إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الطلاق [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المسائل التي بحثها العلماء رحمهم الله في الطلاق ما يكون من الألفاظ الغير صريحة في الطلاق، وما يترتب على هذه الألفاظ مع النية ومع عدم النية.

    1.   

    ألفاظ كناية الطلاق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد..

    فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وكنايته].

    قوله: (وكنايته) جمع كناية، والكناية: من كن الشيء، قال تعالى: مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا [النحل:81]. فالكن: الشيء المستتر؛ لأن الجبال فيها كهوف يستكن بها من المطر والريح والشمس، وكذلك الجبال أكنان؛ لأنها تحفظ من الرياح العاتية، والمقصود أن (الكن) أصله الاستتار، وقالوا: إنه لفظ خفي، فهو يتردد بين الطلاق وبين غيره، فأصبحت الألفاظ التي يُطلَّق بها تنقسم إلى قسمين: ألفاظ صريحة لا تحتمل معنى آخر كالطلاق، وألفاظ ليست صريحة في الطلاق الذي تعارف الشرع بأنه يكون صريحاً، وحينئذ تتردد بين الطلاق وغيره.

    حكم الطلاق بالكناية

    مسألة: هل الطلاق ينحصر فقط في ألفاظه الصريحة، أم أن الطلاق يقع بالكناية كما يقع بالصريح؟

    اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء وجمهور الأئمة من السلف من الصحابة والتابعين، ومنهم الأئمة الأربعة، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أن الطلاق يقع بالكناية كما يقع بالصريح، واستدلوا له بالسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي وأبي أسيد الساعدي -رضي الله عن الجميع- : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج ابنة الجون ) -وهي امرأة عقد عليها رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يدخل بها وكانت جميلة، (قال أبو أسيد : أنزلتها عند حائط بني ساعدة) والأشبه أن تكون سقيفة بني ساعدة، وكان هذا الحائط في الجهة الغربية إلى الشمالية من المدينة، ولا يزال إلى الآن معروفاً، وما زالت له بقية- قال: (فألم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها لما دخل عليها: هبي لي نفسك) وهذا من باب كريم معاشرته عليه الصلاة والسلام لزوجاته، فالزوج ربما يتحدث بشيء يحدث عندها نوعاً من السكينة ونوعاً من الرغبة. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هبي لي نفسك) ومرادنا بشرح هذه الكلمات، الجواب على الظاهرية؛ لأن الظاهرية يرون أن هذه المرأة ليست بمنكوحة وإنما هي مخطوبة، وأن الذي وقع أنها وهبت نفسها بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (هبي لي نفسك) وهذا ضعيف؛ لأن هبة النفس تكون قبل الدخول، حتى يحصل الدخول بعد ذلك فتحل له، قال تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ [الأحزاب:50]، وقال تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [الأحزاب:50]، فكأنه يقول: أحللتها إن وهبت. فالظاهرية ينفون أن هذا الحديث يدل على هذه المسألة، فهم يضعفونه من جهة أنهم يقولون: إنها وهبت نفسها، ولم يقع بعد النكاح، حتى يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (الحقي بأهلك) ليس من باب الطلاق، فهذا المراد. ونحن نقول: هبي لي نفسك، من باب الاستئناس والمباسطة من كريم عشرته عليه الصلاة والسلام لأهله. فقال لها: (هبي لي نفسك) فيقال: إن هذا شيء يقع بين النساء من باب العجب والغرور. فقالت مغترة بنفسها من باب الإغراء: (وهل تهب العالية) وفي الرواية الصريحة: (هل تهب الملكة نفسها للسوقة)، هل تهب المرأة العزيزة والشريفة العالية نفسها، وليس المراد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سوقة، وإنما مرادها أنها شيء كبير جداً، وأنها أرادت أن تتعزز، والنساء بهن شيء من التعزز من باب الإغراء. فأرادت أن تغري رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات. فقالت: (وهل تهب الملكة نفسها للسوقة) أي: العزيزة الكريمة هل تهب نفسها لمن دونها؟ الجواب: لا، فكأنها تقول: لا أهب. وما جاءت بلا، لأنها لو قالت: لا أهب، لحصلت النفرة، فتأتي المرأة دائماً بالإغراء بكلمة تتضمن المعنى، وتريد شيئاً آخر. فلما قالت ذلك: (مد يده إليها) إذا لو كان مرادها الإهانة لما مد يده إليها صلى الله عليه وسلم، فإنه أكرم من أن يقبل أن يهان، ولكن علم منها أنها تريد الإغراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض روايات السير وقد تكلم العلماء على هذه الرواية: (أن أمهات المؤمنين قلن لها: إن أردت أن تكوني حظية، فقولي: أعوذ بالله منك -وكانت جميلة وكأنهن غرن منها- فلما مد يده إليها، قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد استعذت بعظيم، الحقي بأهلك) وكانت الحقيقة أنها حرمت من هذا الفضل العظيم.

    فوجه الدلالة لما قال: (الحقي بأهلك) فجماهير العلماء والسلف، قالوا: جعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (الحقي بأهلك) الذي هو ليس بصريح الطلاق، فليس بلفظ (طلاق) ولا (سراح) ولا (فراق) جعله طلاقاً. فقال لها: (الحقي بأهلك) ونواه طلاقاً، فوقع طلاقاً. فنازع الظاهرية في هذا، وقالوا: (الحقي بأهلك)؛ صَرْفٌ من النبي صلى الله عليه وسلم ورد لها إلى أهلها، وهذا ضعيف؛ لأن الرواية في الصحيح تقول: (أمرني رسول الله أن أردها إلى أهلها) وفي الرواية الأخرى: (وألحقها بأهلها) والقائل هو أبو أسيد ، فقد خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من عندها، فقال: (ألحقها بأهلها، واكسها زارقتين) والتي هي متعة الطلاق، وهذه متعة، والمتعة لا تقع على امرأة ليست بزوجة، وهذا يؤكد مذهب الجمهور، أنه وقع الطلاق ووقعت متعة الطلاق، فقول الجمهور له قوة من عدة وجوه:

    الوجه الأول: أنه لا يمكن أن يدخل بها لو كانت واهبة لنفسها قبل أن تقع الهبة صريحة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم مد يده إليها، ولا تمتد يده إلى أجنبية، قال: (إني لا أصافح النساء) ولا يمكن أن تمتد يده لامرأة لم تحل له بعد، خاصة وأنه قال لها: (هبي لي نفسك) فلو سلمنا للظاهرية أنها هبة، ولم تقع بعد، فلا يمد يده إلا وقد حصل النكاح، ولا يقع هذا إلا وقد كانت المرأة زوجة.

    الوجه الثالث: مما يؤيد مذهب الجمهور، قوله صلى الله عليه وسلم لـأبي أسيد : (اكسها زارقتين) والزارقتين: ملحفتين -نوع من الثياب- فجعلهما متعة لها، والمتعة لا تكون إلا بالطلاق. ولذلك قال تعالى: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49]، وهذا يؤكد مذهب الجمهور، وإذا ثبت هذا فإننا نخلص إلى حكم، وهو أن غير الصريح كالصريح، لكن بشرط وجود النية.

    مذاهب العلماء في ألفاظ الكناية

    قال رحمه الله: [وكنايته الظاهرة].

    إذا ثبت أن في الطلاق ألفاظ كنايات تدل على الطلاق ليس بصريحها، ولكن باحتمالها. فإنها تنقسم هذه الألفاظ إلى قسمين:

    القسم الأول: يدل على الطلاق دلالة قوية، تشبه الصريح.

    القسم الثاني: وهو دون ذلك.

    وفي مذهب الحنابلة رحمهم الله قسموا الكنايات إلى ثلاثة أقسام: كناية ظاهرة، وكناية خفية، وكناية مختلف فيها. فهناك ألفاظ اتفق على أنها ظاهرة، وألفاظ اتفق على أنها خفية، وألفاظ ترددت بين الخفي والظاهر. والحنفية رحمهم الله عندهم العبرة في باب الكنايات بالنية، فألفاظ الكنايات كلها يرجعون فيها إلى النية؛ لكنهم استثنوا (اعتدي) (واستبرئي رحمك) (وأنت حرة). فـ(اعتدي) لأن العدة لا تكون إلا من طلاق، (واستبرئي رحمك) لأن الاستبراء من الرحم مثله (وأنت حرة) فالمرأة لا تكون حرة إلا إذا خرجت من عصمة زوجها، فهذه الألفاظ الثلاثة عندهم أقوى ألفاظ الكنايات الدالة على الطلاق.

    وأما بالنسبة للمالكية رحمهم الله فهم أوسع المذاهب في وقوع الطلاق؛ لأنه سبق وأن ذكرنا الرواية عنهم أنهم يطلقون بالنية، حتى لو أن اللفظ لا يحتمل الطلاق ألبتة، أو ليس له أي علاقة بالطلاق، ونوى الطلاق به طلقت، ونصوا على أنه لو قال: (اسقيني ماءً) ناوياً به الطلاق؛ طلقت، فأوسع مذهب في الطلاق هو مذهب المالكية. فأصبح اللفظ عندهم ضعيفاً؛ لأنهم يرون تأثير النية أكثر من اللفظ، ولذلك تجد مسألة الكنايات عندهم ليست كغيرهم ممن يجعل حدوداً وضوابط معينة، ويقسم اللفظ إلى الصريح وغير الصريح، ويجعل للفظ تأثيراً كما هو مذهب الجمهور.

    أما الشافعية رحمهم الله ففي الحقيقة أن مذهبهم من أقرب المذاهب، والحق يقال في هذا؛ فإنهم قالوا: الأصل أن الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا إذا نوى، وليس عندهم كناية ظاهرة ولا خفية، وإن كان بعض الألفاظ أقوى من بعضها، لكن باب الكنايات عندهم واحد، فيرون أن الأمر راجع إلى نية المكلف، إن نوى الطلاق وقع، وإذا لم ينو لم يقع، إلا أن الحنابلة في مذهبهم أقوى من الشافعية رحمهم الله لاعتمادهم الروايات عن الصحابة، وقضاء الخلفاء الراشدين، مثلاً: قضية (بتة)، وحكمهم فيها بالثلاث، وكذلك قولهم: (أنت حرام) (وأنت الحرام)، وقضاء علي رضي الله عنه فيها بالثلاث. فمذهب الصحابة يؤكد أن هناك ألفاظاً هي دالة على الطلاق وإن لم تكن من صريح الطلاق، فعندما يقول الرجل لامرأته: أنت بتة، والمبتوتة -والعياذ بالله- هي المقطوعة، فإذا قال لها: أنت بتة، يعني: قطع ما بينه وبينها، قالوا: هذا ما فيه إشكال أنه يريد الطلاق. فمثل هذا اللفظ نفسه يدل على الطلاق، ويدل على حل العصمة، ولذلك يقارب الصريح، ومثله (بتلة، برية، أنت الحرج، أنت خلية)، هذه الألفاظ التي ذكرها المصنف.

    كنايات الطلاق الظاهرة

    قال رحمه الله: [وكنايته الظاهرة، نحو: أنت خلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وأنت حرة وأنت الحرج].

    كناية الطلاق الظاهرة إن نوى الطلاق تقع بالثلاث وتحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وعند الإمام أحمد إن لم ينو بها فواحدة، والألفاظ الظاهرة هي: (أنت بتة، بتلة، برية، بائن، خلية، أنت الحرج، أنت حرة)، فيزاد على ما ذكره المصنف: (أنت حرة) فتصبح سبعة ألفاظ.

    قوله: (أنت بائن) تكون زوجة الرجل في عصمته فيقول لها: أنت بائن. والبينونة إما بينونة صغرى وإما بينونة كبرى، فإذا قال لها: أنت بائن، إن كان قبل الدخول، فيستقيم أن تكون طلقة إن نواها، فتطلق طلقة واحدة، ولا تكون ثلاثاً، كما صرح المصنف. ولهذا إذا قال لها: (أنت بائن) ولم يكن دخل بها، فإنها تبين بطلقة واحدة، وتكون البينونة الصغرى، وفي هذه الحالة إذا نوى الطلاق فإنها تبين بالواحدة، لكن إن كانت مدخولاً بها وقال: قصدت الطلاق، فإنها تطلق ثلاثاً؛ لأن المدخول بها لا تكون بائناً إلا بالثلاث، فلا تحرم على زوجها وتكون بائناً إلا ببينونة كبرى، أما البينونة الصغرى فتكون طلقة رجعية ولا تنفذ حتى تخرج من عدتها، والبينونة الصغرى تحل للزوج بعقد جديد، والكبرى لا تحل إلا بعد نكاح زوج آخر، قال تعالى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] والرجعية تحل له بدون عقد.

    فهذا الفرق بين الرجعية البائن بينونة صغرى وبين البائن بينونة كبرى. ولأجل توضيح هذه الصورة: إذا قال لها: أنت بائن، وقصد الطلقة الواحدة بغير المدخول بها استقام القول، ونيته معتبرة، ولا إشكال في كونه قاصداً لذلك. لكن لو قال لها: أنت بائن، وقد دخل بها، فبينه وبين الله أنه طلقها طلاقاً تبين منه، ولا تبين المرأة إن كانت في العصمة إلا بالثلاث، كما هو قضاء عمر بن الخطاب وقضاء الصحابة رضي الله عنهم، والعمل عليه عند الأئمة رحمهم الله.

    وإذا قال لها: أنت برية، فالمرأة يبرؤها زوجها إذا خرجت من عصمته، فإن كانت في عصمته وقد دخل بها؛ فإنها لا تكون بريئة بالمعنى التام الكامل إلا بالثلاث.

    قوله: (أنت بتة) المبتوتة لا تكون إلا بالثلاث، ولذلك تقول امرأة رفاعة: (فبت طلاقي)، وقالت فاطمة رضي الله عنها: (أرسل لها آخر التطليقات وبت طلاقها). فالمبتوتة هي صاحبة الثلاث.

    قوله: (بتلة) كذلك إذا قال لها: أنت بتلة، والبتل: هو قطع الوصال. فالمرأة البتلة هي التي قطع الوصال بينها وبين زوجها، ولا ينقطع الوصال إلا بالثلاث؛ لأنه لو قلنا في هذه الألفاظ: إنها تعد طلقة واحدة لم تكون مبتوتة من كل وجه، ومن حقه أن يردها، ولم تكن بائنة من كل وجه؛ لأنه من حقه أن يرتجعها. فقالوا: لا تحمل إلا على الثلاث، وأكدوا ذلك بقضاء علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة في ألفاظ الكنايات.

    وأما قوله: (أنت الحرج) فالمرأة لا تكون حرجاً على زوجها إلا إذا بانت من عصمته، وانحلت العصمة بدون رجعة، حتى تكون حرجاً عليه، فتكون حرجاً عليه بالثلاث. فلو حملناه على الواحدة لم يتفق مع اللفظ الذي قاله، فهو يقول: أنت الحرج . قوله: (أنت حرة) والمرأة لا تكون حرة خالية من زوجها إلا بالثلاث، فتكون بائنة بينونة كبرى.

    قوله: (أنت خلية). تكون المرأة خلية من زوجها، إذا خرجت من عصمته بالطلاق البائن أو من عدتها، وتكون حرة حينئذ، لكنها وهي في عصمته وفي نكاحه، إذا قال لها: أنت حرة، كأنه يقول: قصدت أن تخرجي من عصمتي بالكلية، وهذا لا يكون إلا بالثلاث. فهذا وجه تخصيص هذه الألفاظ: (أنت بتة، بتلة، بائن، برية، أنت حرج، أنت خلية أنت حرة). فهذه السبع تعتبر من الكنايات الظاهرة.

    كنايات الطلاق الخفية

    قال رحمه الله: [والخفية].

    هذا النوع الثاني أدخل المصنف فيه ألفاظاً اختلف فيها. والخفية أضعف من الظاهرة، فالرجل إذا طلق امرأته بالكناية الخفية يرجع إلى نيته، إن نوى الطلاق فالطلاق، وإن لم ينو الطلاق فليس بطلاق.

    قال رحمه الله: [فالخفية نحو اخرجي].

    اخرجي، اذهبي، تقنعي، لست لي بامرأة، لست لي بزوجة، هذا بالنسبة للخفية. واختلف في النوع الثالث وسيذكر المصنف بعض ألفاظه في الخفية؛ لأنه رجح أنه من الخفية، وبعض العلماء يراه من الظاهرة، كقوله: لا سلطان لي عليك ، لا سبيل لي عليك، فهذه قيل: إنها ظاهرة؛ لأن المرأة حينما يقول لها زوجها: لا سلطان لي عليك، فمعنى ذلك أنها قد خرجت من عصمته بالكلية؛ لأنه لو قلنا: إنها طلقة واحدة؛ فإنه له سلطان أن يرتجعها بعد الطلقة، ولذلك قالوا: تكون كقوله: أنت بائن، أنت بتة، أنت بتلة .. إلخ. كما تقدم.

    قال رحمه الله: [ نحو اخرجي واذهبي].

    اخرجي من البيت، اذهبي لأهلك، اذهبي لأبيك ، اذهبي لأخيك، هذا اللفظ: (اخرجي، اذهبي) يحتمل معنيين: يحتمل أن الرجل في غضب، وفي حال من الانزعاج، ولا يريد أن تكون زوجته عنده حتى لا يحتد الأمر ويصل إلى الطلاق، فقال لها: اخرجي أو اذهبي إلى أهلك، ولعل الله أن يخفف ما به من الغضب، أو يذهب ما به من السخط، فلا يقصد الطلاق، فإذا قال لها: اذهبي، الحقي بأهلك، اخرجي، قاصداً أن تذهب إلى أهلها، ولم يقصد الطلاق، فليس بطلاق، إذا لم ينوه طلاقاً، فكان من الخفي.

    قال رحمه الله: [وذوقي].

    أي: إن المرأة تتذوق عسيلة الغير، حتى ولو كان المقصود طلقة رجعية؛ فإنها تطلق.

    قال رحمه الله: [وتجرعي].

    الذوق يكون في الطعام والشراب، والتجرع يكون في الشراب غالباً، قال تعالى: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:17]، وكأنه يقول: تجرعي، أي: اذهبي لغيري، من أجل أن يصيبك، فهذا في معنى الطلاق. وقد يكون من تجرعي بمعنى: الطرد، أو تجرعي بمعنى: أن تفارقه مدة، فتتجرع ألم الفراق عن الزوج، فليس من الصريح، وبعض العلماء يجعلونه من الصريح.

    قال رحمه الله: [واعتدي].

    لأن المرأة تعتد بطلقة واحدة. فهذا ليس من الثلاث، وأيضاً قد يقصد به الطلاق، وقد لا يقصد به الطلاق.

    قال رحمه الله: [واستبرئي]

    واستبرئي كذلك.

    قال رحمه الله: [واعتزلي].

    فإن المرأة تعتزل زوجها مطلقة، وتعتزل زوجها دون طلاق، فلا يقصد به حل عصمتها.

    قال رحمه الله: [ولست لي بامرأة].

    أي: على الكمال أو كما ينبغي أن تكون المرأة لزوجها، وقد يكون المراد (لست لي بامرأة) أي: أنك طالق. فيتردد بين كونها طالقاً وغير طالق، فينظر إلى نيته، فإن قال: لست لي بامرأة ناوياً الطلاق فيقع طلاقاً، وإن لم ينو به طلاقاً فليس بطلاق.

    قال رحمه الله: [والحقي بأهلك].

    كـابنة الجون، فإن قال لها: اذهبي لأبيك، اذهبي لأهلك، اذهبي لأخيك وقصد به الطلاق فطلاق، وإن قصد بها أن تذهب فترة حتى يسكن غضبه أو يسكن غضبها أو يسكن غضبهما معاً فلا طلاق.

    قال رحمه الله: [وما أشبهه].

    أي: وما أشبهه من الألفاظ.

    وقوع طلاق الكناية بالنية ودلالة الحال

    قال رحمه الله: [ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق، إلا بنية مقارنة للفظ إلا حال خصومة أو غضب أو جواب سؤالها].

    بالنسبة للطلاق بالكنايات، قلنا: مرده إلى النية، وبعض العلماء يرى أن الكنايات الظاهرة -كما هو موجود في مذهب المالكية- تقارب اللفظ الصريح، ولا يعتد بها صريحاً، فعندهم تضعف النية على هذا الوجه، فالمصنف رحمه الله مشى على المذهب من أنه ينظر فيه إلى النية، فإذا نوى به الطلاق فيشترط أن تكون النية مصاحبة للفظ، كأن يتلفظ بأنت بائن، أو أنت برية أو أنت خلية، أنت حرج وهو ناوٍ الطلاق والنية مصاحبة للفظ. فإن تأخرت نيته للطلاق عن اللفظ لم تؤثر. ولكن عندنا في الكناية جانبان ينبغي أن نتنبه لهما، الأول: النية. والثاني: دلالة الحال. فأما النية فمثلما ذكر المصنف، وتكون مصاحبة للفظ، إما مقاربة له أو تكون مع اللفظ الذي نيته الطلاق، فإن تأخرت فإنها لا تؤثر كما ذكرنا.

    أما دلالة الحال: كأن يقول لها ذلك في الغضب أو يقول لها ذلك في جواب السؤال، هذا يسمى دلالة الحال، ويطلَّق به في الكنايات، كامرأة قالت لزوجها: طلقني، فقال لها: أنت بائن، أو قالت له: طلقني، فقال لها: أنت خلية أو أنت برية أو أنت خلية أو أنت الحرج أو اعتدي أو استبرئي، فطلاق، هذا إذا كان الحال جواب سؤال، وأما عند الخصومة فكما لو اختصم مع زوجته واشتد الخصام، فقالت له كلمة أغضبته، فقال لها بعد ذلك: أنت برية، أنت بتة، أنت بتلة، أنت حرج، أنت حرة، فحينئذ يحكم بالطلاق.

    وقوع الطلاق حكماً بالكناية الظاهرة وإن عدمت النية

    قال رحمه الله: [فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال، لم يقبل حكماً].

    هذا إذا كان تلفظه بالكناية جواباً للسؤال أو كان لفظه من الصريح؛ ولكن بينه وبين الله ينفعه.

    فاختلفت الكناية الظاهرة عن اللفظ الصريح من جهة النية، فاللفظ الصريح يطلق به ولو لم ينو ما دام أنه قد قصد اللفظ. وأما بالنسبة لغير الصريح -الكنايات- فإننا لا نطلق إلا مع النية، ديانة وحكماً. فإن تخلفت النية أخذنا بالظاهر، كما لو سألته زوجته أن يطلقها، فقال لها: أنت بائن. فإننا نطلق حكماً، وبينه وبين الله تنفعه نيته، لكننا نطلق حكماً وقضاءً. فمثلاً لو قال لها: أنت بتة، ولم ينو الطلاق، وقصد أنت مقطوعة، أي: ما عندك أخوال ولا أعمام ولا أناس يحمونك، أو عندك أبوك وأخوك وقرابتك ولكن لا ينفعونك، فقصد: أنت بتة، يعني: أنت ضعيفة، يريد أثناء الخصومة. فنحن نعمل بالظاهر على أنه طلاق، لكن بينه وبين الله قصد أنها مبتوتة، أي: ليس لها أحد يحميها أو يكون معها، فينفعه فيما بينه وبين الله، ولا ينفعه قضاءً.

    وقوع الطلاق بالكناية الظاهرة ثلاثاً ولو نوى واحدة

    قال رحمه الله: [ويقع مع النية بالظاهرة ثلاثاً وإن نوى واحدة].

    قوله: (بالظاهرة ثلاثاً ولو نوى واحدة) إلا ما استثناه بعض العلماء وهو: إذا كان قبل الدخول وقال لها: أنت بائن، فالأشبه في طلاقه لها بالبينونة يتجه أن يكون بينونة صغرى بخلاف المدخول بها؛ فإنه لا بينونة لها على هذا الوجه إلا بثلاث، فلا تنفعه النية.

    إذاً: إذا طلق بالكناية الظاهرة لم يخلُ في نيته بالطلاق من حالتين: أن يطلق بالكناية الظاهرة ناوياً الثلاث فثلاث، كأن يقول لها: بتة، بتلة، بائن، برية، حرج، حرة، فهذه توجب الثلاث بنيته، فحينئذ لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وإن قصد بالظاهر الطلاق واحدة، كأن يقول لها: بتة، بتلة، برية، بائن، حرج، حرة، وقصد واحدة فثلاثاً؛ لأن هذه لا تحتمل الواحدة فلا توجد واحدة بائنة؛ إلا ما ذكرناه في غير المدخول بها، ولا توجد بريئة بتة مقطوعة من كل وجه بطلقة واحدة فقط، كما ذكرنا بالتفصيل.

    قال رحمه الله: [وبالخفية ما نواه] فافترقت الخفية عن الظاهرة من جهة قوة تأثير النية بالخفية دون الظاهرة.

    والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755971827