثة المقذوف ينزلون منزلة المقذوف بعد موته.

    1.   

    الأسئلة

    الأفضل في الدية من أخذها وصرفها في وجوه الخير، وإسقاطها بالعفو

    السؤال: إذا أراد بالدية صرفها في وجوه الخير فهل هذا أفضل أم العفو؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فالحقيقة أن هذا أمر يُحتاج فيه أن ينظر الإنسان في الثواب المترتب على عفوه، والثواب المترتب على توزيع هذه الصدقات، وهذا أمر غيبي لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن عند العلماء نظائر من هذه المسائل، وهي: الحكم النسبي، ففي بعض الصور الأحكام النسبية معتبرة، كما إذا كان القاتل غنياً ثرياً لا تهمه الدية، والمال عنده كثير، وهناك ضعفاء وفقراء محتاجون، وقد يكون بعضهم من قرابة المقتول نفسه، فأحب وليه أن يأخذ الدية وأن يتصدق بها على رحمه، وأن يعيل بها أيتاماً وضعفاء وفقراء، فهذا لا شك أن أجره عند الله تعالى عظيم، ولكن هذا شيء نسبي، ومن الخطأ تطبيق هذه الصورة عموماً، كما تجد في بعض الفتاوى: أن الأفضل أن يأخذها ويتصدق بها، وذلك أنه إذا أخذها وتصدق بها على الضعفاء والفقراء فهذا أعظم. فهذا لا ينبغي تعميمه؛ إذ قد يكون أولياء القاتل ضعفاء وفقراء لا يستطيعون الدية، وإذا حملوا الدية تحملوا مشقة كبيرة، وإن كانوا في العمد لا يتحملون، لكن ما جرت به العادة أنه يضغط عليهم ويحملون هذه الدية، فإذا كان القاتل سيتحمل عناء الدية ومشقتها، وكان ضعيفاً، فلا تستطيع أن تطبق عليه هذا الأصل.

    ولذلك نقول: من حيث الأصلُ الأمر غيبي، فلا يستطيع أحد أن يقول: ثواب العفو أعظم من ثواب إنفاق الدية على الضعفاء؛ لأن الناس تتفاوت أحوالهم وتختلف، ما لم يرد نص يبين أيهما أفضل، لكن في الأحوال الخاصة -كما ذكرنا- إذا كان أولياء القاتل لا يهمهم المال، ودفع المال يسيرٌ عليهم، ويمكن أخذ هذا المال والتصدق به، فهذا لا شك أنه أفضل وأحسن وأكمل، والتصدق بالمال فيه ثواب عظيم عند الله عز وجل، ولذلك لما باع حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه داره -دار الأرقم- قيل له: بعت مفخرة قريش! قال: ستعلمون من هو المغبون. ثم نزل ونادى في الناس: من كان عليه دين فليأتني، فما بقي أحد إلا قضى دينه، فكان ربحه عند الله تعالى أعظم، وثوابه أجل من أن يمسك داراً على أنها مفخرة، فرضي بمفخرة الآخرة على مفخرة الدنيا، ورضي بربح الآخرة على ربح الدنيا، ورضي بعز الآخرة على عز الدنيا.

    فالأمور النسبية والأحوال النسبية معتبرة، لكنها لا تعتبر قواعد في الفتوى، أي: لا تعتبر أصولاً يُحكم بها حكماً عاماً في الفتاوى، بل يقال: يمكن نسبياً أن يقع هذا، ولذلك نترك الأمر، فإذا نظر الشخص إلى مصلحة قرابته وجماعته وأوليائه، ورأى أن يصل رحمه وأن يحسن إليهم بهذه الدية، وتأول أن يكون ذلك له أفضل عند الله تعالى فأرجو، والله تعالى أعلم.

    ما يصح فيه الصلح على أكثر من الدية من أنواع القتل

    السؤال: هل الصلح على أكثر من الدية في العمد فقط أو في جميع أنواع القتل؟

    الجواب: من حيث الخطأ فليس لهم إلا الدية المقدرة شرعاً، ولا يجوز أن يزيدوا عليها إذا كان القتل خطأً، أما في العمد إذا استحق أولياء المقتول القصاص، فيحتاج إلى ترغيبهم ترغيباً أكثر، أما القتل خطأً فلا يحتاج فيه إلى الترغيب بأكثر من الدية؛ إذ ليس لهم إلا الدية، ولا يستطيع القاضي أن يحكم بثلاث ديات أو ديتين؛ لأن هذه مخالفة مضادة لشرع الله عز وجل؛ لأن الله تعالى جعل للنفس حق الدية الواحدة، ومن هنا كنا نستشكل الصلح في قتل العمد على أكثر من الدية؛ لأن هذا وجهه أن الله تعالى قدر المقادير، فلا يجوز لأحد أن يزيد عليها، والله تعالى أعلم.

    حكم الصرف من الزكاة لمن وجبت عليه الدية

    السؤال: هل يجوز صرف أموال الزكاة لمن وجبت عليه الدية وكان فقيراً لا يستطيع السداد؟

    الجواب: الغارم وهو المدين يستحق الزكاة، لكن ينبغي أن ينتبه إلى أن الدين فيه نظر، فإن كان سبب الدين يعذر به شرعاً فإنه يعطى من الزكاة سداد دينه، كشخص يعول أسرة، ويسكن في شقة تكفيه وتكفي عياله دون بذخ ودون إسراف، فسكن في هذه الشقة بعشرة آلاف في السنة، وأصبح مديوناً، فنعطيه العشرة آلاف كاملة؛ لأن الغارم يعطى سداد دينه، بشرط أن يكون دينه على الوجه المعروف، لكن لو كان دينه في الحرام، كمن يسافر للحرام والفساد -والعياذ بالله تعالى- ثم أصابته ديون، فحينئذٍ نقول: إنه لا يعطى؛ لأن سبب غرمه محرم، وكذلك لو أنه تزوج وهو فقير، وتكلفة زواجه في فرضنا ثمانون ألفاً، فكانت مؤنة زواجه بمائتي ألف، فيعطى في حدود الثمانين.

    أما في هذه المسألة ففيها نظر؛ إذ القتل إما أن يكون عمداً، وإما أن يكون خطأ، فإذا كان عمداً فهو جناية وجريمة، ومثلها لا يساعد فيها؛ لأن أصل الجناية لا تجوز شرعاً، ولو أننا كلما قتل قاتل وعفي عن قتله أعطيناه من الزكاة؛ لذهب المعنى من زجر الناس، وتحملهم لمشقة الدية حتى يجدوا العناء فيحجموا عن الدماء المحرمة وعن سفك الدم الحرام.

    أما إذا كان القتل خطأً، كشخص عنده حافلة ووقع عليه حادث، فمات معه شخصان وتحمل ديتهما، فالأصل أن العصبة هم الذين يتحملون من الدية ما كان فوق الثلث، كما سيأتي معنا إن شاء الله تعالى، وهذا نظام معروف في الإسلام بنظام العاقلة، ففي الحديث الصحيح: (وقضى بديتها على عاقلتها)، فالعاقلة نظام شرعي، وهو موجود والحمد لله وعند كثير من القبائل جزاهم الله تعالى خيراً، ولا يزال ما يسمى بصندوق القبائل يفعل حقيقة العقل الشرعي في كثير من الصور تشبه الأصول الشرعية، وهذا أمر محمود ينبغي بقاؤه.

    فإذا كانت عاقلته غنية وامتنعت فالواجب أن يشتكيهم إلى القاضي حتى يدفعوا ما عليهم، والقاضي يُلزم عاقلته بما يَلزمه هو، فهذا هو الأصل، فإن كانت العاقلة فقيرة، أو كانت مديونة، فحينئذٍ يشرع إعطاء الزكاة له سداداً لهذا الدين، وسواءٌ أكانت الجناية خطأً بالقتل أم كانت الجناية على الأطراف، كما لو وقع عليه حادث فقطعت يد راكب من ركاب سيارته فعليه نصف دية، ففي هذه الحالة إذا كانت عاقلته قادرة على السداد فلا إشكال، وإذا كانت غير قادرة على السداد فإنه يعطى من الزكاة على قدر دينه.

    وعلى كل حال: ينبغي على من يتولى الزكاة أن يتقي الله عز وجل، وأن يحذر من حرمان أهل الحقوق حقوقهم، فهناك فقراء، وهناك مساكين، وهناك أيتام وأرامل لهم حق في هذه الزكوات دون غيرهم، حتى ولو وجدت بعض الفتاوى المتوسعة مثل إجازة طبع الكتب من أموال الزكاة، ومثل إعانة المتزوج من أموال الزكاة، بناءً على قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، فهذا مذهب مرجوح وضعيف عند أهل العلم، إذ الصحيح أن قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مختص بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وحتى لو قيل بهذه الفتوى فينبغي أن ننظر إلى من هو أحوج وأحق، وبدل أن يعطى هؤلاء القتلة يعطى من هو أحوج، وقد تطبع بعض الكتب وتدفع فيها عشرات الألوف، ثم توزع هدراً، فتعطى للذي يستطيع أن يشتري والذي لا يستطيع أن يشتري، وهناك من هو في أشد الحاجة إلى مثل هذا المال.

    فينبغي الانضباط، وينبغي تحديد هذه الأمور بالضوابط الشرعية، فهناك من هو أحق وأحوج، فهناك اليتيم، وهناك الأرملة، وهناك الأسر التي تكتوي بنار الفقر والمسكنة، فهؤلاء جعل الله تعالى لهم حقاً في الزكاة، فلا يتوسع في هذه الأمور على حساب من هو أحق وأحوج، وإن كنت طالب علم فانظر كم في مكتبتك من الكتب، فأسألك بالله تعالى كم من كتاب قرأت؟ وتؤخذ المنشورات وتطوى وترمى في الصناديق، ولربما ترمى في المكاتب ولا ينظر إليها إلا قليلاً، وهذا كله على حساب من هو أحوج وأحق، فينبغي أن ينتبه لهذه الأمور في الزكوات وتوزيعها؛ إذ يخشى على من يتولاها أن يصلى بنار جهنم.

    فالزكاة أمرها عظيم، وليس من السهل بمكان أن الشخص يحرم صاحب الحق حقه ويُذهبُه في أمور مختلف فيها، بل يصرفه بدون ضوابط.

    وأذكر أن رجلاً ذات مرة طبع مطوية في أمر قد نوقش في أكثر من رسالة، وقتله أهل العلم بحثاً، وهو طويلب علم مبتدئ ليس من أهل العلم وليس من أهل التأليف، فجاء وقال: أبشرك أن بعض المحسنين دفع لي مالاً فوزعت منها بتسعين ألف ريال!! فهذه التسعون ألف ريال كم من أسرة لو أُعْطِيَتْ أنقذتها! وكم من نساء قد يتعرضن للحرام بسبب الفقر والجوع والمسكنة لو أعطين لامتنعت من ذلك!

    وليس معنى هذا أن نحجم أمور الدعوة، فالدعوة لها وسائل كثيرة ولها طرق كثيرة، ولا تقتصر على المطوية ولا على الشريط.

    ولا شك أن من دفع في الشريط والمطوية مأجور ومثاب، ولكن ليس على حساب الحقوق الواجبة في الزكوات، وإنما تكون من بابها المعروف، فإذا جئنا لغني نريد أن نصرفه لمقام أفضل، فهناك مدينون في السجون، وهناك أناس أصحاب أسر وعوائل مدينون في حقوق ومسجونون؛ لأن الدائن من حقه سجن الغريم، فمثل هذا الذي عليه عشرون ألفاً أو عشرة آلاف أو خمسة آلاف ربما وقع أولاده في الحرام، وربما وقعت زوجته في الحرام، فهؤلاء هم الذين يوجه الناس لإعانتهم والرفق بهم.

    ونريد من هذا أن يُتنبه إلى أن الخير ينبغي أن يصرف في بابه، وأمور المعونة والزكوات والصدقات ينبغي أن تصرف في بابها، وأعظم ما يكون في هذا الباب الزكوات إذا صرفت في غير حقها، وكذلك الصدقات، فقد تجد شخصاً يتبرع لجمعية خيرية من أجل أن تنفق هذا المال على الأيتام والفقراء والضعفاء والمساكين، فتقوم الجمعية وتفعل مسابقة، وتوزع الجوائز والنثريات بعشرات الآلاف! ولا نشك أن أهل الجمعية يريدون الخير، ولا نشك أنهم يريدون الطاعة ويريدون البر، ولكنه الجهل وعدم الرجوع إلى العلماء، وعدم ضبط الأمور بضوابطها الشرعية، إذا وضعت جمعية للصدقات، فضع صندوقاً للمسابقات، وانظر من الذي يتبرع لك من أجل المسابقات، ومن أجل الأمور الزائدة التي تكون على حساب من هو أحق؟

    فأنت مؤتمن، فمن دفع لك هذا المال لكي تدفعه للمحتاج فعليك أن تدفعه للمحتاج، وتنضبط بضوابط شرعية، أما الأمور الفاضلة فتوضع لها صناديق خاصة، وهي أمور خير، كتوزيع شريط، أو كتيب، أو منشور، لكن لا تكون عُمية وبدون ضوابط شرعية، فلابد من التقيد بهذا، ولا بد من الرجوع إلى أهل العلم.

    وأكثر ما ضر الدعوة اليوم وهو الاجتهاد الذي لا يرجع إلى فتوى من أهل العلم المعتبرين، فكل يجتهد، وكل يرى أنه على حق، وإذا جئت تنبهه على ملاحظة ظن بك ظن السوء -نسأل الله تعالى العافية- وهذا لا يجوز، فلابد من بيان هذه الحقوق، ولابد من التوجيه فيها، ولابد من ضبطها بالضوابط الشرعية.

    ولذلك ينبغي صرف الزكاة في مجالها، والله جل وعلا لم يكل أمر قسمة الزكاة إلى ملك مقرب وإلا إلى نبي مرسل، ولكن تولى قسمتها من فوق سبع سماوات؛ لأن فيها الحق المعلوم للسائل والمحروم، وجعل هذه الزكاة لا منة فيها للغني على الفقير، حتى كان بعض أهل العلم يقول: ينبغي على الغني إذا أعطى الفقير أن لا يشعره المن؛ لأن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]، فليست فيها منة للغني على الفقير، وهذا يدلك على عظم أمرها، فتولى الله تعالى قسمتها من فوق سبع سماوات، وأنزل جبريل الأمين على نبيه بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فعددها وبينها وجعلها آيات تتلى إلى يوم القيامة، إنصافاً لهم في حقوقهم، وتنبيهاً للأمة على خطر هذا الباب.

    فإذا كان الشخص محتاجاً ومن أهل المساعدة في قتل الخطأ لا قتل العمد، فعند عجز أوليائه وعاقلته عن تحمل الدية يعطى من الزكاة من باب سداد الدين عن العاقلة؛ لأنهم أصبحوا مدينين، فيندرجون تحت القسم الذي ذكره الله عز وجل في قوله: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]، والغارمون: جمع غارم، وهو المدين الذي عليه دين، ويشترط عند العلماء أن لا يكون دينه في سفه، كما ذكرنا. فهؤلاء المدينون من أحق الناس بالزكاة، فينبغي تفقدهم والسعي في قضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتح الخير، وأن يجد الخير على أيدينا وأيديكم إنه سميع مجيب، والله تعالى أعلم.

    معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله... مائة مرة...)

    السؤال: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة ...) الحديث، هل تقال المائة مرة مجتمعة أم تقال متفرقة؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فالأصل أنها تقال مجتمعة، والتفريق الذي لا يطول لا يضر، ولكن الأصل أنها تقال مجتمعة في حين المساء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قالها حين يمسي... ومن قالها حين يصبح)، وهذا يدل على أنها تكون في حين الإمساء وحين الإصباح، وأما أن تكون متفرقة طيلة اليوم فهذا ليس ذكراً للمساء والصباح؛ لأن هذا ذكر مقيد من أجل الحفظ والحرز صباحاً ومساءً، فينبغي أن يكون عند أول المساء وعند أول الصباح.

    والمساء يبتدئ من بعد العصر، فلو أنه قالها بعد العصر خمسين مرة، ثم جلس ساعة يرتاح، ثم قالها بعد ذلك، فما زال في حين المساء ولا يضره، كما لا يضره أن يقولها عشرين مرة، ثم يرتاح، أو يقوم ليقضي عملاً، ثم يرجع ويقولها عشرين مرة، ثم يتكلم بكلام، ثم يقولها عشرين مرة.. وهكذا؛ لأنه في حين الإمساء، أما أن يفرقها خلال اليوم كله فلا؛ لأن الفضل هو الحفظ والحرز، وهذا يقتضي أن تكون في أول النهار حتى يحفظ إلى مسائه، أو في أول المساء حتى يحفظ إلى صباحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قالها حين يمسي... ومن قالها حين يصبح) فالمراد بها الحينية والوقت، وهذا يتقيد بالبداية.

    وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تقول: قل هو الله أحد، والمعوذتين إذا أمسيت وإذا أصبحت ثلاثاً تكفيك من كل شيء)، فهل معنى ذلك أنه يقولها ثلاث مرات طيلة اليوم؟ فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمسيت وإذا أصبحت) يقتضي أنها تكون حرزاً في حين المساء وحرزاً في حين الصباح، ومن هنا فلابد أن تكون مجتمعة، بمعنى أنها في الحينية والظرفية التي يبتدأ بها المساء، أو الحينية والظرفية التي يبتدأ بها الصباح.

    تحويل النية في السنة من ركعتين إلى أربع

    السؤال: شخص كان يؤدي سنة الظهر بعد الصلاة، فجاء شخص وائتم به، فحول نيته من السنة إلى أربع ركعات، فما الحكم؟

    الجواب: هذه المسألة فيها جوانب: الجانب الأول: يجوز الانتقال من الأدنى عدداً إلى الأكثر، كما لو كان في قيام الليل وصلى الركعة الأولى والثانية، ثم رأى أنه يحتاج إلى كسب الوقت، فبدل أن يجلس في التشهد ويسلم، أتى بالأربع متصلة، فلا بأس به، وليس فيه حرج، لكن المشكلة أن الانتقال هنا سيشبه النافلة بالفريضة، وهذا أصلٌ منعَ منه طائفة من أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم، ولذلك نهي في الوتر أن يجلس بين الركعة الثالثة والثانية إذا قصد الوصل، حتى لا يتشبه بصلاة المغرب، وهو الأمر الذي اختلف فيه الجمهور مع الحنفية رحمهم الله تعالى، فالشاهد من هذا: أن الأفضل أن يُصلي ركعتين ويُسلم، ثم يقوم هذا الشخص ويتم الركعتين الباقيتين عليه، والله تعالى أعلم.

    النذر بعبادة الله تعالى حق عبادته

    السؤال: كنت مريضاً ونذرت إن شفاني الله تعالى أن أعبده سبحانه وتعالى، وقلت مرة: أعبده حق عبادته، فشفاني الله عز وجل، ولكنني قلق جداً؛ لأنني نذرت بما لا أستطيع؟

    الجواب: تعبده حق عبادته بما تستطيع، فتكون عابداً لله عز وجل، وهذا يستلزم ثلاثة أمور:

    الأول: أن تكون في عقيدتك أخلص الناس قلباً لله عز وجل، وأصدقهم حباً لله سبحانه وتعالى، وأخوفهم لله تعالى، وأشدهم خشية من الله تعالى، وأكملهم رضاً عن الله عز وجل، وتستجمع معاني العقيدة في الله عز وجل في قلبك، فتوحده في ألوهيته، وتوحده في ربوبيته، وتوحده في أسمائه وصفاته على أكمل وأتم ما يكون التوحيد.

    الثاني: أن تعبد الله تعالى بقولك حق عبادته، باستدامه قراءة القرآن، والذكر لله عز وجل.

    الثالث: أن تعبده سبحانه حق عبادته في جوارحك وأركانك، وتسخرها في طاعة الله تعالى ومرضاته، وما الذي يمنعك من هذا؟ ما الذي يمنعك أن تعبد ربك حق عبادته؟ إذ الأصل أن المسلم يعبد الله تعالى حق العبادة، وما خلق إلا من أجل هذا، فهذا خير عظيم فتح الله تعالى عليك بابه، فإن استغللت وجوب النذر والإلزام عليك، وصدقت مع الله تعالى صدق الله تعالى معك.

    فإذا كان الإنسان في بعده عن الله عز وجل يجد من التيسير، ويجد من الأمور ما لم يخطر له على بال، فكيف بمن أحب الله تعالى وتقرب إلى الله عز وجل؟! وما الذي يحول بينك وبين عبادة الله تعالى حق عبادته؟

    ولا شك أنه لا يستطيع أحد أن يبلغ المقام الكامل في العبادة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له)، ولم يقل: إني خشيت الله تعالى كمال الخشية، ولم يقل: عبدته كمال العبادة، وإنما هذا أمر نسبي؛ لأنك تعبده حق العبادة بالنسبة لما تستطيع، وأنت مكلف بما تستطيع لا بما لا تستطيع، ولو قلت: أعبده عبادة الأنبياء، أو أعبده عبادة الملائكة، فهذا أمر ليس بيدك، ونذر فيما لا تملك، ولا نذر على الإنسان فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك، كما في السنن.

    فقولك: أعبده حق عبادته، أمر نسبي معروف بالنسبة لك، والنذور تدخلها الحقيقة الشرعية، وتدخلها الحقيقة العرفية، وتدخلها الحقيقة اللغوية، والأصل أن المكلف إذا تلفظ بهذا اللفظ فإنما يقصد الأمر النسبي، أي: إذا نذر أن يكون ملتزماً بالإسلام حقاً، وأن يكون مؤمناً صدقاً، وأن يكون موحداً كما يحب الله تعالى ويرضى، فاستعن بالله عز وجل ولا تعجزن، (ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله منه ذراعاً، ومن تقرب إلى الله ذراعاً تقرب الله منه باعاً، ومن أتى يمشي أتاه الله هرولة)، ففي أي مقام حين تفكر أن تقبل على الله تعالى، وحين تفكر أن تكون مع الله عز وجل، تجد من نفحاته ورحماته وبركاته ما لم يخطر لك على بال!

    فالله أكرم من أن تسيء الظن به أن يجعلك من العاجزين، فاستعن بالله تعالى ولا تعجز.

    ومما أوصى به العلماء والأئمة: أن تكون في هذه الحياة مستشعراً أن الله تعالى خلقك لعبادته، وأن الله تعالى أوجدك لطاعته، وهو أغنى ما يكون عنك، وأنت أفقر ما تكون إليه، وأنك لو بلغت مقام العابدين في غاية المقامات فلن تنفع الله تعالى شيئاً، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)، ولا تحسب أن الله بحاجة لهذا، وإنما هي أعمال منفعتها للعبد، فالمسلم إذا أراد الله تعالى به الخير، وأراد أن يجعله من الصالحين، وأن يهيأه لمراتب المفلحين، جعل في قرارة قلبه أنه لا يرضى لنفسه إلا بالمقام الأعلى في طاعة الله تعالى ومرضاته، فإذا دخل المسجد تمنى من الله تعالى وسأل الله تعالى أن يكون أحب العباد إليه، وإذا جلس في مجلس الذكر تمنى ورجا من الله عز وجل أن يكون أكثر الناس فوزاً برحمة الله عز وجل، وإذا قال أو عمل أو سلك أي طريق من الخير دخله وفي قلبه من حسن الظن بالله تعالى وحسن الرجاء في الله تعالى ما يبلغ به مقامات الخير، فإذا لم يكن بعمله فبنيته.

    والشخص قد يدخل في حلقة، أو يفعل طاعة، أو يأتي في أمر من أمور الخير والطاعة والبر ويشترك مع الأمة، فيدخل المسجد ويصلي مع الجماعة، ويخرج من المسجد حينما يدخل وهو يرجو أن يكون أفلح الناس، وكأنه حينما يدخل المسجد منكسر القلب يقول: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، اللهم لا تحل بيني وبين رحمتك بسبب ما كان من ذنبي وتقصيري، فيدخل منكسر القلب، فيرفعه الله تعالى بهذا الانكسار، ويفتح عليه من الخشوع والقرب والدنو والإنابة إلى الله عز وجل الخير الكثير، فإذا أراد أن يخرج خرج بالانكسار أيضاً، وخرج وهو يظن أنه أحقر الناس، وأنه أقل الناس، فلا يزال بهذا الاحتقار يرفع إلى درجات. والعكس، فربما دخل -والعياذ بالله تعالى- وهو لا يفكر في شيء إلا أن يؤدي الصلاة، فيدخل وقلبه خاو -والعياذ بالله تعالى-، ثم إذا خرج ظن أنه كطالب علم، أو كأنه بلغ منزلةً من منازل العبادة، وأنه ليس بالحال التي يعتقد فيها البعد عن الله تعالى، فلا يزال في سفال من الله عز وجل.

    فإذا جئت للعبادة قائلاً: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، فمعناه: أنك تستشعر أن لله تعالى عليك حقاً، أن تقف بين يديه أكمل الوقوف، وأن تخشع بين يديه كمال الخشوع، فلما استشعرت أن لله تعالى عليك هذا الحق جاهدت نفسك قبل العبادة، ثم احتقرت نفسك وانتقصتها بعد العبادة، فبلغك الله تعالى بهذا مقام العابدين.

    وإذا لم يكن عندك هذا الشعور كإنسان صالح تقي، فقد جاءك بالنذر، فأنت حينما تحس أنه نذرٌ عليك، وبينك وبين الله عز وجل أن تكون في هذا المقام الصالح على أكمل ما يكون عليه أهلُ العبادة قولاً وعملاً واعتقاداً، فكلما قصرت احتقرت نفسك، فنحن نريد هذا الشعور أن يبقى معك، ونريد أن هذا الأمر يبقى ملزماً لك لتكون في أعلى المقامات، واستعن بالله تعالى ولا تعجز، فإنه ليس بينك وبين الجنة شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، وليس بينك وبين النار شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا الأعمال والأقوال تدني إلى ذي العزة والجلال، أو تنتهي إلى خسارة ووبال، والمعصوم من عصمه ذو العزة والجلال.

    فعلى العبد أن يتقي الله عز وجل، وأن يحرص دائماً -سواءٌ نذر أم لم ينذر- على أن يكون في أكمل المقامات، فإذا دخل بيته رجا من الله تعالى أن يكون أبر الناس بوالديه، وأكمل والد لولد، وأعطفهم وأرحمهم على ذريته ومن ولاه الله تعالى عليه من رعيته، ثم إذا جاء إلى عمله طمع من ربه أن يجعله في وظيفته وعمله ومكتبه على أحسن ما يكون من تحمل الأمانة والقيام بها، فيرعاها حق رعايتها، ويسأل الله تعالى أن يجعله موفقاً مسدداً، وهكذا ينتقل من بر إلى بر، ومن خير إلى خير، فيخوض في الرحمات، ويفوز بأعالي الدرجات، حتى ينتهي به الحال والأمر إلى الجنات.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756008344