إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب اللعان [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مسائل إلحاق الولد بوالده في نسبته إليه من المسائل المهمة التي اعتنت بها الشريعة الإسلامية، وجاءت نصوص الكتاب والسنة تبين أحكام هذه المسألة التي تعم بها البولى، ويحتاج إلى الفصل في كثير من مشاكلها.

    1.   

    مناسبة ذكر مسائل إلحاق الولد بوالده في كتاب اللعان

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا الفصل في الحقيقة ليس من فصول اللعان، وليس هو من المسائل التي تتعلق بباب اللعان من كل وجه، ولكنه مختص بمسألة الأنساب، وإلحاق الولد بوالده في نسبته إليه، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يذكرون المسائل المتشابهة في أقرب المظان، فمسألة الأنساب مسألة مهمة، وتترتب عليها حقوقٌ شرعية، ولذلك اعتنت الشريعة الإسلامية بها، وجاءت نصوص الكتاب والسنة تبين أحكام هذه المسألة التي تعم بها البلوى ويحتاج إلى الفصل في كثير من مشاكلها؛ لأن مسألة النسب تقوم على الإثبات والنفي، فإما أن يثبت نسبة شخص إلى والديه، وإما أن تنفى هذه النسبة، فنظراً إلى أن مسائل النسب فيها إثبات ونفي، وبعض مسائل اللعان تتضمن نفي الولد، فنظراً لوجود هذا الاشتراك ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بذكر أحكام النسب ولحوق الولد بعد باب اللعان؛ لأن اللعان في بعض صوره فيه نفي الزوج للحمل، أو ينفي الولد الذي وضعته زوجته، فينفي نسبته إليه، وحينئذٍ يرد السؤال: ما هو الأصل في هذه المسائل؟ هل الأصل أن كل من ادعى نسبة ولدٍ إلى شخص أنه يصدق ويقبل منه أم أن الأمر فيه تفصيل؟ هذا ما سيوضحه المصنف رحمه الله في هذا الموضع.

    1.   

    البرهان الذي يقيمه من ادعى نسباً إلى رسول الله

    مسألة النسب تارة تكون من رجل يدعي نسبة ولدٍ إليه، وتارة تكون من ولدٍ يدعي النسبة إلى رجلٍ آخر ويقول: إنه والده، وقد يدعي ذلك في حال حياة الشخص، ويطالب بإثبات نسبه إلى ذلك الشخص، وتارة يدعي ذلك بعد موته، وقد تحصل الدعوى لشيءٍ عظيمٍ كريم كأن يدعي نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الأنصار وغيرهم ممن لهم فضل ومكان، والأصل أن الناس مؤتمنون على أنسابهم إلا من ادعى الشرف، فإن من ادعى الشرف والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى من لهم الفضل كالأنصار ونحوهم ممن لهم حق في الإسلام فإنه لا تقبل منه الدعوى مجردة، لكن لو كان يعلم بشهادة العدول من قرابته الذين يأتمنهم في دينه، حيث قالوا له: نحن من آل البيت، أو عندنا ما يثبت أننا من آل البيت، فإن من حقه أن يبني على شهادة من يثق بهم.

    فلا يقبل من أحد أن يدعي النسب والشرف إلا أذا أثبت، والإثبات يكون بالشجرة -كما هو معلوم- التي يعرفها أهل الخبرة، ويكون بشهادة العدول أن فلاناً من آل فلان، ويكون آل فلان قد ثبت نسبتهم إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون الإثبات بما يسميه العلماء: شهادة السماع، وشهادة السماع هي: أن يعرف بين الناس أن البيت الفلاني أو الفخذ الفلاني أو القبيلة الفلانية تنسب إلى كذا وكذا، فإذا اشتهر بين الناس أن هذا البيت من آل البيت فإنه يلحق ويحكم بثبوت نسبه بهذه الشهادة، وهذه التي يسميها العلماء: شهادة السماع، يعني يتسامع الناس في بيئة أو حي أو قبيلة أو جماعة بأن بني فلان من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بني فلان من آل البيت، فيحكم بهذه الشهادة.

    وقد ذكر غير واحد من العلماء رحمهم الله أن شهادة السماع حجة في النسب، وشهادة السماع هي أن يستفيض في البيئة أو المجتمع أو بين الناس الذي يعيش بينهم نسبة هذه الجماعة أو هذا الفرد إلى تلك الجماعة وحينئذٍ يحكم بهذا ويعمل به، كما هو معلوم في باب الشهادات.

    1.   

    الأمر المترتب على من انتسب إلى غير أبيه

    الحاصل: أن الشريعة الإسلامية حرمت على المسلم أن ينفي نسبة ولدٍ من ولده، وحرمت على المسلم أن ينتسب لغير والده، فإذا انتسب الإنسان إلى غير والده فقد اعتدى على حدود الله، وانتهك محارم الله، وحلت عليه لعنة الله والعياذ بالله! لأنه عق والده، وقطع رحمه، وكذب في النسب، والكذب في النسب تترتب عليه حقوق، وتترتب عليه أمور عظيمة، وقد تكون هناك أمور مرتبة على وجود هذا النسب، فبنفيه وإبطاله له تسقط هذه الحقوق؛ كحق العاقلة، وحق الإرث، ونحو ذلك، فيسقطه عن آله وقرابته، ممن يلد أو ممن ينسب إليه.

    1.   

    جزاء من نفى نسبة ولده إليه

    كذلك أيضاً لا يجوز للوالد أن يعتدي على حدود الله عز وجل فينفي نسبة ولدٍ من ولده، إلا إذا كان عنده ما يدل على عدم نسبته إليه فهذا أمرٌ آخر، أما من حيث الأصل فإنه كفرٌ بنعمة الله، وهذا من أعظم الظلم؛ لأن الظلم مراتب، وأعظم ما يقع الظلم إذا كان على القرابة، وإذا كان الظلم على أقرب الناس إلى الإنسان وهم أولاده فهو أعظم ذنباً عند الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء أن الذنب مع الغريب ليس كالذنب مع القريب، فالذنب مع القريب ذنبٌ وقطيعة رحم، فكيف إذا كان من أقرب قريب الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بضعة من الإنسان فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعةٌ مني) .

    وقد تهور كثيرٌ من الناس -إلا من رحم الله- وتفننوا في مسألة أذية الولد إلى درجة أن الوالد يقول لولده عند الغضب: لست بولدي ولا أعرفك ولا تعرفني! فيتبرأ منه، وهذه كلمة عظيمة جداً، ينبغي أن يحذر منها الناس، وينبغي على الخطباء وطلاب العلم أن ينبهوا الناس إلى هذا الأمر؛ لأنه اعتداءٌ لحدود الله عز وجل، وإذا أخطأ المخطئ فإنه يقوم في خطئه، ولا تزال الحقوق الثابتة ويدعى غير الحقيقة، فالتبري من الأولاد عند حدوث خطأ أو شيء من ذلك لا يجوز شرعاً؛ إلا في مسائل محددة دلت عليها الشريعة، ومنها البراءة في مسألة الولاء والبراء في العقيدة، وهذه مسألة خاصة والتبري فيها له حدود وله ضوابط، ولا يتعرض للنسب، بل لا يجوز للوالد إذا أغضبه ابنه أو أخطأ عليه وهو مسلم وابنه مسلم أن يتبرأ منه إلى درجة أن يحرمه من الإرث وكأنه أجنبي نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم الذنب، ولذلك ذكروا أن من علامات سوء الخاتمة والعياذ بالله! الجور في الوصية، وذلك بحرمان المستحق من الورثة، فهذا ممن يختم له بخاتمة سيئة، حتى أن بعض العلماء ذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، قالوا: هذا يكون من أصناف أهل الكبائر فيدخلها دخول أهل الكبائر المعذبين، فيظلم ولده فيتبرأ منه فيقول لأولاده: فلان لا تعطوه الإرث، فلان ليس مني ولست منه، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة التي توجب دخول النار والعياذ بالله! بناءً على أنها من كبائر الذنوب لما فيها من الظلم وحرمان المستحق من حقه.

    الشاهد أن باب نسبة الولد لوالده بينت الأصول الشرعية في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وهو أن ينسب المولود لوالده، ولذلك قال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الأصل في قوله: (الولد للفراش) كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين، فدل على أن المرأة إذا ولدت ولداً على فراش زوجها فالولد منسوب إلى ذلك الزوج.

    1.   

    الأحوال التي يحكم فيها بلحوق الولد إلى والده

    سيبين رحمه الله في هذا الفصل متى يحكم بلحوق الولد ونسبته إلى صاحب الفراش؟ ومتى يحكم بعدم اللحوق؟ وهذه مسائل -كما ذكرنا- مهمة جداً، ولها أهمية، خاصة النفي إذا كان في غير موضعه أو الإثبات إذا كان على غير وجهه.

    أن يكون الزوج ممن يمكن أن يولد لمثله

    قال المصنف رحمه الله: [من ولدت زوجته من أمكن كونه منه لحقه ].

    (من ولدت زوجته) هذا شرط أن تكون زوجة له، والأصل أن يكون الزواج زواجاً شرعياً صحيحاً، فلا إشكال حينئذ في نسبة الولد للوالد، وأيضاً لو كان الزواج فيه خطأ ويعتقد أنه زواجٌ شرعي، مثل أن ينكح نكاح الشغار ويظن أنه نكاح صحيح، يزوج هذا بنته على أن يزوجه الآخر بنته ويقع النكاح بينهما ثم يولد لأحدهما، فينسب الولد إلى والده مع أن النكاح محرمٌ شرعاً ولا يجوز، فإذا كان في نكاح صحيح، أو نكاح فاسد وعنده تأويلٌ ويظن أنه صحيح؛ فإن الولد يلتحق به، أو نكح المرأة بدون إذن وليها ويظن أن هذا جائز، ولا يعتقد اشتراط الولي وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله فالعقد فاسد، لكن الولد يلتحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي)، كما تقدم معنا في باب النكاح.

    فالشاهد أنه إذا كان الولد ناتجاً عن وطء في نكاح صحيح أو نكاح فاسد أو ناتجاً عن وطء شبهة -هذه ثلاث صور- فإن الولد يلتحق، ووطء الشبهة مثل أن يأتي شخص إلى امرأة يظنها زوجته وتظنه زوجاً لها، ويطؤها على خلوٍ وبراءة ثم بعد ذلك يتبين أنها ليست بزوجته وتحمل من هذا الوطء، فالولد ينسب لهذا الواطئ، ويكون وجود الشبهة موجباً لدرء الحد.

    كذلك لو تزوج أختاً له -نسأل الله العافية- من الرضاع وهو لا يدري، ثم بعد عشر سنوات أو عشرين سنة تبين أنها أخته من الرضاع، فيفرق بينهما، ويعذر لعدم علمه وجهله بالحكم، ثم ينسب جميع الأولاد الذين ولدوا إليه، وحكم من ولدت زوجته في نكاح صحيح أو نكاح فاسد حكم الموطوءة بشبهة.

    وقوله: (ولدت من أمكن): عندنا ضابط يتعلق بالزوج، وضابط يتعلق بالموطوءة التي هي الزوجة، فمعنى الإمكان الذي ذكره المصنف رحمه الله أنه لابد وأن يكون الزوج ممن يمكن أن يولد لمثله، فقد يكون زوجاً لا يمكن أن يولد لمثله، مثلاً قال: أريد بنتك -يخاطب شخصاً آخر- فلانة لابني محمد، ومحمد عمره سبع سنوات، قال: قبلت، وعقد النكاح بينهما، ثم إن هذه البنت حملت! ابن سبع سنوات وثمان سنوات لا يمكن أن تحمل المرأة منه ولو وطئها، فمثله غير داخل في الإمكان، فهناك إمكان جرت العادة والحس بإمكانه.

    عدم نقصان مدة الحمل عن ستة أشهر

    قوله: (ومن أمكن) أي: أن يولد لمثله، وكذلك تكون المرأة أيضاً في حملها ووضعها على صفة لا يستحيل أن ينسب الولد إليه، وهذا ما فسره رحمه الله بقوله: [بأن تلده بعد نصف سنة].

    بأن تلد الولد بعد نصف سنة من دخوله عليها، فإذا كان دخوله في أول السنة وولدت بعد ستة أشهر من دخوله، فإن الستة الأشهر زمن يمكن أن يكون به الحمل، فينسب الولد للداخل، لكن لو كان قبل ستة أشهر فلا يمكن؛ لأن الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، فجعل الحمل مع الفصال -يعني: انتهاء مدة الرضاع حين يفصل الولد وينتهي من الرضاع- ثلاثين شهراً، الرضاع له سنتان، أي: أربعة وعشرون شهراً لقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، فالحولان أربعة وعشرون شهراً، وإذا كان الله عز وجل يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15] فبقي من الثلاثين ستة أشهر، وهي أيام الحمل.

    ومن فقه العلماء أنهم فرعوا من هذه الآية الكريمة ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الأحكام الشرعية، بل كان بعض مشايخنا يقول: لو شئت أن أوصلها إلى مائة مسألة لأوصلتها! وكلها من قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، ومنها مسائل الحمل والإثبات خاصة عند اختلاط الأنساب، وحصول وطء الخطأ، ووطء الشبهة، ومسألة إسقاط الجنين إذا كانت المرأة توفيت وفي بطنها جنين فمتى يشق بطنها؟ كل هذه المسائل تتعلق بالستة الأشهر التي جعلوها زمن الإمكان لدلالة نص القرآن عليه، حتى الأطباء يستفيدون من هذه الآية الكريمة، فالستة الأشهر هي مدة الحمل، فإذا ولد الجنين في أقل منها فإنه ينسب إلى الداخل السابق، لا إلى الداخل الأخير، فإنه إذا ولدت قبل ستة أشهر من دخوله عليها فمعنى ذلك أن الحمل من غيره لا منه هو؛ لأنه لا يمكن أن يقع حمل ووضع قبل ستة أشهر، وبناءً على ذلك قال المصنف رحمه الله: (بأن تلده بعد نصف سنة) أي: ستة أشهر، السنة القمرية اثنا عشر شهراً، فإذا ولدت بأقل من ستة أشهر فإنه لا يمكن أن ينسب الولد إليه.

    قال المصنف رحمه الله: [منذ أمكن وطؤه ].

    القضية ترجع إلى دخوله عليها، فما هو الضابط في السن؟ هل العبرة بتسع سنين أو بعشر سنين أو باثنتي عشرة سنة أو بخمس عشرة سنة؟ ومتى يبلغ الذكر حتى يتأتى منه المني وتحمل امرأته؟ الضابط عند بعض العلماء عشر سنوات، وهي سن التمييز، فإذا دخل في العاشرة فإنه يمكن أن يحتلم، فمن الناس من يبكر ويحتلم وهو في العاشرة، فقالوا: العشر هي أقل حد، فإذا حملت منه وعمره تسع سنين لا ينسب إليه، ولو حملت منه وعمره ثمان سنين لا ينسب إليه؛ لأنه في الغالب -والحكم للغالب- لا يحتلم في مثل هذه السن، وقالوا: سن التمييز ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وهي أقل ما يمكن أن يكون فيها الاحتلام، وبعض الأطباء المتأخرين يقولون: فعلاً في الطب ما يشهد بصدق من قال من الفقهاء بهذا القول، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام حينما أمر بضرب الصبي لعشر.

    على كل حال، الأصل أنه لابد أن يكون حمل هذه المرأة يمكن أن ينسب لزوجها، بأن تلده بستة أشهر منذ أمكن وطؤه، فالعبرة بالوطء الذي يتأتى منه الحمل، فإذا كان إمكان الوطء له أربعة أشهر أو خمسة أشهر؛ نسب إلى ما قبله لا إليه.

    عدم زيادة مدة الحمل على أربع سنوات

    قال المصنف رحمه الله: [أو دون أربع سنين منذ أبانها].

    هنا تحتاج إلى معرفة أقل مدة الحمل وأكثر مدة الحمل، فقد يطلق الزوج المرأة ثم بعد شهر أو شهرين يتبين أنها حامل، وقد يتبين أنها حامل بعد سنة، وقد يتبين بعد سنتين، وقد يتبين بعد ثلاث سنوات، وقد تضع بعد ثلاث سنوات، فهنا مشكلة، إذا طلق الرجل المرأة وبانت منه وانفصلت عنه، ثم تبين حملها في المدد المعروف فلا إشكال؛ لأنه إذا طلقها وبان أنها حامل بقيت على حالها حتى تضع، والولد ولده، لكن الإشكال إذا لم يقع هذا الحمل، ولم تلده على المعتاد، بل تأخرت في وضعها إلى أربع سنوات! فهل هناك مدة تبين آخر الحمل؟ اختلف العلماء رحمهم الله: بعضهم يقول: لا أقبل فوق تسعة أشهر، وهذا قول ابن عبد الحكم من فقهاء المالكية، وما بعد التسعة الأشهر لو طلقها وأبانها ثم ظهر فيها حمل؛ فهو لغيره وليس له.

    وهذا إذا لم تكن قد تزوجت؛ لأنه إذا تزوجت ينسب للثاني ولا إشكال، نحن نتكلم في امرأة طلقت، وبقيت خالية من الأزواج حتى وضعت ما في بطنها، فهل ينسب إلى الزوج الذي طلقها أو ينسب إليها، ويكون هناك شبهة أنها زنت أو استكرهت على الزنا؟

    هنا الإشكال، فما هي أقصى مدة يمكن أن ننسب فيها الولد للفراش؟ من أهل العلم من قال: تسعة أشهر -كما ذكرنا- وهو من أضعف الأقوال، ومن أهل العلم من قال: أربع سنوات، وهو مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور، وبعض أصحاب الإمام مالك يقولون بهذا القول، قالوا: إن أقصى ما وجدناه من الحمل أربع سنوات، فإذا وضعت الولد لأربع سنين، يعني: لم يتجاوز أربع سنوات منذ طلاقه وفراقه لها؛ نسب الولد إليه، وقال الحنفية: خمس سنين، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، والحقيقة أن الأربع سنوات هي التي حكيت كأقصى حد وجد، وذكر عن بعض العلماء أن أمه بقيت في حملها أربع سنين، والله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أمر لله فيه حكمة، وقد تضعف المرأة ويكمل الجنين، وحدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة صالحة معروفة بالخير والصلاح غاب عنها زوجها، ثم قتل واستشهد، فحزنت عليه حزناً عظيماً، ثم تزوجت برجلٍ من بعده، وبعد زواجها بأقل من ستة أشهر بان الحمل فيها، وهمّ عمر رضي الله عنه أن يرجمها؛ لأنها محصنة، والحمل عند عمر رضي الله عنه دليل على إثبات الزنا، كما في خطبته المشهورة في الصحيح، فكان يرى أن الحمل يدل على الزنا، وأن المرأة إذا كانت لا زوج لها وحملت يقام عليها الحد، فالشاهد أنه هم أن يرجمها، ولكن كان رضي الله عنه يشاور الصحابة، وكانت له طريقته أنه يستشير المهاجرين ثم الأنصار، ثم بعد ذلك يجمع الناس، فلما هم أن يرجمها سأل عنها فوجد أنها امرأة صالحة، وأنها يبعد أن يكون منها الزنا لما عرف من استقامتها وصلاحها، فتورع رضي الله عنه، وكان محدثاً ملهماً كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إن يكن في أمتي محدثون فـعمر)، فامتنع عن رجمها وأحب أن يشاور الناس، فاستشار المهاجرين فلم يجد شيئاً، ثم استشار الأنصار فلم يجد شيئاً، ثم جمع الناس كلهم فلم يجد شيئاً، فجمع النساء واستشارهن، فقامت امرأة كبيرة السن معروفة بالعقل وقالت: يا أمير المؤمنين! أنا أقص عليك خبرها، إن هذه المرأة حملت من زوجها الأول، ولما جاءها الحزن ركن الجنين، يعني: ضعف أن يخرج لأمده، ثم لما تزوجها الثاني انكشف بماء الثاني فولدت الجنين قبل زمانه، فحمد الله أنه لم يكن رجمها، وأسقط عنها الحد، وألحق الولد بالزوج الأول.

    فقد يقع في بعض الأحيان تأخر في الحمل سواءً لأمور طبية، أو لمشيئة الله عز وجل، وهو على كل شيء قدير، ومن حكمة الله أنه يخلف العادات، ودائماً ينتبه طالب العلم بل كل مسلم إلى أن إخلاف العادات من أكبر الأدلة على وحدانية الله عز وجل؛ لأن أهل الطبيعة يستدلون بأن الطبيعة هي التي أوجدت نفسها، فلما تختلف العادات يدل ذلك على أن هناك رباً يدبر هذا الكون ويصرفه سبحانه وتعالى، وهذا من أقوى الحجج في دمغ قولهم؛ لأن الطبيعة لا تضطرب، وهي التي ينسبون إليها الأشياء، فالشاهد أن الحمل قد يخرج عن الشيء المعتاد وقد يطول أمده، فبين ذلك رحمه الله حين قال: (أو دون أربع سنين منذ أبانها)، فاعتبر الحد أربع سنوات، وهذا قول من ذكرنا من السلف رحمهم الله أنه أربع سنين كحد أقصى، فما بين تطليقه لها وإبانتها من عصمته وبين وضعها لا يجاوز هذه المدة: الأربع السنين.

    1.   

    إلحاق الولد إلى من عمره عشر سنوات

    قال المصنف رحمه الله: [وهو ممن يولد لمثله كابن عشرٍ].

    (وهو): يعني الزوج الذي ولدت زوجته، يشترط فيه أن يكون ممن يولد لمثله، فإن كان ممن لا يولد لمثله -كأن يكون صغيراً- لم ينسب إليه، وعند العلماء الدليل الشرعي والدليل الحسي، فهناك أشياء دل الحس على صدقها، ودل الحس على كذبها، فيستند فيها إلى الحس، فهنا الدليل دليل حسي، إذ يستحيل أن الطفل أو الصبي الذي عمره ست سنوات أو سبع سنوات أن تحمل زوجته، ومن هنا يستند إلى دليل الحس، فإذا كان دون العشر لا ينسب الولد إليه اتفاقاً، فأقل سن ذكروه العشر، فأقل من عشر لا ينسب الولد إليه.

    وهكذا بالنسبة للأسباب الأخرى مثل المجبوب، وهو: المقطوع العضو، لا يتأتى منه وطء، فلا ينسب الولد إليه، إلا في مسألة استدخال المني في الفرج، فبعض العلماء يقول: إذا أقر به، وثبت أن زوجته استدخلت منيه إلى فرجها، وإن لم يقع وطء منه لها؛ فإن الولد ولده.

    وهذه المسألة ذكرها العلماء في القديم والآن في زماننا جاءت مسألة طفل الأنابيب! وجاءت مسألة تجميد المني من الرجل! بغض النظر عن كون ذلك يجوز أو لا يجوز، لكن انظروا كانت فرضية في القديم ومع ذلك فصلوا في حكمها من جهة ثبوت الولد أو عدم ثبوته، ومسألة يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، إذ لا يجوز الإيلاج في الفرج من الأجنبي، ولا استدخال فيه في الفرج، ولا النظر إليه ولا لمسه، كما هو مقرر، لكن نحن نتكلم على إلهام الله عز وجل لتلك العقول وأولئك الأئمة الذين تكلموا على هذه المسألة، ففتحت وبينت الكثير من الإشكالات الموجودة في زماننا.

    على كل حال، إذا كان مجبوباً لا يتأتى منه الحمل فإنه لا ينسب الولد إليه، وكذلك لو كان صغيراً لا يتأتى منه المني الذي يكون به الحمل.

    1.   

    عدم ثبوت البلوغ بالشك

    قال المصنف رحمه الله: [ولا يحكم ببلوغه إن شك فيه]

    يعني: إن شُك في البلوغ، فلا يُحكم ببلوغه، (إن شك فيه) يعني: في الزوج؛ لأن العبرة بالبلوغ، لأن البلوغ يكون منه المني، وبينا أن من علامات البلوغ الاحتلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم)، فالمني يكون منه الولد؛ لأن الله خلق الولد من ماء الرجل وماء الأنثى، فإذا كان في سنٍ يتأتى منه أن يحتلم -وهو سن الاحتلام- حكم بأنه بلغ والاحتمال قائم، لكن إذا شك هل بلغ أو لم يبلغ؟ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يدل الدليل على أنه بلغ، فلا نثبت أنه بلغ إلا إذا ثبت بالدليل أنه قد بلغ بالاحتلام وبخروج المني، ولا يثبت البلوغ بالشكوك.

    وهذا مبني على قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فهو دون البلوغ، فلا نحكم بكونه بالغاً إلا إذا قام الدليل على بلوغه، لأنه ببلوغه تتعلق به التكاليف والإلزامات، والأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل على بلوغه، وهذا مفرع على قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، فنحن على يقين من أنه صبي وأنه دون البلوغ حتى نتأكد ونتحقق أنه قد بلغ.

    1.   

    وطء الجارية في الفرج أو دونه موجب لثبوت النسب

    قال المصنف رحمه الله: [ومن اعترف بوطء أمته في الفرج أو دونه فولدت لنصف سنة أو أزيد لحقه ولدها].

    بعد ما فرغ من بيان الأصول العامة شرع في مسألة التسري، وهو وطء الجارية، فالولد يلتحق بالوطء سواءً كان في نكاح وزواج، أو كان في تسري، الذي هو وطء ملك اليمين، فالرجل إذا وطئ مملوكته وأنجبت فالولد ولده، أي: ينسب الولد إليه، وتكون هي أمه، وتعتق عليه بعد موته، كما هو معلوم في الأصول الشرعية.

    فالوطء الذي يكون للجارية موجب لثبوت النسب، وهذا قرره النبي صلى الله عليه وسلم في قضية عبد بن زمعة واختصام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما في الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تابع الولد للسيد، وهذا مبني على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، فقوله: (الولد للفراش) شمل الأمة والحرة، وبعبارة أخرى: الحديث يشمل الوطء في الزواج والوطء بملك اليمين؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) يثبت نسبة الولد للفراش، والفراش في الشريعة نوعان: فراش بنكاح، وهو في الزواج، وفراشٌ بملك اليمين، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6]، فجعل الفراش الشرعي المأذون به شرعاً على ضربين: فراش الزوجية إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ [المؤمنون:6]، وفراش ملك اليمين أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:6]، فلما قال: (الولد للفراش) أثبت الولد لكل فراش بناءً على الأصل، فإن كان فراشاً لنكاح نسب إليه، وإن كان فراشاً لوطء يمين نسب إليه.

    فهنا لو أقر السيد أنه كان يطأ هذه الجارية وولدت على فراشه -وهي ما زالت في ملكه، وولدت في المدة المعتبرة بعد ستة أشهر من وطئه لها- نسب الولد إليه، هذا من حيث الأصل الشرعي لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش).

    وقوله: (ومن اعترف): أي: أقر، (بوطء أمته في الفرج): الذي هو موضع الحرث، فإذا قال: إنه قد وطئها في فرجها الذي يكون منه الحرث، فالولد حينئذٍ ينسب له؛ لأن هذا مما يكون به ولد، وهو الأصل في الولد.

    وقوله: (أو دونه) أي: دون الفرج؛ لأنه إذا وطئ دون الفرج احتمل أن يسري الماء إلى الفرج فتحمل، فقد ينزل خارج الفرج فينزل الماء إلى الفرج وتحمل، فالشبهه قائمة، ولذلك إذا كانت هناك دلائل يحتمل أن الحمل منه فإنه حينئذٍ لا إشكال.

    وقوله: (فولدت لنصف سنة): من الوطء، لكن لو ولدت قبل نصف السنة -الذي هو الستة أشهر-، فقد ذكرنا أنه لا ينسب إليه سواء كان في وطء ملك اليمين أو غيرها، فمقصود المصنف: فولدت في ستة أشهر.

    وقوله: (أو أزيد): ولدت بعد سبعة أشهر أو ثمانية أشهر، أو تسعة أشهر، أو عشرة أشهر؛ لأنه مستصحب حكم الأصل، فالحال كما تعلمون يطول ويقصر.

    وقوله: (لحقه ولدها) أي: لحقه ذلك الحمل والذي ولدته، فإذا ولدت فإنه ينسب إليه ذلك الولد سواءً ولدت ولداً أو توأمين، كلهم ينسبون إلى ذلك الفراش؛ لأن الفراش منصوص حكمه بقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش).

    1.   

    حال الولد إذا ادعى السيد أنه استبرأ جاريته

    قال المصنف رحمه الله: [إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه].

    إذا وطئها ثم استبرأها بحيضة أو حيضتين، ثم ظهر فيها الحمل، تبين أنه ليس منه؛ لأنه بالاستبراء يتبين عدم الحمل، كما سيأتينا إن شاء الله في باب العدد والاستبراء، فإذا ظهر الحمل بعد الاستبراء ثبت عندنا أنه حمل غيره وليس بحمله، فلو استبرأها ثم بعد استبرائه لها بستة أشهر -بشرط ألا يطأها بعد الاستبراء- تبين أنها حامل، ووضعت بعد هذا الاستبراء بستة أشهر؛ فمن حقه أن ينفيه.

    وقوله: (ويحلف عليه): هذا اليمين تسمى يمين التهمة، وستأتي إن شاء الله أيمان القضاء والأيمان التي تنزل منزلة الشهود، والأيمان التي تسمى أيمان التهم يدفع بها الضرر، وتكون في مسائل خاصة، وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ كل هذا سنذكره في باب الأيمان والدعاوي والبينات في كتاب القضاء إن شاء الله تعالى، فيحلف بالله عز وجل أنه استبرأها، وأنه لم يحصل وطء منه بعد الاستبراء؛ لأنه قد يحلف أنه استبرأها ويحصل الوطء بعد الاستبراء فلا ينفيه؛ لأنه لا تبرأ ذمته إلا إذا استبرأها بعد وطئه لها، ولم يحصل وطء ثانٍ بعد الاستبراء؛ لأنه قد يستبرئها ويطؤها مرة ثانية فيكون الحمل من الوطء الثاني، والمراد أن يحلف أنه استبرأها ولم يطأها بعد استبرائها.

    قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: وطئتها دون الفرج أو فيه ولم أنزل أو عزلت؛ لحقه].

    هذه المسألة ملتحقة بالمسألة التي قبل في النفي، فيقول: إنه حصل الوطء دون الفرج وأنزل دون الفرج أو في الفرج ولم ينزل، ففي هذه الحالة إذا قال: وقع مني هذا الشيء فإنه لا ينفعه؛ والولد ولده؛ لأنه إذا وطئها دون الفرج احتمل أن يسري الماء إلى الفرج وتحمل، وأيضاً هو أقر أن هناك وطئاً، فحينئذٍ أثبت على نفسه أنه تعاطى السبب الذي يمكن أن يكون منه الولد، والغالب أن من يطأ أنه ينزل، فإذا جاء بشيء خلاف الغالب وخلاف المعتاد فقال: لم أنزل، كانت فيه شبهة وتهمة؛ لأنه قد يقصد الإضرار بأمته.

    والسبب في هذا أن بعض الناس كان فيهم شيء من الجاهلية، فيستنكفون من وطء الجواري حتى لا يأتي أولادهم منهن، فيعيرون ويعابون بهذا، وهذا من بقايا الجاهلية، وقد يضع الله من البركة والخير في ابن الجارية ما لا يضعه في ابن الحرة، فهذا من الجاهلية ونعرات الجاهلية، ومما ذكر عن زيد بن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه حينما لمزه هشام بن عبد الملك بذلك، قال له زيد : أتعيرني بذلك؟ هذا إسحاق أمه سارة، وقد جعل الله من نسله إخوان القردة والخنازير، وهذه هاجر كانت أمة لكن جعل الله منها خير الأولين والآخرين.

    فمسألة أنها أمة أو أنها حرة تعد من مخلفات الجاهلية إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] ، فهذه من النعرات ومن الأمراض والآفات التي بقيت من الجاهلية في نفوس بعض الناس، فوصل به الظلم أنه ينفي ولده منها استنكافاً، ومن حكمة الله -وهو من غريب ما يحدث كما في التاريخ- أنه ربما كان أولاد الجواري والإماء أكثر نجابة وأرجح عقلاً وأكثر فضلاً من غيرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يبتلي بشيء إلا عوض بخيرٍ منه.

    على كل حال، نتكلم على الظلم ومجاوزة الحد، فالظلم أنهم كانوا يطئون الجواري ويتخلون عن أولادهم، فهذا ضيقت فيه الشريعة، ووقفت الشريعة أمام من يريد الإضرار بالمرأة والإضرار بالولد؛ لأن الولد يتضرر بنفي نسبته إلى والده، فبين رحمه الله أنه في هذه الحال لو قال: وطئتها وأولجت فيها وجامعتها ولكني لم أنزل، فإن هذا خلاف المعهود، والغالب أن الإنسان عند الشهوة لا يستحكم نفسه؛ فحينئذٍ لا يقبل قوله، ويبقى على الأصل.

    وقوله: (أو عزلت) يعني: ما أنزلت في الفرج وإنما أنزلت خارج الفرج.

    وقوله: (لحقه): أي: لحقه الولد ولم ينفعه هذا الكلام، فهذه كلها دعاوى فيها تهمة، ولا يقبل قوله فيها.

    1.   

    الأمر المترتب على من أعتق جارية أو باعها بعد اعترافه بوطئها

    قال المصنف رحمه الله: [ وإن أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولدٍ لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل].

    شخص كانت عنده أمة فوطئها ثم أعتقها، فتزوجها رجل بعد أن صارت حرة، أو باعها فوطئها المشتري على أنها ملك يمين له، فولدت لدون ستة أشهر؛ علمنا أن الولد للأول وليس للثاني، وحينئذٍ يكون قد باع أم ولده؛ لأنه تبين أنها كانت حاملة أثناء البيع، وتأتي مسألة بيع أمهات الأولاد التي تقدمت معنا، وقد اختار جمع من أئمة السلف -وهو قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه لا يصح بيع أمهات الأولاد، وأن أم الولد تبقى جارية عند سيدها حتى يموت فتعتق عليه؛ لأنها أم ولده، ولذلك أحسن الله عز وجل إليها، ولا شك أن هناك ضرراً على ولدها؛ لأنه سيكون حراً ولا يملك أمه بعد موت أبيه، فتعتق بموت سيدها، ولذا مضى قضاء الصحابة رضوان الله عليهم بعدم بيع أمهات الأولاد، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فرق بين أمٍ وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، وهذا الحديث فيه وجوه:

    بعض العلماء يقول: إنه في بيع أمهات الأولاد، فيبيع الأم ويبقي الولد؛ لأنه يتضرر ببقاء أمه جارية، وهذا لا شك أن فيه ضرراً عظيماً عليه.

    وقيل: (من فرق بين أمٍ وولدها) يدخل فيه ما يفعله بعض الناس خاصة في هذه الأزمنة التي قلّ فيها الورع، ونسيت فيها الحقوق، فيأتي وينتزع أولاد المرأة منها بعد تطليقه لها، ويأخذهم بالقوة ويفرق بين الأولاد وأمهم، وقد يمضي الشهر وقد تمضي السنة بل تمضي السنوات ولا يمكنهم من رؤية أمهم، فإن فعل ذلك فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، وكان بعض مشايخنا يقول: إن الله يفرق قلبه ويفرق همه في الدنيا قبل الآخرة، فقلّ أن تجد رجلاً يفعل ذلك إلا وعجّل الله له عقوبة الدنيا قبل الآخرة.

    الشاهد: أنه لا يجوز بيع أم الولد على هذا القول، فإذا حصل البيع فالبيع فاسد، وإذا تبين فساده فيحكم برد الثمن لصاحبه، فتسترد الأمة وتبقى أم ولدٍ حتى تعتق على سيدها.

    وقوله: (أو باعها بعد اعترافه بوطئها): ثم تبين حملها وولدت قبل ستة أشهر فإنه ينسب الولد إليه.

    وقوله: (فأتت بولد لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل): لحقه الولد؛ لأنه تبين أنه ولد للأول وليس للثاني؛ لأن الثاني لا يمكن أن يولد له بدون ستة أشهر، مثلاً: وطئها في محرم، ثم باعها في صفر، ولما مضت الستة أشهر من الوطء تبين أنها وضعت في شهر جماد الذي هو الشهر السادس، فحينئذٍ نعلم أن هذا الولد منسوب للأول وليس للثاني، لأنه لا يمكن أن تلد لأربعة أشهر، إذا اشتراها في صفر ووطئها في صفر وربيع، فمعنى ذلك أنه وطئها وهي حامل، وحينئذٍ ينسب للأول ولا ينسب للثاني، ويلغى البيع ويحكم ببطلانه.

    1.   

    الأسئلة

    لا يعترض بالمسائل المستثناة من حكم الأصل عليه

    السؤال: كيف يمكن الجمع بين براءة رحم المرأة بعدة الطلاق وبين احتمال وقوع الحمل بعد أربع سنين؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فهذا لا شك أنه أمر مستثنى من حيث الأصل، ما جعلت العدد إلا لإثبات الحقوق في لحوق الولد وغيرها من الحقوق الواجبة في العدد، لكن هذه المسألة مستثناة، وقد بينا أنه قد يتأخر الحمل لأمور خاصة، والقاعدة عند العلماء رحمهم الله: أن مسائل الاستثناء والأعيان لا يعترض بها على الأصول، فيبقى الأصل كما هو، وتبقى أحكام العدد كما هي، فيقال: هذه أحوال مستثناة تخص بأحكامها، ولا يلغى حكم الأصل، ولا يعترض به على هذه المسائل التي ثبت بالعادة أنه يقع شيء منها.

    وإذا نظر المسلم وجد أن هناك أموراً تستدعي العمل بهذه المسائل المستثناة، فإننا لو لم نحكم بذلك لحكمنا برجم المرأة، وأنها زانية؛ لأنه -مثلاً- لو طلقها، وبعد أربع سنوات تبين حملها فإنه في هذه الحالة تتهم بالزنا، وخاصة عند مذهب من يرى أن الحمل دليل على ثبوت الزنا، كما قال عمر رضي الله عنه: (إذا كانت البينة أو الحبل)، ففي هذه الحالة الأصل أنها بريئة والشبهة قائمة، ودرء الشبهات معتبر شرعاً، فعلى كل حال ينبغي أن تنظروا أن المسألة متجاذبة ليست خاصة بقضية نسبة الولد، فيها جانب يتعلق بإقامة الحد، وإذا نفيت الولد يترتب عليه أنه ابن زنا، فلا ينظر الإنسان نظرة من جهة واحدة ويغفل بقية الجهات، ومن حكمة الشريعة أنها تعتني بالحقوق إذا تعدد أطرافها، فتعطي كل ذي حقٍ حقه.

    وبناءً على ذلك نقول: ما دام أنه ثبت في العادة أن الحمل قد يطول ويتأخر فإنه يحكم بلحوقه، وقد ينزل من المرأة دم استحاضة وتظنه حيضاً ابتلاءً من الله، ويتكرر معها وتحكم بأنها حاضت ثلاث حيضات، وأنها طهرت، والواقع أنه نزيف، وهذه المسألة لا تقع إلا عند اضطراب الحمل، فقد تضطرب ويجري معها الدم ويحكم ببراءة رحمها بعد ثلاث حيضات، ثم بعد ذلك يتبين أن هذا الدم كله دم فساد وعلة، وأنه دم نزيف، وأن الأمر في رحمها غير مستقر، ولذلك لا شك أنه عين الحكمة والصواب، وفيه إعمال للأصول الشرعية من براءة المرأة وعدم اتهامها بالزنا، والله تعالى أعلم.

    الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب

    السؤال: إن من الأمور الجاهلية التي لا يزال بعض الناس عليها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، فهل من قابلها بهذا الأسلوب يلام على فعله؟

    الجواب: التفاخر بالأحساب والأنساب من بقايا الجاهلية؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، الناس كلهم لآدم وحواء، وهذا يدل على أن الأصل واحد، فإذا كان الأصل واحداً فما الذي جعل بني فلان أفضل من بني فلان؟ وما الذي جعل بني فلان أزكى وأشرف وأكرم من بني فلان؟ حتى كانوا في الجاهلية يقتلون المائة بالواحد! وهذا كله من عمل الشيطان الذي أدخله على عصاة بني آدم، ولذلك قال بعض أئمة العلم رحمهم الله: من افتخر بأصله ففيه شبه من إبليس؛ لأن الله يقول حكاية عن إبليس: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فهذا التفاضل والتعالي على الناس من شأن الجاهلية، والإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أنه لو صعد بنسبه إلى السماء وهو عند الله وضيع فإنه لا ينفعه عند الله شيئاً، وأنه إذا اتقى ربه وخاف ربه رفع الله قدره، وزكى شأنه وأمره ولو كان عند الناس وضيعاً، فالعبرة كل العبرة بما بينك وبين الله عز وجل.

    وفي تاريخ الإسلام من الأئمة الأعلام أصحاب دواوين العلم والعمل، والأئمة الذين قادوا الأمة، وسطروا في دواوين المجد الصفحات المشرقة المنيرة، لم يفتخر منهم أحد يوماً بنسبه وحسبه، فالعاقل الحكيم يعلم أنه لا وزن له عند الله إلا بتقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى. ومن حكمة الله عز وجل أنه ما غيب عبدٌ خوفاً من الله في قلبه إلا أورثه الله محبة وعزة عند الناس، وكانوا يستدلون على خوف الإنسان من الله وخشيته لله فيما يوضع له من القبول، فإن كمل خوفه كمل القبول له من الله في الخلق، وإن عظم خوفه عظمت مكانته، وجلَّت منزلته.

    هذا عطاء بن أبي رباح مولى من موالي العرب، أشل أفطس، ومع ذلك يدخل عليه سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه وهو في المسجد الحرام، ويسأله ويقول له: يا عطاء ! سلني حاجتك، فقال له: إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله عز وجل، فلما خرج من المسجد قال: يا عطاء ! ها قد خرجنا فسلني حاجتك، فقال له عطاء : إني لأرجو الله أن يغفر لي ذنبي، قال: يا عطاء ! ذلك ليس إلي، إنما أسألك أن تسألني حاجتك من الدنيا، فقال له: إني لم أسأل الدنيا من يملكها أفاسألها من لا يملكها؟! فقال سليمان بعد أن تولى لبنيه: يا بني! اطلبوا العلم فقد أذلنا العبد آنفاً بعلمه، قال: أذلنا، وهو في نظر الناس أعز! فلا ينفع الإنسان حسبه ونسبه إذا لم يقم أمره على تقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى.

    ومن نظر إلى الناس بقلبٍ مليء بالاحتقار، ولو عاملهم معاملة حسنة في الظاهر؛ فإن الله لا يزكيه، ولا يعطيه السؤدد، ولا يبارك له فيما أعطاه في الناس، ومن صحب الناس سليم القلب نقي السريرة ولو كان من أوضع الناس منزلة فإن الله يورثه من المحبة والتقدير ما لم يخطر له على بال؛ ولذلك تجد بعض الناس لا يعرف بيته، ولا تعرف قبيلته، ولا جماعته، ولا يعرف نسبه، ولكن ما إن يدخل على إخوانه وأصحابه وزملائه وعلى الناس؛ إلا وجدت المحبة والتقدير والأنس به والرضا به، شيءٌ لا يملكه وإنما هو من الله عز وجل.

    وتجد الآخر الذي يتعالى على الناس ويفتخر على الناس مع أنه معروف البيت ومعروف المكانة؛ ومع ذلك نسأل الله السلامة والعافية! تمله النفوس وتكرهه القلوب، ولا يرتاح أحدٌ لمجالسته، وإن جامله في الظاهر، فإنه لا يرتاح له في الباطن.

    فالإنسان العاقل ينبغي أن يعلم أنه لن يخفي سريرة إلا ويظهرها الله، فمن أخفى احتقار الناس رماه الله بالاحتقار في قلوب الناس، فكما أنه يحتقر أناساً في الغيبة، وإن جامله الناس في الظاهر، ولكنهم يحتقرونه في كل الظروف، وليجرب ذلك الإنسان وسيجد؛ لأن الله عدل ولا تخفى عليه خافية، ويجزي الإنسان بما في قلبه، فمن أسر سريرة الخير زكى الله له العلانية، ومن أسر سريرة الشر ابتلاه الله في علانيته.

    الحسب لا يغني الإنسان عند الله شيئاً، إلا أن الإنسان الذي رزقه الله عز وجل حسباً مثل أن يكون من بيت معروف بالصلاح ومعروف بالعلم، أو من بيت معروف بالإمارة والوجاهة، وحافظ على هذه السمعة الطيبة آباء كرام من بيت عز وشرف وسؤدد، فحافظ على هذا المجد وسار على سيرة آبائه الطيبين، فأكرم الناس واحترمهم وقدرهم، واتخذ من هذا الحسب الطيب الكريم وسيلة لتربية أبنائه؛ لأن لهم عند الناس من المحبة والتقدير الشيء الكبير؛ ولأن آباءهم قد بنوا مجداً فلا يهدمونه، وأخذ من هذه المعاني ما يعين على التواضع، والحرص على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فهذه نعمة من الله عز وجل على العبد، وهذا عصامي عظامي، عصامي حينما يبني مجده بنفسه بتوفيق الله عز وجل، وعظامي طاب معدنه، وإذا طابت الأصول طابت الفروع، إن الأصول الطيبات لها فروعٌ زاكية.

    والله عز وجل إذا وضع البركة في بيت أو قبيلة أو جماعة أو أسرة في إمارة أو في علم في دين أو دنيا؛ وضع البركة فيها، وعرفت بالخير وعرفت باستقامة أمور الدين أو استقامة أمور الدنيا، فإذا حافظت هذه الأسر على هذه الأمجاد أبقى الله الخير فيها، وأبقى لها المحبة والتقدير وبارك فيها، وأورثها من حسن العاقبة ما لم يخطر لها على بال.

    فلابد من المحافظة على الأصول الطيبة، وليس معنى كلامنا أن يضيع الإنسان نسبه أو يضيع حسبه، فهذه نعمة من الله أنعم بها عليه، لكن لا يتعالى على الناس، الذي يتعالى على الناس بنسبه فقد استذل الناس.

    ولذلك في قصة عمر رضي الله عنه مع ابنٍ لـعمرو بن العاص كان في مصر، وكان والده والياً على مصر، فذكروا في السير أنه أجرى سباقاً بين الناس، فكان فيهم ابن عمرو بن العاص، فسبق قبطيٌ ابن عمرو بن العاص، فأخذ ابن عمرو السوط وصار يضربه ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، حتى آذاه فأضره فسبقه، فجاء القبطي إلى عمر في الموسم واشتكى إليه، فسأل عمر الناس ووجده صادقاً فيما قال، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص وقال له: إذا كان الموسم فاقدم عليّ أنت وابنك فلان، فجاء عمرو ومعه ابنه ثم لما دخل عليه، قال عمر رضي الله للقبطي: أهذا هو الرجل؟ -يعني ابن عمرو- قال: نعم، قال: دونك الدرة، فقام وضربه وأمره أن يضربه مثلما ضربه، فلما ضربه وأتم ضربه، قال: وجهها إلى صلعة عمرو ، فقال القبطي: أما إني قد ضربت من ضربني، ومراد عمر بقوله وجهها إلى صلعته تعزير ولاته إذا أساءوا للناس وأضروا بهم، فامتنع القبطي وكأنه يقول: هذا الأمر ليس إلي، هذا لك أنت، وأدب من وليت، فقال عمر رضي الله عنه لـعمرو : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!

    الناس لهم حق، ولا يظن أحد أنه إذا لقي شخصاً فكأنه مملوكٌ له، فيحتقره للونه، أو يحتقره لفقره، أو يحتقره لمنصبه، لا أبداً، أو أنه إذا أصبح من بني فلان فإن الناس أصبحت دونه، لا، هذا ينبغي أن يضعه المسلم نصب عينيه، ولذلك تضيع حقوق الناس وتعظم مظالمهم حينما ينظرون بهذه النظرات، فتجد المظلوم يؤخذ حقه ولا يستطيع أن يصل إلى حقه؛ لأن فلاناً الذي ظلمه هو فلان، وحينئذٍ يكون باطن الأرض خيراً من ظاهرها.

    فعلى كل حال الشر العظيم، والحالقة -حالقة الدين وحالقة الشعر- أن يتفاخر بالأنساب على وجه تضيع فيه حقوق الناس، وتعظم به مظالمهم، وقد قال الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:1-8]

    أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1]؛ لأنهم كانوا يتكاثرون بأحسابهم وأنسابهم، وقال: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2] أحد الأوجه في تفسيرها أنه تفاخر بعضهم على بعض حتى عددوا الأموات، فذهبوا إلى المقابر، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2] يعني: وصل بكم التكاثر والتفاخر حتى بالأجداث والرمم وأموات الجاهلية، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:4] وهذا تهديد ووعيد من الله لكل من يتفاخر في بنسبه.

    فعلى كل حال؛ على المسلم أن يتقي الله عز وجل وأن يحمد الله إذا رزقه الله بيتاً صالحاً وأسرة طيبة، فإن هذا لا يعني أننا ننسى البيوت التي لها فضل وشرف، خاصة إذا كانت عظيمة الخير على الإسلام، وعظيمة الخير على المسلمين، كالأسر التي عرفت بالآباء الكرام الذين كانوا بعد الله عز وجل آباءً للأيتام وللأرامل، سد الله بهم الحاجات، وفرج بهم الكربات، وأحسنوا إلى المؤمنين والمؤمنات، الآباء الذين أغلقت بهم أبواب الشرور، وفتحت بهم أبواب الرحمات، كانوا يسعون في الصلح بين الناس، وسد العوز والفقر وبذل الشفاعات الطيبات المباركات، ولا ينسى من كان من آبائه له مجد في الإسلام من إمارة وولاية، أو كان له مجد في الإسلام من نشر علم انتفع به المسلمون، فكل هؤلاء لا يذكرون إلا بالجميل، ويدعى لخلفهم أن يبارك الله فيه؛ لأن بقاء هذا الخير في هذه البيوت الطيبة فيه نفعٌ عظيم، والواجب على الآباء إذا زكت أصولهم أن يعلموا أبناءهم ذلك، وأن يقال للابن: استح أن تكفر نعمة الله عز وجل عليك وعلى آبائك؛ ولذلك يقول الله عن نبيه يعقوب يخاطب ابنه: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:6]، فإذا أراد الله أن يتم النعمة على العبد أتمها عليه كما أتمها على آبائه من قبل، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، والله تعالى أعلم.

    الجهر بالأذكار عقب الصلوات المكتوبات

    السؤال: الأذكار التي تكون عقب الصلاة هل يجهر بها المرء أم أنه يخفي بها صوته؟

    الجواب: قولان للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة:

    جمهور العلماء على أن السنة في الأذكار أن تكون سرية، وألا يجهر الذاكر بها صوته؛ لأن نص القرآن يأمر بإخفاء الذكر، وقالوا: لأنه أقرب للإخلاص، وأبعد عن الرياء، وأبعد عن التشويش والإضرار بالغير، وقال بعض أهل العلم رحمهم الله: يشرع الجهر بالأذكار، واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ما كانوا يعرفون انتهاء الصلاة إلا بالتكبير بعدها، وأجيب بأن المراد بالتكبير: الرنة التي تكون من مجموع الذكر ولو مع مخافتة الصوت، وهذا معروف، ومن يعرف مساجد البوادي التي لا يكون فيها إزعاج ولا تشويش فإنه يجد أن الناس أثناء الصلاة في سكونٍ تام، وإذا انتهت الصلاة -ولو كانوا يسرون بالذكر- يحس برنة وصوت محسوس واضح يدل على أن الصلاة قد قضيت، وعلى كل حال: من جهر يتأول السنة لا بأس ولا حرج عليه، ومن أسر يتأول السنة لا بأس ولا حرج عليه، والنفس أميل إلى الإخفات وعدم الجهر، إلا إذا كان عالماً يعلم الجهال أو كان في موضع فيه عوام فيرفع الصوت تعليماً لهم، فلا بأس في ذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.

    مناداة الابن لأبيه بكنيته

    السؤال: إذا نادى الابن أباه بكنيته، فهل هذا من العقوق؟

    الجواب: هذا يختلف باختلاف العرف والأحوال، في بعض الأحيان قد يحب الوالد أن يدعى بكنيته من ولده، لكن الأصل أنه لابد من تذلل الابن لأبيه؛ لأن الله يقول: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [الإسراء:24]، فلابد أن يخاطبه مخاطبة تشعره بمنزلته، كقوله: يا أبتِ، وهذا هو الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وينبغي تحريه فيناديه بالأبوة؛ حتى يشعره بالفضل عليه وأنه دونه، والله تعالى أعلم.

    إذا لم يجر بهذا عرف -أي مناداة الأب بكنيته- فهذا فيه قبح، وأشنع من هذا أن يناديه باسمه المجرد، لكن إذا جرى عرف أن الوالد ينادى في بيته وولده بالكنية ولا يتأثر بذلك ولا يتضرر فهذا شيء آخر، لكن المحفوظ أنه يناديه يا أبتِ، ويشعره بحقه عليه، والله تعالى أعلم.

    نصيحة لمن مل وضعفت همته في الدعوة إلى الله

    السؤال: كثيراً ما يجد طالب العلم المشاق في تعامله مع العوام وتبليغ العلم وبيان الأحكام إلى درجة أن يملّ فيها وتضعف همته، فما توجيهكم؟

    الجواب: هذا طريق الأنبياء والصالحين، وطريق خيرة خلق الله وصفوة الله من العباد أجمعين، ولابد من الابتلاء والامتحان في الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الله عز وجل، أي طريقٍ هذا الطريق الذي ينتهي بصاحبه إلى الجنة؟ أي طريق هذا الطريق الذي وضعت الملائكة أجنحتها لصاحبه رضاً بما يصنع؟ أي طريقٍ هذا الطريق الذي ينعم فيه العبد برحمات الله عز وجل؟ فكم من عبدٍ أصبح وهو داعية إلى الله فما أمسى إلا وقد غفرت ذنوبه! وكم من عبدٍ داعية إلى الله أصبح وأمسى يأمر بأمر الله وينهى عما نهى الله عنه فكتب الله له رضاه إلى يوم يلقاه! (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) لا يستحقر الإنسان الخير، فكم من كلمة يسيرة قربت صاحبها إلى الله جل وعلا، خاصة إذا كانت من ذكره، وكم من متكلم بين أناسٍ يجهلون السنن، فأحيا الله به السنة وأمات به البدعة، ودل به وهدى حتى ثقلت موازينه وارتفعت له الدرجات العلى لما كان من أمره بطاعة الله! ولذلك عظُم على عدو الله الشيطان ما يراه من أولياء الرحمن، فأخذ يخذلهم ويثبطهم ويسلط اليأس على قلوبهم، لكن ليصبروا؛ فإن الله مع الصابرين، وليرابطوا على صبرهم؛ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، خاصة في زمانٍ عظمت غربته، وجلت كربته، ولا معين ولا ظهير ولا ولي ولا نصير إلا الله وحده، وهو على كل شيء قدير.

    فالواجب على المسلم ألا يمل لذلك، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا)

    أخي في الله: توكل على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وانظر إلى عظيم نعمة الله عليك حينما تمسي وتصبح وأنت تبلغ رسالة الله، وانظر نعمة الله عليك إذ اختارك واصطفاك لتأمر بأمره وتنهى عن نهيه، فتحبب إلى العوام، وتقرب منهم، ووطئ كنفك لهم، وكن ممن يؤلف ويألف، وكن من الذين سهلت أخلاقهم، وحسنت آدابهم، وجملت خلالهم، حتى تفوز بأحسن المنازل في دعوتك إلى الله.

    وعلى كل حال اليأس والضعف لا يصلح لطالب العلم، طالب العلم الحق مجرد ما يضع قدمه في الدعوة إلى الله لا يفكر في السآمة والملل، بل يضع روحه في كفه، طالب العلم في جهاد أعظم من الجهاد في سبيل الله، ولذلك قال كثير من العلماء وهم أغلب طائفة السلف: إن العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل إذا أخلص فيه العبد لربه.

    سئل الإمام أحمد رحمه الله: أي منزلة أعظم، منزلة العالم أو المجاهد؟ قال: العلم إن أخلص فيه لوجه الله.

    ولذلك قال الله في كتابه: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فابتدأ الله بالنبيين ثم ثنى بالصديقين وهم: العلماء العاملون الهداة المهتدون، فهذا السبيل الذي أنت فيه هو سبيل الأنبياء وطريق الأصفياء والأتقياء، ولكن الذين صبروا وصابروا ورابطوا وأفلحوا وأدلجوا حتى بلغوا المنزل، عرفوا أن سلعة الله غالية فقدموا لها أرواحهم رخيصة، يصبر الواحد وهو يعلم الناس فيتغرب عن أهله ووطنه ويسافر ويشعر مع هذا كله أنه مقصر.

    طالب العلم الحق يتفانى في التضحية وهو يحس أنه لم يقدم شيئاً، وأن الذي قدمه شيئاً يسيراً، والعكس، فمتى أحس أنه قدم كثيراً، وأن الناس لا تتقبل منه، فيقول: ما لك وما للناس! لا، أنت تعامل رب الجن والناس، تعامل رباً لا يضيع مثقال خردلة من عمل صالح، تعامل رباً لا يصيبك هم ولا غم ولا كربٌ ولا نكبة إلا كتب الله أجرك، وأثبتها في ميزان حسناتك، حتى تلقاها في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

    ما الذي رفعت به الدرجات وكفرت به الخطايا والسيئات غير الصبر، وأنت تصبر من أجل أحب الأشياء، وهو الدعوة إلى الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33]، هذه الآية كان الحسن البصري يقول فيها: هذا ولي الله، هذا حبيب الله، وهو الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تقل: ما لي وما للناس، وإنما إذا دعوت وبلغت وبينت فاحمد الله جل وعلا أن الله جعل لسانك يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، ولم يجعلك داعية إلى الهوى والردى، وإذا علمت الجاهل قلت: يا رب! لك الحمد والشكر أن رفعتني وكنت وضيعاً، وأعززتني وكنت ذليلاً، ورحمتني وكنت معذباً، وهديتني وكنت ضالاً، ولذلك خاطب نبيه وهو في أعلى مراتب الدعوة والتعليم أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:6-8]، ذكره بنعمة الله؛ لأن بهذا التذكير تقوى النفس لتعليم الناس، والصبر على أذاهم، ولذلك قال له بعدها سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:9-11]

    فالذي يستشعر أن الله أعطاه نعمة عظيمة، وأن الله شرفه وكرمه بهذا العلم؛ فإنه يضحي ويجاهد ويجالد، والله عز وجل لن يضيع لك في هذا العلم ولا في غيره من الأعمال الصالحة مثقال خردل، وقد تسهر على حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تتبوأ به الدرجات العلى من الجنة، وقد تسهر على آية تحل حلالها وتحرم حرامها وتعرف شريعتها ونظامها؛ يكتب الله لك بها من الحسنات ما لم يخطر لك على بال، وتكون لك شفيعة بين يدي الله عز وجل، فهذه نعم ومنن تنالها برحمة الله.

    ما الذي يدعوك للسآمة والملل؟ هل تعلمت العلم من أجل أن يمجدك الناس وأن يعظمك الناس؟ هل تنتظر من الناس أن يثنوا عليك وأن يزكوك وأن يمجدوك؟ هيهات هيهات: (فمن تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة).

    هل تعلمت العلم من أجل أن تنتظر من الناس مكافأة، وأن تأمر فيطاع أمرك، وأن تقول فيسمع قولك؟ هيهات هيهات، الإنسان وهو يطلب العلم يفكر في شيء واحد وهو رضوان الله جل وعلا، يفكر في مرضاة الله سبحانه وتعالى قائماً وقاعداً ساكتاً ومتكلماً، يفكر كيف يرضي الله سبحانه وتعالى، وإذا فكر كيف يرضي الله فتح الله له أبواب الرحمات، فأصبح إعراض الناس أفضل عنده وأكمل، لا يتألم بإعراضهم بل بالعكس يقول: الحمد لله أن الله عز وجل ما شغلني بهم، ولا علق قلبي بهم، فعلى كل حال عليك أن تنظر إلى ما بينك وبين الله، وإن أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله ما بينك وبين الناس.

    ومما يوصى به طالب العلم حسن الظن بالله عز وجل، فإذا وجد الناس أعرضوا عنه أحسن الظن بالله، وقال: لعل الله لحكمة يريدني أن آوي إليه، يريدني أن أخلص له أكثر والعيب فيّ وأنا المقصر، ما يقول: العوام فيهم وفيهم، وإنما يتهم نفسه ويرجع إلى نفسه، ودائماً لا تسئ الظن بالله عز وجل خاصة في هذا العلم، فإن ربك فوق ما ترجو وتأمر كرماً وفضلاً وجوداً وإحساناً وبراً، لا تظن بربك إلا كل خير، سواء كنت طالب العلم أو غير ذلك، لا تظن بهذا الرب إلا كل خير، فالشيطان إذا أراد أن يضر بالداعية أو طالب العلم أدخل إلى قلبه سوء الظن بالله عز وجل، فإذا ساءت ظنونه زاغ قلبه، فمل وسئم وترك الدعوة إلى الله عز وجل، حتى إن أحدهم -والعياذ بالله- ربما يقول: أنا مالي وما للناس؟ وما الذي أدخلني في هذا الأمر؟ حتى يندم عما كان منه من الخير؛ فيحبط عمله فيكون من الخاسرين نسأل الله السلامة والعافية!

    يقول: يا ليتني ما أمرت، يا ليتني ما فعلت! فتذهب حسناته -والعياذ بالله- كلها؛ لأنه ندم على ما كان منه من الخير، وتبرأ من هذا الخير.

    فعلى طالب العلم أن يجند نفسه بشيء واحد -هو سلوته وعماده وروحه ومنه تستمد القوة والعون من الله عز وجل- هو الإخلاص والتوحيد لله سبحانه وتعالى، ومن أراد وجه الله هانت عليه الدنيا وما فيها، ومن أراد وجه الله ثبت الله قلبه وسدد لسانه وشرح صدره، ولم يبال بالناس أقبلت أو أدبرت، والله إنه ليكمل إخلاص العبد مع الله عز وجل فيجلس مع العشرة آلاف وكأنه جالس لوحده.

    ويكمل إخلاص العبد ويكمل يقينه بالله عز وجل ويقف بين الأمة من الناس فلا يبالي بها أقبلت أو أدبرت، كل الذي يفكر فيه فقط مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل الذي يفكر فيه أن هذا القول الذي يقوله وأن هذا النصح وهذا التوجيه يصعد إلى الله عز وجل ويقبله، لا يبالي أقبلت الدنيا أو أدبرت، المهم أن يرضى الله سبحانه وتعالى، وعندما تجد عنده لسان صدق فلا يزل صاحبه، ولا يزيغ قلبه، مما أورثه الله عز وجل من كمال التوحيد والإخلاص، وهذا هو حال الرسل والأنبياء ما كانوا يبالون بالناس أعرضوا أو أقبلوا، فلما أعرض الناس عنهم سلموا أمرهم لله، وتوكلوا على الله، وفوضوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، ومن فوض أمره إلى الله تولى الله أمره، ولذلك قال مؤمن آل فرعون: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:44-45].

    فجعل الله الفرج بالتوحيد والإخلاص له عز وجل.

    فطالب العلم والداعية والخطيب لا يسأم ولا يمل، وليعلم أن الكلمات التي ذكر بها من الأحاديث والآيات البينات أنها إن ضاعت عند الناس فلن تضيع عند رب الجنة والناس، وأنه قد خطها من فمه ومن لسانه، وعليه ملائك حافظون لا يغيرون ولا يبدلون، خطت في صحائف أعماله وأقواله حتى يراها أمام عينيه في يومٍ ينفع الصادقين صدقهم، فيجزى على الحسنات إحساناً، وعلى السيئات إما عقوبة أو صفحاً وغفراناً.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتولانا برحمته، وأن يربط على قلوبنا في طاعته ومرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755822666