إسلام ويب

شرح زاد المستقنع فصل الاستثناء في الطلاقللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مسألة الاستثناء في الطلاق من المسائل المهمة التي تبحث في كتاب الطلاق، وتتفرع منها مسائل وأحكام أخرى من أهمها: حكم تأثير الاستثناء في الطلاق، والشروط المنبغي توفرها في اعتبار الاستثناء في الطلاق، وحكم استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات، وكذلك حكم الاستثناء بالقلب في الطلاق.

    1.   

    الاستثناء في الطلاق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد..

    كنا قد ذكرنا جملةً من الأحكام المتعلقة بتنجيز الطلاق، وقوله رحمه الله: (والمعلق كالمنجز)، قد عقد المصنف رحمه الله لتعليق الطلاق مباحث وفصولاً سيأتي بيانها، وعند العلماء رحمهم الله أن الطلاق ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان منجزاً، والمقصود بالمنجز الذي يبت الزوج فيه الطلاق فيقول لامرأته: أنت طالق. فهذا منجزٌ وينفذ حالاً، وأما المعلق فإنه يعلق على شرط أو صفة أو زمان ويعلق فيقول: إن دخلت الدار، أو إن خرجت، أو إن ذهبت إلى أهلك، أو إن جاء الغد ونحو ذلك، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان مسائل التعليق ومباحثها بعد فصلين من هذا الفصل.

    أقسام المستثنى منه في الطلاق

    قال رحمه الله: [ فصل: ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات ].

    هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله للاستثناء، والاستثناء في الطلاق مبحثٌ مهم من مباحثه، والمراد بالاستثناء: أن يستثني المطلق من عدد الطلاق شيئاً معيناً أو يستثني من المطلقات بعضهن، ولذلك ينقسم الاستثناء إلى قسمين:

    إما أن يكون في عدد الطلاق، وإما أن يكون في المطلقات، فمثال الأول: أن يقول لها: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، ومثال الثاني أن يقول: نسائي طوالق إلا فلانة، والاستثناء في لغة العرب حقيقته: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فهو يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، فلما قال: إلا واحدةً، أخرج الواحدة من الثلاث، فقالوا: الاستثناء إخراج بعض، فخرج استثناء الكل من الكل، وهو نوعٌ من أنواع الاستثناء سيأتي بيان حكمه.

    والاستثناء مبحثٌ مهم من المباحث الفقهية، ذكره العلماء في الطلاق، ويتكلمون عليه في الأيمان، كرجلٍ يحلف اليمين ويستثني فيقول: والله لا آكل اليوم إلا اللحم، أو والله لا أدخل دار أحدٍ إلا دار فلانٍ، أو والله لا أكلم الناس إلا زيداً ونحو ذلك، وكذلك يكون الاستثناء في مباحث العتق، فيعتق عبيده وإماءه ويستثني بعضاً منهم، فمباحث الاستثناء مباحث مهمة يترتب عليها مسائل شرعية في الطلاق والأيمان والنذر والعتق وغير ذلك، ومسألة الاستثناء تستلزم بيان الأصول والقواعد التي يقوم عليها الاستثناء، فهناك مستثنى، ومستثنىً منه، وأداةٌ للاستثناء، فأما المستثنى فيكون عدداً ويكون شخصاً، وهذا في باب الطلاق؛ لأننا قلنا: إما أن يستثني من عدد الطلاق أو من المطلقات.

    فلذلك المستثنى إما أن يكون من الأعداد كقوله: أنت طالقٌ طلقتين إلا واحدة، وأنت طالقٌ ثلاث تطليقات إلا واحدة، فقوله: إلا واحدة، المستثنى: واحدة، وهو عدد، أو يكون المستثنى من النساء، وهذا استثناء راجعٌ للمطلقات لا إلى عدد الطلاق، كقوله: نسائي طوالق إلا خديجة، فهذا استثناءٌ من المطلقات.

    وأما بالنسبة للمستثنى منه فإن كان الاستثناء عددياً فإنه يكون عدد الطلاق كقوله: ثلاثاً إلا واحدة، وإذا كان من المطلقات يكون ذكره لنسائه كلهن فيقول: جميع نسائي طوالق إلا فلانة.

    وأما بالنسبة للأداة فهناك الاستثناء بـ(إلا وسوى وعدا وغير وحاشا وخلا)، فهذه ستة حروف للاستثناء، يقول: نسائي طوالق إلا خديجة، ونسائي طوالقُ ما عدا خديجة، ونسائي طوالقُ غير خديجة، سوى خديجة ونحو ذلك؛ لكن هذه الحروف فيها غير، وغير تأتي على وجهين:

    فإن قال: نسائي طوالق غير خديجة، خرجت واستثنيت إذا جاءت بالنصب، وأما إذا قال: غيرُ خديجة -بالضم- فالجمهور على أنها تكون طالقةً مع المطلقات من باب التأكيد كقوله: أنت طالق ثلاثاً غير واحدةٍ، أي: أنت لست بطالق طلقة واحدة، وإنما أنت طالق ثلاث تطليقات، وعلى هذا لا تكون دالةً على الاستثناء.

    حكم تأثير الاستثناء في الطلاق

    قال العلماء رحمهم الله: إن الإجماع منعقد من حيث الجملة على أن من استثنى استثناءً صحيحاً مستوفياً للشروط الشرعية أنه يحكم له بالاستثناء ويعتد به؛ لأن الله سبحانه وتعالى عبر في كتابه المبين بالاستثناء، وثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استثنى، وجعل استخدام هذا الأسلوب العربي موجباً لمخالفة الحكم للمستثنى من المستثنى منه.

    وعلى هذا قالوا: إن من استثنى استثناءً شرعياً، أي: مستوفياً للشروط المعتبرة شرعاً، حُكِم باستثنائه، ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرّم مكة، فلا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرفٍ، قال العباس رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، قال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر)، فدل على أن الاستثناء له تأثير، وقد جاءت بذلك نصوص الكتاب، فإن الله تعالى جعل الاستثناء مؤثراً في العدد فقال سبحانه: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14]، فكأنه قال: لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً، فدل على أن الاستثناء يؤثر في الأعداد.

    وعلى هذا قالوا: كما أن الاستثناء يؤثر في الأعداد فقد ثبت النص بأن الاستثناء يؤثر في الأشخاص الموصوفين كما في قوله تعالى: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]، فاستثنى عباد الله المخلصين، وهذا يدل على أن الاستثناء يقع في الأعداد ويقع في الأشخاص، وبناءً عليه، فمن طلق بعددٍ واستثنى فإنه يصح استثناؤه، ومن طلق نساءً واستثنى صح استثناؤه، ولكن إذا استوفى الشروط.

    الشروط المنبغي توفرها في اعتبار الاستثناء في الطلاق

    الشرط الأول: النية والقصد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فمن تلفظ بالطلاق وذكر مطلقات أو عدداً من الطلاق وأراد أن يستثني، فعليه أن تكون عنده نية لذلك الاستثناء حتى يحكم بالاعتداد بذلك الاستثناء شرعاً.

    فإذا أراد أن يستثني ونوى، فلا يخلو من حالات:

    الحالة الأولى: أن تكون نيته للاستثناء سابقةً لتلفظه بالطلاق.

    الحالة الثانية: أن تكون نيته للاستثناء مصاحبةً للتلفظ بالطلاق.

    الحالة الثالثة: أن تكون نية الاستثناء متراخيةً ومتأخرةً عن لفظه بالطلاق.

    الحالة الأولى: أن تكون نيته سابقةً للطلاق؛ وذلك كأن ينوي أن يطلق امرأته طلقةً واحدة، فقبل أن يتلفظ يستحضر في نيته أنه يريد أن يطلقها طلقة، فقبل أن يتلفظ نوى هذه النية ثم قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقة، أي: أنت طالقٌ طلقة واحدة؛ فعلى هذا أجمع العلماء رحمهم الله: أن من كانت نيته سابقةً للفظ الطلاق أنها نية معتدٌ بها ومعتبرة للتأثير في الاستثناء.

    الحالة الثانية: أن تكون النية مصاحبةً للفظ، وذلك بأن ينوي الاستثناء قبل الفراغ من عدد الطلاق الذي يريد أن يستثني منه، وقبل الفراغ من عدد المطلقات اللاتي يريد أن يستثني منهن، فمثلاً: إذا كان الاستثناء في العدد قال لها: أنت طالقٌ طلقتين، وقبل أن يتم قوله: طلقتين، نوى الواحدة فقال: طلقتين إلا واحدة، وقعت واحدة في قول جماهير العلماء رحمهم الله لقولهم: إن النية إذا كانت سابقة أو كانت موافقة أو مصاحبة أنها نيةٌ معتبرة ومؤثرةٌ شرعاً.

    الحالة الثالثة: أن تكون النية متراخية ومتأخرةً عن الطلاق، فقول جماهير العلماء رحمهم الله: أنه لا تأثير لذلك، فلو أن رجلاً قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً، ثم طرأ له وبدا له أن يستثني منها شيئاً بعد أن تلفظ بالثلاث فقد وجبت الثلاث ولا تأثير لذلك، إلا أن فقهاء الحنابلة والمالكية رحمهم الله استثنوا المصاحب المتصل اتصالاً قوياً بآخر اللفظ، والأقوى ما ذكرناه، هذا بالنسبة للأول وهو شرط النية.

    الشرط الثاني: ألا يكون الاستثناء مستغرقاً، والمراد بذلك: أن يفضل شيء بعد الاستثناء الذي استثناه من عدد الطلاق والمطلقات، فمثلاً يقول لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإنه إذا قال: إلا ثلاثاً، أبطل بها الثلاث الأولى وكأنه يبطل لفظ الطلاق، فبالإجماع على أنه إذا كان استثناؤه مستغرقاً أنه غير مؤثر ويقع ما تلفظ به.

    فلو قال: أنت طالق طلقة إلا طلقة أو طلقتين إلا طلقتين أو ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإنه لا يعتد بالاستثناء، ويقع الذي تلفظ به أولاً.

    وعرفنا أنه إذا قال: كلكنّ طوالق إلا جميعكن، لم يصح ويطلق الجميع، ولو قال: أنت طالق طلقتين إلا طلقتين فإنه يلغى استثناؤه ويثبت طلاقه.

    لكن السؤال: لو أنه استثنى بعض المستثنى منه ولم يكن مستغرقاً، فالسؤال: ما الحكم؟

    يأتي ذلك على صور:

    الصورة الأولى: أن يستثني الأقل من الأكثر.

    الصورة الثانية: أن يستثني النصف.

    الصورة الثالثة: أن يستثني الأكثر.

    فعندنا ثلاث تطليقات يستثني الأقل فيقول: إلا طلقة، ويستثني المساوي فيقول: طلقتين إلا طلقة، فاستثنى النصف، ويستثني الأكثر فيقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين.

    فعندنا ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يستثني الأقل من الأكثر، فبإجماع العلماء على أنه إذا استثنى الأقل من الأكثر صح استثناؤه، كقوله: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، فيصح استثناؤه وتطلق المرأة طلقتين.

    الصورة الثانية: إذا استثنى النصف فقال: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقةً فهل هذا يؤثر أو لا يؤثر؟ جمهور العلماء على أنه إذا قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقة فإنه يصح استثناؤه وتطلق طلقةً واحدة؛ لأن النص والتنزيل دال على تأثير الاستثناء، والنصوص دالة على أن هذا الاستثناء معتدٌ به في اللسان واللغة، والإجماع منعقدٌ على أنه مؤثر، وإعماله هو الأصل، فيبقى على هذا الأصل حتى يدل الدليل على أن استثناء النصف لاغٍ، وليس هناك دليل يفرق بين النصف والأكثر.

    ويخالف في هذه المسألة بعض فقهاء الحنابلة ويقولون: إنه إذا استثنى النصف لم يصح استثناؤه، والمصنف رحمه الله اختار القول بأنه إذا استثنى النصف فإنه يؤثر وأنه استثناء صحيح، وهو القول الراجح -كما ذكرنا- بدلالة النصوص في الأصل على صحة الاستثناء والاعتداد به.

    الصورة الثالثة: إذا استثنى الأكثر فقال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين؛ فإن الطلقتين اللتين استثناهما أكثر من الطلقة التي أبقاها وعلى هذا كانت الاثنتان أغلب وأكثر، فهل يصح أن يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين ويعتبر ذلك موجباً لرفع الطلقتين وبقاء الطلقة الواحدة؟

    قولان للعلماء، وأصحهما: قول الجمهور، أن من استثنى الأكثر صح استثناؤه؛ وذلك لقوة الدليل من الكتاب على صحة هذا النوع من الاستثناء، وقد اختار أئمة اللغة أنه يصح استثناء الأكثر وليس في ذلك مانع، وقد قال الله عز وجل حكايةً عن إبليس: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40]، قال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، فقوله: (إن عبادي) عباد الله عز وجل الذين هم بنو آدم ليس له عليهم سلطان إلا من اتبعوه من الغاوين، والغاوون أكثر من المهتدين.

    فدل هذا على أن استثناء الأكثر من المستثنى منه صحيح؛ لأن القرآن جاء بذلك ونص عليه، وقد خالف في هذه المسألة بعض أئمة اللغة رحمهم الله كـابن درستويه ، وحُكي عن ابن جني والزجاج أنهما يقولان: لا يصح استثناءُ الأكثر، والصحيح أن استثناء الأكثرِ صحيح ومعتدٌ به على ما ذكرناه، ولذلك قال الإمام الماوردي رحمه الله: إن هذا المذهب ضعيفٌ، والأقوى والأشبه بالأصول صحة استثناء الأكثر كالأقل.

    إذا ثبت هذا فإن الخلاصة: أن من استثنى وكان الذي استثناه مستغرقاً للمستثنى منه لم يصح استثناؤه بالإجماع، كقوله: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا ثلاثاً.

    وهناك مذهب شاذ لا يعتد به أنه لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً لم تطلق، ولكنه شذوذ.

    أما إذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدةً أو اثنتين ففيه خلاف: هل يصح استثناء الأكثر والنصف، وقلنا: إن الراجح مذهب الجمهور، وأما بالنسبة للأقل فإنه يكاد يكون الإجماع على أن استثناء الأقل صحيحٌ ومعتدٌ به.

    الشرط الثالث: أن يكون الاستثناء متصلاً، ولا يفصل بين المستثنى منه والمستثنى بفاصلٍ مؤثر، فإذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً، وأراد أن يستثني من الثلاث فينبغي عليه أن يصل ويقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، فيجعل الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه.

    وعلى هذا: فلو وقع الفاصل فلا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: إما أن يكون فاصلاً يعذر فيه شرعاً، كأن يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً، ثم يصيبه عطاس، فيفصل بعطاس، أو يفصل بانحباس نفس أو نحو ذلك مما هو خارج عن إرادته وقدرته، فبالإجماع لا يؤثر.

    الحالة الثانية: أن يكون الفاصل مؤثراً بقولٍ أو فعل أو طول زمان، فهذا فيه خلافٌ بين العلماء رحمهم الله، وجمهرة أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله على أن الفاصل المؤثر يُسقط الاستثناء ويثبت الطلاق، ولا يؤثر فيه ذلك الاستثناء، فمثلاً: لو قال رجلٌ لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، في مجلس، ثم خرج إلى مجلس ثانٍ وطال الفصل وقال: إلا واحدة، وقعت الثلاث، واستثناء الواحدة على هذا الوجه لا يؤثر، وهذا هو مذهب الجمهور الذين منهم الأئمة الأربعة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رخص في الفاصل في الاستثناء، وأنه إذا فصل بفاصلٍ إلى شهر فإنه لا يؤثر، وحُكيَ عنه أنه قال: إلى الأبد، وكذلك قال طائفة من أصحابه كـمجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وهو قول بعض أئمة التابعين كـالحسن البصري ، حتى قال مجاهد : له أن يستثني إلى سنتين. وهذه الأقوال كلها مرجوحة، وقد احتجوا بحديث العباس فإنه لما قال عليه الصلاة والسلام في تحريم مكة: (أن يختلى خلاها ويعضد شوكها وتلتقط لقطتها قال العباس رضي الله عنه: يا رسول الله! إلا الإذخر، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إلا الإذخر). قالوا: فحصل الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، ومع ذلك جُعِل الحكم للإذخر خاصاً وأثر الاستثناء، قالوا: والاستثناء هو وجود الفصل إما بوجود الجملة للمراجعة بقوله: (يا رسول الله إلا الإذخر) أو بوجود الزمان. وأجاب عن هذا جمهور العلماء بأن الكلام فيه تقدير، فقوله: (يا رسول الله! إلا الإذخر)، كأنه سؤال، والسؤال معادٌ في الجواب، أي: كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها إلا الإذخر)، ففيه تقدير، وهذا هو الصحيح، وبناءً على ذلك لا يكون الحديث حجة على الفصل.

    ومن غرائب ما ذكروا عن بعض أئمة الفقه رحمةُ الله عليهم: أنه ذات مرةٍ دخلت امرأتان من البادية على البصرة، فوجدتا رجلاً يبيع، فاشترت إحداهما من ذلك البائع، فقالت إحداهما تخاطب الأخرى: ألم تعجبي من فلانٍ -تعني: من العلماء- يقول: إنه يجوز أن يستثني بعد اليوم واليومين؟ أي: يجوز للإنسان أن يستثني من يمينه وطلاقه وعتاقه بعد يوم أو يومين، قالت: وما العجب في ذلك؟ أي: لأنها امرأة وتحب الاستثناء حتى ولو بعد العمر كله؛ لأن هذا أفضل لها، فقالت لها: وما العجب في ذلك؟ قالت لها: لو كان الأمر كما قال لأمر الله نبيه أيوب أن يستثني، فإنه لما ألزم نفسه كان بالإمكان أن يأمره أن يستثني ويرفع عنه موجب اليمين، وهذا لا شك أنه يدل دلالة واضحة على أن وجود الفصل يؤثر في الاستثناء.

    وعلى هذا: فإنه لا يصح أن يستثني مع وجود الفاصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين المستثنى والمستثنى منه، وإنما وقع كلامه على تقدير سؤال العباس رضي الله عنهما.

    حكم استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات

    قال رحمه الله تعالى: [ ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات ].

    يقول رحمه الله: (ويصح منه) أي: من المطلق، (استثناء النصف فأقل) وهذا على أصح القولين في المذهب كما ذكرنا، وكما قلنا: يكاد يكون إجماع القائلين بأن الاستثناء يؤثر من عدد الطلاق، وهذا النوع الأول من الاستثناء يكون عددياً، والنوع الثاني: استثناء المطلقات فيقول: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة، فحينئذٍ يكون استثنى نصف نسائه المطلقات، حيث يكون عنده أربع من النسوة فيستثني منهن اثنتين.

    وكذلك يستثنى من عدد الطلاق كأن يقول: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقة، أو نسائي طوالق طلقتين إلا طلقة فهذا استثناء للنصف.

    قال رحمه الله: (فأقل) والأقل كما ذكرنا أن يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، هذا في عدد الطلاق، والأقل في المطلقات أن يكون عنده أربع نسوة فيقول: نسائي طوالق إلا فلانة، فواحدةٌ من أربع أقل، أو يقول: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة، فيكون استثنى النصف من عدد المطلقات.

    ومفهوم قوله: (استثناء النصف فأقل) الحنابلة رحمهم الله عندهم أنه لا يجوز استثناء الأكثر كما ذكرنا، فلو قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين فإنه لا يصح هذا الاستثناء، والصحيح: صحة استثناء الأكثر وهو مذهب الجمهور، فإن ظاهر القرآن دالٌ عليه، فلما قال رحمه الله: (يصح منه استثناء النصف فأقل)، نفهم أنه إذا استثنى أكثر من النصف فلا يصح هذا على المذهب، ولكن الصحيح ما ذكرنا لقوة الدليل عليه.

    قوله: [فإذا قال : أنت طالق طلقتين إلا واحدة وقعت واحدة].

    وهذا استثناء النصف.

    ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين، أصبحت مطلقة طلقة واحدة على القول بأن استثناء الأكثر يؤثر.

    فإذا قال: إلا اثنتين إلا واحدة، يكون قوله: إلا واحدة، راجعاً إلى اثنتين، فيكون قد استثنى واحدةً من ثلاث، فاستثنى من الثلاث الأولى طلقتين، ثم استثنى من الطلقتين اللتين استثناهما طلقةً واحدة، فبقيت واحدة، فأصبحت طالقاً طلقتين، فإذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين إلا واحدة؛ فإن قوله: إلا طلقتين، يوجب ثبوت الطلقة الواحدة، إذا رجع واستثنى من الاثنتين واحدة صار قد استثنى من الثلاث واحدة، والاستثناء الثاني استثناء من الأول؛ لكن لو أنه جعل الاستثناء على هذا الوجه يكون الاستثناء الثاني راجعاً إلى الاستثناء الأول، وعلى هذا يقول العلماء: إنها تطلق في هذا الوجه طلقتين، ويكون الاستثناء الثاني من الاستثناء الأول.

    اختلاف الاستثناء في النفي والإثبات

    قوله: [وإن قال: ثلاثاً إلا واحدة فطلقتان].

    الاستثناء يكون تارةً بالإثبات وتارة بالنفي، فالاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، فأنت لو قلت: ما قام أحدٌ إلا زيداً، فإن الاستثناء من المنفي إثبات، أي: أن زيداً قد قام، فصار الاستثناء من النفي إثبات، والعكس الاستثناء من الإثبات نفيٌ، فإذا قال: جاء الطلاب إلا زيداً، فمعنى ذلك أن زيداً لم يجيء، فأصبح الاستثناء من الإثبات نفي، وعلى هذا استشكلت بعض المسائل على هذا الأصل: أن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، فإذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدةً، فإنه قد أثبت الثلاث واستثنى منها واحدة، فيكون نفياً للواحدة.

    وعلى هذا لما قلنا: إنه إذا قال لها: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين فقد نفى أن تكون مطلقة ثلاثاً، واستثنى هاتين الطلقتين، ثم لمّا رجع وقال: إلا واحدةً، أي: من الاثنتين، فحينئذٍ كأنه يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة هذا وجهه.

    لكن مسألة الاستثناء من النفي إثبات هي في الطلاق جارية عند جمهور العلماء رحمهم الله، ويشكل عليها فقط في مسائل الأيمان، لو قال: والله لا آكل اللحم إلا لحم الدجاج.

    فإذا قلنا: والله لا آكل اللحم استثناء، والاستثناء من النفي إثبات، فحينئذٍ عند الجمهور أنه إثبات لأكل الدجاج، فإذا مضى ذلك اليوم ولم يأكل لحم الدجاج؛ لزمته اليمين وحنث؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات.

    وقال طائفةٌ من العلماء كما هو مذهب المالكية: الاستثناء من النفي إثبات إلا في اليمين؛ فإنه لو قال: والله لا آكل اليوم اللحم إلا لحم الدجاج؛ فإنه حينئذٍ يكون قوله: إلا لحم الدجاج، للإباحة لنفسه، وليس المراد به إثبات كونه يأكل لحم الدجاج، ويكون الخلاف بين القولين فيما لو مضى اليوم كله ولم يأكل لحم الدجاج، فعلى أن الاستثناء من النفي إثبات حنث على قول الجمهور، وعلى أن النفي في باب الأيمان ليس إثباتاً فإنه لا يحنث؛ لأن المراد: أنه لا يأكل اللحم إلا أنه رخص لنفسه بأكل لحم الدجاج، فإن أكل فبها ونعمت، وإن لم يأكل فلا شيء عليه، وسيأتي إن شاء الله في الأيمان؛ لأن مسائل الاستثناء تتعلق بالأيمان وبالنذر وكذلك أيضاً بالطلاق.

    حكم الاستثناء بالقلب من عدد المطلقات والطلقات

    قال المصنف رحمه الله: [وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صحّ دون عدد الطلقات].

    سبق وأن ذكرنا في أول الطلاق أن التقسيمات والتفريعات عند العلماء نسبية، فتارةً تقول: الطلاق ينقسم من حيث الحكم إلى سني وبدعي، ومن حيث الأثر وحكم الرجعة ينقسم إلى رجعي وبائن، والبائن إلى بائن بينونة صغرى وكبرى على التفصيل الذي قدمناه.

    وهنا بالنسبة للاستثناء من حيث الظاهر والباطن -وهي نسبته إلى اللفظ وعدمه- ينقسم إلى استثناء باللفظ واستثناء بالقلب، استثناء باللفظ يقول: نسائي طوالق إلا خديجة، فقد تلفظ بالمستثنى وحينئذٍ لا إشكال، والنوع الثاني: أن يكون الاستثناء قلبياً؛ فإن كان الاستثناء لفظياً فيؤثر في المطلقات وعدد الطلقات وجهاً واحداً عند العلماء، وإن كان الاستثناء قلبياً وباطنياً فإنه في هذه الحالة يفرّق بين عدد الطلاق وبين المطلقات، ففي عدد الطلاق لا يؤثر على تفصيلٍ عند العلماء سنشير إليه من حيث الجملة، ومن حيث عدد المطلقات يؤثر.

    فلو قال: نسائي طوالق، ونوى في قلبه إلا خديجة، أو نوى بنسائه الطوالق اللاتي هن موجودات في الغرفة دون اللاتي خارج الغرفة، أو اللاتي موجودات في المدينة دون اللاتي في مكة، أو في موضعٍ آخر، صح استثناؤه فيمن نوى استثناءها وتطلق الباقيات.

    ولكن في مسألة الاستثناء في عدد الطلاق، قالوا: إذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً، لو فتحنا الباب وقلنا: إن الاستثناء بالقلب مؤثر لتلاعب السفهاء، والمصلحة تقتضي أنه يؤاخذ بظاهره، إضافةً إلى أن أصول الشريعة تؤكد هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فهو لو قال لامرأته أنت طالق طلقتين، أنت طالق ثلاثاً، ونوى بقلبه إلا طلقة، قالوا: تطلق طلقتين في الأولى وثلاثاً في الثانية، ولا يعتد باستثنائه القلبي، هذا في قول طائفة من العلماء.

    وقال بعض العلماء: ينفعه ديانةً ولا ينفعه حكماً وقضاءً، أي: بينه وبين الله عز وجل ينفعه هذا الاستثناء، وبينه وبين الناس وفي حكم القضاء لا ينفعه، والقول الأول لا شك أنه أورع وأشبه وله قوة، بخلاف مسألة شُبهة الإسناد لمحل الطلاق فإنه يضعف الإسناد ما لم يسند، فقوي أن يستثني ويعتد بنيته ما لم يكن ذلك في عدد الطلقات.

    حكم الاستثناء في الطلاق من العدد الكلي في الزوجات

    قال رحمه الله: [وإن قال: أربعكن إلا فلانة طوالق، صح الاستثناء].

    هذا لا إشكال فيه، أربعكن طوالق إلا فلانة، قالوا: إنها تستثنى فلانة.

    وقال بعض العلماء: لا، إذا قال: أربعكن طوالق؛ مضى عليها الطلاق، وهذا ضعيف؛ لأن الاستثناء مع ذكر العدد الكلي يؤثر فيه إذا كان للبعض، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة أنه يؤثر، فما الفرق بين قوله: أربعكن طوالق، ثلاثكن طوالق إلا فلانة، وبين قوله: فلانة طالق بالثلاث إلا واحدة؟

    فعلى هذا يصح استثناؤه ولا إشكال فيه.

    حكم الاستثناء غير المتصل في الطلاق

    قال رحمه الله: [ولا يصح استثناء لم يتصل عادةً، فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل].

    قوله رحمه الله: (ولا يصح استثناء لم يتصل عادةً)، وهذا هو الشرط الثاني من شروط صحة الاستثناء، فقد ذكرنا الشرط الأول: ألا يكون مستغرقاً، وأشار إليه بقوله: (والنصف فأقل).

    والثاني: أن يكون الاستثناء متصلاً، وقد بيّنا الاتصال والانفصال، وأن الانفصال يكون بالكلام، يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً، قومي واخرجي إلى أهلك إلا واحدةً، فجملة: قومي واخرجي إلى أهلك، جملة خارجة عن الاستثناء، ثم قال: إلا واحدة، فقالوا: إنه إذا كان الانفصال بكلام أجنبي عن الاستثناء فإنه يعتبر مُسقطاً للاستثناء؛ لأنه لما أقحم هذه الجملة الغريبة عن الاستثناء والتي ليست متصلة بالاستثناء، فإنه قد خرج عن الاستثناء بالكلية، فإن قال لها: أنت طالقٌ ثلاثاً قومي فاخرجي أنت طالقٌ ثلاثاً، أو اذهبي إلى أهلك أنت طالقٌ ثلاثاً فليستمتع بك غيري، ونحو ذلك من الألفاظ التي تخرج عن جملة الاستثناء ثم تلفظ بعد ذلك بالاستثناء قالوا: إنه لا يعتد باستثنائه؛ ولذلك اشترط رحمه الله أن يكون الاستثناء متصلاً.

    حكم استحضار النية عند الاستثناء في الطلاق

    قال رحمه الله: [وشرطه النية قبل كمال ما استثنى منه].

    وشرط الاستثناء نيته، أي: أن يكون ناوياً الاستثناء، والنية في اللغة: القصد، قالوا: نوى الشيء ينويه نيّةً ونيَة بالتخفيف والتشديد، والمراد بذلك: أن يكون عنده عزمٌ قلبي وإرادةٌ قلبية على إخراج عددٍ من الطلقات أو إخراج عددٍ من المطلقات؛ على التفصيل الذي ذكرناه، وهي على صور ثلاث: إما أن تكون نيةً سابقةً للفظ الطلاق، أو تكون نيةً موافقةً مصاحبةً للفظه، أو تكون نيةً متراخية متأخرة عن لفظ الطلاق؛ فإن كانت النيةُ سابقةً فإنها مؤثرةٌ وجهاً واحداً، وإن كانت النية مصاحبةً للفظ فعلى الأصح أنها تؤثر، وإن كانت النية متراخيةً متأخرة، فإن طال الفصل فبالإجماع أنها لا تؤثر، وإن لم يطل الفصل وتقاربت النية مع اللفظ فوجهان، أقواهما: ما ذكرناه من أنها لا تؤثر.

    1.   

    الأسئلة

    حكم تساهل بعض طلاب العلم بالألفاظ التي يذكرها الفقهاء في باب الطلاق

    السؤال: يتساهل بعض طلاب العلم ببعض الألفاظ التي يذكرها الفقهاء رحمهم الله تعالى في أبواب الطلاق فما توجيهكم في هذا؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فأخذ العبارات الغريبة من المتون الفقهية ومحاولة تطبيقها مثل ما ذكرنا في مسألة: شعرك طالق، فيأتي بزوجته وهو يعتقد أن الشعر في حكم المنفصل فيقول لها: شعرك طالق، ظفرك طالق ونحو ذلك، لا ينبغي لطالب العلم أن يفعله، وعلى المسلم أن يحمد الله على نعمة العلم، وأن يجعل العلم معيناً له على الورع والتزام الأصلح والأسلم، وعدم اتخاذ آيات الله هزواً، فهو ما دام أنه لا يريد طلاق زوجته فلا يتلفظ بالطلاق، ولا يشعر امرأته أنه يريد أن يطلقها أو يجري الطلاق على لسانه، فهذا مما يزيد المحبة والمودة، وأما لو قال هذه الألفاظ ولو كانت لا توقع الطلاق، فإنها تحرك الشياطين في القلوب، وتجعل باباً ينفذ منه الشيطان إلى قلب المرأة، ويوسوس لها بكراهية زوجها لها، وأنه قد يأتي اليوم الذي يطلقها فيه، فعلى المسلم أن يحمد الله على العافية، ومن عوفي فليحمد الله، وليكن طالب العلم دائماً في سمته ودلّه وحاله مع أهله على أتم الوجوه وأكملها من خوف الله ومراقبته والحرص على المعاشرة بالمعروف، والبعد عن مثل هذه الأمور، وعلى طلاب العلم أن يوصي بعضهم بعضاً بذلك، وأن يذكر بعضهم بعضاً بالله.

    وقد جاءني ذات مرة طالب علم -وهذا من أغرب ما وجدت- من حملة كتاب الله عز وجل وكان يقرأ في تخصص القراءات، وكان معه زملاء، قال له أحدهم: أريد أن أسمع منك القلقلة في قولك: زوجتي طالق، فقال: زوجتي طالق، ثم وقع في أمره، هل وقع الطلاق أم لم يقع؟ فانظر إلى أي حد!

    إن القلقة مبحث متعلق بكتاب الله عز وجل وليس له علاقة بمثل هذه الأمور، وليس له مجال في مثل هذه المسائل، فأدخل علم كتاب الله عز وجل الذي فضله الله وشرفه على شيء لا تُحمد عقباه، وأدخل الضرر على أخيه المسلم، والله لو كانت أخته هي الزوجة ما قال له هذا القول؛ ولذلك ينبغي على المسلم أن يتقي الله، وواجب على طالب العلم أن يتقي الله في أخيه المسلم، وربما يلتزم الإنسان ولكن تبقى معه بعض أدران الجاهلية، فعلى المسلم أن يتقي الله، ودائماً الملتزم بحق وطالب العلم حينما يطلب العلم عليه ألا ينظر أن حمله الكتاب وحضوره إلى مجالس الطلب أن ذلك قد زكّاه، وأن ذلك قد أصلحه، ما لم يأخذ نفسه بزمام التقوى والورع ومراقبة الله عز وجل في قوله وفعله وكيف يعامل الناس.

    فعلى هذا: ينبغي لطلاب العلم أن يبتعدوا عن مثل هذه الأمور، وينبغي أن تكون لهم من الهيبة والوقار والكف والانكفاف عن ذكر الطلاق ونحوه، وكل ما فيه أذية وضرر لإخوانه وأخواته، وعلى المسلم ألا يروع أخاه المسلم، فإن ترويع المسلم لا يجوز، وهو إذا قال هذا روع زوجته، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم.

    حكم من قال: (نسائي طوالق إلا واحدة) ولم يعينها

    السؤال: لو قال رجلٌ: نسائي طوالق إلا واحدة، ولم ينو في الاستثناء واحدةً بعينها، وإنما أحب إبقاء إحداهن، فما الحكم في ذلك؟

    الجواب: الآن بدأ مفعول فرضيات الفقهاء، فقد ذكروا هذه المسألة، فإذا قال: نسائي طوالق إلا واحدة، ولم يعين، فإنه إذا أردنا أن نحكم في هذه المسألة نجري القرعة فيقرع، فالمرأة التي تخرج من نسائه هي التي تخرج من هذا الطلاق، فهو قال: إلا واحدةً، فبينه وبين الله عز وجل أنه قد أخرج واحدة، فيتعين المبهم بالقرعة لحكم الشرع بها، وجمهرة العلماء رحمهم الله على أنه إذا قال: نسائي طوالق إلا واحدة، فبينه وبين الله أنه ستبقى له واحدة، فالتي يختارها الله عز وجل بقرعته هي التي تخرج، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه)، فقد ثبت الحق لواحدةٍ من نسائه، فجعل القرعة معينةً للإبهام، وهذا في الاستحقاق، وعند تعذر معرفة واستبيان من هي الواحدة، فإننا نرجع إلى القرعة؛ لأن الشرع اعتبرها عند الإبهام، والله تعالى أعلم.

    نصيحة لطالب العلم

    السؤال: في هذه الأيام يعيش الطلاب أواخر الإجازة الصيفية، وبعض طلاب العلم استغلوا هذه الإجازة في طلب العلم ودراسته، فما هو توجيهكم في ختام هذه الإجازة لهذا النوع؟

    الجواب: أولاً: الحمد لله على فضله وعظيم منته وجزيل كرمه، ولا يزال المسلم بخير ما حمد ربه وشكره وعرف نعمته عليه، فمن عرف نعمة الله عليه ذلّ لله وانكسر، ثم إن هذه المعرفة تقوده إلى محبة الله عز وجل، ومن أحب الله أحبه الله عز وجل، ويسر له سبيل المحبة، فانتقلت به الخطى من طاعةٍ إلى طاعة ومن برٍ إلى بر، وازداد من توفيق الله له وإحسانه وإنعامه وإفضاله عليه، فإن الله في كتابه المبين أخبر عباده أجمعين أنه يجزي الشاكرين وأنه يزيد من شكر، وتأذن لهم بذلك كما قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، وأفضل ما يُشكر عليه سبحانه نعمة الدين، فمن وفقه الله عز وجل لهذه النعمة العظيمة وأسبغ عليه نعمة الإسلام فجعلها على أتم الوجوه وأكملها فقد عظمت نعمة الله عليه، ولا يمكن أن تكمل نعمة الإسلام على عبدٍ من عباد الله إلا بالعلم، فليس هناك أحد في مقام بعد الأنبياء أشرف ولا أكرم من العلماء العاملين، فإذا وفقك الله وحضرت مجالس العلم فتذكر نعمة الله، واعرف مقدار هذه النعمة.

    ثانياً: من الذي أمدك بالصحة والعافية؟ من الذي أمد في عمرك حتى بلغت يوماً تكسبه في طاعة الله أو ساعةً تدخرها إلى لقاء الله في محبة الله ومرضاته؟ فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

    فمن الذي أمدك بالصحة والعافية؟ وكم من مريض كان يتمنى أن يصل إلى ما وصلت إليه وحيل بينه وبين مجالس العلم، وقلبه يتفطر بالحزن والألم بالسقم والمرض، فاحمد الله على العافية، وقل من قلبك وملء لسانك: اللهم لك الحمد لا أحصي ثناءً عليك.

    ثالثاً: عليك أن تعلم أن هذه النعمة التي ربما تكون في عينك قليلة أنها عظيمةٌ عند الله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً خرج من قريةٍ له يزور أخاً له في الله، فأرسل الله إليه في مدرجته وطريقه ملكاً، فقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إني ذاهب إلى قرية كذا، قال: وما لك فيها؟ قال: لي فيها أخٌ في الله، قال: هل لك عليه من نعمةٍ تربها عليه؟ قال: لا. إلا أنه أخي في الله أحببت أن أزوره، فقال: إني رسول الله إليك أن الله قد غفر إليك بممشاك إليه).

    فإذا كانت محبة هذا الرجل لأخيه في الله كانت سبب مغفرة ذنوبه، فكيف بمن أحب العلم والعلماء؟ وكيف بمن خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله، فتغرب عن أهله وولده وزوجه وحبه من أجل دروس علم، أو فوائد من العلم يجنيها فيسد ثغور الإسلام لنفع الأمة؟ فبخٍ بخٍ يا لها من تجارةٍ رابحة ويا لها من نعمةٍ سابغةٍ وافرة، ولكن من الذي يعرف قدرها؟ ومن الذي يشكر من أسداها وأولاها وهو الله رب العالمين الذي لا نحصي ثناءً عليه سبحانه وتعالى؟

    فعلى طالب العلم أن يشكر هذه النعمة، وكما يشكرها بقلبه ولسانه يشكرها بالعمل، فيزيده شهود مجالس العلم من حبها، ويزيده من التعلق بها حتى تصبح سلوته، تتبدد بها أحزانه وتزول بها أشجانه، حتى يصبح حزنه إذا فارق مجالسها أو تأخر عن أنسها ولذتها وبهجتها، فيا لله! كم من طلاب علمٍ أتم الله عليهم نعمةَ العلم، فسلوا بالعلم عن هذه الدنيا الفانية، فأصبح العلم أكبر همهم وغاية رغبتهم وسؤلهم، فرفع الله درجاتهم، وقد قرن الله العلم بأشرف الأشياء وأحبها وأزكاها إليه سبحانه وهو الإيمان، وقرن جزاءه وفضله وعاقبته بالإيمان: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، وهذا كله يدل على شرف هذه النعمة العظيمة، فاحمد الله حق حمده بالعمل، ويكون ذلك بمراجعة ما تعلمت، وضبط ما كتبت وقرأت وسمعت، حتى تكون بخير المنازل في هذا العلم، فإن الله يحب من طالب العلم أن يكون في أحسن المراتب والمنازل في ضبط العلم وتحصيله والأخذ به على الوجه الذي يرضي الله، قال الله تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ[مريم:12]، العلم يحتاج إلى قوة وهمة صادقة، يراجع فلا يسأم ولا يمل، ويحمد الله عز وجل أن الله شرفه حتى أصبح يراجع هذه المسائل، ويقرأ هذه الحكم والأحكام الشرعية بعد أن كان جاهلاً بها؛ فإن الله يقول لنبيه من فوق سبع سماوات: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا[النساء:113]، قال بعض العلماء: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا، ذُكِرت بعد العلم، فالذي علمك الله إياه مما لم تكن تعلم فإنه الفضل العظيم، فعلى طالب العلم أن يراجع هذه المسائل.

    والنقطة الأخيرة: أن يُظهر طالب العلم هذا العلم في سلوكه وأخلاقه وعمله، فيجمع بين العلم والعمل، فإذا جمع الله لعبده بين العلم والعمل كان من الصديقين، ومرتبة الصديقين بعد مرتبة النبيين: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا[النساء:69].

    اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل مراتبنا مع الصديقين، اللهم ارفع منازلنا مع النبيين والشهداء والصالحين، اللهم اجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهك الكريم وموجباً لرضوانك العظيم، نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ودعاءً مسموعاً مستجاباً يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756018117