إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الإيلاء [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كانت المرأة في الجاهلية إذا آلى الرجل منها تظل بقية حياتها معلقة؛ لا هي متزوجة ولا هي مطلقة، فلما جاء الإسلام وضع لذلك حداً، فجعل للرجل مدة أربعة أشهر، وبعد ذلك يؤمر الزوج بأن يفيء أو يطلق. وللإيلاء أحكام ومسائل ينبغي معرفتها، منها: صفة الإيلاء، وبماذا يكون، ومن الذين يصح منهم الإيلاء، وغيرها من المسائل المذكورة في باب الإيلاء.

    1.   

    تعريف الإيلاء وأحكامه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الإيلاء]

    الإيلاء في لغة العرب: مأخوذ من قولك: آلى الرجل يولي إيلاءً، والأليَّة: الحلفة يحلفها الرجل، ويسمى الحلف واليمين إيلاءً كمـا قال تعـالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22]، فإن هذه الآية من سورة النور سببُ نزولها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يحسن إلى مسطح ، فلما تكلم في حادثة الإفك حلف بالله أن لا يعطيه وأن لا يحسن إليه، فبيّن الله تبارك وتعالى له السبيل الأكمل والأفضل من أن يديم إحسانه ومعروفه عليه.

    الشاهد: أن هذه الآية تدل على أن الإيلاء يستخدم بمعنى الحلف.

    والمراد بالحلف هنا: الحلف المخصوص؛ وهو الحلف بالله عز وجل أو صفة من صفاته على شيء مخصوص، وهو: ترك جماع المرأة ووطئها مدةً مخصوصة، وهي أكثر من أربعة أشهر، على أن يكون هذا الحلف متعلقاً بالزوجة، وأن يكون متعلقاً بالوطء في المحل المعتبر وهو الفرج.

    صفة الإيلاء

    يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الإيلاء] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من المسائل والأحكام التي تتعلق بإيلاء الأزواج وحلفهم على عدم وطء زوجاتهم المدة المعتبرة شرعاً.

    ونظراً إلى أن هذا النوع من المسائل بيَّن الله حكمه في كتابه، وكذلك فصّل العلماء رحمهم الله جملة المسائل المتعلقة به، ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بذكره في كتاب النكاح.

    وإنما أخر الكلام عليه وجعله بعد الطلاق؛ لأن الإيلاء في بعض الأحيان يكون وسيلة إلى الطلاق، والسبب في هذا: أن العرب كانوا في الجاهلية إذا غضب الرجل من امرأته حلف أن لا يطأها أبداً، فتبقى المرأة معلقة؛ لا هي مطلقة ولا هي زوجة، فرفع الله الظلم عن الزوجات ببيان حكم هذه المسألة، فجعل الأمر على العدل والوسط، فجعل للزوج مدة يمكنه أن يؤدب فيها زوجته ويمكنه أن يحلف فيها، ولكن إذا جاوز الحد المعتبر شرعاً فإنه حينئذٍ يوقفه القاضي الشرعي ويقول له: أنت بالخيار بين أحد أمرين:

    إما أن تكفر عن اليمين التي حلفتها وترجع إلى زوجتك.

    وإما أن تطلقها.

    فإذا حلف وكان حلفه فوق الأربعة الأشهر؛ كأن يقول يخاطب زوجته: والله لا أجامعك ستة أشهر، فحينئذٍ وصل إلى الحد المعتبر شرعاً وهو أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف هذه اليمين فإنه يوقفه القاضي عند استتمام الأربعة الأشهر، ويقول له: إما أن تكفر عن يمينك وتؤدي حق زوجك وتتقي الله ربك في أهلك، وإما أن تطلق الزوجة وتسرحها بإحسان.

    فإذا امتنع طلق عليه القاضي، وهذا عين العدل الذي قامت عليه السموات والأرض وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، ولقوم يعقلون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يتذكرون.

    فالله سبحانه وتعالى حكم بهذا الحكم فأعطى الزوج حقه، وأعطى الزوجة حقها، فإنه ربما أساءت المرأة إلى زوجها، وأراد الزوج أن يؤدبها فحلف اليمين لأسباب معتبرة وهي صحيحة، وتعتبر مبررات لإيقاف الزوجة عند حدودها، فإذا حلف وكان الحلف دون المدة التي تضر الزوجة، فإنه حينئذٍ يحقق ما يريده من مصلحة، فإذا جاوز الحد فإن هذا من الظلم.

    وفي شرعية هذا النوع دل الكتاب بقوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]، فهذه الآية من سورة البقرة أصل لبيان حكم الإيلاء.

    وهذا الحكم دليل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وأنها حفظت حقوق المرأة كما حفظت حقوق الرجل، فليست بشريعة جائرة، كما يجور أهل زماننا فينظرون لجنس على حساب حقوق الجنس الآخر، ويتبجحون بالحقوق إذا كانت من مصالحهم أو أغراضهم، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ الحقوق، فمتى اعتدى أحد الطرفين على الآخر أوقفه عند حده، وزجره وبيّن له ما ينبغي بيانه والتزامه لحدوده وشرعه.

    بيان أن الإيلاء لا يكون إلا بحلف الزوج بالله تعالى أو صفته

    قال رحمه الله: [وهو حلف زوج بالله تعالى].

    قوله: (وهو) أي: الإيلاء (حلف زوج) أي: حقيقته عندنا معشر الفقهاء: أنه حلف زوج، فالإيلاء لابد فيه من اليمين والقسم.

    ولذلك جاء في قراءة أُبي وفي قراءة لـابن عباس رضي الله عنهما: (للذين يقسمون) بدل لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ [البقرة:226]، فدل على أن المراد بالإيلاء القسم.

    وقوله: (حلف زوج)، يدل على أن الإيلاء لا يكون إلا من زوج، فلا يكون الإيلاء من زوجة؛ لأن الزوجة لا تملك الطلاق، والإيلاء يتركب منه الطلاق.

    ويدل أيضاً على أن الحلف على الأجنبية لا يتحقق به الإيلاء، فلو قال لامرأة أجنبية: والله لا أطؤك سنة، لم يكن مولياً، وفي مخاطبة الأجنبية بمثل هذا -ما لم تكن هناك دوافع أو مبررات شرعية- إذا رفع إلى القاضي عزره وعاقبه؛ لأن هذا فيه مساس بحرمة الناس.

    وقد اختلف العلماء في تعليق هذا الحلف على الزواج، فقال بعض العلماء: إذا علقه على زواجها فإن الإيلاء يتعلق كما يتعلق الطلاق في قوله: إن نكحتك فأنت طالق، وإن تزوجتك فأنت طالق، وإن زُوِّجت منك فأنت طالق، وإن تزوجتني فأنت طالق.

    وقد تقدم معنا شرح هذه المسألة، وبينا أن الصحيح أن الطلاق لا يقع؛ لأن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:49]، فجعل الطلاق من الناكح، ومن لم ينكح فليس لـه أن يطـلق فيكون كلامه لغـواً.

    وأكدت هذا السنة فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وجاء في الحديث الآخر وهو حديث صحيح قال عليه الصلاة والسلام: (لا طلاق فيما لا يملك)، فإذا كان الطلاق لا يقع إذا كان معلقاً على الزواج من الأجنبية، ففرعه أن الإيلاء لا يقع.

    وقال بعض العلماء: الأصل أن التعليق يوجب المؤاخذة، فلما سقط في الطلاق بالدليل بقي الإيلاء على الأصل، فلو قال لها: إن تزوجتك فإني والله لا أطؤك سنة أو لا أطؤك ستة أشهر، فحينئذٍ قالوا: يكون إيلاءً. وهذا الوجـه الثاني له قوة من حيث الأصل.

    قوله: (بالله تعالى أو صفته).

    الحلف لا يكون إلا بالله، أو بأسمائه وصفاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فدل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز للمسلم أن يحلف بغير الله عز وجل، وقد عظم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال في الحديث الصحيح: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).

    فالحلف نوع من العبادة، والعبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده لا شريك له، ولذلك يتضمن الحلف تعظيم المحلوف به.

    ولو قال قائل: كيف يكون هذا والله قد حلف وأقسم بالمخلوقات؟

    فالجواب: أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه لحكمة يعلمها سبحانه وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].

    وهل كل شيء جاز لله عز وجل يجوز للمخلوق؟! فالله له الحق، وله أن يقسم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، وليس على المخلوق إلا أن يطيع ربه ويلتزم بشرعه، وحلف الله عز وجل بما حلف من مخلوقاته لتنبيه عباده وتعظيم نعمته ومنته.

    وقال بعض العلماء: إن قسم الله عز وجل وحلفه بمخلوقاته يزيد من الإيمان به سبحانه وتعالى؛ لأن المعرفة بحقيقة هذه المخلوقات وعظمة خلقها يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وهو تعظيم للخالق جل جلاله، فمن تأمل قول الله عز وجل: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2] دخل الإيمان في قلبه، ووقر اليقين في فؤاده، وازداد تعظيماً لله جل جلاله.

    وعلى كل حال: ذكرنا أنه لا تنعقد يمين الإيلاء إلا بالله؛ لأن الإيلاء تصرف قولي تترتب عليه الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية لا تترتب على الأيمان المحرمة شرعاً؛ لأن هذا النوع من الأيمان ساقط وغير معتد به شرعاً.

    فعلى كل حال: لابد أن يكون القسم بالله عز وجل أو بصفة من صفاته.

    الإيلاء لا يكون إلا على عدم الوطء

    قال رحمه الله: [على ترك وطء زوجته في قبلها].

    الحلف قد يكون على فعل الشيء أو تركه، وقد يكون الحلف في إثبات شيء أو نفيه، فقوله: (على عدم وطء زوجته) خرج ما لو حلف على وطء الزوجة، فإنه لا يكون إيلاءً ولا يسمى إيلاءً؛ لأن ضرر الزوجة إنما يكون بالامتناع عن وطئها؛ لأن هذا يعرضها للفتنة، وإذا صبرت فإنها قد لا تستطيع الصبر إلى مدة الإيلاء.

    فقوله: (على عدم وطء زوجته) خرج الحلف على غير الوطء، كأن يقول: والله لا أُقبلك سنة، فهذا ليس بإيلاء؛ لأن الضرر بالامتناع عن القبلة ليس كالضرر من الامتناع عن الوطء، فحق المرأة وعفة المرأة تتحقق بغير التقبيل، وهكذا إذا حلف على بقية الأشياء من مقدمات الجماع.

    وقوله: (على ترك وطء)، يدل على أنه لابد أن يكون الحلف على عدم وطء الزوجة، ويكون على عدم الوطء باللفظ الصريح أو بلفظ الكناية، فإذا قال: والله لا أجامعك، فهذا من صريح الإيلاء.

    وبعض العلماء يرى أنه يبين فيه، فلو قال: والله لا أقربك سنة، قالوا: يبين فيما بينه وبين الله تعالى فيما إذا كان مراده غير الوطء، كأن يكون مطلق القربان، قالوا: ومطلق القربان لا يستلزم عدم الوطء من كل وجه.

    قالوا: ومنها القربان، ومنها المس؛ كأن يقول: والله لا أمسك سنة، قال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237] يعبر به عن الجماع ويكون في حكم الجماع.

    أما بالنسبة للكنايات وما يتضمن معنى الوطء احتمالاً، فهذا يسأل فيه عن قصده، فلو قال: والله لا يجتمع رأسي ورأسك سنة، فهذا لفظ محتمل، ويمكنه أيضاً أن يحقق إذا كان مراده بالجماع فلا إشكال، وحينئذٍ ينعقد إيلاءً، فلو قال: قصدت الجماع فهو إيلاء.

    وإن قال: قصدت أن رأسي لا يقترب من رأسها، فأكره أن أرى وجهها.. أو نحو ذلك، فإن هذا لا يمنع من الجماع، ويمكنه أن يجامعها دون أن يكون هناك اجتماع لرأسه مع رأسها، وعلى حال لا يقع به المحلوف عليه، فهذا لا يكون صريحاً في الحلف على ترك الوطء.

    وإن قال: والله لا أغتسل منك سنة، قال بعض العلماء: قوله: لا أغتسل منك، كناية عن الجماع، وحينئذٍ يكون إيلاءً.

    فالمقصود: أنه لابد من وجود اللفظ الدال على الامتناع من الوطء، فإن جاء بلفظ لا يدل على الوطء لا صراحة ولا ضمناً، كمقدمات الوطء، فحينئذٍ لا يكون إيلاءً، ويمكنه أن يمتنع عن هذا الشيء المحدود، ويبقى على الأصل من الاستمتاع بالزوجة وإعطائها حقها في الفراش دون أن يقع منه إخلال يمينه من يمينه، ولا يكون إيلاءً.

    ثم إذا حلف على شيء محتمل للوطء وغيره فإنه يبين.

    إذاً هنا صور:

    الصورة الأولى: أن يحلف على غير الوطء، فهذا ليس بإيلاء.

    الصورة الثانية: أن يحلف على الوطء صراحة، فهذا إيلاء، كأن يقول: والله لا أجامعك، أو إذا عبر بإدخال الفرج كما صرح العلماء، قالوا: هذا كله من الصريح، ولا يسأل عن نيته بحيث يؤاخذ إذا مرت المدة ويلزمه حكم الإيلاء فيها.

    وأما إذا جاء بلفظ محتمل فإنه يسأل عن قصده: ماذا أردت؟ فإن قال: أردت به الجماع، فهو إيلاء، وإن قال: لا أريد به الجماع، فإنه ليس بإيلاء.

    وقوله: (في قبلها)؛ لأنه هو الموضع المعتبر شرعاً للجماع، ولا يجوز الوطء في الدبر، وما يحكى من الأقوال الشاذة فقد تقدم الكلام عليها وبينّاها، وبينّا أن ما حكي عن بعض السلف في هذه المسألة وإن صح ثبوته فإنه قول شاذ.

    كما صح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أفتوا بالمسائل الغريبة، إما إبقاءً على أصول، وإما أخذاً بعمومات لا يراد منها العموم فسرتها نصوص أخر لم يطلعوا عليها، أو حكموا بشيء منسوخ، كما أفتى ابن عباس بحل ربا الفضل، وأفتى بجواز نكاح المتعة.. ونحو ذلك مما يحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما في هـذه المسـألة.

    فهذه كلها أمور تحفظ ولا يعول عليها، ويعتذر لأصحابها؛ لاحتمال الاجتهاد فيها، لكن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دال كل منهما على أن الوطء لا يكون إلا في موضع الحرث، كما قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، فالله أمرنا أن نأتي النساء في موضع مخصوص وعلى صفة مخصوصة، فلا يجوز تبديل فطرة الله التي فطر الناس عليهـا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].

    فالإيلاء لا يكون إلا على عدم الوطء في الموضع، فلو حلف أن لا يفاخذ المرأة، وأن لا يطأها في الدبر فليس بإيلاء.

    مدة الإيلاء

    قال رحمه الله: [أكثر من أربعة أشهر].

    هذه كلها شروط:

    أولاً: الحلف بالله عز وجل أو صفة من صفاته.

    ثانياً: أن يكون من زوج، فلا يكون من أجنبي.

    ثالثاً: أن يكون على عدم وطء الزوجة، فخرج مفهوم هذا من الصفات على وطئها الذي هو عكس العدم، أو الاستمتاع بغير الوطء.

    رابعاً: قوله: (قبلها) هذا شرط مفهومه أن الدبر أو المفاخذة لا يدخل في الإيلاء.

    والشرط الأخير: أن يكون أكثر من أربعة أشهر.

    لقد شرع الله عز وجل النكاح من أجل أن يعف الرجل امرأته وتعف المرأة زوجها، فإذا أصبح النكاح وسيلة للإضرار؛ كأن يحبس الرجل امرأته فيمتنع من وطئها فيعرضها للحرام والفتنة، أو تمتنع المرأة من زوجها ولا تعطيه حقه في الفراش، فحينئذٍ يحكم الشرع بحرمة الأمرين، حتى ورد الوعيد بالنسبة للمرأة أنها لو دعاها زوجها فامتنعت من إجابته باتت الملائكة تلعنها والعياذ بالله!

    فهذا أمر عظيم ووعيد شديد.

    وكذلك أيضاً بالنسبة للزوج، وقد افترق الأمر بالنسبة للرجال والنساء، فالله عز وجل له الحق أن يفرق بين المجتمع وأن يجمع بين المفترق وهو أعلم وأحكم، وهي من الأمور التي يختلف فيها الحكم بين الرجل والمرأة.

    ولا شك أن الحياة الزوجية المستقيمة التي تحرص فيها المرأة على حسن التبعّل لزوجها لا يقع فيها مثل هذا، قالوا: لأن الغالب أن الزوج لا يحلف هذه الأيمان إلا إذا قصرت المرأة.

    ومن هنا يقول بعض العلماء: أن المرأة إذا حرصت كل الحرص على المحافظة على العشرة لزوجها بإطفاء غريزته واحتواء شهوته، ولو بالتجمل والتزين، وهذا أمر تقره الشريعة؛ فإنها تثاب على حسن تجملها وتزينها لزوجها، كما أنها تثاب على صلاتها وزكاتها، إذا قصدت أن تعفه عن الحرام وخاصة في هذا الزمان.

    وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن الإيلاء لا يقع إلا من امرأة في الغالب ضيعت إكرامها لبعلها في فراشه؛ لأنها لو كانت تحسن التبعّل له فلا يمكن أن يفرط الزوج في هذا، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يحلف بالله ويغلظ الامتناع منها إلا إذا فشلت في كسب وده واحتواء أمره، ولذلك ينبغي على المرأة المسلمة الصالحة الدينة أن تحسن النظر في هذه الأمور.

    وليس هذا بعيب، فإن بعض الصالحين يشتكي من بعض الصالحات اللاتي فيهن خير أنه ربما عاتبها على أنها لا تحسن التزين له، فيأمرها أن تتزين، فتمتنع من ذلك وتقول: هذه شهوة عاجلة، وتحقر من هذه الأمور.. إن هذه فطرة وغريزة جعل الله لها مسلكها، وجعل لها وضعها وطريقها، ولا يمكن لأحد أن يستدرك على الله عز وجل.

    فالمرأة مطالبة شرعاً أن تتجمل لزوجها، وأن تحسن التبعل له، حتى لا يأتي يوم من الأيام فيزهد فيها الرجل وفي فراشها، ولا يحسن الإكرام لها حتى إنه يحلف على عدم وطئها.

    والإيلاء لابد أن يكون له مدة وهي أربعة أشهر، والمرأة قد تصبر على زوجها الشهر والشهرين والثلاثة على مضض، والرابع على شدة، ومن هنا جعل الله عز وجل مدة الإيلاء أربعة أشهر، وليست هي الحلف، فلابد أن يكون الحلف فوق الأربعة الأشهر.

    ومن هنا لو أنه حلف حلفاً زائداً على أربعة أشهر بزمان ولو قليل فهو مول، ولكن لو حلف أربعة أشهر فليس بمولٍ على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.

    ومن هنا ندرك أن تحديد الحدود الشرعية لا يقتضي أمراً معهوداً شرعاً، ولربما تجد الحد الزماني والمكاني يختلف الحكم فيه بهذا التحديد الشرعي، حتى إنك لو نظرت إلى حد الحرم، فإنك لو خطوت خطوة واحدة فأنت داخل الحرم، وإذا خطوت خطوة فأنت خارج الحرم، فإذا عملت أعمالاً داخل الحرم فلها حكم، وإذا عملت بعض الطاعات والمعاصي في الحرم فلها حكم آخر.

    وهذا يدل على أن التقييد صحيح حتى ولو كان في القصر في الصلاة، وبعض المتأخرين يعيب على جمهور العلماء فيقول: كيف يحدون بثمانين كيلو أو خمسة وسبعين كيلو متراً؟ فنقول: هذا حكم الله عز وجل، ولسنا الذين حددنا، ولكن الله هو الذي حدد، فكما أنك تقول في الحرم: لو خطا خطوة واحدة كان داخل الحرم، ولو تأخر خطوة واحدة كان خارج الحرم، فكذلك الأربعة أشهر، فلو زاد عليها ولو بقليل حكم بالإيلاء، ولو اعتد بالأربعة الأشهر ولم يزد عليها فإنه ليس بإيلاء على أصح قولي العلماء؛ لأن الله تعالى يقـول: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] .

    ثم جعل الحكم مركباً على تمام الأربعة الأشهر، ولذلك قال: فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226]، فدل على أن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227]، وهذا إنما يكون بعد تمام المدة.

    فدل على أن المدة بعينها -وهي الأربعة الأشهر- ليست بإيلاء، وفائدة ذلك: أنه بمضي الأربعة الأشهر واستتمامها سقطت يمينه وحلت له زوجته، لكن إذا حلف أكثر من الأربعة الأشهر فلا تسقط اليمين، ومن هنا اشترط أن تكون أكثر من أربعة أشهر، وأن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي لثبوت حكم الإيلاء.

    1.   

    بيان من يصح منهم الإيلاء

    قال رحمه الله: [ ويصح من كافر وقن ومميز وغضبان وسكران ومريض مرجو برؤه وممن لم يدخل بها].

    الكافر

    قوله: [ويصح من كافر].

    يستوي في الإيلاء الكافر والمسلم، فلو حلف كافر على أنه لا يطأ زوجته سنة أو ستة أشهر، فإنه يصح منه. وفائدة هذه المسألة: إذا كان المولي من أهل الذمة وحلف على زوجته أنه لا يقربها أكثر من أربعة أشهر، ورفعته زوجته إلى قضاء الإسلام وتحاكموا إلينا، فحينئذٍ يوقفه القاضي ويقول له بعد تمام الأربعة الأشهر: إما أن تفيء، وإما أن تطلق عليك الزوجة.

    وهذا خلافاً لمن قال: إنه لا يقع بالنسبة للكفار، على المسألة المتقدمة معنا في مخاطبتهم بفروع الإسلام.

    والأصل في صحته من الكافر عموم قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226].

    القِن

    قال: (وقن).

    القن هو العبد، فلا يشترط الإسلام ولا الحرية، فلو تزوج عبد من أمة نكحها ثم حلف بالله أن لا يطأها أكثر من أربعة أشهر، انعقد إيلاؤه، فإذا تمت الأربعة الأشهر اشتكته زوجته إلى القاضي، فيوقفه القاضي عند تمام المدة ويقول له: إما أن تفيء، وإما أن تطلق عليك زوجتك.

    المميز

    قال: (ومميز).

    أي: الصبي المميز، وقد اختلف فيه العلماء: فالجمهور على أنه لا يصح من الصبي المميز، وهذا هو الصحيح، خلافاً للحنابلة، فعندهم رواية على أن المميز يعاملونه معاملة المكلف بمسائل منها هذه المسألة، والصحيح: أن المميز ليس بمكلف، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد .

    والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم..) والمميز دون الاحتلام؛ لأن الصبي إما أن يكون مميزاً وإما أن يكون غير مميز.

    وقد تقدم معنا في أكثر من موضع أن العلماء اختلفوا في ضابط التمييز؛ فمنهم من يضبطه بالسن، ومنهم من يضبطه بالصفة، ومن ضبطه بالسن قال: سبع سنوات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة لسبع سنوات، ومنهم من قال: عشر سنوات، ومنهم من يقول: إحدى عشرة سنة، وقيل: اثنا عشرة سنة، كما في مسائل الطلاق التي تقدمت معنا.

    ومنهم من ضبط المميز بضابط الصفة فقال: الصبي المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب.

    والصحيح: أن المميز وغيره لا يصح منهم الإيلاء؛ لأن الإيلاء يتوقف على اليمين، واليمين تنعقد من البالغ ولا تنعقد من غير البالغ، وإنما يباح له وهو صبي، فلو قال: والله لا أطؤك خمسة أشهر، فإن يمينه لا تنعقد؛ لأنه مرفوع عنه القلم؛ فحينئذٍ لا يقع بين الخيار؛ لأنه ليس ممتنعاً عن وطء زوجته بيمين.

    وعلى هذا فمذهب الجمهور على أنه يشترط البلوغ، فلا يصح الإيلاء من غير البالغ، سواء كان مميزاً أو غير مميز.

    الغضبان

    وقوله: (وغضبان).

    الغضب حالة تعتري الإنسان، وهو نوع من الهياج واختلال المزاج، وتسوء فهي أفعال الإنسان ويعكر صفوه.

    وقد بينّا في مسائل طلاق الغضبان أن الغضب على ثلاث مراتب:

    غضب يوصل إلى الجنون؛ فلا يعي الإنسان معه ما يقول، وهذا يثبت لأحوال متعددة، فهناك من الناس من عنده هذا البلاء، فعندما يشتد غضبه يفقد عقله تماماً، ويتكلم بكلام لا يعرفه، فمثل هذا لا يؤاخذ بقوله ولا يؤاخذ بفعله، فلو ثبت لدى القاضي أن غضبه يوصل إلى درجة الجنون، وشهد الشهود العدول، وشهد الأطباء المختصون أن هذا النوع من المرض أو المزاج العصبي يوصله إلى حد عدم التمييز وعدم الإدراك في حال هيجانه؛ فإن هذا تسقط مؤاخذته بالأقوال والأفعال كالمجنون سواءً بسواء.

    وحكى الإجماع على ذلك غير واحد من المحققين؛ كالإمام ابن قدامة ، والإمام النووي .. وغيرهما رحمة الله على الجميع.

    المرتبة الثانية من الغضب: بداية الشدة وبداية التعكر في المزاج، والذي لا يختل معه الشعور ولا يذهب معه الإدراك، فهو يعلم أن التي أمامه زوجته، ويعلم أن الذي أمامه مسلم محرم الدم والعرض والمال، فهذا يؤاخذ على أقواله وأفعاله، ولو طلق لزمه الطلاق، والطلاق عادةً لا يقع إلا من غضب، فليس هناك رجل يطلق زوجته وهو يضحك معها، فالأصل أن الطلاق لا يقع إلا عند اختلال المزاج، وعند وجود ما يعكر صفو الإنسان ويخرجه عن طوره.

    المرتبة الثالثة من الغضب: هي المرتبة التي تكون بين الجنون وبين بداية الغضب، وهي محل الإشكال عند العلماء رحمهم الله:

    فبعض العلماء يقول: هذا النوع من الغضب لا يسقط التكليف، فلو طلق يؤاخذ بطلاقه، ولو تكلم كلاماً يوجب الردة كسب الدين أو نحو ذلك والعياذ بالله فإنه يحكم بكفره، ويؤاخذ على أقواله وأفعاله؛ لأن الأصل فيه أنه مكلف، وما دمنا شككنا في وصوله إلى درجة سقوط التكليف، فالأصل بقاء ما كان على ما كان.

    وقال بعض العلماء: إن الغضب في الأصل يعزب عن الإنسان رشده وصوابه، فإذا دخل في هذه الحالة فإن الأصل أنه لا يؤاخذ حتى يثبت أنها حالة غير مؤثرة، وهو يرى أنها حالة جنون؛ لأن الغضب نوع من أذية الشيطان للإنسان، ولذلك تنتفخ أوداجه، ويجري منه الشيطان مجرى الدم ويؤثر عليه، فقالوا: إن هذا النوع من الجنون الأصل أنه لا يؤاخذ فيه، والقول الأول أشبه بالأصول وأقوى.

    ويقول الذين يسقطون عنه التكليف: الأصل أنها زوجته، فلماذا نطلقها في حالة مشتبهة وغير واضحة؟ وكذلك هنا في الإيلاء يقولون: إذا غضب وحلف وهو في حالة غضب وهيجان فالأصل أنها زوجته، ولا يؤاخذ باليمين حتى يكون عنده إدراك.. وكل هذه التعليلات لمن قال: إنه لا يؤاخذ، ولكن القول الذي يقول بالمؤاخذة أشبه وأقوى.

    ومن هنا قال المصنف رحمه الله: (وغضبان) أي: يصح الإيلاء من الغضبان، لكن إذا وصل الغضب إلى حد الجنون -كما ذكرنا- فهذه حالة مستثناة ولا يؤاخذ فيها.

    السكران

    قوله: (وسكران).

    السكر تقدم معنا بيانه وبيان بعض مسائله في طلاق السكران، وبينّا كلام العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران.

    وقد دلت نصوص الشريعة من حيث الأصل على أن السكران في حكم المجنون، وهذا له أدلة، لكن من حيث الأصل فالسكر ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: أن يكون السكر على وجه يعذر فيه الإنسان، كأن يشرب خمراً يظنه عصيراً، أو مثلاً دس له الخمر بشيء لا يعرفه، أو غلب على أمره وخدر، كما هو الحال الموجود الآن في المخدرات أعاذنا الله منها، ومثله المخدر في العمليات الجراحية إذا أعطي مادة التخدير، فإذا كان سكره على وجه يعذر به شرعاً فاختل عقله، وحصل عنده تغييب، فحلف ووقع منه إيلاء أو طلاق أو عتق، فهذا على وجه يعذر به شرعاً.

    والإجماع منعقد على أنه لا يؤاخذ، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد من العلماء؛ منهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، نقل الإجماع على أن من سكر وكان سكره على وجه يعذر به شرعاً، فإنه في هذه الحالة لو طلق لا ينجز طلاقه، ولو أعتق لا يعتق عليه عبده، ولو حصل منه إيلاء لا ينعقد إيلاؤه؛ لأن سكره على وجه يعذر به شرعاً.

    القسم الثاني: أن يكون سكره على وجه لا يعذر به شرعاً؛ كمن شرب الخمر عامداً متعمداً، فقال أثناء سكره يخاطب زوجته: والله لا أجامعك خمسة أشهر، أو والله لا أجامعك هذا العام أو هذه السنة.

    فقال بعض العلماء: السكران غير مكلف، فلا يؤاخذ بإيلائه، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال جمهور العلماء: ينعقد إيلاؤه.

    والصحيح: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ أن السكران لا يصح إيلاؤه؛ بدليل الأثر والنظر: أما دليل الأثر وهو كتاب الله عز وجل فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43].

    ووجه الدلالة: بيّن الله في هذه الآية الكريمة أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه كالمجنون لا يؤاخذ على قوله، فهذه الآية تدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، وأنه في الأصل غير مؤاخذ بقوله.

    أما دليل السنة فما ثبت في الصحيح: أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه شرب الخمر حينما كانت مباحة في أول الإسلام، واعتدى على شارف لـعلي رضي الله عنه كان قد هيأه مهراً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى علي هذه المصيبة التي وقعت في مهره انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة، ولم يكن يعلم أن حمزة بحال السكر والشراب، فدخل على حمزة وعاتبه، فرفع حمزة رضي الله عنه وأرضاه رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أنتم إلا عبيد لآبائي. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حال السكر، فرجع القهقرى ولم يؤاخذه.

    فهذه الكلمة لو قالها أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكفره بالإجماع، ومع ذلك لم يؤاخذ الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام حمزة حينما تكلم بها في حال السكر؛ فدل على أن السكران لا يؤاخذ على قوله.

    وكذلك أيضاً دل دليل النظر على أن السكران لا يؤاخذ، فلا يصح إيلاء السكران كما لا يصح إيلاء المجنون بجامع كون كل منهما فاقد لإدراكه وعقله.

    فكما أن المجنون بالإجماع لو قال لامرأته: والله لا أجامعك سنة، فإنه لا ينعقد إيلاؤه؛ لأنه مجنون، ولم يدرك ما يقول، فكذلك السكران لا ينعقد إيلاؤه، ونقول: لا يقع إيلاء السكران كما لا يقع إيلاء المجنون، بجامع كون كل واحد منهما فاقداً لشعوره وإدراكه وتمييزه.

    وعلى كل حال: القول بعدم صحة إيلاء السكران هو الأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى، فلا يصح الإيلاء من السكران كما لا يصح من المجنون.

    المريض المرجو برؤه

    قال: (ومريض مرجو برؤه).

    أي: ويصح الإيلاء من مريض يرجى برؤه، والمريض ينقسم إلى قسمين، وقد تقدم معنا هذا في أحكام تصرفات المريض مرض الموت.

    وأصل المرض عند الأطباء -كما عرفه صاحب التذكرة وغيره-: أنه خروج البدن عن حد الاعتدال، فالبدن إذا اعتدلت فيه الأمزجة الأربعة المعروفة استقامت الصحة، وإذا اختل واحد منها فإنه يوصف البدن بكونه مريضاً وسقيماً، ومن هنا عُرف المرض بأنه: خروج البدن عن حال الاعتدال.

    إذا ثبت هذا فالمرض إما أن يكون مرضاً يرجى برؤه؛ كالزكام والصداع، فهذا النوع من المرض لو حلف صاحبه أن لا يجامع زوجته سنة فإنه يصح إيلاؤه؛ لأن المرض يرجى برؤه.

    أما إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه؛ كمرض الموت الذي لا يملك معه أن يتمكن من الوطء؛ لأن المرض يمنعه ويعيقه، فهذا لو حلف وقال: والله لا أجامعك سنة، فإنه أصلاً ليس بمجامع، ومن هنا قالوا: إنه لا إيلاء في حقه؛ لأن عنده عجزاً حسياً يمنعه من الجماع، فلا يعاقب، إنما يعاقب القادر، وهذا غير قادر، فإنه لو انحلت يمينه ليس بمجامع زوجته.

    ومن هنا قالوا: إن السبب في الإيلاء أن الزوج يضر الزوجة ويمنعها عن حقها، فإذا كان الزوج لا يستطيع الجماع لمرض لا يرجى برؤه، فهذا لم يضر، وحينئذٍ لا يقع الإيلاء.

    وقد نص على هذا جماهير العلماء رحمهم الله.

    الزوج إذا لم يدخل على الزوجة

    قال: (وممن لم يدخل بها).

    أي: ويصح الإيلاء من الزوج إذا كان لم يدخل بامرأته فقال لها: والله لا أجامعك سنة، وهو لم يدخل بها، ففي هذه الحالة يقع الإيلاء ويصح، فلا يشترط فيه الدخول على الزوجة. لكن لو كان بحال يمنعه فقد فصل فيه بعض العلماء، وأشار إلى هذه المسألة الإمام النووي رحمه الله، لكن من حيث الأصل أن من لم يدخل يصح الإيلاء منه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الإيلاء إذا انتهى عند بداية حيض أو نفاس

    السؤال: لو انتهت الأربعة الأشهر عند بداية حيض أو نفاس، فما الحكم في ذلك؟

    الجواب: بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فقد اختار طائفة من العلماء في هذه الحالة: أنه يؤخر إلى أن ينتهي الحيض وإلى أن ينتهي النفاس؛ لأن الإيلاء لا يقع، ثم يطالب بأحد أمرين:

    إما أن يفيء، وإما أن يطلق.

    لأنهم يقولون: إذا دخل العذر فلا يقع الإيلاء، ولا يكون من حق الزوجة المطالبة حتى ينتهي العذر.

    فلو آلى منها أكثر من أربعة أشهر، وقبل مدة الإيلاء التي هي الأربعة الأشهر أو عند انتهائها في اليوم الأخير جاءها حيض أو نفاس، فقالوا: ينتظر؛ لأن الزوج لا يستطيع أن يفيء، فلو قال له القاضي: يلزمك أن تفيء إلى زوجتك، فإنه لا يستطيع؛ لأن هناك مانعاً شرعياً يمنع من وطئها، فلا يوقفه القاضي إلا بعد انتهاء وزوال هذا المانع الشرعي.

    هذا اختيار طائفة من أهل العلم رحمهم الله، كما أشار إليه الإمام ابن قدامة وغيره رحمة الله على الجميع. والله تعالى أعلم.

    حكم انصراف المأموم قبل الإمام

    السؤال: ما حكم انصراف المأموم قبل انصراف الإمام بعد السلام؟

    الجواب: السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المأموم لا يقوم من مكانه إلا بعد أن ينفتل الإمام وينحرف، وهذا هو الأصل، وهو الذي كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عليه سنته.

    ومن هنا منع العلماء رحمهم الله قيام المأموم مباشرة، والعلة في ذلك عند العلماء مختلفة :

    فمِن أهل العلم مَن قال: إن السبب في هذا: أن النساء كن يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يمكث وقتاً وهو مستقبل القبلة حتى ينصرف النساء، ثم بعد ذلك ينصرف بوجهه إلى أصحابه رضوان الله عليهم.

    وهذا أمر محتمل؛ لكن التعليل به ضعيف، والسبب في هذا: أنه لم يقصر ذلك على الصلوات الليلية التي كان يشهدها النساء دون النهارية.

    وأيضاً: لو كان الأمر كما ذكروا، ففي صلاة الفجر أيسر أن تقوم المرأة دون أن ترى؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات، ثم ينقلبن إلى بيوتهن متلفعات بمُرُطهن لا يعرفن من شدة الغلس) .

    فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفتل من صلاته حين يعرف الرجل جليسه؛ لكن البعيد لا يعرفه.

    وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم فعله حضراً وسفراً، فقد كان في بعض أسفاره وغزواته عليه الصلاة والسلام لا يكون معه النساء، ومع ذلك كان يمكث، ولم يحفظ عنه التفريق في الأحوال الخاصة. فمسألة (خوفَ أن تُرَى النساء) التعليلُ بها وارد؛ لكنها ليست بعلة قوية.

    وهذا يدل على أن العلة الثانية وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مصلاه لخوف طريان السهو، ولذلك مكث عليه الصلاة والسلام تشجيعاً للأمة وتشجيعاً للأئمة أنه إذا انفتل الإمام من الصلاة ربما كان هناك نقص أو كانت هناك زيادة، فينبه قبل أن ينصرف من مكانه، احتياطاً لحق الله عز وجل في هذه العبادة.

    وهذا أمر معهود، أن العبادات يصحبها شيء بعدها يستدرك به ما فات منها، ومن هنا فإن العلة بكونه يخْشى أن يطرأ شيء في الصلاة أو نقص سيكون في موضعه هو الأقوى.

    ومن هنا يُشَدد في هذا الأمر، فلا يقم المأموم من مكانه ولا يتحول ولا ينصرف إلا بعد أن ينصرف الإمام بوجهه إلى المأمومين.

    وأنبه على بعض طلاب العلم الذين يستعجلون في القيام بعد السلام مباشرة، ونحن لا ننكر القيام مباشرة إلى مجالس العلماء؛ بل نرى أن هذا شرف لطالب العلم؛ لكن بشرط أن لا يؤذي إخوانه المسلمين، ولو أن البعض ينكر؛ لكن لجهله، والسنة الصحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في الصحيح أنه بعد سلامه قام مباشرة إلى غرفته وحجراته عليه الصلاة والسلام، وجاء بالتِبر لمصلحة شرعية.

    ومن هنا قالوا: إذا كان هذا لدفع الضرر عن نفسه عليه الصلاة والسلام حينما قال: (ما ظن محمدٍ أن لو لقي الله وهذا عنده)، فكيف بمن يتحمل مصالح الأمة في طلب العلم؟!

    ثانياً: لو قال قائل: هناك بعد المغرب سنة راتبة، فنقول:

    قال بعض العلماء: يجوز تأخيرها إذا كان هناك حلقة علم أو محاضرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه جاءه وفد عبد قيس، فلم يصلِّ سنة الظهر إلا بعد العصر وقال (.. هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلت عنها آنفاً).

    قالوا: وهذا من أجل تعليم العلم؛ لأنه كان يعلم عليه الصلاة والسلام ويوجه ويرشد.

    فأنبه وأحذر من مسألة النقد؛ لأنه مما يؤلم ويؤسف له أن الناس في هذا الزمان عندهم جرأة على نقد الغير، وهذا أمر سببه قلة العلماء، وتساهل كثير من الناس في أمر اللسان، ولو كان طالب العلم عنده خطأ فينبغي أن لا تغتابه، فالبعض يتكلم على طلاب العلم، حتى إنه يبلغ الجرأة، حتى إن بعض العوام يقوم في المسجد ويتكلم عليهم قبل المحاضرة أو قبل الدرس ويسفههم.

    وهذا لا شك أنه من جهله، وإلا فمن المفروض أن يسأل من يوثق بدينه وعلمه، حتى ولو أفتى عالم أن هذا منكر وأفتى غيره بأنه جائز، وعنده سنة صحيحة، فلا إنكار ما دام أن هناك مجالاً للسنة.

    ووالله إننا لنبتهج ونُسر حينما نرى من يخاف الله ويتقيه ويسعى حثيثاً إلى مجالس العلماء، ويظهر من قوله وسمته ما يدل على تعظيم شعائر الله عز وجل، وكل إنسان عنده عقل وإدراك عندما يرى حرص طلاب العلم، أو يرى شباب الأمة يحرصون على مجالس العلماء ويزدحمون عليها، تدمع عينه من خشية الله، ويقول: الحمد لله الذي أبقى في هذه الأمة من يحرص على هذا الدين، فالحمد لله أنه لا يراهم على محرم أو على فجور، أو يتكالبون على دنيا.

    وهذا شرف لطالب العلم، ولو وقف على رجليه ينتظر العلم والعلماء فإن هذا شرف والله، ولا ينقص من قدره ولا يحط من مكانته.

    فعلى كل حال: على طالب العلم وعلى الناس أن ينتظروا حتى ينفتل الإمام، فإذا انفتل الإمام فلهم أن يقتربوا، ومن حضر محاضرة أو مجلس ذكر وأراد القرب من العالم، فلا شك أنه يقرب في الحلقة ولا يؤذي إخوانه، والله يعلم أنه ما دنا وأنصت إلا طلباً للعلم.

    قال بعض العلماء: أرجو لمن اقترب من مجالس العلماء ودنا منها الرحمة من الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم دنا وأنصت) وكل هذا من أجل خطبة الجمعة، وحتى المشي لأجل العلم ولأجل ثواب العلم عُد قربة عند الله عز وجل وثواباً ورفعة درجة، وموجباً لهذه المغفرات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يكره لبعض من يجلس بعيداً عن الحلقة ولو كان في المسجد، إلا إذا كان عنده عذر أو مرض أو نحوه، أما إذا لم يكن عنده عذر فإنه يدنو ويزاحم ويحرص، لكن لا يؤذي إخوانه المسلمين.

    وقد ذكر العلماء رحمهم الله عند بيانهم لآداب طلب العلم: فضل القرب من العلماء، وأن الله عز وجل وضع من البركة والخير والنفع للعالم القريب من علمائه ما لم يضع لمن هو أبعد، وهذا واضح جلي، ولذلك تجد الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم خيراً.

    وقد أشار إلى هذا الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات، وبيّن أن الصحابة فتح الله عليهم لأنهم تلقوا مباشرة، وأنهم كانوا يحضرون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم تفاوتوا في فضل الله عليهم بحسب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فمن يقترب من مجالس العلماء يعلم الله أنه لا يريد دنيا، ولا يرجو تجارة ولا مالاً، وإنما يرجو رحمة ربه إذا أخلص لربه جل وعلا.. بخ بخ، هذه والله التجارة الرابحة يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29]، ونحمد الله عز وجل ونشكره أن وجد من شباب الأمة ومن طلاب العلم من يعظم شعائر الله، لكن ينبغي على كل طالب علم أن يحرص على أمرين هامين في هذه المسألة:

    أولهما: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وأن لا يقصد من قربه من العالم أن يعرف أو يشتهر، أو يكون له حظ أو حبوة عند العلماء، والله لا ينفعك أحد دون الله عز وجل، وحتى لو اقتربت من العالم وكنت كثوبه الذي على جسده قرباً ومواظبة، فلن يغني عنك من الله شيئاً، فكن عاقلاً وكن حكيماً، وابتغِ مرضاة الله عز وجل في كل ما تفعله وما تذره، فلا ينفعك إلا الله وحده لا شريك له، فعليك أن تخلص لله سبحانه وتعالى.

    ثانياً: أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فإن الله لا يطاع لكي يعصى، ولربما جاء طالب العلم تغشاه السكينة والوقار وتأدب وجلس وأنصت، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة عن تخطي الرقاب؛ لأن فضائل الجمعة ما وضعت إلا من أجل الخطبة، ولذلك قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، ومن هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين اثنين، ونهى عن أن يتخطى الرقاب، وجعل الفضائل لمن احترز من هذه الأمور.

    والنبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن هذا إنما قصد الأصل الشرعي، وهو أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فليس من المعقول أن يأتي طالب علم متأخراً ثم يزاحم إخوانه، وإذا كان هناك مجال فيحتسب الإخوان ويتراحمون ويتواصون، وكل من جاء من إخوانك متأخراً وعندك مجال فتخيل أنك في مكانه، ونفس الحجة التي تريد أن تقيمها عليه انظر إلى حجته عليك لو كنت مكانه.

    فهذا يوسع الصدر، ويجعل الأمر على محبة وتواد وتواصل وتعاطف وتكاتف وتآلف، وتحمد الله عز وجل أن جعل لك أخاً في الإسلام يطلب العلم كما تطلبه، وكل من عظم شعائر الله عز وجل فإنه يُحب في الله ويوالي في الله، وهذا من دلائل كمال الإيمان، فإنك تجلس في مجلس العالم وتتمنى أن إخوانك كلهم على كف واحدة، وهذا لا أقوله مبالغة؛ لأن هذا شيء عايشته، فقد كنا في مجلس الوالد رحمة الله عليه، وكانت من أصعب الأيام عندنا أيام رمضان، فكان رحمه الله يلقي بعد صلاة العصر درساً، وبعد الفجر وبعد الظهر، وكان أصعب الدروس درس العصر، فلم يكن في المسجد النبوي مكيفات ولا مراوح، وكان يستمر الدرس إلى قرب المغرب.

    فكنا نجلس وسط الزحام، والرائحة التي تخرج من الأفواه بسبب الصوم، والعرق الذين يكون من الناس، وتزاحم طلاب العلم على ذلك، وقد مرت على بعض طلاب العلم حالات يجلس فيها فيجلس على يمينه رجل وعلى يساره رجل، ويزحم حتى يكاد يرى الموت، وكانت له ثلاثة دروس رحمه الله بعد العصر: درس في صحيح مسلم، ثم في الترغيب والترهيب، ثم في السيرة، وكان يجلس أكثر من ساعة ونصف إلى ساعتين في أيام الصيف؛ لأنه لا يترك الدرس إلا قبل الإفطار بنصف ساعة رحمه الله.

    فالمقصود: أنه والله كانت تمر أشياء لا تزيدنا إلا محبة لإخواننا، فإذا شعرنا بحاجة المسلمين إلى هذا العلم وحاجة الناس إلى الدعوة، فإن هذا يعيننا على كثير من الصبر.

    وأحب أن أنبه على مسألة أخيرة وهي: مسألة حجز الأماكن:

    فإني أناشد كل مسلم بالله عز وجل أن لا يحجز المكان إلا في حالة واحدة، وهي أن يأتي مبكراً ويجلس في مكان ولا يقوم منه إلا لضرورة كقضاء الحاجة.

    أما غير هذا فإني أشهد الله وملائكته أنني بريء مما يصنعون، سواء كان الحجز في مجلس العلم أو في الصلاة، فلو أن كل شخص يفرش سجادة، أو يضع الكتاب ثم يذهب إلى بيته، لظلم الناس بعضهم بعضاً خصوصاً طلاب العلم.

    فمن عجل وبكر وابتكر فهو أحق أن يجلس في هذا المكان، وأحق أن يعمره بذكر الله عز وجل، سواء في الصلاة أو غيرها، وينصح طلاب العلم بعضهم بعضاً، فإن من وضع كتابه ولم يجلس في ذلك المكان فإنه في هذه الحالة قد ظلم وحجز المكان.

    حتى إن بعض العلماء يقول: المكان المغصوب لا تصح الصلاة فيه، قالوا: ومن الغصب أن يأتي الإنسان ويضع سجادة ويذهب إلى بيته ثم يأتي ويصلي في هذا المكان؛ لأنه اغتصب هذا البقعة، فمنع الناس من الصلاة وذكر الله فيها، فظلم حتى البقعة؛ لأن هذه البقعة تحب ذكر الله عز وجل، وتفرح بالصلاة عليها، فهذا عطلها ومنعها ومنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.

    فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وعلينا أن نتأدب بآداب الإسلام وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ووالله ثم والله لا يكون العلم مباركاً لطالب العلم إلا إذا سمت روحه وزكت نفسه.

    حكم فرقعة الأصابع في المسجد وتشبيكها بعد الفرض

    السؤال: ما حكم الفرقعة بالأصابع في المسجد؟ وما حكم تشبيك الأصابع بعد الانتهاء من صلاة الفرض؟

    الجواب: بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فإن فرقعة الأصابع لم يثبت دليل على تحريمها والمنع منها، ولذلك فإن فتوى البعض بأنها حرام أمر محل نظر؛ لأن تحريم الأشياء يحتاج إلى نص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    والناس يختلفون، وقد يعتاد البعض فرقعة أصابعه دون شعور، وليس هناك دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحريمها، وما يُحكى عن قوم لوط أنهم كانوا يفعلون هذا، فهذه أمور تحتاج إلى توثيق، وتحتاج إلى ثبوت النص بتحريمها وإنكارها وعدم جوازها.

    لكن بعض العلماء عد ذلك من خوارم المروءة، ولكن ليس على كل حال يعتبر من خوارم المروءة، فقد يكون الشخص اعتاد ذلك، أو يفعله لا شعورياً بسبب الإلف، فهذا أمر موسع فيه، أما إذا كان على سبيل التكسر والتخنث فهذا أمر معروف حكمه، حتى إن لباس الثوب لو كان على صفة فيها تكسر، أو المشية لو كانت على صفة فيها تكسر، فهي محرمة لعارض لا لأصل.

    ففرقعة الأصابع شدد فيها بعض العلماء وعدها من خوارم المروءة، لكن الحكم بالتحريم يحتاج إلى نص؛ لأن خوارم المروءة ليست بمحرمة؛ لأنها في أشياء مباحة، قال الناظم:

    وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان

    فهو مباح في الأصل؛ كالأكل أمام الناس، والأكل في الأسواق، والضحك بصوت عال في مجامع الناس، وفي أمكان لا يصلح فيها الضحك.. ونحو ذلك من الأمور التي تدل على نقصان عقل صاحبها، فهذه من خوارم المروءة؛ لأن المروءة هي الكمال.

    والأصل في الدليل الشرعي في ضابط خوارم المروءة ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فإذا فعل الإنسان هذه الأمور أمام من ينبغي الحياء منه؛ كالعالم والوالد والشيخ أو الكبير أو الذي له مكانة، فمثل هذه الأمور تخرم المروءة، ولكنها لا تقتضي الحكم بالحرمة.

    وأما تشبيك الأصابع فله حالتان:

    الحالة الأولى: تشبيك الأصابع قبل الصلاة، فهذا منهي عنه شرعاً، فمن خرج من بيته فلا يجوز له أن يشبك بين أصابعه؛ لأنه جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الرجل إذا خرج من بيته فهو في صلاة فلا يشبكن بين أصابعه؛ لأن التشبيك شعار اليهود في عباداتهم.

    ومن الأخطاء الشائعة التي يقع فيها بعض الناس مما يسبق الصلاة: أنهم وهم جالسون بعد أداء السنن أو أداء تحية المسجد تجد الشخص يشبك أصابعه بعضها ببعض، مع أنه قبل الصلاة ممنوع منه، وينصح الناس وينبهون على ذلك.

    الحالة الثانية: بعد الصلاة؛ وفيها أحاديث صحيحة منها حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -شك من الراوي- فسلم من اثنتين، ثم قام إلى الجذع كالغضبان وشبك بين أصابعه..)؛ فهذا يدل على أن تشبيك الأصابع بعد الصلاة لا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين الأصابع ظاناً أن الصلاة قد انتهت.

    ومن هنا قالوا: لا بأس به، ومما يدل على أن التشبيك في غير الموضع المنهي عنه جائز: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه، كما في الحديث الصحيح لما قال: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد.. وشبك بين أصابعه عليه الصلاة والسلام).

    فهذا يدل على أنه لا بأس في الأصل، لكن في العبادات وأثناء الصلاة، أو في انتظار الصلاة، أو في الطريق إلى الصلاة، هذا ممنوع منه ومحظور. والله تعالى أعلم.

    حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: اعتنى بعض الناس في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول بالاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فما الحكم في ذلك؟

    الجواب: لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية المولد، بل هذه أمور أحدثت، فما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ، ولا فعلها أهل القرون المفضلة، وقد مرت أربعمائة سنة ما فعل أحد منهم المولد، وهذا أمر لا نقوله نحن، فمن أراد أن يبحث ويطلع فله ذلك.

    فإن قال قائل: إنه عبادة، فنقول: إن الله عز وجل يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وهذا رسول الأمة عليه الصلاة والسلام تمر عليه أيام مولده في سنواته كلها، فما عظم ليلة منها يوماً من الأيام، ولا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عظم ليلة واحدة، فإما أن نكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن نعتقد أننا خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نستدرك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله.

    وإذا كان الاحتفال قربة وطاعة فلماذا لم يفعله عليه الصلاة والسلام؟ ومن فعله فاسألوه؛ لأنه لا نستطيع أن نفتي الناس أن يفعلوا أشياء ثم نقف بين يدي الله نسأل عنها.

    نحن نقول: إنه غير مشروع؛ لأننا لم نجد في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في هدي السلف الصالح شيئاً من هذا، فإذا لم نجد شيئاً من هذا فإننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا الأمر بدعة وحدث أُحدث في دين الله عز وجل.

    والعجب أنك تجد البعض يحافظ على ليلة المولد ويحافظ على حضورها وخشوعها ربما أكثر من خشوعه في صلاته وعبادته!

    وربما يعتقد في فضائل هذه الليالي ما لا يفعله في العشر الأواخر من رمضان، وربما يُنفق الرجل على إطعام الطعام وعلى الذبائح وغيرها، مع أنه لو جاءه رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسغبة -كما ذكر بعض المشايخ رحمة الله عليهم- يعرض عليه أنه محتاج لما أقرضه.

    فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، نحن لا نحتكم للدين بالعواطف، ولا نحدث بآرائنا ولا بأهوائنا، ولكن دين وشرع وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، فنحن مأمورون باتباع ومأمورون باقتداء، وهذا شيء تعبدي لا يجوز أن يزيد فيه الإنسان ولا أن ينقص.

    والنبي صلى الله عليه وسلم نحبه محبة ترضي ربنا، ونحبه محبة تدعونا إلى متابعته وتجريد هذه المتابعة، فنؤثره عليه الصلاة والسلام على أنفسنا وأهلينا، وعلى أهوائنا وآرائنا.

    فانظر رحمك الله إلى كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، فما وجدت فيهما فالتزمه، وما خالفهما فاتركه، ولو جرى عليه أهواء الناس، ولو جرت عليه عادة الناس، والذي ندين الله عز وجل به أن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا الشيء.

    وعلى هذا: فإنه لا يشرع فعله، ولا يجوز للمسلم أن يحدث في دين الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم -أي: الزموا- بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)، ولذلك قال قبلها: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، فأمرهم عليه الصلاة والسلام في هذا الاختلاف أن يرجعوا إلى سنته صلى الله عليه وسلم، فالواجب الاحتكام إلى هذه السنة وإلى هديه عليه الصلاة والسلام.

    وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صام يوم الإثنين وقال: (ذاك يوم ولدت فيه وأحب أن أصومه)، فمن أراد أن يشكر نعمة الله عز وجل عليه أن جعله تابعاً لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فليشكرها بما ورد، وليتبع ولا يبتدع، فيصوم يوم الإثنين.

    لكن هل كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين الموافق للثاني عشر من ربيع الأول؟

    لم يخص الرسول اثنيناً معيناً، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له؛ لأنه قد يقول قائل: النبي صلى الله عليه وسلم فعل المولد؛ لأنه صام يوم الإثنين، فنقول: لا، النبي صلى الله عليه وسلم -أولاً- ما خص اثنيناً معيناً، فهذا أصل عندنا ودليل على عدم جواز تخصيص ليلة مولده عليه الصلاة والسلام.

    ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام بين طريق الشكر، فقطع الطريق على من يقول: نحن نفعل المولد شكراً لله عز وجل على النعمة؛ لأنك أمام أحد أمرين:

    إما أن النبي صلى الله عليه وسلم صام وشكر ربه على أتم الوجوه وأكملها وهو يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم)، وإما -وحاشاه- أن يكون دون ذلك وجئنا نكمله، فهو عليه الصلاة والسلام صام الإثنين، وصيام الإثنين دل على أن الشكر لهذه النعمة يكون بهذه الطريقة وبهذه الكيفية، فتصوم هذا اليوم، لكن لا تخصه بيوم معين من الآن.

    ولماذا لا نخصه؟ لأنه ليس في الإسلام إلا عيدان: عيد الأضحى وعيد الفطر، ولو أن الأمة جعل لها يوم مخصص ليوم نبيها لضلت؛ ولذلك أغلق هذا الباب، وجُعل يوم الإثنين من سائر أيام السنة، ونحن نحمد الله عز وجل ونشكره أن شرفنا وكرمنا، فليست هناك نعمة أعظم من نعمة الإسلام، ومن أزكى وأعظم ما يكون أن يختار الله لك أشرف الرسالات وأفضل الرسالات وأفضل الأنبياء، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلالك.

    فهذه النعمة لا يستطيع الإنسان أن يقدرها حق قدرها إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى.

    ومما زادني شرفاً وتيهاً كدت بأخمصي أطأ الثريا

    دخولي في ندائك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

    صلوات الله وسلامه عليه، والله إننا نحبه محبة تجري في دمائنا وعروقنا، ولا نعتقد أن هذا ينقص من مكانته أبداً؛ بل ينبغي علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا سبيل للجنة إلا بمحبته ومتابعته عليه الصلاة والسلام أبداً؛ لأن الله أحبه، وهذا الفضل الذي خصه الله عز وجل به.

    ووالله لو أن الإنسان رزق من العلم والبصيرة ما يتأمل فيه آيات الكتاب في إجلال الله لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وحبه له وإكرامه له عليه الصلاة والسلام، لوجد شيئاً يكاد يصل به إلى درجة عظيمة من المحبة لهذا النبي صلى الله عليه وسلم تكفينا عن كثير من الأشياء والمحدثات.

    فتأمل كتاب الله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] تقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح وهي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك)، أي مقام وصل إليه أحد مثل هذا المقام الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام؟

    ثم مع هذا كله إذا عاتبه سبحانه يعاتبه ويجعل العفو قبل المعاتبة: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ [التوبة:43] قبل أن يقول له: لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43] إكراماً لنبيه، وإشعاراً لنا بأن نقدره ونوقره عليه الصلاة والسلام ونملأ قلوبنا بحبه وإكرامه.

    ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، حتى إنه عليه الصلاة والسلام يبيّن هذا الفضل الذي خصه به ربه ويقول: (أنا رحمةٌ مُهداة)، فيا له من مقام! ويا لها من منـزلة!

    نحن نحب النبي صلى الله عليه وسلم، ونعتقد بأن عندنا بينات من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعرفنا بقدره، وتعرفنا بحقه ومنـزلته، فإن الله لم يخاطبه باسمه المجرد: يا محمد! بل قال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64] .

    وعندما يعاتبه -كما ذكرنا- يقول: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3] حتى إنك عندما تقرأ الآية لا تدري من الذي عبس، فلم يقل له: عبست؛ بل قال: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4]، ثم تأتي آيات القرآن كلها تشريفاً لهذا النبي في دلالاتها وسياقاتها تدل على مقامه وعلو شأنه عليه الصلاة والسلام.

    فكل مؤمن يعتقد هذا اعتقاداً جازماً، ولا يظن أحد أن من يقول بأن المولد بدعة أن معناه: أنه انتقص مقام النبي صلى الله عليه وسلم، أو مس حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه يكره النبي صلى الله عليه وسلم.. لا. فإن هذا هو الغلو.

    ومن محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أننا نريد أن نتبع وأن نسير على نهج علمنا العلم الجازم أنه لا يرضى عليه الصلاة والسلام ولا يرضى ربه الذي أرسله إلا بهذه المثابة: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، وأدب الله نبيه على الاتباع فقال له: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43]، فلا زيادة ولا نقص، فلا يجوز للمسلم أن يزيد، ولا يجوز له أن ينقص، ولا يجوز له أن يبدل.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا محبته، وأن يحشرنا في زمرته.

    وأوصي طلاب العلم -إذا نبهوا الناس- بأمر مهم جداً وهو: أننا ننصح الناس بالتي هي أحسن، ولا ننفر، فينبغي أن نبين الحق وأن نبين السنة والبدعة، ولكن ينبغي أن لا يغلو الإنسان في نصح الغير وتوجيههم؛ لأنك إذا كنت صاحب سنة فينبغي أن يظهر حبك للسنة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال أساليبك وطريقة توجيهك وإرشادك، فكم من أناس رأيناهم وهم يتمسكون بأمور يظنون أنها سنة، والله يعلم من قرارة قلوبهم أنهم يريدون الخير، فلما نصحناهم ووجهناهم عدلوا عن ذلك.

    ووالله إني لأعرف رجلاً كان شديداً في أمور يتوسع فيها ويُحْدِثها، فلما بُيِّن له الحق والله إني اليوم أغبطه على التمسك بالسنة، يقول لي بعظمة لسانه: عشتُ أكثر من خمسة وثلاثين سنة بعد بلوغي -يعني: ما يقارب الخمسين- وأنا أواجه أناساً ينفرونني، فما جاءني أحد بالتي هي أحسن، كل من جاءني يصيح في وجهي ويخاصمني، فقلت له: حتى ولو خاصمك كان المنبغي أن تتقبل الحق، لكنه قال لي: أنا رجل عصبي، ولا أقبل من أحد، ثم إذا كان لي عدو يشوه سمعتي فينبغي أن لا يعين العدو عليّ، بل ينبغي أن يأخذ بقوله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، ويقول الله لنبيه عن اليهود الذين هم أعداؤه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13] .

    فماذا يريد الإنسان بعد هذا؟! بعد أن ذكر فضائحهم وعداوتهم للإسلام يقول: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13]، ويقول: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء:63].

    فالأمور التي ينبغي أن يسمو بها المسلم إلى الكمالات أن نحرص على جذب الناس إلى هذه السنة، وأن نهيئ كل الأساليب الطيبة المقبولة حتى لا ننفر عن دين الله عز وجل، وألا نكون حجر عثرة عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    أسأل الله العظيم أن يهدينا إلى سواء السبيل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755960863