إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الرضاع [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الرضاع نوع من أنواع العلاقات التي أثبتها الشرع، ورتب عليه أحكاماً متعلقة بحرمة النكاح والمحرمية والنظر والخلوة..إلخ. وهذه الأحكام والآثار منصوص عليها في الكتاب والسنة.

    1.   

    ما يترتب على الرضاع

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيلهم ونهجهم إلى يوم الدين؛ أما بعد:

    فيقول المصنف-رحمه الله تعالى-: [ فمتى أرضعت امرأة طفلاً صار ولدها في النكاح، والنظر، والخلوة، والمحرمية]

    شرع المصنف-رحمه الله- بهذه الجملة في بيان الأحكام المترتبة على الرضاع، وهذا ما يسميه العلماء بآثار الرضاع، فبعد أن بين-رحمه الله- حقيقة الرضاع، ومتى يكون رضاعاً مؤثراً، وماذا ينبغي حتى يحكم بتأثيره، شرع في بيان الآثار المترتبة على الرضاع، وهذا من ترتيب الأفكار، وتسلسلها، لأن الآثار يتكلم عليها بعد إثبات الشيء.

    فبين-رحمه الله- أنه متى أرضعت امرأة طفلاً، أي: وقعت الرضاعة الشرعية على الصفة المعتبرة، فكانت في الحولين، وكانت خمس رضعات معلومات مشبعات، فإنه يصير ولداً لها في النكاح.

    تحريم النكاح

    وهناك أحكام تتعلق بالرضاع؛ منها ما يتعلق بالنكاح، ومنها ما يتعلق بالمحرمية، ففي النكاح لا يجوز له أن ينكحها؛ لأنها أمه من الرضاع، والله تعالى ذكر في المحرمات الأم من الرضاع فقال سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23].

    فإذا أرضعت امرأة طفلاً صار ولداً لها، وحينئذ لا يجوز للولد أن ينكح والدته، والله تعالى جعل الرضيع فرعا عمن أرضعه فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] فمعنى ذلك أن الرضيع ولد للمرضعة.

    جواز النظر

    قال رحمه الله: (صار ولدها في النكاح والنظر)

    أي: فيجوز له أن ينظر إليها كما ينظر المحرم لمحرمه، فليست بأجنبية عنه، وهذا الفرع الثاني، فالأول يتعلق بالنكاح، والثاني يتعلق بالنظر، فيجوز له أن ينظر إليها.

    جواز الخلوة

    قوله: (والخلوة)

    فيجوز له أن يختلي بها لأنها من محارمه، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).

    فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز لأي رجل أن يخلو بامرأة أجنبية لا تحل له، وأنه إذا فعل ذلك كان الشيطان ثالثهما،وهذا يدل على أنها الفتنة والبلاء العظيم والشر المستطير، فإنه إذا كان الشيطان ثالثاً لهما؛ سول لكل منهما، وأدخل عليهما البلاء ولكن إذا حكم بالرضاع حل له أن يختلي بها، فهي أمه من الرضاع، أو أخته من الرضاع، أو عمته من الرضاع، أو خالته من الرضاع، كما يختلي بأمه من النسب، وأخته من النسب، وعمته من النسب، وخالته من النسب.

    ثبوت المحرمية

    قوله: (والمحرمية)

    فيجوز له أن يلمسها، ويجوز له أن يصافحها، فإذا مد يده إليها ردت عليه وصافحته، لأنه لا يجوز له أن يصافح امرأة ليست من محارمه، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لا أصافح النساء)، لما قالت له هند : امدد يدك نبايعك يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: (إني لا أصافح النساء -يعني: الأجنبيات- إنما قولي لواحدة منكن كقولي لسائركن). وقالت عائشة رضي الله عنها -كما في الحديث الصحيح-: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما مست يده يد امرأة قط) أي: أجنبية، فما مس امرأة أجنبية صلوات الله وسلامه عليه.

    وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط خير له من أن يمس امرأة لا تحل له). كأن يصافحها، أو يلمسها ولو بدون شهوة، إلا إذا كان لضرورة؛ كالطبيب، أو إنسان يريد أن ينقذ امرأة من مهلكة، أو غريقة أو نحو ذلك، فاضطر إلى لمسها لأمور مستثناة بقدر الضرورة والحاجة، كما تقدم معنا في بعض المسائل المتعلقة بالرخص.

    ثبوت التحريم في الرضاع كما هو في النسب

    قال رحمه الله: [وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء]

    من نسب لبنها إليه هو زوجها، وعليه: فإنه يصبح والداً من الرضاعة، للراضع لبن امرأته الناتج عن الوطء والحمل منه، وبنوه يكونون إخوة للمرتضع.

    فلو فرضنا أنه ارتضع من خديجة، وخديجة زوج لعبد الله، وحملت منه، فأنجبت محمداً، ثم بعد إنجابه ثاب اللبن، فجاء طفل رضيع وشرب من هذا اللبن، فهو ابن لهذا الرجل، ولو أن الرضيع كان أنثى-بنتاً- فإنها تصبح محرماً لهذا الرجل، لأنه أبٌ لها من الرضاع، وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أن أفلح أخي أبي القعيس رضي الله عنه وأرضاه، استأذن عليها، وكانت عائشة رضي الله عنها قد رضعت من امرأة أبي القعيس ، فاستأذن أخوه أفلح ، فلم تأذن له عائشة ، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنما أرضعتني امرأته -ما أرضعني أبو القعيس - فقال عليه الصلاة والسلام: (ائذني له تربت يداك! إنه عمك من الرضاعة). وهذا ما يسميه العلماء بلبن الفحل، أي: أن الرجل له تأثير في الرضاع، كما أن للمرأة تأثيراً، وهذا راجع إلى أن أصل المسألة هو: أن اللبن يثوب من ماء الرجل، ومن ماء المرأة. فكما أنه في النسب يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة، فكذلك أيضاً في الرضاع، يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة. فالرجل أب، والمرأة أم من الرضاعة. ويسري ذلك إلى الأقرباء، ولذلك قال خطيب بني هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن اللاتي في الحضار ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فأثبت لبن الفحل، وأسراه كسريان النسب، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، ولأنه لو أخذ بالنسب لكان الرجل الذي وطئ أباً، والابن ابنه، والفروع التي شاركت هذا الأب في أصليه -كالأعمام والعمات- محارم، كذلك أيضاً في الرضاع محارم، فجميع من ينجبه هذا الرجل الذي ارتضع الرضيع لبنه يعتبر أخاً لهذا الرضيع.

    ثم ننظر؛ إن كان هذا الذي أنجبه أنجبه من نفس المرأة التي ارتضع منها الرضيع؛ فهو أخ شقيق، وإن كان هذا الرجل له زوجة ثانية، فأنجبت أولاداً فهم أخوة من الرضاع لأب، ولو أن هذه المرأة تزوجت رجلاً قبل أو بعد الرضاعة،وأنجبت قبل أو بعد الرضاعة، فهم إخوة من الرضاع لأم.

    فجرى في الرضاع ما يجري في النسب؛ فهناك أخ من الرضاع شقيق، وهناك أخ من الرضاع لأب، وهناك أخ من الرضاع لأم، والحكم كما هو سارٍ في حق المرأة، فهو سارٍ في حق الرجل، لأن تأثير اللبن مشترك بين الرجل وبين المرأة.

    من يستثنى من ثبوت أحكام الرضاع من الأقارب

    قال رحمه الله: [ومحارمه محارمها، ومحارمها محارمه، دون أبويه وأصولهما، وفروعهما]:

    (ومحارمه محارمها) يعني: محارم المرأة، فهذا الرضيع إذا ارتضع من المرأة، صار جميع ما تنجبه المرأة، وجميع المحارم المتعلقين بالمرأة في الأصل، يعتبرون قرابة له كالنسب.

    مثلاً: إذا كان لها بنات فهن أخوات للمرتضع، وإذا كان لها ذكور فهم إخوة له. والعكس؛ لو كان الرضيع أنثى، فإنه في هذه الحالة يعتبر الذكور إخوة ويكونون محارم لها، وكذلك أيضاً بالنسبة للإناث في حق الذكور، فالحكم جارٍ في الرضاع كما هو جارٍ في النسب، وبنى العلماء ذلك على قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

    (ومحارمها محارمه): أي: أن المرأة أصولها أصول لهذا الرضيع، لأن أصول الأمهات أصول للفروع، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبيناها في موانع النكاح، وبينا أن الأصول إذا تعلق بها محارم، مثلما ذكرنا وقلنا: إن الرجل تحرم عليه أصول والديه مباشرة، وعمة أبيه وعمة أمه، فعمة الأب عمة لأولاده، وعمة الأم عمة لأولادها، وخالة الأب خالة لأولاده، وخالة الأم خالة لأولادها.

    فلا يختص الحكم بنفس الأم، ولا يختص بنفس الأب، فالأصول يجري عليها التحريم كما يجري على الفروع، والفروع يجري عليها التحريم كما يجري على أصولها، ومثل ما ذكرنا في النسب نذكر أيضاً هنا في الرضاع. لماذا؟ لأنه لما ارتضع صار فرعاً لهذه المرأة، وسرت عليه أحكامها، وكذلك الأب -لو كان الذي ارتضع ذكراً- جميع محارمه يعتبرون محارم لابنه من الرضاع كما أنهم محارم لابنه من النسب، فالأب بناته محارم، وأخواته محارم، لهذا الرضيع من حيث الأصل.

    لكن هذه القاعدة -كما مر في الأصول- قد يستثنى منها، مثلاً: الربيبة محرم للأب، لكنها ليست محرماً للابن، وكذلك هي في الرضاع.

    وبنت أخت الشخص أو بنت أخيه محرم له، وليست محرماً لابنه، وبناءً على ذلك -من حيث الأصل- فإنه يحكم بأن الرضاع يأخذ حكم النسب، وقصد المصنف من هذا أن يبين أن التحريم في الرضاع يجري فيه ما يجري من التحريم في النسب.

    قوله: (دون أبويه):

    يعني بالنسبة لهذا الرضيع، فأبواه أجنبيان عن مرضعة ولدهما، وكذا أصول المرضع وزوجها وفروعهما، ولذلك الرضاع يختص بالرضيع نفسه، فإخوانه،وأخواته، وأبوه، وأمه -أصوله-؛ هؤلاء كلهم لا يجري عليهم الحكم، أما فروعه فإنهم يأخذون حكم أصلهم نسباً ورضاعاً، لأنه اغتذى بهذا اللبن، ويسري الحكم إلى فرعه كما سرى إليه هو، لكن بالنسبة لأصليه: الأب، والأم، فإنه لا يجري عليهما الحكم، فهم أجانب كما قدمنا.

    فلو فرضنا أن محمداً ارتضع من خديجة فهو ولد لها، لكن أباه ليس بمحرم لها، وأبوه من الرضاعة ليس بمحرم لأمه من النسب، فهذا يختص به الرضيع دون أصليه.

    قوله: (وأصولهما، وفروعهما)

    أي: أصول وفروع أبويه كالجدة، والجد، فهم أجانب بالنسبة للمرضعة وذويها.

    فلو أن شخصاً جاء يريد أن يرتضع، فهو في الأصل أجنبي، وحينما جاء إلى الرضاع فهو أجنبي، ثم جاء وارتضع، فتعلق التحريم به، وبما يتفرع من هذا الجسم الذي اغتذى باللبن، وأصوله وحواشيه أجانب، فالأصل فيهم أنهم أجانب لا تتعلق بهم محرمية، فلذلك اختص التحريم به وفروعه هو فلا يُنظر إلى أصله، ولا إلى فروع أصله وحواشي الأصل، مثل:أخواته، وإخوانه،وأعمامه، وعماته، فيجوز لأخيه من الرضاع أن ينكح أخته من النسب، لأنه ليست هناك محرمية بينه وبينها، وليس هناك أمر يوجب تحريم نكاحها عليه.

    قال رحمه الله: [فتباح المرضعة لأبي المرتضع]:

    لو أن أباه من الرضاعة توفي عن هذه الزوجة، وأراد أبوه من النسب أن يتزوجها فإنه يحل له أن يتزوجها، ولا بأس بذلك لأنها أجنبية عنه، فالتحريم اختص بالذي ارتضع، أما أبوه فلم يرتضع، والمرأة المرضعة ليس بينها وبين أبي المرتضع أية علاقة محرمية، ويحل أيضاً حتى لأخي المرتضع أن يتزوج أمه من الرضاعة، لأنه أجنبي عنها، وهي أجنبية عنه، ومراد المصنف: أن يبين بهذا أن التحريم يختص بالمرتضع دون أصوله وحواشيه.

    وتستطيع أن تفهم مسائل التحريم إذا نظرت إلى أن الأصل أن هؤلاء أجانب، وأن الرضيع أدخل على نفسه سبباً موجباً للتحريم، فإذا أدخل على نفسه سبباً موجباً للتحريم بقي ما عداه على الأصل، ثم تنظر إلى ما تفرع من هذا الرجل، لأن الذي تفرع منه آخذ حكم الأصل -حكمه هو- ولذلك اختص التحريم بالمرتضع -ذكراً كان أو أنثى- ولا يسري لأصله، لا للوالد، ولا للوالدة، ولا لأصول الأصول، ولا لفروع الأصول، لأنهم كلهم أجانب لا يتعلق بهم تحريم.

    قال رحمه الله: [وأخيه من النسب]

    كذلك أخوه من النسب، لو أراد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة حل له ذلك؛ لأنه ليس بينهما علاقة محرمية.

    مثلاً: محمد ارتضع، وأخوه خالد يريد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة، قلنا: يحل له ذلك، لأنه أجنبي، وليس بينه وبينها أي موجب للتحريم.

    قال رحمه الله: [وأمه، وأخته من النسب لأبيه وأخيه]:

    أي: من الرضاع، فهذا جائز، والعكس كذلك، فأبوه من النسب يحل له أن ينكح أمه من الرضاع، والعكس جائز؛ فلأبيه من الرضاعة أن ينكح أمه من النسب؛ لأنها من حيث الأصل أجنبية، كذلك لو أراد أبوه من الرضاعة أن ينكح أخت المرتضع من النسب، فلا بأس، لأنها أجنبية، وليس هناك موجب للتحريم.

    حكم نكاح من أرضعتها من تحرم ابنتها

    قال رحمه الله: [ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه، وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة]

    (ومن حرمت عليه بنتها) كالزوجة، إذا تزوج الإنسان امرأة حرمت عليه ابنتها، فلو أن هذه الزوجة أرضعت طفلة، عقد عليها هذا الرجل.

    مثلاً: محمد عقد على طفلة، وأراد أن ينكحها، وعنده زوجة، فغارت الزوجة من هذه الطفلة، فأرضعتها فصارت ابنته من الرضاع، لأنها بنت لهذه الزوجة، فإذا أرضعتها؛ نقلتها من الحل إلى الحرمة، وأصبحت حراماً بالرضاع، وهي ابنته، ولا يحل له أن ينكح ابنته من الرضاع.

    إذن: معنى ذلك أن الزوجة أفسدت النكاح، وإذا أفسدت النكاح تتحمل الآثار والمسئولية عن هذا الإفساد، وعلى ذلك ينفسخ عقد النكاح بهذه الطفلة.

    وإذا انفسخ النكاح، يبقى السؤال عن المهر؛ -إذا كان قد عقد عليها وتم العقد صحيحاً- فإذا حصل الفسخ استحقت الطفلة نصف المهر، وإذا حصل الفسخ -على اعتبار أن رضاع الكبير يحرم- بعد الدخول، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم الآن عن مسألة الإرضاع قبل الدخول، فإذا أرضعت الطفلة، في هذه الحالة استحقت الطفلة نصف المهر؛ لأنه فسخ قبل الدخول، فمن الذي يكون مسئولاً عن هذا؟ المرضعة التي تسببت.

    متى؟ حينما تأتي وترضع الطفلة، أو تغري الطفلة، أو ترغم الطفلة بالقوة، هذه كلها أحوال. فالمؤلف ذكر الزوجة لأنها تحرم، فيكون قد ذكر موجب التحريم!

    لكن لو أن امرأة أخذت هذا الحليب محلوباً في كأس، وأخذته وأرضعته الصبية بالقوة، أو أن شخصاً هدد هذه الزوجة، وأكرهها بالقوة حتى أرضعت الطفلة، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم عما إذا جاء الإخلال من الزوجة -المرضعة- نفسها، فحينئذ تتحمل نصف المهر، لأنه مستحق إذا حصل الفسخ قبل الدخول.

    (ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه)

    (حرمتها عليه) إذا لم يكن عقد عليها، ولا يحل له الزواج بها، وهذا بالإجماع، لأنها ابنته من الرضاع، وبالإجماع لا يجوز أن ينكح ابنته من الرضاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

    يفسخ عقد النكاح إذا ثبت الرضاع المحرِّم

    (وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة)

    أي: إن كان قد عقد على طفلة -وهذا يجوز- مثال ذلك: لو قال شخص لآخر: زوجتك ابنتي، وهي طفلة، فقال الآخر: قبلت، وتم ذلك العقد بحضور شاهدين عدلين، كما ذكرنا في شروط صحة النكاح، صح النكاح وثبت، فتصبح زوجة له.

    حكم المهر في حال فسخ النكاح بإرضاع الزوجة لضرتها

    قال رحمه الله: [وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول فلا مهر لها وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة]

    وهذا طبعاً يقع في صور منها:

    عقد رجل على طفلة، ثم إن الطفلة مشت بنفسها، فجاءت إلى ضرتها وهي نائمة، ورضعت منها خمس رضعات مشبعات، ما الحكم؟ صارت بنتاً لها، وهذا التحريم وقع بفعل الرضيع، والرضيعة قاصرة دون البلوغ، أما من حيث الإثم وعدمه فنشترط البلوغ، لكن في الأحكام الوضعية التي هي: الأسباب، الشروط،الموانع، هذه لا يلتفت فيها إلى التكليف، بل يلتفت فيها إلى وجود الشيء بغض النظر عن كون الإنسان بالغاً أو غير بالغ.

    فهذه الطفلة إذا دبت، ورضعت هذا الحليب، فقد فعلت ذلك بنفسها، وأدخلت الفساد على نفسها، لذلك لو أن هذه الطفلة حصل منها أنها جاءت- كما سيأتينا في الجنايات- وبركت على أمها وقتلتها، فهذا القتل خطأ، لكنه يعتبر قتلاً، ولا نقول: إنها قاصرة، بل تأخذ حكم قتل الخطأ، لها وعليها.

    والشاهد: أن هذه الطفلة إذا دبت، وشربت اللبن، ولا يوجد إغراء من الضرة ولا أعانت على ذلك، وإنما كانت نائمة، أو تظنها بنتاً لأختها -مثلاً- فما شعرت إلا وقد التقمت ثديها، فسكتت عنها، ثم تبين أنها ضرتها الصغيرة، فما الحكم؟ يفسخ النكاح، لكن الفساد لم يأت بفعل الزوجة الكبيرة، وإنما جاء بفعل الصبية، وحينئذ لا تلزم الزوجة بدفع نصف المهر الذي يكون للصبية في حال فسخ عقدها؛ لأن الصبية هي التي تسببت في فسخ النكاح وزواله، وحينئذ لا شيء لها، لأنها أفسدت على نفسها.

    وهكذا لو أن امرأة قامت بإرضاع زوجته، فإنها في هذه الحالة تصبح أماً للزوجة، وأم الزوجة محرمة بالعقد على بنتها. فالمرضعة أفسدت نكاح نفسها وفي هذه الحالة تتحمل مسئولية نفسها، ولا يكون لها استحقاق.

    قال رحمه الله: [وبعد الدخول مهرها بحاله]

    بالنسبة للأصل، هذه المسألة فيها خلاف، هل يسقط المهر إذا تسببت المرأة في المحرمية بالرضاع أو لا يسقط؟ بعض العلماء يقولون: إذا تسببت يسقط مهرها، إذا كان قد دخل بها، وهذا يقع في حال اعتبار رضاع الكبير، ويقع أيضاً في إرضاع الصغير، لأنها إذا أرضعت الزوجة؛ صارت أماً للزوجة من الرضاعة، وأم الزوجة من الرضاعة حرام كما بينا أن المصاهرة يسري فيها ما يسري في النسب، وأن الرضاع يسري التحريم به في النسب، وفي المصاهرة، أي: في المحرمات من النسب، والمحرمات من المصاهرة، فأم الزوجة من الرضاع محرمة، وبنت الزوجة من الرضاع محرمة، وزوجة الابن من الرضاع محرمة، وزوجة الأب من الرضاع محرمة، مثل ما يقع في النسب، وبينا هذا، وبينا أنه محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.

    وفي هذه الحالة إذا وقع التحريم على هذا الوجه، فإنه في هذه الحالة؛ اختلف العلماء؛ إذا كان قد دخل بهذه الزوجة التي تسببت في إفساد عقدها، هل المهر يسقط بناءً على أنها أفسدت العقد، وليس لها مهر؟ أم أننا نقول: إن المهر مستحق بالدخول، وقد دخل بها، واستمتع، ثم يفسخ النكاح بينهما، فهذا الإفساد وقع على النكاح، لكنه لا يوجب سقوط المهر؟ وجهان عند العلماء رحمهم الله، عند الإمام أحمد روايتان، والجماهير على أنه لا يسقط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (ولها المهر بما استحل من فرجها). وعنه: أنه يسقط؛ لأنها تسببت في ضياع حقها، وحينئذ لا يكون لها استحقاق المطالبة، وهو في الحقيقة من القوة بمكان، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والإمام ابن القيم هذه الرواية عن الإمام أحمد ، ويقويها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم العلامة الإمام -رحمه الله برحمته الواسعة- ويميل إلى هذا القول ويقويه أن سقوطه أوجه من حيث القوة، ومن حيث المذهب.

    قال رحمه الله: [وإن أفسده غيرها، فلها على الزوج نصف المسمى قبله]

    مثل ما ذكرنا، لو أن الغير تسبب في إفساد نكاح هذه الطفلة، كما لو أنه هددها فأرضعتها بالقوة، فقد أفسد عليها النكاح، في هذه الحالة نقول: هذا الذي تسبب، وكانت السببية قوية التأثير، ومفضية إلى الرضاع، مثلما هو مقرر في السببية والمباشرة -ومسألة السببية والمباشرة ستأتينا إن شاء الله في الجنايات، لكن يهمنا هنا في مسألة الرضاع- كما لو أنه هدد الزوجة، وقال لها: أرضعي -بالقوة- هذه الصبية، فأرضعتها، فالمباشر للرضاع هي المرأة -الزوجة- والذي تسبب المهدِّد -المُكْرِه- فهل الضمان في هذه الأحوال يكون على المهدد المُكْرِه أو على المُكْرَه؟ فيقولون: هل يكون الحكم للسببية، أو يكون للمباشرة، أو يجمع الاثنان؟

    في بعض الأحيان يكون الحكم مؤاخذة الطرفين؛ مثل: القتل، فلو أن شخصاً وضع السلاح على شخص، وقال: إذا لم تقتل فلاناً أقتلك. فقتل؛ يقتل الاثنان، يقتل الذي هدد؛ لأنها سببية قوية مفضية للقتل، ويقتل الذي باشر القتل، لأنه ليس بالمكره، فالمكره شرطه أن يهدد بشيء أعظم، ونفس أخيه كنفسه، فهل ينقذ نفسه من القتل بقتل أخيه؟! لا يكون ذلك إكراهاً في حقه، لكن لو هدد بالقتل على أنه يطلق، فيجوز له أن يطلق، ويسقط الطلاق؛ لأن الطلاق أخف من القتل، لكن لو خُيّر بين أمرين: بين أن يُقتل، وبين أن يقتل أخاه، ولو صبر ربما ما قُتل، ولا نُفذ التهديد، لكنه أفضى إلى القتل بمباشرة قوية.

    ولذلك في بعض الأحيان تكون سببية، لكن تكون سببية قوية في التأثير، بحيث يكون الحكم للسببية وتسقط المباشرة.

    مثلاً: لو أنه أخذ حية وأنهشها بشخص؛ فقتلته -أي: الحية فلدغت شخصاً فقتلته- من الذي قتل؟ الحية. لكن من الذي جاء برأس الحية؟ ومن الذي قربها؟ فالمباشر: الحية، والسبب: المكلف، فحينئذ تسقط المباشرة، ويكون الحكم بالسببية.

    وفي بعض الأحيان تقوم المباشرة، وتسقط السببية؛ كما لو حفر رجل بئراً، أو بنى جداراً، فلما بنى الجدار جاء شخص ورماه على شخص فقتله، فهذا الذي دفع الجدار باشر، والذي بنى الجدار تسبب، أي: أن الجدار لو لم يكن موجوداً لما حصل القتل.

    ومسألة تقديم السببية على المباشرة والعكس لها أحوال ثلاثة: تارة نغلب السببية، وتارة نغلب المباشرة، وتارة نعطي الحكم لمجموع الأمرين.

    فهنا عندنا سببية، ومباشرة؛ وذلك إن هدد أحد امرأة وأجبرها أن ترضع ضرتها الصغيرة فأفسدت عقد زوجها بهذا الرضاع، فهل ننظر للذي باشر الرضاع -الزوجة التي هي المرضعة- أو ننظر للذي تسبب بالإفساد والذي هو المُكرِه؟ في مسألتنا هذه ننظر للذي هدد، والذي ضغط على المرأة، لأن الإكراه يرفع التكليف، وقد بينا هذا في مسائل؛ كطلاق المكره، وغيرها من المسائل التي بينا فيها حكم الإكراه.

    فهنا تقوى السببية، ومن هنا بين-رحمه الله- أن من تسبب في إفساد النكاح فإنه يضمن، فيكون عليه ضمان نصف المهر قبل الدخول، وذلك بأن يطالب الزوج بدفع نصف المهر، ثم يرجع هذا الزوج على من تسبب في إفساده، وقد بينا هذا في مسائل متقدمة معنا في الضمان.

    قال رحمه الله: [وجميعه بعده]

    يعني: بعد الدخول، وهذا على القول بأن المهر لا يسقط، وقد بينا هذا.

    قال رحمه الله: [ويرجع الزوج به على المكره]

    يطالب الزوج بجميع الصداق إن كان قد دخل على هذه التي فسد نكاحها، أو يطالب بنصفه إذا لم يدخل، فيدفع هذا، ثم بعد أن يدفع، نقول له: أقم دعوى، وطالب من تسبب بهذا الإفساد، إن كان الإفساد ناشئاً منه، وطالبه بالمهر كله إن كان بعد الدخول، وطالبه بنصفه إن كان قبل الدخول.

    1.   

    حكم من قال لزوجته: (أنت أختي من الرضاع)

    قال رحمه الله: [ومن قال لزوجته: أنت أختي من الرضاع بطل النكاح]

    ومن قال لزوجته: أنت أختي من الرضاع، فقد أقر واعترف أنها لا تحل له، فيؤاخذ بإقراره؛ ولذلك بينا أن أقوى الحجج وأقوى الأدلة: الإقرار. وهذا ما يسميه بعض العلماء: بسيد الأدلة. والسيد في لسان العرب: هو المقدم في كل شيء.

    فقالوا: إذا أقر بأنها أخته؛ فإنه في هذه الحالة يؤاخذ بإقراره، ويلزم به، ويحكم بالمحرمية ظاهراً، أي: أنها حرمت عليه، بناء على القول الذي قاله شهادة من نفسه على نفسه ببطلان النكاح، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، لكن لو كان يريد من قوله هذا أن يسقط حق المرأة، فحينئذ يتهم؛ لأن الشهادة حجة، والإقرار حجة، مالم تدخله التهمة، فإذا دخلته التهمة ضعف الاحتجاج به، كإقرار المجنون فهو متهم، وليس بمقبول، ولا بحجة؛ لأنه قد يكذب على نفسه، إذ ليس عنده عقل، وكذا إقرار السكران لا يعتد به، ولذلك لما جاء ماعز وأقر واعترف، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمراً؟!)؛ لأن السكران إقراره محل تهمة، فهنا التهمة عندنا في العقل والإدراك، وقد تكون التهمة في جلب النفع أو دفع الضرر.

    فإذا قال لها: أنت أختي من الرضاع، وكان قد استحق عليه مهرها، حينئذ يتخلص من المهر، لأنها لم تعد له بزوجة له، وحينئذ يفسخ نكاحها.

    قال رحمه الله: [فإن كان قبل الدخول وصدقت فلا مهر]

    إذا صدقت الزوجة فما عندنا إشكال في فسخ النكاح، ومسألة إسقاط المهر قبل الدخول بلا إشكال؛ لأن العقد إذا كان على أخته من الرضاعة، أو ابنته من الرضاعة، أو عمته من الرضاعة فهو عقد فاسد وباطل، لا يُستحق فيه المهر لا نصفاً، ولا كلاً، فحينئذ في هذه الحالة يسقط، فإذا صدقته قبل الدخول؛ فلا شيء لها.

    قال رحمه الله: [وإن أكذبته فلها نصفه]

    وإن أكذبته قبل الدخول، قالت: لست بأخ لي من الرضاع، والدتي ما أرضعتك، أو أنا لم أرتضع من والدتك، وهذا الكلام الذي تقوله ليس بصحيح -فكذبته- ويقع هذا إذا كان الرجل لا يخاف الله- نسأل الله السلامة والعافية- أو رجل كثير التهم والشكوك، يصدق أقل شيء، فجاء شخص يريد الزوجة، فأوعز إلى شخص ضعيف النفس، فما تصدقه المرأة، لكن إذا كان شخصاً ثقة، وقال: أنا وهمت. فكأن بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وغيره يقبل منه العذر، قال: أنا كنت أظنها فلانة بنت فلان، لكن تبين لي أنها غيرها، وأنا رضعت من فلانة، فحينئذ الغالب صدقه، إذا كان الرجل أسند إلى عذر مقبول، فيرى بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وبعض السلف أن عذره مقبول، وأنه يحكم بقوله، فهنا إذا كذبته، تستحق نصف المهر.

    ما هي القضية؟ القضية أن الزوج لما عقد على هذه الزوجة؛ استحقت نصف المهر لو فارقها قبل الدخول، إذا كان العقد صحيحاً وشرعياً، فحينما يدعي الفسخ، كما لو أقر أنها أخته من الرضاع، فيفسخ النكاح بناءً على إقراره، ويؤاخذ بهذا الإقرار، لكن بالنسبة للحقوق لا يسقط المهر إذا كذبته، ولا يسقط لها نصف المسمى، لأنها تستحق نصف المسمى، ويحكم بالظاهر بانفساخ العقد، لأنه أقر على نفسه أنها لا تحل له.

    قال رحمه الله: [ويجب كله بعده]

    ويجب عليه دفع الكل بعده، لأن إقراره موضع تهمة؛ لأنه يتهم بأنه يريد أن يسقط مهرها، إذ لو فتح هذا الباب؛ فكل رجل استمتع بالمرأة، وانتهى وطره منها، قال: هذه أختي من الرضاعة، أو بنت أختي من الرضاعة- نسأل الله السلامة والعافية- قد يفعل هذا، ويفتح هذا الباب لك شخص حتى يتخلص من حق زوجته في مهرها.

    قال رحمه الله: [وإن قالت هي ذلك، وأكذبها فهي زوجته حكماً]

    وإن قالت له: أنت أخي من الرضاعة، فإنه في الظاهر يعمل بقولها، وفي باطن الأمر يجوز له أن يستمتع بها، لأنه لم يكن ثم شيء يدل على صدق هذه الدعوى، أي: من حيث الباطن هي زوجته، وتحل له، لكن وجود هذه التهمة في الظاهر حكماً، تمنع الحكم ظاهراً باستحلاله لها، لأنها من حقها أن تمتنع منه، إذا أقرت، أو تبين لها أنها أخته من الرضاع، ويقع هذا-نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الحوادث -مرت علينا- أن امرأة اكتشفت -ولم تكن تعلم بهذا- أنها مكثت مع أخيها من الرضاع عشرين سنة، وأنجبا أطفالاً، وهذا يدل على أن الرضاع ينبغي أن يحتاط فيه، وأن على الأم وعلى أهل الولدين أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحفظوا الرضاع، وأن لا يضيعوه، فالأم إذا كان ولدها ارتضع وهو صغير، فتخبره، تقول له: يا بني، أنت ارتضعت من بني فلان، وتحدد له المرأة التي ارتضع منها، وهكذا الأخت إذا علمت أن هناك رضاعة لأخيها؛ بينت له، حتى لا يقع في الحرام، لأن هذه الأمور يعظم ضررها إذا تساهل الناس فيها، وذكر بعض أهل العلم أن شخصاً تبين له أن زوجته أخت له من الرضاع ففقد عقله، ما استطاع أن يتحمل الصدمة، ويقع هذا في النساء أيضاً، وهذا يدل على أن ضررها عظيم جداً، ولذلك ينبغي أن يحتاط لهذا الأمر.

    1.   

    حكم الشك في الرضاع أو كماله

    قال رحمه الله: [وإذا شُك في الرضاع أو كماله، أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم]

    يقول المصنف رحمه الله: (وإذا شُك في الرضاع) الشك: استواء الاحتمالين، دون وجود مرجح، فإذا استوى الاحتمالان وجوداً وعدماً، فإننا نبقى على الأصل، فنحن لا نحكم بالرضاع إلا إذا ثبت وجوده، أما إذا لم يثبت أن هناك رضاعاً فإننا لا نحكم بالشكوك، لأن الأصل واليقين أنها أجنبية، وأنها حلال، ولا نعدل عن هذا اليقين إلا بيقين مثله.

    (أو كماله)

    مثلاً: قالت المرضعة: أرضعته أربع رضعات وأنا متأكدة منها، لكن الخامسة أشك فيها. هل تم العدد أو لا؟ فحينئذ يقال: اليقين أنها أربع رضعات حتى يستيقن أنها خمس.

    (أو شكت المرضعة ولا بينة)

    يعني: شكت هل هذا محمد الذي ارتضع منها أو غيره، ولا بينة تبين حقيقة الحال، وسميت البينة بينة؛ لأنها يتبين بها جلي الأمر، ويكشف فيها وجه الحق، ويظهر بها الصواب، فإذا لم تكن هناك بينة، يعني: ما كان هناك شهود يبينون من الذي رضع، فحينئذ لا نحكم بهذه الظنون، ولا نحكم بهذه الاحتمالات، ويبقى الحكم على الأصل.

    (فلا تحريم)

    أي: أن عقده عليها صحيح وهي زوجته، حتى يثبت له موجب التحريم بيقين، ولذلك تقدم معنا في القاعدة الشرعية: (اليقين لا يزال بالشك) فإذا شك في الأعداد بنى على الأقل الذي هو اليقين، ودائماً إذا شك هل هناك رضاع؟ أو ليس هناك رضاع؟ فمعناه: هل هي حرام، أو حلال؟ فالأصل أنها حلال حتى نستيقن أنها حرام، وإذا شك هل هي أربع رضعات أو خمس؟ فاليقين أنها أربع، والخامسة محل شك، فنبني على الأربع، وقس على هذا مثلها من المسائل.

    1.   

    الأسئلة

    جريان الأحكام الشرعية الخمسة في الرضاع حسب الأحوال

    السؤال: هل الرضاع مندوب إليه في الشرع، ووردت نصوص في الترغيب فيه، أم هو على الإباحة فقط؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    الرضاع الأصل فيه أنه حلال، مباح، ولا بأس به، ولا حرج، لكنه يكون واجباً إذا كان إنقاذاً لنفس، كما لو رأت امرأة رضيعاً يكاد أن يموت ويهلك، ويحتاج إلى من يرضعه، فقامت بإرضاعه، فهو واجب؛ لأن إحياء النفس واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا توقف على الرضاع فالرضاع واجب.

    يكون مندوباً إليه إذا كان هذا الرضيع يجد مرضعة غير صالحة، مثلما ذكر أئمة السلف ودواوين العلم كأن تكون المرضعة -نسأل الله العافية- بغياً من بغايا الزنا -أعاذنا الله وإياكم- أو امرأة كافرة، أو مشركة من أهل الكتاب، يهودية، أو نصرانية، أو كانت وثنية، فلا يوجد إلا المسلمة، مثلما يقع الآن لبعض الجاليات في الخارج، وفي هذه الحال تكون هناك مرأة مسلمة فيها لبن، وجميع من حول هذا الرضيع كافرات، أو من المومسات البغايا، فلا شك أن ارتضاع الرضيع من غير المسلمة يضره، لذلك كان عمر رضي الله عنه يشدد في الرضاع، وينهى عن الارتضاع من الفاجرات، والكافرات، كما روى عنه ابن أبي شيبة وغيره ويشدد فيه -رضي الله عنه وأرضاه- ويقول: (إن الرضاع يعدي)، يعني: يؤثر في الأخلاق، ولأنه إذا ارتضع من الكافرة ربما أثرت عليه في الدين، وربما أثرت عليه في العقيدة، والولد يحن إلى أمه من الرضاع في بعض الأحيان كما يحن إلى أمه من النسب، وقد يحن إلى أمه من الرضاع أكثر من أمه من النسب إذا ماتت، فإنه حنين الرضاع، لذلك تجد الولد الذي ارتضع عنده من الحنان، والعاطفة، أكثر من الولد الذي يرضع من الحليب المجفف المعلب، فإنه غالباً ليس كالذي رضاعته طبيعية فهذا تجد عنده من الحنان، والشفقة، والعاطفة ما ليس عند غيره ، الآن بعض من رضع حليباً مجففاً ولم يرضع من أمه تقول له: أمك مريضة، يقول: خذوها المستشفى، ما يبالي أبداً، وهذا مشاهد وهو دليل حسي واضح.

    على كل حال: الرضاع يؤثر.

    ويكون واجباً إذا كان فيه إنقاذ نفس، ويكون مندوباً شديد الندب إذا خشي على الولد أن يرتضع رضاعاً يضره، خاصة إذا كان قريباً أو ذا رحم، مثلاً: امرأة ترضع ابن أختها، أو ابن أخيها، جبراً لخاطر أختها، فيكون مندوباً، وفيه فضل وصلة رحم، وفيه إدخال سرور على قريب، وإدخال السرور على القريب منه من الأجر والمثوبة أكثر من غيره.

    ويكون الرضاع محرماً: إذا قصد به تحريم الحلال، مثلما يفعل البعض -نسأل الله السلامة والعافية- ترضع المرأة بنات العم، حتى لا يتزوج أولادها من بنات أخي زوجها، فتريد أن تجذب -مثلاً- بناتها أو أبناءها إلى قرابتها هي، ويفعل هذا بعض النساء، وهذا غرض سيء، وقصد سيء لتحريم ما أحل الله، ولأنه يقصد به قطع الصلة، من المحبة التي تكون بالزواج والنكاح، فإذا قُصد به محرم فهو محرم للقصد، وإذا قُصد به القيام بواجب كإحياء نفس فهو واجب، وإذا قصد به مندوب فهو مندوب. فعلى كل حال: يختلف الحكم باختلاف الحال، لكن الأصل العام أنه مباح، والأصل العام أن الوالدة المرضعة لها أجر ومثوبة، ولذلك يكون في مقام المندوبات؛ لأن فيه مشقة وعناء، ولذلك أحل الله للمرأة المرضعة أن تفطر؛ لأنها من الذين يطيقون الصيام ويجدون فيه المشقة والكلفة والعناء، ووجود العناء قدره الشرع في هذه المرضعة، وما كان فيه عناء، ففيه أجر، وفيه مثوبة، خاصة إذا كان فيه إصلاح للنفس، وإنقاذ لها. وذكر بعض العلماء أن المرأة إذا كانت حمقاء، أو عصبية، أو هوجاء معروفة الهوج، فلا ينصح باسترضاعها؛ لأن الرضاع يؤثر في الطباع، وهناك حكمة يقولونها: (الرضاع يؤثر في الطباع) حتى قال بعضهم: الرضاع أشد من الطباع، يعني: أن توارث الأخلاق يأتي من الرضاع أكثر مما يأتي من النسب؛ لذلك إذا خافت المرأة المرضعة أن يرتضع الطفل من امرأة عصبية، أو فيها مرض، أو فيها بلاء، وأرادت جذبه إليها، فقد أحسنت،وأجرها أعظم، فيختلف الحكم بحسب اختلاف الأحوال، والله تعالى أعلم.

    الفوارق بين الرضاع والنسب

    السؤال: ما هي الفوارق أو المسائل المستثناة، التي بين الرضاع والنسب كانعدام الإرث في الرضاع مثلاً؟

    الجواب: الفروق تحتاج إلى ضوابط، فالنسب شيء والرضاع شيء آخر، فالذي يثبته الرضاع هو من جهة المحرمية، والحرمة، وما ذكرناه من آثاره، ولا يثبت إرثاً، وإنما النسب هو الذي يثبت إرثاً.

    والرضاع لا يُثبت عقلاً، يعني: لو قُتل الشخص خطأً فتعقل عنه عاقلته -عصبته- وهم أقاربه الذكور من النسب؛ فأخوه يعقل عنه، وعمه، وابن عمه، وأبوه، وجده، ولكن الابن من الرضاع، والأخ من الرضاع، والعم من الرضاع، لا يشارك في العقل -وهو الدية-.

    كذلك أيضاً بالنسبة للنفقات: النسب يوجب ثبوت النفقة: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]. فإذا افتقر الابن بعد بلوغه، ورشده، ولم يستطع، ولم يجد كسباً، لزم الأب أن ينفق عليه، وأن يعوله، وأن يقوم عليه، لكن لو أن ابناً من الرضاعة افتقر، فلا يلزم أن الرضاع بما يلزم به الأب من الإنفاق عليه.

    ومن الفروق: أنه لا يجوز إعطاء الصدقة للابن من النسب، وهل الابن من الرضاعة يحرم أن يعطيه أو لا يحرم؟ قال بعض العلماء: لا يحرم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني). وقالوا -بناءً على ذلك-: يجوز له أن يعطيه؛ لأنه ليس بضعة منه. وقال بعض العلماء: إنه بارتضاعه اللبن يكون في حكم البضعة من الشخص، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن الرضاعة تنشز العظم، وتنبت اللحم). فلا يعطى، وهذا نص عليه غير واحد من العلماء، فحينئذ يستوي الرضاع مع النسب أو لا يستوي على الخلاف المعروف في مسألة النسب.

    كذلك أيضاً في مسألة الإرث: النسب يوجب ثبوت الميراث، بينما الرضاع لا يوجب الإرث.

    مسألة الصلة: الأم من النسب، والأخ من النسب، والعم من النسب، والخال من النسب، له حق من الصلة، ولكن الرضاع لا يكون له من الصلة ما يكون للنسب، فليس من ذوي الأرحام الذين أمر بصلتهم أمراً لازماً، ولذلك فرق بين ما يكون من الرضاعة وما يكون من النسب.

    والفوارق بين الرضاع والنسب ذكرنا أكثرها، والرضاع -في الأصل- أكثر ما يجري عليه من أحكام؛ يجري في مسألة المحرمية، وثبوت الآثار المتعلقة بالنكاح، والخلوة، والنظر، والسفر، وغير ذلك.

    حكم الصلاة بعد الوتر إذا كانت تطوعاً أو ذات سبب

    السؤال: أشكلت علي مسألة أنني صليت الوتر، ثم أتيت المسجد، فصليت تحية المسجد، ففقدت فضيلة الوتر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً). فكيف أدرك هذه الفضيلة؟

    الجواب: هناك فرق بين أن تقول: فقدت فضيلة الوتر، وبين أن تقول: فقدت فضيلة تأخير الوتر، ففضيلة الوتر ما تفوت، والوتر لك أجره، فالله تعالى يقول: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195]. فأجرك ثابت، ووترك ثابت، وأبشر بخير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما أوتر، كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أنه صلى ركعتين بعدما أوتر. وبعض أهل العلم قالوا: فعل ذلك لبيان الجواز، وأنه يجوز أن تصلي الشفع بعد الوتر، وقوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) هذا لمن يقوم آخر الليل، فإذا قمت في آخر الليل وأردت أن تصلي؛ فصلِّ ما شاء الله بعد أن تنقض أول الوتر الذي أوترته، ثم تصلي ما شاء الله، ثم توتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وتران في ليلة). فلما قال: (لا وتران) دل على أن الوتر ينقض الوتر، وأنت إذا أوترت في أول الليل، وتريد فضيلة آخر الليل، فقد بنيت على ظن بان خطؤه، كأن كنت تظن أنك ما تستطيع آخر الليل أن تقوم، فإذا قمت نقضت الوتر الأول بركعة، ثم بعد ذلك صلِ شفعاً ثم أوتر، وهو فعل مأثور عن علي رضي الله عنه ، وعبد الله بن عمر، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر السنة يدل عليه إذا كان في آخر الليل، أما إذا أوترت من أول الليل، ثم صليت ركعتي الوضوء، أو تحية المسجد، أو أردت أن تتنفل، أو أردت أن تسأل الله من فضله، أو تستغفر من ذنب، فصليت ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، أو ثمانيَ، فلا بأس؛ لأن الشفع بعد الوتر جائز، ولكن الأفضل والأكمل إذا قمت في آخر الليل أن تجعل آخر صلاتك بالليل وتراً.

    فلو قمت آخر الليل، وليس عندك نية أن تصلي، ولكن تريد أن تصلي الفجر، فتترك الوتر الأول كما هو، ولك أن تصلي ركعة، ثم تصلي ما شاء الله، ولو ركعتين، ثم توتر، فكله جائز، والأمر على السعة -والحمد لله- وقد دلت السنة على جميع ذلك، دلت على أنه يجوز أن توتر من أول الليل، قالت عائشة رضي الله عنها: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوله، وأوسطه، وآخره). وفي رواية: (من أوله، وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر). وهذا يدل على السعة والحمد لله، فليس هناك إلزام بشيء، لكن الأفضل والأكمل أنك إذا قمت آخر الليل أن تنقض وترك، ثم تشفع، ثم بعد ذلك تصلي وتراً لكي تصيب دعوة في السحر، وتصيب الدعوة في الوقت الذي تستجاب فيه الدعوة؛ ولأن الصلاة في هذا الوقت أعظم أجراً، وأعظم مثوبة، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر). وقال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن). هذا يدل على فضل أن تكون صلاتك في هذا الوقت.

    والسبب الثالث: أنك تمتثل السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتك بالليل وتراً). والله تعالى أعلم.

    حكم من أكل ولم يعلم بدخول الفجر

    السؤال: شخص استيقظ من الليل، فشرب وأكل، يظن الفجر لم يؤذن، وعندما انتهى سمع إقامة الصلاة، فظهر له أنه أكل بعد الأذان. فماذا عليه؟

    الجواب: ينبغي أولاً على الإنسان أن يحتاط، فإذا أمكنه أن يسأل، أو أمكنه أن يرجع إلى الساعة، أو أن يتحرى؛ لزمه، لأن حق الله عز وجل في هذا الوقت أن تمسك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فينبغي الاحتياط في حق الله، أما أن يقوم ويدعي أنه لا يعلم شيئاً، ثم يذهب إلى طعامه وشرابه ويأكل، وبعد أن يأكل يبحث هل دخل الفجر أو لا، لا يجوز، فلا يرضى أحد لحقه أن يضيع بهذا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله لا يخادع) يعني: لا يخدع أحد ربه بهذا، ويذهب بعض الذين يترخصون ويقول: لا يلزمه أن يسأل بل يأكل ويشرب، ثم يسأل! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى). هذا في الحج، فبين أن حق الله عز وجل لا يتساهل فيه، فهذه حرمات ينبغي حفظها، وحدود، ولذلك ذكر الله عز وجل بعد الصوم أنه من حدود الله، وأن علينا أن نتقي الله عز وجل، فذكر حدوده، وأمر بتقواه سبحانه وتعالى،وأن لا نقربها، فالواجب على المسلم أن يتحرى،وأن يصبر، ولعل الله عز وجل أن يبتليه في تلك الليلة فيقوم بعد ما أذن الفجر فلا يعلم مقدار أجره وصبره إلا الله وحده لا شريك له .

    الصوم وحده من الأعمال التي لا يعلم ثوابها إلا الله وحده لا شريك له: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). قالوا: جعله مفتوحاً؛ لأنه يقوم على الصبر، والله يقول عن الصبر والصابرين: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. وكان بعض العلماء يقول: إن من أجره: أن لو صام عبد وصدق في صومه، وأتم لله الصوم، فقامت عليه الحقوق كَثَّر الله أجر الصيام، حتى تقضى عنه الحقوق والمظالم؛ لأنه قال: (فإنه لي وأنا أجزي به). وإذا كان الصوم بعناء، ومشقة، وكدح، وابتلاء، فأجره أعظم، وثوابه عند الله أجل، وأكبر، والصوم بتقوى، وخوف، وورع، بأن يتحرى، ويلزم نفسه الموارد، ولا يضع نفسه في الأمور المشتبهة، فهذا أعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى، وأثقل في ميزان العبد، وأتقى لله عز وجل؛ ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضله سلباً وإيجاباً، ففي الإيجاب عظيم أجره حينما قال: (إلا الصوم فإنه لي). هذا في الثواب، وأما في دفع الأشياء، ودفع الضرر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة). والجُنة: الوقاية، قالوا: إنه جُنة للعبد من النار، فإذا مضى على الصراط؛ فإنه لا يحفظه شيء بعد الإيمان بالله عز وجل مثل إقامته للصوم على أتم وجهه وأكمله، فإذا كانت الجُنَّةُ مخروقة، أو فيها تضييع، فحينئذ يأتيه من كلاليب النار، وخطفها، وخدشها، على قدر ما ضيع من جنته والعياذ بالله.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتولانا برحمته، وأن يجبر كسرنا، وأن يرحم ضعفنا، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين، ونسأله بعزته، وجلاله، وعظمته، وكماله، أن يجعلنا وإياكم ممن صام الشهر فاستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر، وأفضل له ربه من الخير، والفضل، والأجر، والإحسان، والبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756519554