إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ضمن الشرع للأرقاء حقوقهم، فضمن للرقيق أوقات الراحة وعدم تكليفه بما لا يطيق، كما أوجب على المالك الإنفاق على مملوكه وأن يكفيه حاجاته اليومية وضرورياته المعيشية، حتى إنه إن قدر على تزويجه زوجه.

    1.   

    أحكام النفقة على الرقيق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل: وعليه نفقة رقيقه طعاماً وكسوة وسكنى ].

    شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يجب على السيد تجاه عبيده ومواليه، وهذا الفصل في الحقيقة تابع للذي قبله من جهة كونه من فصول النفقات، وقد تقدم أن النفقات في الإسلام لها ثلاثة أسباب:

    السبب الأول: النكاح والزوجية.

    السبب الثاني: النسب والقرابة.

    السبب الثالث: المِلك، ويشمل مِلك اليمين وملك الدواب والبهائم.

    وبعد أن بيّن المصنف رحمه الله النفقات المتعلقة بالزوجية، وأحكامها ومسائلها، بيّن رحمه الله أحكام النفقات من جهة النسب، ثم بعد ذلك شرع في بيان أحكام النفقات المتعلقة بملك اليمين والنفقة على البهائم.

    وفي الحقيقة أن النفقة على المملوك والرقيق أمر فرضه الله عز وجل على عباده، وهو يدل دلالة واضحة على سماحة الشريعة، ولقد كان في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص ما يدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، وسموه وكماله، وأنه أبعد مما وصفه به أعداء الإسلام من المنقصة والمعايب التي ألصقوها به زوراً وبهتاناً، خاصةً في مسألة الأرقاء.

    فمن هنا ومن هذا الدين ومن أنوار التنزيل، كانت الحقوق الواضحة البينة التي بيّنها رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، هنا حقوق المخلوقين تامة كاملة، هنا يوصف الشخص فيبين ما الذي له وما الذي عليه، هنا النظرة الكاملة التامة؛ لأنه تشريع الحكيم العليم الذي تمت كلمته صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، وهنا المناداة بالحقوق دون أن يتقمصها المنادي لأغراضه الشخصية، وهنا النظر للحقوق دون أن تكون نظرة عمياء أو نظرة عوراء تنظر للحقوق التي لها دون الحقوق التي عليها.

    فهذه عظمة الإسلام تتجلى وتظهر في أبهى صورها وأجمل حللها، دون كذب وافتراء ومبالغة وخداع للناس وتمويه عليهم، فهذه الأبواب التي انعقدت في الفقه الإسلامي في بيان الحقوق التي منها حقوق النفقة؛ انظر فيها كيف يكون الترابط، يقال للشخص: أنفق على زوجتك ولا تظلمها، وأعط المرأة حقها. ويقال للمرأة: أعطي حق الرجل، ويقال للسيد: أعط حق المملوك ومن جعله الله أمانة في عنقك ورقبتك، وأنت مسئول عنه أمام الله عز وجل، ويقال للملوك: أدّ حق سيدك.

    هنا العدل والإنصاف التي قامت عليه السماوات والأرض، وهنا الحقوق واضحة جلية قائمةً على العدل الإنصاف الذي لا يمكن أن تستقيم أمور العباد إلا به، ولا يمكن أن تستقيم أحوال البلاد إلا بهذا الذي شرعه الله جل وعلا، وبيّنه سبحانه وتعالى.

    الأرقـاء أمانة في أعناق من ولاهم الله عز وجل أمرهم

    قبل أن ندخل في حقوق النفقة ننبه على أمرٍ مهم: وهو أن أعداء الإسلام شوهوا صورة الإسلام في الرق، ومن هنا وجب أن نبين أن دين الله وشرعه لم يخص الرق يوماً من الأيام بجنس من الأجناس، ولا بلونٍ من الألوان، ولا بطائفة ولا بأحد، إلا بمن كفر وسلب نفسه كرامة الآدمية، ولو كان أجمل الناس صورة، وأعز الناس مكانة، فعندها ينزل إلى مستوى البهيمية بل أضل: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44].

    ضُرب الرق على الكافر ولا يضرب الرق على المسلم، فلا يسترق إلا الكافر، وإذا استرق الكافر فإنه إذا أسلم بعد ذلك استمر على الرق على تفصيل نبينه؛ لأن الشخص إذا كفر وأشرك نزل عن التكريم الذي كرمه الله به، وظلم ومنع حق الله الذي أوجب عليه ذلك، وقد وصف الله الكافر والمشرك بأنه ظالم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فلما كفر لم يبق الكافر على كفره بل جاء ووقف في وجه الإسلام محارباً له، فإذا حاربه ووقف في وجهه كفر بالعبودية لله عز وجل، وكفر نعمة الله سبحانه وتعالى، ثم جاء وحارب الإسلام ووقف في وجه الإسلام.

    فإذا تمكن الإسلام منه خُيّر الإمام بين ضرب رقبته واسترقاقه والمنِّ عليه؛ على تفصيل تقدم في كتاب الجهاد، فإذا أمر ولي الأمر برقه ثبت الرق، وليس كل أحد يأتي ويأخذ كل من أسر، ويقول: هذا مملوك لي، ولكن بضوابط وقيود محددة ومرتبة من لدن حكيم عليم: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4]، يضرب الرق على الرجال والنساء والذراري والأطفال كما جاء في حديث سعد حينما حكم في بني قريظة، قال: (أرى أن تسبى ذراريهم، وأن تقتل مقاتلتهم).

    فإذا سبيت الذرية وضرب عليها الرق ربما تسلم بعد ضرب الرق ويبقى نسلهم مسلمين، لكن العبرة بالأصل، أنهم كانوا على الكفر، ومن هنا إذا أسلموا: رغب الإسلام في عتقهم، ولذلك لا يعتق الكافر، قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، أي: أمرتك بعتقها لما آمنت، وانظر كيف ضُرِب عليه الرق لما كان كافراً وحارب الإسلام، وفتح له باب الحرية ورُغّب في عتقه إذا أسلم وآمن ورجع إلى الأصل، لكن لو أن الإسلام جعل كل من يسترق إذا أسلم يفك عنه الرق ولو كذباً، لكذب الناس والأرقاء في إسلامهم.

    على كل؛ فهذا نوع من الاسترقاق، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فنحن نؤمن ونقتنع قناعة تامة بهذا الأمر الذي هو باقٍ ما بقي الملوان وتعاقب الزمان، لا يحرم تحليله أحد ولا يحل ما حرم الله فيه أحد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم؛ ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أعطي بي ثم غدر، ورجلٌ استأجر أجيراً ولم يوفه أجره، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه)، وهذا يدل على أن الإسلام لا يسمح باسترقاق العباد وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا يسمح بالاسترقاق للألوان أو الأجناس أو الطبائع أو الملل أبداً، إنما يُضرب الرق في حالة مخصوصة، ولا يدعو هذا إلى رد شبهات الأعداء بأن ننهزم ونحرم ما أحل الله وننطلق من منطلق الضعف، ونجعل الرق وكأنه أمر عند الضرورة.

    لا. فهذا حكم الله يرضى به من يرضى، ولا علينا أن يسخط من سخط، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، هذا حكم الله الذي يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.

    لما حكمت الشريعة بالرق لم تترك الأمر هملاً وسدى.. بل جاءت بالتشريعات التامة الكاملة في بيان حقوق الأرقاء، فلهم الحق في حدود ما جعل الله عز وجل لهم، فبين الله عز وجل حق السيد وحق المملوك، كما قال تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [الأحزاب:50]، وكان من آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقد أوذن بالرحيل منها، واشتاق إلى الرفيق الأعلى، كان يقول: (الصلاة، وما ملكت أيمانكم).

    فالإسلام ليس يتهم أحداً زوراً وبهتاناً، الإسلام أسمى وأعلى من كل هذه الترهات، ولكن الكافرين هم الظالمون والمعتدون، كما قال القائل: (رمتني بدائها وانسلت)، فهم أهل هذا العيب والنقص؛ الذين استرقوا الشعوب والأمم، وأكلوا خيراتهم وحرموهم حقوقهم، فهذا هو الذي يثلب ويعاب. أما الإسلام الذي عظم الحقوق وبين الواجبات، فهو أعلى مما يوصف به ظلماً وزوراً وبهتاناً.

    حق المملوك في السكنى والطعام واللباس

    قال المصنف رحمه الله: [وعليه]:

    الضمير هنا عائدٌ على السيد، والتعبير بقوله: (وعليه) يدل على اللزوم، أي: يجب على السيد تجاه عبيده وإمائه النفقة، وقد تقدم تعريفها وبينا هذا الطعام والكسوة والسكنى، والأصل في ذلك: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يحمله ما لا يطيق؛ فإن حملتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم).

    في هذا الحديث الشريف دليل على وجوب إطعام السيد لعبده وأمته. ولذلك جاء في الحديث الآخر: (للملوك نفقته وكسوته بالمعروف)، فلما قال رحمه الله: (وعليه نفقته)، أي: على السيد نفقة عبده، ويشمل ذلك الطعام لقوله عليه الصلاة والسلام: (فليطعمه مما يطعم)، والكسوة لقوله: (وليلبسه مما يلبس)، وكذلك يجب عليه أن يسكنه. وهذا كله بإجماع العلماء رحمهم الله لثبوت النصوص فيها.

    أما الطعام: فإن كان السيد غنياً فإنه لا يجب عليه أن يطعمه طعام الأغنياء، ومن هنا: اختلفت النفقة في الزوجية عن النفقة في ملك اليمين، إنما يطعمه الطعام الذي يقوم به عوده ويصلح به حاله، وأما إذا كان السيد معسراً فإنه يطعم طعام المعسرين.

    وأما بالنسبة لنوعية الطعام، فلحديث الشافعي في مسنده: (بالمعروف)، يدل على أن هذا يرجع إلى العرف، فالعبيد والموالي لما كانوا في أيام المسلمين كانوا يطعموهم بالعرف، فموالي الغني يُطعمون طعام موالي الأغنياء، والفقراء كذلك يطعمون طعام الموالي الفقراء والضعفاء، على حسب العرف الذي فيه السيد والمولى.

    وأما اللباس: فهو يختلف بحسب اختلاف المولى: فإذا كان العبد أو الأمة بحال فإنه يلبس ما يليق بحاله، فإذا كان عنده مهنة وعمل لبس لباس المهنة والعمل، ولذلك فرق العلماء والأئمة بين لباس الأمة التي يطؤها سيدها لأنه لباس زينة وجمال، وبين الأمة التي تخدم في البيت وتطبخ على أنه لباس بذلة تحتاج معه إلى شيء يساعدها على ما هي فيه من المهنة والعمل، فاللباس يختلف بحسب اختلاف الرقيق والمولى ذكراً كان أو أنثى.

    ثم قوله: (عليه) عام يشمل إذا كان الرقيق يعمل أو لا يعمل، وذلك لأن النفقة على الرقيق لا يشترط فيها أنه يخدم سيده حتى ولو كان المولى عاجزاً صغيراً أو كبيراً، فإن الإسلام يلزم سيده بالنفقة عليه، وكذلك لو كان به عاهة أو مرض يمنعه من التكسب والقيام على نفسه، فإن سيده ملزم بأن يقوم عليه وينفق عليه بالمعروف، وفي هذا دليل على رحمةِ الله بعبيده وخلقه، حيث إنه سبحانه راعى أحوال هؤلاء وأمرهم أن يطيعوا لمواليهم ويحسنوا لهم؛ حتى وعد المولى الذي يقوم على خدمة سيده الجنة إذا مات وسيده عنه راضٍ، يعني: أدى حق سيده على أتم الوجوه وأكملها.

    فبين المصنف رحمه الله: أنه يجب على السيد أن ينفق بالطعام والكسوة والسكنى على الرقيق.

    1.   

    أحكام معاملة الرقيق

    قال رحمه الله: [وأن لا يكلفه مشاق كثيراً].

    الكلفة دائماً تكون في الشيء الذي يحتاج إلى عناء وتعب ونصب، فلا يجوز للسيد أن يحمل الرقيق ذكراً كان أو أنثى ما لا يتحمل، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تكلفوهم ما لا يطيقون)، فنهى عن تكليفهم بما لا يطيقون، لما فيه من الظلم والأذية لهم والإضرار بهم.

    وبين بعض العلماء رحمهم الله: أنه يدخل في هذا أن يطالبه بعمل يرهق بدنه حتى يصاب بالمرض بعد فترة، أو يطالبه بعمل فيه إرهاق على مر الأيام، مثلاً: في اليوم الأول يطيقه المولى، ثم في اليوم الثاني يطيقه، ثم في اليوم الثالث يعجز عنه، فالعبرة بمشقة العمل وعنائه، كأن يقول له: احمل هذا الشيء الثقيل.

    ومن تحميله ما لا يطيق: أن يطالبه بالعمل ويعطيه ساعات يسيرة للراحة، فهذا يشق على المولى ويضر به، والواجب عليه أن يتقي الله في مولاه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحميلهم ما لا يطيقون.

    المخارجة بين السيد وعبيده

    قال رحمه الله: [ وإن اتفقا على المخارجة جاز ].

    إن اتفق السيد مع مولاه على المخارجة، وهي: مفاعلة من الخرج والخراج، وهو النسبة التي يحددها السيد لمولاه أن يأتي بها في اليوم أو الشهر، يقول له: اذهب وتكسب، وكل يوم أحضر عشرة دراهم، أو في كل يوم ديناراً، أو يقول له: كل شهر تدفع ثلاثة دراهم. فهذا يسمى الخراج، إن اتفق السيد مع عبده على المخارجة، ويكون عند المولى مهنة كالنجارة والحدادة، فيقول له: اذهب وتكسب واشتغل ثم أعطني كل شهر ثلاثة دنانير، أو يقول: أعطني كل يوم درهماً. فهذا خراج.

    والأصل في ذلك: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه حجمه أبو طيبة رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبو طيبة مولى من الموالي، فلما حجمه رضي الله عنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجرته وأمر مواليه أن يخففوا عنه في خراجه، فدل على أن الخراج بشروط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم أن يخففوا؛ فلم يحرم عليهم التكسب من طريق المولى والرقيق.

    وكذلك إذا كانت أمةً تخدم في البيوت وتعطي خراجها، يقدر لها خراجاً، ويجب على السيد أن يتقي الله عز وجل في الرقيق، وأن لا يحمله خراجاً فوق طاقته، أو يحمله الخراج وهو صغير، انظروا كيف يصيحون في حقوق الأطفال من العمل، هذا هو ما نادى به الإسلام قبل ألف وأربعمائة سنة، وكان أئمة الإسلام يقولون: لا يحمل أطفال الموالي.. لا يطالب بالكسب حتى يبلغ أشده ويقوى على التكسب.

    ومن هنا قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم، كما هو مأثور عن عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين والخليفة الراشد، قال: (لا تأمروا الصبي بالكسب فيسرق) لأنه إذا لم يجد الكسب يضطر إلى السرقة فعقله ناقص قاصر؛ إذ ليس عنده عقل يمنعه، فإذا حمله سيده وهو صغير ولم يجد الكسب اضطر إلى السرقة أعاذنا الله وإياكم.

    ثم قال: (ولا تحملوا الأمة ما لا تطيق فتزني)، وفي رواية: (فتكسب بفرجها) والعياذ بالله، انظروا عظمة أئمة هذا الإسلام رحمهم الله برحمته الواسعة، كل هذا الخير مستقى من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.. هنا النزاهة في بيان الحقوق وتصوير الواجبات؛ فلا يطالب الصبي بالخراج، ولا تطالب به المرأة إذا لم يكن لها مكان تعمل فيه وخُشي عليها أن تعمل في الحرام.

    والأصل في الخراج -كما ذكرنا- السنة، وكذلك إجماع الصحابة؛ فإن عمر رضي الله عنه في قصة أبي لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- لما اشتكى إلى عمر اشتكى من مولاه المغيرة -كما في الأثر الصحيح- أنه يطالبه بخراج كثير، فلما عرض ذلك على عمر ، دل على أنه كان معروفاً بين الصحابة رضوان الله عليهم المخارجة، فبين المصنف رحمه الله: أن يجوز أن يضرب السيد على مولاه خراجاً ذكراً كان أو أنثى على أن يعطي أجرةً يومية أو شهرية.

    إذا قال له: تكسب وأعطني ثلاثة دراهم؛ فما زاد ملكٌ للعبد ينتفع به ويرتفق، وهذا بين السيد وعبده، لا يدخل في هذا مثلاً العامل مع كفيله؛ لأنه ليس ملكاً له، فلينتبه لهذا؛ لأن السببية في الاستحقاق من الشرع، وأما ما عداه فإنه باق على أصل الحرية.. لا يملك عرض المسلم وتعبه وكده إلا باستحقاق شرعي.

    إذا ثبت هذا؛ فإنه يضرب له الخراج إن اتفقا، ونفهم من هذا أنه ليس من حق السيد أن يجبر مولاه على التكسب، فلو قال له: يجب عليك أن تحضر كل يوم درهماً لا يكون إلا باتفاق الطرفين، وهذا اختيار بعض العلماء رحمهم الله.

    حق العبد في الراحة والنوم والصلاة

    قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة].

    للرقيق حقوق ينبغي أن يتقي المولى الله فيها، فلا يجوز أن يضيق عليه في هذه الأمور التي جعلها الله من الفطرة، وسجية الإنسان أنه يحتاج إليها، فلا يضيق عليه في نومه وراحته، ولا يحمله ما لا يطيق، ولا يرهقه في وقت نومه وقيلولته، بل يمكنه من النوم في ساعات النوم، ومن القيلولة في ساعة القيلولة.

    وهذا يدل على أنه لا يجوز للسيد أن يؤذي مولاه أو رقيقه في وقت راحته أو يزعجه ويحمله ما لا يطيق، فما بالك إذا كان عاملاً بأجرة متفق عليها أو أجرة على العمل في وقت معين؛ فيأتي ويرهقه ويستغل ضعفه ويطالبه بالعمل في وقت راحته، هذا من الظلم والأذية والإضرار، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي أخاه المسلم.

    وكما أنه لا يجوز له أن يضايقه بالحس، بأن يطالبه بالعمل أثناء نومه أو أثناء راحته، لا يجوز كذلك أن يؤذيه بالمعنى، والأذية بالمعنى هي السب والشتم، فلا يشمته ولا يسبه ولا يؤذيه بالإهانة؛ لأن للمسلم حقاً في عرضه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)، فجعل خطبة حجة الوداع التي كان الناس أحوج ما يكونون فيها إلى تبيين الأمور العظيمة، جعل فيها بيان حق عرض المسلم، وقرن العرض بالدم، فكما أنه لا يجوز لك أن تقتل المسلم فكذلك لا يجوز لك أن تستبيح عرضه، ولا يظن أحد أن عرض المسلم رخيص، أو أن الكلام في الناس أمرٌ هيّن؛ ولذلك قال الله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].

    ومن هنا: فإذا كان السيد مع عبده لا يستطيع أن يطيل لسانه عليه، فما بالك بالمسلم مع أخيه المسلم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي : (أن رجلاً اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن لي موالي آمرهم فيعصونني؛ فأسبهم وأشتمهم وأضربهم، فما تأمرني يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا كان يوم القيامة نُظِر في أمرك وعصيانهم لك، وسبك وشتمك وضربك لهم ثم يقتص، فتولى الرجل يبكي، وقال: أشهدك أنهم أحرارٌ لله)؛ لأنه يخاف من الله عز وجل.

    وفي حديث أبي مسعود أنه غضب على عبدٍ من عبيده، فأخذ السوط وضربه، قال: (فسمعت صوتاً من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه)، أي: لا تحسب أن كونه مولى وأنه ضعيف أن الله سبحانه وتعالى سيفلتك من عقوبته إن اعتديت عليه وأضررت به، قال: (فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أشهدك أنه حرٌ لوجه الله)، فأمر الرقيق ليس هملاً في الإسلام، لا يستبيح الناس الأرقاء بما شاءوا أبداً، إنما بقيود.

    فإذا كان هذا حال السيد مع رقيقه فكيف بالعامل الذي يكون غريباً عن أهله ووطنه وولده وهو يتكسب الرزق الحلال؟ وهذا من أشرف وأعظم ما يكون للعبد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: (إن نبي الله موسى آجر نفسه لطعمة بطنه وعفة فرجه)، فجعل هذا شرفاً لنبي من أنبياء الله أن جعل نفسه أجيراً من أجل طعمة البطن وعفة الفرج.

    فالعامل إذا تغرب عن أهله وولده هو أحوج ما يكون إلى من يرحمه ويحسن إليه، ويتصور الإنسان حينما يسافر عن أولاده اليوم واليومين في نفس بلده ومكانه، كيف يجد من الألم والشجى والحزن، فما بالك بأخيك المسلم إذا كان غريباً عن أهله وماله وولده ويعاني الأمرين من تشوش فكري من أمور قد تكون نازلة به؛ فهو أحوج ما يكون إلى الرفق والرحمة.

    الرقيق ملك للإنسان ملكه الله إياه، ولكن عند خطئه إذا ضربه وآذاه وأهانه اقتص منه، فما بالك بالمسلم إذا كان غريباً لأمرٍ يريد به عفة نفسه وأهله وولده وطُعمة بطنه؟ فالأمر آكد والحق ألزم؛ ولذلك كتب على المسلمين أن يتقوا الله، وأن يتقي الله بعضهم في بعض، وأن يخافوا الله عز وجل من حقوق إخوانهم؛ لأن أعظم ما يضر بالإنسان يوم القيامة بعد الكفر بالله عز وجل الحقوق والمظالم، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن عقول الناس تطيش وتصاب بالرعب الشديد مما ترى في صفحات الأعمال من الحقوق التي بين الناس.

    فالواجب على السيد أن يتقي الله في المولى، وأن يشعر أن كونه رقيقاً ليس معناه أنه يسبه ويشتمه دون أن يحاسبه الله عز وجل على سبه وشتمه ومخاصمتهما.

    قال رحمه الله: [ ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة ].

    القائلة تكون قبل الظهر، وهي القائلة المحمودة، وغالباً ما تعين على قيام الليل، وقد تستمر بعد الظهر فيستجم بها الجسم، فكانوا يريحون أنفسهم غالباً بعد الظهر إذا كانوا من أصحاب الأعمال؛ لأن وقت الظهر يشتد فيه وهج الشمس فيخلد الناس إلى الراحة، ولا يستطيع العامل أن يعمل في هذا الوقت، إذاً: يريحه وقت القائلة، ويمكنه من وقت القيلولة التي تكون في النهار ووقت النوم الذي يكون في الليل، وهكذا لو أنه سافر معه، فاحتاج أن ينام نهاراً كأن يكون سرى بالليل، فعليه أن يمكنه من النوم نهاراً.

    وكذلك أيضاً يريحه وقت الصلاة، وهذا يدل على أن للعامل حقاً في أن يُمكن من الراحة وقت الصلاة؛ لأنه حقٌ لله عز وجل، وحق الله مقدمٌ على حق خلقه، فهو مالك المملوك وما ملك، فهو سبحانه المالك لخلقه، وملكية السيد لعبده نسبية، ولكن ملكية الله سبحانه وتعالى للخلق ملكية مطلقة، وبناءً على ذلك: لا يجوز أن يضيق عليه في وقت صلاته أو يطالبه بالعمل في وقت الصلاة، بل يعطى وقتاً للوضوء ووقتاً للصلاة، وإذا أعطي وقت الصلاة فعلى المملوك أن لا يشتغل عن ذلك، وكذلك العامل في عمله والموظف في وظيفته إذا جاء يصلي، فعليه أن يحدد قدر وقت الحاجة ويذهب ويتوضأ مباشرة، ثم يؤدي صلاته ويرجع إلى عمله مباشرة.

    وأما أن يستغل وقت الصلاة من أجل أن يجلس ويعقد ندوة أو كلمة من أجل مصالح للمسلمين، فلا يمكن للإنسان أن يشتغل بالنوافل على حساب الحقوق الواجبة، وأما جلوسه مع إخوانه وزملائه في العمل، فهذا له وقت آخر غير أوقات الوظيفة وأوقات الحقوق الواجبة التي ترتبط بها مصالح المسلمين، والله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى.

    وينبغي للمسلم أن يعلم أن وقت الوظيفة أمانة في عنقه، خاصة إذا كان هناك ارتباط بمصالح المسلمين العامة، وليعلم أن الثانية في مصالح المسلمين أجرها عظيم؛ فضلاً عن الدقيقة فضلاً عن الساعة، فكما أنه يحب الله ويطيع الله في سجوده وركوعه فليعلم أنه متقربٌ لله سبحانه وتعالى في كل مصلحة من مصالح المسلمين، ولربما تكون الدقيقة اليسيرة وهو في مصلحة الطب والعلاج أو قضاء حوائج المسلمين العامة تعدل ساعات من العبادة؛ لأن ساعات العبادة نفعها قاصر، وأما ساعات الوظيفة فقد يكون نفعها متعدياً، وقد يأتي الشخص الغريب المسافر والمكروب فيوسع عليه ويفرج كربته، فالمولى والرقيق لا يشتغل وقت الصلاة من أجل أن يتوسع في النوافل إنما يقيد وقت الصلاة، وينظر إلى قدر الحاجة والزائد على ذلك المستحق للعمل؛ لأن ساعات الوظيفة وساعات العمل إجارة بالزمان.

    والقاعدة في إجارات الزمان: أن وقتها يستغل بكامله في العمل؛ لأنه اتفاق بين الطرفين على استنفاذه في العمل إلا إذا استثني شيء شرعاً. فيخرج إلى الصلاة ويؤدي حق الله عز وجل ثم يرجع مباشرة، وإذا أمكنه أن يصلي في مكان قريب وبعيد فإنه يقدم المكان القريب على البعيد، ولو كان هناك فضائل في البعيد كالصلاة في داخل الحرم بمائة ألف صلاة وفي مكان آخر الصلاة فيه لا تضاعف فإنه ينظر إلى أقرب مكان؛ لأن ما أبيح للضرورة والحاجة يقدر بقدرها، ويكتب له أجر الصلاة في المكان المضاعف بالنية؛ لأنه حبسه العذر، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المعذور يكتب له أجره كاملاً تاماً.

    فيريح السيد مولاه ساعة صلاته وساعة نومه وقيلولته، ومن باب أولى إذا كان المولى مريضاً، فلما قال: يريحه وقت القيلولة ولصلاته ونومه؛ فكذلك يريحه عند مرضه وسقمه، فإذا مرض العبد فإنه يعطى الراحة، وهكذا العامل، والعامل إذا كان مريضاً ومرضه لا يمكنه من العمل فله أن يترخص، وأما إذا أمكنه أن يقوم بالعمل مع المرض دون حرج، فإن الله يأجره على ذلك، فالأصل يقتضي أنه لا يحمله ما لا يطيق، فإن المريض لا يطيق أن يعمل أثناء مرضه.

    حمل الرقيق على الدابة في السفر

    قال رحمه الله: [ويركبه في السفر عقبة ].

    بمعنى أنه إذا سافر فقد جرت العادة أن الرقيق يقوم على دابة السيد، فقد يقود به البعير، فإذا قاد به البعير فعلى السيد أن ينزل من أجل أن يركب الرقيق، فمن يقول هذا؟! من الذي يحفظ الحقوق على أجمل صورة وأكملها؟

    حتى إن عمر رضي الله عنه وأرضاه نزل لمولاه، كما في السير حينما سافر إلى الشام، فإنه أركب مولاه عقبه، وأخذ بخطام البعير رضي الله عنه وأرضاه وهو ثالث رجل في الإسلام، وما منعه علو مكانه وشرفه، بل ازداد والله شرفاً وكمالاً رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه تربى في مدرسة النبوة التي هي أنوار التنزيل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين.

    فالمولى يعطى حقه حتى في الطعام، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في الحديث الصحيح: (إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه) يعني: إذا كفاك العبد مئونة تهيئة الطعام فجلس ينفخ على الحطب والنار ويؤذى بدخانه حتى أنضج لك الطعام (فليجلسه معه وليطعمه مما يطعم، فإن لم يفعل فليروغ له لقيمات وليعطها له)، أين يكون هذا؟!

    من الذي يتكلم بالحقوق بكل نزاهة ونقاء وصفاء ووضوح وجلاء غير هذا النبي الكريم الذي علمه ربه وأدبه صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين؟

    فالمقصود أن الرقيق إذا قام بالعمل أعطي شيئاً من الراحة، فيجلسه يأكل معه، وإذا كان الأمر فيه صعوبة أو أن الطعام لا يسع اثنين، فليروغ له لقيمات، يعني: يأخذ الخبز ويضعه في الإدام ثم يعطيها لذلك الرقيق شكراً للمعروف وذكراً للإحسان، وهل قامت أمور المسلمين إلا على حفظ حق أهل الحقوق؟

    حتى الرقيق حفظ حقه مع أنه مملوك ويخدم فيشعره أن له فضلاً، وأن له حسنة ومعروفاً؛ لأن هذا تشريع العليم الحكيم سبحانه وتعالى؛ الذي يعدل بين خلقه ويفصل بين عباده، فلا أتم منه حكماً جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا قام على الطعام أطعمه من الطعام وواساه وأحسن إليه، وإذا كان معه في السفر وقام على دابته وتعب وهو يقود به دابته أركبه مكانه.

    وهذا أيضاً يشعر السيد بما قام به العبد؛ ولذلك لا تستقيم أمور الإسلام، ولا يستقيم أمر مسلم إلا إذا عرف لكل ذي فضلٍ فضله، ولا تجد أحداً ينال السؤدد والعظمة والكمال والشرف إلا إذا كان يحفظ حق الصغير قبل الكبير، وتجده يتلمس مواضع إحسان الغير إليه، فإذا جلس مع الناس ولو كان هو المحسن، ولو كان هو الذي يكرمهم ويعطيهم فأول ما يفكر أن يفكر في الذي قدمه له الناس قبل أن يفكر ما الذي قدمه للناس، وهذا شأن أهل الكمالات والعلو، الرجل يدخل إلى بيته فإذا جاءت زوجته ووضعت الطعام بين يديه شكر لها صنعها، وولده يأتي ويقدم له حذاءه فيدعو له دعوةً صالحة، ويقول له: بارك الله فيك.

    وإذا كان مُعلِّماً وأحسن إليه تلميذهُ أو قام على شأنه، أو إمام مسجد أو رجلاً مسناً وجد من يخدمه؛ رمى له بالكلمة الطيبة وجعله بخير، وشعر بفضل أهل الفضل.

    والعكس أيضاً: فإنه إذا قابل المعروف بالإحسان قابله محسن بإحسان أعظم مما أحسن إليه، فألفت الناس على الخير والإحسان.

    وأما إذا كان الشخص لا يعرف فضل أهل الفضل -والعياذ بالله- لا في الدين ولا في الدنيا، يتعلم من أئمة وعلماء السلف، ثم لا يلبث أن يؤلف الكتب في نقدهم وتتبع عثراتهم وكشف عوارهم، أو يتعلم عند المعلم فيجلس ليجمع سقطاته، أو ينتفع بمحاضرة الداعية في صلاحه واستقامته ثم لا يلبث أن يكشف عوار محاضرته، وهكذا حتى يظلم قلبه ويطمس عليه؛ لأن الله لا يرضى بكفران النعم، والكفر أساس الشر، وكُفر النعم يكون برد المعروف بالإساءة؛ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60].

    فالإسلام لا تقوم أموره إلا على حفظ المعروف، فانظر إلى الرقيق عندما يحفظ سيده له هذا المعروف؛ ولذلك قال الإمام الشافعي : (إن الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة)، فلا يمكن أن تستقيم أمور الإسلام والمسلمين إلا بهذا؛ أن تكون عالي النفس عالي الهمة، تشعر أن للناس عليك فضلاً قبل أن تشعر بفضلك على الناس، فإذا نظر الإنسان بهذه النظرة بارك الله أمره ووضع بين الناس محبته والقبول.

    ولذلك تجد الإنسان الذي يعيش بين الضعفاء يتلمس إحسانهم إليه ويقابله بالإحسان؛ تجده في أحسن المراتب وأفضلها وأكرمها وأعزها؛ فالناس تلهج بذكره الجميل، وتعطر له الثناء الطيب، وإذا مات صار حياً بين الناس بذكره الطيب وبحسناته ومآثره، كما كان ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان لهم فيه قصب السبق، فكان أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه إذا مشى معه عبيده لا تستطيع أن تفرق بين ثوبه وثيابهم، حتى إنه قد لا يعرف من بينهم مما كان منه رضي الله عنه، حفظاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها في الرقيق.

    والعكس: فإذا وجدت الشخص لا يحفظ هذا المعروف، فتجد الزوج لا يتلمس حسنات زوجه التي كفته ولده، ويقابل ذلك بالنقد والتنقد للأمور والكشف للعوار والعيب.. وجدت القلوب تظلم عنه، والمرأة تنفر منه، ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)، وهذا مفهومه أن شر الناس شرهم على أهله، وكذلك أيضاً العامل إذا كان عند من يكفله يتفقد حسناته ويقول له: جزاك الله خيراً، ويرد له بالكلمة الحسنة، وإذا جاء يعطيه أجرته قال له: جزاك الله خيراً، قمت بخير كثير، فشكر له معروفه وإحسانه، فيخرج من عنده وهو يذكره بكل خير، وكم تجد الآن من الناس ممن يجلس معك يقول: كنت أعمل مع فلان جزاه الله كل خير، وعملت مع فلان فصنع لي وفعل، وهكذا إذا فعل الإنسان الإحسان حفظ الله له إحسانه.

    فالمطلوب من السيد أو الولي أن يحسن إلى مولاه، وأن يتفقد حاجته؛ وكما أنه يحسن إليه يحسن إليه فيتفقد حوائجه ويركبه في السفر عقبة.

    وقد اختلف في مقدار العقبة: أثر رواية عن الإمام أحمد أنه يركبه في اليوم ستة أميال في مسير الإبل، وهذا قد يقارب سبع إلى ثمن المسافة في السفر في الوقت المعتدل ليس بشديد الحر ولا شديد البرد؛ لأن الإبل تسير ما بين (70-80) كيلو في اليوم الكامل من أول النهار إلى آخره، والعقبة إذا كانت ستة أميال فإنها تقارب الثمن؛ لأن مسيرة اليوم ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً وهي تقارب الستة الأميال فيما أثر عن الإمام أحمد رحمه الله وبعض العلماء يقول: لا يقدر، وهذا في الحقيقة فيه مناسبة.

    والفرق بين القولين: أنك إذا قلت: ستة أميال قد تكون الستة الأميال في آخر السفر، لكن هناك قول ثان يقول: لا يقدر. بمعنى أنه يركب ثم إذا قطع مسافة نزل وأركب المولى بقدر ما يستريح، وهذا القول ربما يكون أعدل.

    وكان بعض مشايخنا رحمه الله يقول هذه المسألة: الأوْلى فيها أن يترك السيد لحاله مع رقيقه ينظر إلى حاجته، والأوضاع والأسفار تختلف، والمواضع تختلف، فلا يقدر بقدر؛ لأنه ليس هناك نص بالتحديد، فيبقى الأمر على ما فيه رفق وعلى ما فيه معروف وإحسان. وهذا هو الأشبه في هذه المسألة.

    قوله: (في السفر) مفهومه أنه في الحضر لا يلزمه ذلك؛ لأن المسافات فيه لا تصل إلى قدر الإحراج، ولكن في السفر المشقة عظيمة.

    1.   

    حق العبد في الزواج

    قال رحمه الله: [ وإن طلب نكاحاً؛ زوجه أو باعه ].

    إن سأل الرقيق سيده أن يزوجه، وقال: أريد أن أتزوج، فهذا حق من حقوقه؛ لأنه إذا لم يزوجه وقع في الحرام، والشريعة قفلت الأبواب المفضية إلى الفساد، والزنا من أعظم الفساد، ولذلك قفلت جميع الأبواب الموصلة إليه؛ فنهت عن النظر إلى المحرمات، ونهت عن لمس الأجنبية والخلوة بها، وسفر المرأة بدون محرم، وضرب المرأة بقدمها ليعلم ما تخفيه من زينتها.. كل هذا قفل للأبواب المفضية للفساد وهو الزنا، فإذا كان الرقيق محتاجاً إلى الزواج وشكى إلى سيده أنه يريد أن يتزوج زوجه سيده.

    واختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

    الشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الظاهر على أنه يجب على السيد أن يزوجه؛ لقوله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، فأمر الله بتزويجهم، وقال المالكية والحنفية: لا يجب عليه الزواج إنما هذا من باب المعروف والإحسان.

    وظاهر الآية يدل على الوجوب: (وَأَنكِحُوا)، ولذلك مذهب الحنابلة والشافعية أشبه من حيث النص؛ لأنه أخذ بظاهره، فنقول له: إما أن تزوجه وإما أن تبيعه؛ لأنه لو بقي عنده بدون زواج وهو لا يأمن الفتنة، أفسد نفسه وغيره، نقول له: إما أن تزوجه وإما أن تبيعه، ويؤمر ببيعه.

    حق الأمة في الوطء أو الزواج

    قال رحمه الله: [ وإن طلبته؛ وطئها أو زوجها أو باعها ].

    وإن طلبت الأمة الزواج وطئها، فإذا وطئها عفها عن الحرام، أو باعها.

    وطئها لأنها ملك يمين، وحق من حقوقها أن تعف عن الحرام، فإما أن يعفها هو أو ييسر لها سبيل الإعفاف بأن يزوجها من آخر، والدليل على ذلك الآية المتقدمة من سورة النور: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، فهذا يدل على أنه يجب عليه أن يزوجها.

    فالأمة تختلف عن الرجل؛ لأنها توطأ، ومن هنا جاء فيها الخيار الثالث، وأما العبد الرجل ففيه خياران: إما أن يزوجه وإما أن يبعه.

    1.   

    الأسئلة

    جواز أخذ العبد ما زاد عن الخراج بإذن السيد

    السؤال: أشكل عليّ جواز الاتفاق على المخارجة مع أن مال المملوك كله لسيده أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

    فلا إشكال في هذا؛ لأن السيد له الحق أن يملك مولاه؛ ولذلك يأذن له بالتجارة ويمكن من المال، وإذا مكنه من المال فلا حرج في ذلك ولا بأس، فإذا قال له: أعطني ثلاثة دراهم يومياً والباقي لك فله ذلك، أي: إذا أذن له بالملكية ثبتت له يد الملكية على ما المال، والله تعالى أعلم.

    حكم خصم صاحب العمل على العامل من أجرته لسبب يراه

    السؤال: يعمل عندي عامل ولم يقم بالعمل على الوجه المطلوب، فخصمت عليه من الأجرة ثم أعطيته المتبقي، فلم يقبل فما العمل، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه قضية فيها طرفان وخصمان فلا يحكم لشخص على آخر، ولا يحكم بين خصمين بقول أحدهم؛ لكن ننبه على الأصل، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له في فقه الفتوى، قد يأتيك من يسألك فتحكم له على الطرف الثاني وأنت لم تسمع منه؛ ولذلك عتب الله على داود من فوق سبع سماوات حينما قال: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:22-23]، لما قال الخصم دعواه، قال داود: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص:24]، كان المفروض أن ينتظر حتى يتكلم الخصم الثاني، وهذا تعليم من الله عز وجل لنبيه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    ومن هنا أخذ العلماء الأصل الشرعي؛ أنه لا يجوز في القضاء أن يحكم على خصم دون أن يسمع من خصمه، لابد أن يسمع من الطرفين، ومن هنا كانت الحكمة المأثورة عن علي رضي الله عنه وتحكى عن غيره: (إذا جاءك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له، فلعل خصمه فقئت عيناه)، يعني: إذا جاءك يشتكي من مظلمة فقد يكون صاحبه عنده عشرات المظالم.. يقول: ضربني فلان، وتجد أنه قد ضربه أضعاف الذي ضربه، أو تجده فعل فعلاً يستحق به الضرب؛ فإذاً لا يحكم بين طرفين ما لم يسمع منهما.

    هذا عامل وهو خصمك أمام الله جل وعلا، هو أجير استأجرته؛ والأصل أنك لست من يقدر عمله، الخطأ الذي أخطأته أنك قدرت عمله وخصمت عليه، وهذا ليس من حق أحد كائناً من كان أنه يخصم من العامل شيئاً.. بل ينبغي أن يقدر عمله الذي قام به، ويعاقب على خطئه، فالعمل الذي قام به لست أنت الذي تقدره، وليس من حقك أن تقدره، وإنما تنظر إلى اثنين من أهل الخبرة يأتون وينظرون إلى عمله الذي قام به ويقدرونه، فإن قدروه بالأجرة التي دفعتها، فما ظلمته، وإن قالوا: إن أجرته ستة آلاف ريال وأنت أعطيته أقل منها فقد ظلمته، ومن حقه أن يمتنع؛ لأنك لم تعطه حقه، فنحن لا نستطيع أن نقول: هو المخطئ أو أنت، إنما نقول: الأصل الشرعي يقتضي أنك لا تقدر العمل، وإذا امتنع لا تترك الأمر هملاً، وهذا أمر ننبه عليه، أنت الآن تتحمل مسئولية أمام الله عز وجل عن هذه المظلمة وعن منع الأجير أجرته.

    الواجب على الشخص إذا حدثت بينه وبين العامل خصومة ألا يتركه حتى يفصلها بالوجه الشرعي، ويقول له: ما أدعك، إما أنك محق فأعطيك حقك، وإما أن أكون محقاً فاعرف ما الذي أريده، أما أن تترك الأمر هكذا، وتترك الرجل يذهب، فليس من حقك هذا، وقد قصرت في الجانبين:

    الجانب الأول: أنك قدرت عمله وليس من حقك أن تقدره، هذا مرده إلى أهل الخبرة.

    وثانياً: أنك تركته يذهب، المفروض أن تذهب به إلى أهل الخبرة، أو كانت المسألة مشكلة عندك تذهب إلى من تثق بعلمه أو إلى القاضي تقاضيه، أو تنظر من عنده معرفة يفصل بينك وبينه؛ أما أن تعطيه باجتهادك ورأيك، ثم إذا امتنعت يذهب هكذا، فلا فإنه هو خصمك في هذه الأجرة.

    والذي أوصيك به: أن ترى أناساً من أهل الخبرة يقدرون عمله، ثم إذا كان المبلغ الذي أعطيته دون الذي يستحقه تبحث عنه وتعطيه حقه كاملاً، هذا الذي أوصيك به، فإن عجزت عن معرفته والوصول إليه وتعذر عليك ذلك، تصدقت بهذا الثمن على نيته؛ حتى إذا وافيت الله عز وجل وسألك عن حقه؛ أخذ من حسناتك مما تصدقت به فكفيت مظلمته، والله تعالى أعلم.

    الفرق بين مصطلح الجمهور والجماهير

    السؤال: ما الفرق بين قولنا: جمهور العلماء، وجماهير العلماء، أثابكم الله؟

    الجواب: هذا مصطلح، فإذا قيل: الجمهور. فهم الثلاثة في مقابل الواحد من الأربعة، مثلاً الحنفية والمالكية والشافعية، يقولون: يجوز، والحنابلة قالوا: لا يجوز، تقول: قال الجمهور: يجوز، وتقصد الثلاثة في مقابل الواحد.

    وممكن أن تقول الجمهور. إذا كان خلاف بين الحنفية والمالكية من وجه والشافعية والحنابلة من وجه، إلا أن أصحاب الشافعي مع الحنفية والمالكية، فحينئذٍ تقول: الجمهور، إذا انسحبوا واختاروا قول غير إمامهم.

    وممكن أن تقول: الجمهور النسبي، وصورته: أن يختلف العلماء الثلاثة على الجواز، ويخالف غيرهم بالتحريم، ثم الذين قالوا بالجواز يختلفون في الجواز مع الكراهة والجواز مطلقاً، فهؤلاء فيما بينهم يختلفون في مسألة أو في قيد، فتقول: جمهور الجمهور، ويكونون -مثلاً- ثلاثة فيكون اثنان في مقابل الواحد، هذا يقال له: جمهور القائلين بالمسألة.

    وأما بالنسبة للجماهير فهذا مصطلح يقارب الإجماع، إذا قيل: جماهير العلماء. فيقصد به عامة العلماء وهو يكاد يقارب الإجماع، وغالباً لا يقال: جماهير إلا إذا ضُعّف المخالف، أعني: إذا كان المخالف له أفراد فيقال: جماهير العلماء على الجواز. وتجد هذا عند أصحاب المذاهب، فمثلاً: عند الحنفية عالم، ومن علماء المالكية عالم، والشافعية كذلك، فهم أفراد يقولون بضد هذا القول، حينها تقول: الجماهير؛ لأن الخلاف ليس بين الأربعة أنفسهم؛ فالأربعة مع بعضهم على الجواز أو عدمه؛ فتقول: الجماهير.

    والجماهير غالباً مصطلح لا أستعمله إلا فيما يقارب الإجماع، إذا قلت: الجماهير فهذا مصطلح ألتزم به في الغالب فيما يقارب الإجماع، أو يكون الخلاف في المقابل ضعيفاً في أغلب الأحوال، والله تعالى أعلم.

    حكم قراءة المسبوق التشهد

    السؤال: المسبوق بركعة هل يقرأ التشهد الأول والأخير أم يبقى صامتاً، أثابكم الله؟

    الجواب: المسبوق فيه وجهان للعلماء رحمهم الله:

    القول الأول: بعض العلماء يرى أنك إذا صليت وقد سبق الإمام فعلت كل شيء مع الإمام كأنك تابعته من أول الصلاة، وبناءً على هذا القول: يقرأ التشهد الأول والتشهد الثاني كاملاً ويدعو؛ لأنه بحال المتابعة فيتابع الإمام.

    القول الثاني: بعض العلماء يرى أن المتابعة في الظاهر دون الباطن، ومن هنا قالوا بالاختلاف والافتراق، فيقرأ التشهد الأول مرتين، ففي التشهد الأخير لا يتم ويحتسبه كالتشهد الأول، وحينئذٍ يبقى صامتاً بعد فراغه كما لو قرأ التشهد الأول وراء الإمام وطوّل الإمام فإنه يبقى صامتاً.

    إذا كان التشهد عند قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبينا أن هذا هو الراجح، وأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تجب في التشهد الثاني دون الأول؛ لأن التشهد أصل من الشهادتين، فإذا بلغ قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ فقد وصل وأتم التشهد.

    أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي دعاء واستفتاحٌ للدعاء، ولذلك كان التشهد الثاني دون الأول.

    وأكد هذا الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في التشهد الأول كأنه على الرضف)، وهي الحجارة المحماة، أي: أنه كان يبادر بالقيام، وهذا يدل على أنه ما كان يطيل في التشهد الأول، ثم إن إيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والإطالة فيه ليس لها دليل قوي يدل عليها.

    على كل حال: يقرأ التشهد الأول في التشهدين، ويكون جلوسه لعذر المتابعة في الظاهر ولا يتابع في الباطن.

    بناء على هذا الخلاف: هل المسبوق يتابع الإمام أو يخالفه؟

    وهنا ترد مسألة الصلاة على الجنازة؛ فمن دخل والإمام في تكبيرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مسبوقاً، أو دخل والإمام في تكبيرة الدعاء، فعلى القول بالمتابعة يدخل بالدعاء، وعلى القول بأنه ينظر حال نفسه: يدخل بقراءة الفاتحة، ثم بعد ذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو؛ لأنه لخاصة نفسه، ثم إذا سلم الإمام والى بين التكبيرات على التفصيل الذي تقدم معنا في الجنائز.

    على كل حال: المسألة فيها القولان المشهوران، وإذا قرأ التشهد كاملاً فله وجه، وإن كان الأشبه في الحقيقة أن المتابعة للظاهر دون الباطن، والله تعالى أعلم.

    حكم خروج الطائف بالبيت إلى المسعى بسبب الزحام

    السؤال: بعض الناس عند طوافهم بالكعبة على سطح المسجد الحرام يخرجون إلى المسعى لإكمال الشوط اجتناباً للزحام الذي يوجد بمحاذاة الحجر الأسود، فهل في هذا العمل شيء، أثابكم الله؟

    الجواب: اختلف العلماء رحمهم الله في المسعى، هل يعتبر داخل المسجد أو خارجه، والصحيح: أن المسعى خارج المسجد وليس بداخله، وعليه قرار المجمع الفقهي، وهو الأشبه في زماننا أنه خارج المسجد وليس بداخله.

    فائدة الخلاف: أن المرأة لو جاءت في العمرة وطافت وصلت ركعتي الطواف، ثم خرجت إلى المسعى وحاضت، شرع لها أن تتم عمرتها؛ لأنه لا تشترط الطهارة لصحة السعي، وليست بداخل المسجد، فتتم سعيها.

    كذلك أيضاً يتفرع على هذا: أنه لو طاف فوق المسعى -إذا قلنا: إنه ليس من المسجد- فإنه قد خرج عن المسجد، ويشترط لصحة الطواف أن يكون داخل المسجد، ومن خرج من باب من أبواب المسجد أثناء الطواف ودخل من باب آخر فقد بطل شوطه، وذلك لأن الله تعالى يقول: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج:26]، فدل على أن الطواف لا يصح إلا داخل مسجد البيت، وبناءً على ذلك: لو خرج إلى جهة المسعى فهذا يؤثر، ولا يصح ذلك الشوط إلا إذا رجع من المكان الذي خرج منه، وأتم طوافه، فحينئذٍ يجزيه، والله تعالى أعلم.

    إجزاء السعي والطواف عن المطوف به والمطوف

    السؤال: من يدفع الكرسي المتحرك في الطواف والسعي هل يجزئ الطواف عمن يجلس على الكرسي، أو عمن يدفع الكرسي، أو عن الاثنين سوياً، أثابكم الله؟

    الجواب: يجزئ عن الاثنين؛ لأن الطواف من القاعد على الكرسي وقع تاماً كاملاً، وقد طائف المطوف على قدميه؛ لأن العربة هي التي استغرقت مكان الطواف فكانت كرجلي البعير ويديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة على بعيره لما ركبه الناس كما في الصحيح، وهذه المسألة غير مسألة حمل الصبي؛ لأنه إذا حمل الصبي أو حمل غيره، فكلاهما على قدميه، ولا يجزئ طواف القدمين إلا عن شخص واحد لا عن شخصين، ومن هنا إذا كان على عربته أو دابة فإنه يجزيه حتى ولو لم يقده أحد، وكما لو كانت تتحرك بالكهرباء ونحو ذلك، فإنها تجزيه ويصح طوافه، والله تعالى أعلم.

    نفقة الخدم والسائقين وحقوقهم

    السؤال: هل الخدم والسائقون والخادمات لهم من النفقة والحقوق مثل ما للأرقاء، وبماذا يوصى في التعامل معهم، أثابكم الله؟

    الجواب: ليس للخدم حقوق الأرقاء؛ لأنهم ليسوا بملك اليمين، فهم أحرار ولا يثبت لهم ما يثبت لملك اليمين، ملك اليمين له حقه، والخادم حقه يندرج تحت أصل يسمى بحق الأجير، هذه إجارة وهذه ملك يمين، هذا باب له أحكامه، وهذا باب له أحكامه.

    الخدم يوصى بتقوى الله عز وجل فيه، وأول ما يفكر فيه المسئول عنهم أن يكفهم عما حرم الله، وأن يحملهم على طاعة الله عز وجل، وأن لا يفكر في مصلحته ومصلحة أهله وولده قبل أن يفكر في هذا الأمر، وليعلم أنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وأنها عورة من عورات المسلمين وضعت أمانة في رقبته، فإذا اتقى الله عز وجل فيها فقد نجح وأفلح وصلح له أمره، وبارك الله له فيما يكون منها.

    وإن ضيق فالله محاسبه وسائله، خاصة إذا كانت خادمة، فأمرها عظيم، فيرى أنها كواحدة من بناته أو أخواته، وأنها عرض من أعراض المسلمين، وأن كونها أجيرة لا يسقط حقها خاصة إذا كانت مسلمة؛ فعليه أن يتقي الله عز وجل فيها، وأن يحفظها ويصونها، ولا يفتح لها أبواب الشر، وإذا فتحت عليها أبواب الشر قفلها عنها كما يقفلها عن عرضه؛ لأن المسلم مؤتمن على عرض أخيه المسلم، فما بالك إذا كانت أجيرة عنده؛ فإن نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توصي بالجار، فما بالك بالأجير الذي هو تحت كفالة الإنسان!

    فالواجب أولاً: حق الله عز وجل، بأن تتفقد الخدم في الصلوات الخمس، وأمرهم بها ومتابعتهم في ذلك ومراقبتهم؛ لأنهم إذا صلوا استقامت لهم أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، وإذا لم يكونوا مصلين محقت البركة، فما من إنسان لا يصلي إلا كان شؤماً على من كان معه، نسأل الله السلامة والعافية.

    فيتفقدهم في الصلاة، وفي أخلاقياتهم ومحافظتهم على أمور دينهم، فيأمرهم بما أمر الله، وينهاهم عما نهى الله عز وجل عنه، بعد هذا يفكر في مصالحه الدنيوية، ويحدد ماذا لهم وماذا عليهم، فإذا وجد أنهم يحملون ما لا يطيقون، فإنه يوصي زوجته وبناته وأهله أن يتقوا الله عز وجل في الخادمة.. ويحفظوا ألسنتهم عن أذيتها وسبها وشتمها، ويذكرهم بأنها غائبة عن أهلها، وأنها غريبة عندهم كالضيف، فيحرص الناس على الإحسان إليها، فإنك إن رحمتها رحمك الله كما رحمتها، فالراحمون يرحمهم الله ارحموا عزيز قوم قد ذل، فقد تكون عزيزة في أهلها فاضطرتها الأمور والظروف أن تتغرب، فيحرص كل الحرص على أن يهيئ لها بين أهله وولده من يحفظ حقها، وأهم شيء الرحمة؛ فإن الرحمة إذا سكنت في القلوب أصلح الله بها القوالب، ومن كان قاسي القلب فهو بعيد عن الله عز وجل، لا يَرحم ولا يُرحم، ولما قال الأقرع للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت أحداً منهم قال: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك)، فالإنسان ينبغي أن يحرص على سكون الرحمة في قلبه.

    وعليه أيضاً أن يتقي الله عز وجل في الحقوق في الأجرة، يعطيها أجرتها عند نهاية العمل، ولا يؤخر الراتب، ومن أعظم الظلم تأخير الرواتب عن العمال والمستخدمين؛ لأنهم في أمس الحاجة إلى هذه الرواتب، وقد يحتاجها لعلاج مريض، أو لسداد ديون، وقد يأتي بعضهم تحت وطأة الديون، وهو أحوج ما يكون إلى أن يفك أسره منها، وقد يكون بيته ومتاعه مرهوناً في بلده؛ هذا كله ينبغي أن يحس بها الإنسان ويستشعرها ويتقي الله عز وجل.

    وهذا حقه وهذه أجرته، وإذا جاءه يعطيه الأجرة فلا يعنته ولا يؤذيه، لا تعطيه الأجرة بطريقة يذل بها، ولا تحيله على مكان يذهب يأخذ منه راتبه أو أجرته، لأنه ليس من حقك هذا، فيذهب في الشمس والحر ليقف مع الناس، وهذا ليس من حق أحد في أجور الناس وحقوقهم؛ لأن الأجير يعطى أجره، فكما أنه وفى لك في عملك وأعطاك عملك فعليك أن تعطيه أجرة عمله، وتتقي الله عز وجل، وهذه من حقوق العامل مطلقاً.

    كذلك أيضاً من حقه عدم تعريضه للخطر والضرر كما تقدم معنا في ملك اليمين، فالأعمال التي فيها خطورة عليه في نفسه وبدنه يحفظهم منها سواء كان خادماً أو خادمة.

    كذلك أيضاً يحفظ السائقين من مواضع الفتن والريب، ويحجبهم عنها إذا نزلوا في أماكن تكثر فيها الفتن، ويختار أوقاتاً ليس فيها فتن، يتقي الله عز وجل فيهم ويرحم غربتهم، ويحرص كل الحرص على الإحسان إليهم.

    كذلك مما يوصى به في حقهم: القبول للمحسنين والتجاوز عن المسيء، فإذا أخطأ في كلمة فقد تكون هذه كلمة خرجت من لسانه دون أن يشعر، فالعامل حينما يكون سائقاً قد يسوق ويرهق إلى ساعات متأخرة من الليل، وهذه زائدة على الاتفاق بينه وبين الأجير، ومقاطع الحقوق عند الشروط، فانظر العقد الذي بينك وبينه ووفه له كاملاً، وإلا كان خصماً لك أمام الله عز وجل، فخير لك أن تلقى الله خفيف الحمل خفيف الظهر.

    وكم من إنسان يمسي ويصبح وهو في كرب وهمّ وبلاء وغم في نفسه، لأنه قد ظلم غيره وهو لا يدري، فإن المظلوم إذا رفع كفه على من ظلمه فإنه يؤذنه بدمار والعياذ بالله، والله تعالى يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)، وأجمع العلماء على أن دعوة المظلوم تستجاب على من ظلمه ولو كان المظلوم كافراً؛ لأن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)، فليتق الله الإنسان وليعلم أن هناك عقداً واتفاقاً؛ إذا كان الاتفاق أن يعمل إلى المغرب فإنه ينتهي عمله عند أذان المغرب، فما زاد فإنه يخير هل يريد أن يعمل أو لا، وإذا كان يعمل فتسأله: كم يريد؟ ثم تعطيه أجرته.

    كذلك إذا كان يراد لأعمال معينة ينجزها، فإذا أنجز هذه الأعمال، فمن حقه أن يستوفي حقه، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وكما أن رب المال ورب العمل له حق، فكذلك عليه حق للأجير.

    وكذلك على الأجير أن يتقي الله في حقوق أصحاب الأعمال، وأن يتقي الله عز وجل في أداء العمل بالنصيحة والشعور بأن ماله كماله، وحينما يكون خادماً في البيت؛ فليعلم أن أسرار البيت أمانة ومسئولية أمام الله عز وجل، والإنسان يعلم خادمه هذا، ويقول: هذه الأسرار أمانة في عنقك، ويعلمه أن فضيحة سر المسلم تؤذي العبد بفضيحة الله عز وجل، فقد تأتي الخادمة وتجلس مع خادمة ثانية تحكي لها جميع ما تراه في البيت، وهذه أمانة ومسئولية أمام الله عز وجل، فلا يجوز للمسلم أن يهتك ستر أخيه المسلم، ولو قال: عندنا بعض الناس يفعل كذا، فيفهم من كلامه أنه يقصد هؤلاء حتى ولو لم يذكرهم، ما دام أنه معلوم أنه لا يعمل إلا عند هؤلاء؛ فطبيعة الحال تظهر أنه يقصد من يعمل عندهم.

    ومثل هذا أسرار التجارة، فهناك أسرار للعمل في التجارة لا يفشيها، وهناك أسرار لزوجته وولده من خصومات ونزاعات، فلا يقول: والله فلان يكره ولده، فلان يضرب ولده، فلان يفعل مع أولاده وهم يفعلون، هذه أسرار ينبغي حفظها.

    ومن حقوق أصحاب الأعمال على العمال أن يتقوا الله عز وجل ويحفظوا ألسنتهم، وأن لا يفشوا هذه الأسرار؛ لأن المسلم مأمور بالستر على أخيه المسلم؛ لأنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد؛ يحب له ما يحبه لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة؛ ولذلك ينبغي على العمال أن يتقوا الله عز وجل في حقوق أصحاب الأعمال، وأن يؤدوها كاملة.

    كذلك من الخيانة أن يتقن العمل حال وجود صاحب العمل، فإذا غاب عنه تساهل في أداء العمل ولم يبال بعمله؛ فإن الله رقيب وحسيب وشهيد، ومراقبة الله لك أعظم من مراقبة المخلوق لك، وإذا نصحت في غيبته سخر الله لك من ينصح لك في غيبتك كما نصحت للناس، والله جل وعلا يجزي المحسن بإحسانه، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا، وأن يتوب علينا، وأن يتجاوز عنا.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756390912