إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب المحرمات في النكاح [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن المحرمات إلى أمد يحرم نكاحهن حتى يزول المانع، فإذا زال المانع فإنه يجوز نكاحهن. والمحرمات إلى أمد أنواع: منها أخت معتدته، وأخت زوجته، وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما وغيرهن ممن يحرمن على التأقيت. والحكمة من التحريم هو الإبقاء على المحبة بين هؤلاء، وعدم التقاطع والتباغض، وهذه حكمة عظيمة.

    1.   

    بيان المحرمات من النساء على التأقيت

    قال رحمه الله: [ فصل: وتحرم إلى أمد].

    قوله: (وتحرم إلى أمد) هذا النوع الثاني من المحرمات وهو التحريم إلى أمد.

    فبعد أن بين رحمه الله المحرمات إلى الأبد شرع في بيان المحرمات إلى أمد، وهذا نوع من النسوة يحرمن مؤقتاً، مثلاً: عندنا المرأة المحرمة لا يجوز لك أن تتزوجها حتى تحل من إحرامها، وكذلك المرأة الزانية لا يجوز نكاحها حتى تتوب وتستبرئ من زناها، كذلك المرأة الكافرة لا يجوز نكاحها إلا ما استثناه الشرع من الكتابيات على التفصيل الذي سنذكره، لكن إذا أسلمت يجوز، إذاً معنى ذلك أن هؤلاء النسوة تحريمهن من جهة العوارض والأسباب، ويزول التحريم بزوال سببه.

    من المحرمات إلى أمد أخت الزوجة

    قال رحمه الله: [أخت معتدته].

    قوله: (أخت معتدته)، أي: أخت الزوجة، وهي محرمة عليك سواء كانت الزوجة في عصمتك أو كانت في حال العدة، فهو قال: (أخت معتدته) حتى يُعْلَمَ أنها إذا كانت باقية في عصمته فهي محرمة من باب أولى وأحرى، وهذا النوع من النساء يدخل تحت مانع الجمع. فالموانع عدة وهي: مانع النسب، ومانع المصاهرة، ومانع الرضاع، ومانع اللعان، هذه أربعة موانع تقدمت، ثم نشرع الآن في مانع الجمع، وهو الجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، هذا بالنسبة لمانع الجمع.

    فابتدأ بالأخت وعادة العلماء يقولون: تحرم أخت الزوجة ما دامت الزوجة في العصمة أو كانت في عدتها، فإذا طلقت وخرجت من عدتها حلت أختها. دليل هذا النوع من التحريم قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، (إلا ما قد سلف) أي: ولا ما قد سلف -كما ذكرنا-، فينبغي فراقهن، فيكون على العطف تشبيك الحكم، ومن حكمة الله عز وجل أنه حرم على الرجل أن يتزوج أخت زوجته في حال بقاء أختها في عصمته؛ لما في ذلك من قطع الأرحام، وظهور الحقد بين الأخوات، وقد جاء في الحديث الآخر في الرواية: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) ، فهذا يدل على أن العلة خوف قطيعة الرحم، ومن هنا يقول العلماء: إن التحريم هنا درء لمفسدة قطيعة الرحم، وأجمع العلماء على عدم جواز الجمع بين المرأة وأختها.

    لكن هذا النوع من الموانع الذي هو مانع الجمع لا يوجب المحرمية كما ذكرنا، ويخطئ بعض الناس عندما يجلس مع أخت زوجته، فإذا قيل له: لماذا؟ يقول: هذه محرمة فهي كالأم والبنت، وهذا خطأ، فإنها محرمة إلى أمد، والمحرمة إلى أمد لا تأخذ حكم المحرمة إلى الأبد. والأخت تشمل أخت الزوجة الشقيقة، وأخت الزوجة لأب، وأخت الزوجة لأم، فالحكم هنا عام، وألحقت بها الأخت من الرضاعة، فإنه لا يجمع بين المرأة وبين أختها من الرضاعة. وعليه فلا يجمع بين المرأة وبين أختها من النسب، ولا أختها من الرضاعة.

    قال: [وأخت زوجته]

    قوله: (وأخت زوجته) أخت معتدته، هي أخت زوجته، يعني: كأنه يقول: إن أخت الزوجة محرمة إلى أن تطلق وتخرج من عدة الطلاق، لكن ما دامت في عدة الطلاق لا، ومن هنا يلغزون ويقولون: رجل يعتد، وهو الذي يريد الزواج من أخت الزوجة، ومن كان عنده أربع نسوة وأراد أن يتزوج بامرأة خامسة لا يحل، فنقول له: فارق واحدة وتزوج الخامسة، فإذا طلق الواحدة لا يحل له أن يعقد على الخامسة حتى تخرج هذه من عدتها؛ لأنه لو أبحنا له أن ينكح الخامسة قبل أن تخرج الرابعة من عدته ومات، يكون قد مات وفي عصمته خمس من النسوة بحكم الشريعة؛ لأن المرأة في العدة آخذة حكم المرأة، ولذلك قالوا: إنه لابد من خروجه من العدة في قول جماهير السلف رحمة الله عليهم، وقضى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وعليه قالوا: لو ألغز يقال: رجل يعتد، بينما الأصل أن العدة تكون للمرأة، يقولون: هو الرجل الذي يريد الخامسة، فإنه إذا طلق الرابعة يعتد، يعني: لا يتزوج حتى تخرج الرابعة من عدتها، وهكذا لو طلق الزوجة وأراد أن ينكح أختها فإنه ينتظر إلى خروجها من العدة، لكن لو أن أختها ماتت، جاز له مباشرة أن ينكح أختها، في هذه الحالة ليست هناك عدة، فبمجرد موتها يحل له نكاح أختها.

    حكم الجمع بين المرأة وبنت أختها أو عمتها أو خالتها

    قال رحمه الله: [ وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما].

    قوله: (وبنتاهما) فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنت أختها؛ لأنه جمع بين المرأة وخالتها، ومعلوم أنه لا يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.

    قوله: (وعمتاهما وخالتاهما)

    لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها) ، ومن هنا يعتبر العلماء: أن السنة تزيد على القرآن في الحكم، وهذا خلاف لبعض أصحاب الرأي الذين يقولون: إن السنة لا تزيد على القرآن، فهنا زاد التحريم الجمع بين المرأة وعمتها، فإن ظاهر القرآن يبيح؛ لأن الله يقول: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23] ، والله تعالى حرم المحرمات ثم قال بعد ذلك: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] ، فالأصل يقتضي أن التحريم يختص بالجمع بين الأختين، مفهوم ذلك: أن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها جائز بحكم القرآن؛ لكن جاء النص من السنة بالزيادة، وهذا مما يذكره العلماء: أن السنة تزيد على القرآن، بخلاف من يقول: إن السنة مفسرة مقيدة لمطلق القرآن، مخصصة للعموم إلى آخره، وهذا ليس على كل حال، بل السنة تزيد على القرآن، وتأتي بأحكام زائدة على القرآن، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث عني فيقول: ما وجدت هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، ولقد صدق بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكم من جالس على أريكته أشر بطر كفر نعمة الله عز وجل، ورد سنة النبي صلى الله عليه وسلم مدعياً أنه لا يجد ذلك في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنية عنه وعن أمثاله.

    جواز التزوج ببنت أخت المرأة وعمتها وخالتها بعد انتهاء عدتها

    قال رحمه الله: [ فإن طلقت وفرغت العدة أبحن ].

    قوله: (فإن طلقت وانتهت العدة) هذان شرطان. إذاً: لابد من الأمرين: الطلاق، وانتهاء العدة، لكن لو ماتت فإنها تحل.

    قال: [ وإن تزوجهما في عقد أو عقدين معاً بطلا ]

    يا إخوان! الحقيقة أن متون الفقه ومتون العلم ألَّفها علماء أجلاء، ومن الخطأ أن يظن الظان أن أهل العلم المعروفين بالورع والصلاح يأتون بشيء من عندهم، فالبعض يقول: هذه آراء واجتهادات، العلماء عندما يأتون بهذه المسائل الغريبة فهي منبنية على الأصول، ولو تأملت الآن المتون الفقهية وأمعنت النظر فيها، وركزت في الأدلة المستنبطة منها هذه الأحكام، لوجدت أنها لا تخرج عن أصل صحيح شرعي، لكن تختلف الأنظار هل هذا الأصل أولى أو ذاك؟

    فهم الآن حينما يتكلمون على مانع الجمع، فإن القرآن فيه نهي عن الجمع، لكن قد يرد السؤال: لو أن رجلاً جمع بين أختين -والعياذ بالله- معاً، وهذا الرجل جاهل بحكم الشريعة، كأن يكون أسلم حديثاً، ثم جاء وتزوج أختين مع بعض، وقيل له: هذا لا يحل، فما الحكم: هل نلغي النكاحين؟ أم نبقي النكاحين؟ أم نلغي أحدهما ونبقي الآخر؟ هذا فيه تفصيل:

    إن كانت إحداهما سابقة للأخرى بطل نكاح الأخيرة، وبقي نكاح الأولى على ما هو عليه؛ لأن الإخلال جاء من إدخال عقد الثانية على الأولى، فالأصل في عقد الأولى أنه صحيح وأصله مستصحب، ونلغي الثاني فكان وجود العقد وعدمه سواء، فنقول له: فارق الأخت الثانية، ويلزمك مفارقتها ويبقى عقد الأولى على ما هو عليه.

    لكن لو تزوجهما معاً، دخل بهما معاً وعقد بهما معاً، فما الحكم؟

    نقول: بطل نكاحهما معاً؛ لأنه مبني على أصلٍ فاسد، لا يصح النكاح على هذا الوجه، إذا لم تسبق إحداهما الأخرى وعقد عليهما معاً، يقع صورة هذه المسألة: ككفار أسلموا وهم حديثو عهد بالإسلام فقال أحدهما للآخر: يا فلان! زوجتك أختين لي، قال: قبلت، فقد وقع العقد على الاثنتين، نعم تزوج أختين مع بعض، فحينئذٍ جمع بين الأختين في عقد واحد، فيلغى عقد الأولى والثانية.

    قال: [ فإن تأخر أحدهما أو وقع في عدة الأخرى وهي بائن أو رجعية بطل ]

    قوله: (فإن تأخر أحدهما) ما رأيكم تأخرت إحداهما، أو تأخر أحدهما؟ تأخر أحدهما بالتذكير التفاتاً للعقد، أي: فإن تأخر عقد إحداهما عن عقد الأخرى بطل نكاح الثانية دون نكاح الأولى كما ذكرنا، وهكذا لو وقع في عدتها فإنه يبطل نكاح الثانية، يستوي أن يقع في عدتها أو يقع في حال العصمة كما ذكرنا.

    من المحرمات إلى أمد المحصنة والمعتدة

    قال رحمه الله: [ وتحرم المعتدة والمحصنة].

    قوله: (وتحرم المعتدة) قال تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235] ، فالمرأة المعتدة من طلاق تنتظر حتى تتم عدتها، وبعد ذلك تحل للأزواج، فلا يجوز أن ينكحها في حال عدتها، وقد حرم الله عز وجل المرأة المحصنة والمعتدة، وهذا مانع جديد غير المانع السابق.

    قوله: (والمحصنة) هذا مانع الزوجية. وضابط الزوجية: أن تكون المرأة في عصمة الغير، والدليل على ذلك في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] عطف المحصنات من النساء على قوله: (حرمت)، أي: حرمت عليكم المحصنات من النساء، والمحصنة: هي المرأة المزوجة؛ لأن الإحصان يطلق على الزواج، فيقال: أحصن الرجل إذا تزوج: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25] ، فهنا الإحصان الأول بمعنى الزواج، ويطلق الإحصان بمعنى العفة:

    حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

    ومنه قوله تعالى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [النساء:25] يعني: عفيفات غير زانيات، قوله: (مسافحات) يعني: زانيات، والسفاح هو الزنا، وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان [النساء:25] يعني: متخذات أصدقاء مثلما يقع عند أهل البغي والفجور.

    فالمقصود: أن المرأة المحصنة في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ [النساء:24] من المحرمات إلى أمد، وهي: كل امرأة في عصمة الغير، فلا يجوز للرجل أن يتزوج منكوحة غيره، وإذا تزوج منكوحة غيره فهو زانٍ، هذا إذا كان يعلم أنها منكوحة لغيره، ويعلم بالتحريم، فحكم هذا أن يرجم إن كان محصناً. والمرأة التي هي الزوجة إن رضيت به، أو كذبت وقالت: ما لي زوج ولها زوج، وتزوجت بزوج ثان عالمة بالحكم فهي زانية وترجم بزناها، هذا إذا ثبت عند القاضي أنها فعلت ذلك توصلاً إلى وطئه، ويكون حينئذٍ طلباً للزنا؛ لأن العقد باطل، فكأنها تبيح له ما حرم الله عز وجل دون إذنٍ شرعي فهو زنا.

    فالمقصود: أن المرأة المحصنة لا يحل نكاحها، ودليل ذلك قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ [النساء:24] ، ويتبع ذلك المعتدة، فالشريعة حكمت بأن المعتدات في حكم الزوجات، وفائدة العدة أن يقوم الزوج بردها؛ وذلك لقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] فجعل المرأة المعتدة تابعة لبعلها، فقال: (وبعولتهن) وهذا يدل على أنها لا تنكح، ولا يجوز للغير أن يدخل على زوجة الأول إلا بعد خروجها من العدة.

    عدم جواز وطء المسبية إلا بعد استبرائها

    قال رحمه الله: [والمستبرأة من غيره].

    قوله: (والمستبرأة من غيره) المستبرأة من البراءة، وهي: التي تطلب براءة الرحم، مستبرأة من غيره مثلما يقع في الإماء، يقول الله تعالى : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] لا يحل للمسلم أن يطأ أو يتزوج امرأة مزوجة بغيره، إلا في حالة واحدة وهي: أن تكون كافرة، وتؤخذ أسيرة، وكانت زوجة لكافر قبل أن تسبى وتسترق، فإذا أخذت بالسبي يلغى نكاح الكفار، ويصير لها بحكم السبي حكم جديد، ولذلك قال الله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] ، فالسبي والنساء المسترقات في السبي يجوز وطؤهن، ولو كن زوجات للكفار قبل القتال وقبل الجهاد، فبالجهاد نشأ حكم جديد، فألغي زواجهن الأول وأصبحن ملكاً؛ لأنه لو لم يكن هذا لما وقع شيء اسمه ملك يمين، فقال الله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] فاستثنى الله عز وجل الوطء بملك اليمين للمحصنة، لكنها تُسْتَبْرَأُ فلا يجوز وطؤها قبل الاستبراء؛ لأنه إذا وطأها ولم يستبرئها فإنه يدخل ماءه على ماء الكافر قبله، وهكذا لو كانت المرأة منكوحة لغيره ووقع الوطء شبهة، لا بد أن يستبرئها إذا كانت موطوءة من غيره، وسنتكلم إن شاء الله على العدد وأحكام الاستبراء في بابها إن شاء الله، والدليل على أن المستبرأة لا توطأ حديث سبي أوطاس، وذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يريد أن يلم بالمسبية، يعني: يطأها، هذه المرأة المسبية كانت فراشاً للذي قبل، وفيها حمل بيّن، والمفروض أنه ينتظر حتى تضع حملها، وحينئذٍ يستبرئ الرحم، ويصبح خلواً له، فيطأ بملك اليمين، لكن ما يجوز أن يأتي بمسبية حامل ويطأها؛ لأن هذا يدخل ماءه على ماء غيره، فقال صلى الله عليه وسلم -لما رآه على باب الخيمة وهو يلم بها-: (أيلم بها، أيغذوه في سمعه وبصره -يعني: لو وطأها وهي حامل لانتشى ولد غيره بمائه- لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) ، وفي هذا يقول بعض العلماء: إن هذا يدل على عظم أمر الزنا؛ لأنه إذا زنى وأدخل على أهله ولداً ليس منهم، وأغذاه في سمعه وبصره -والعياذ بالله- وأدخل من يطعم من طعام قوم لا يحل له أن يطعم، ويشرب من شراب قوم لا يحل له أن يشرب، وأن ينظر إلى نسائهم وهم ليسوا بمحارم، فكل هذا من الآثار المترتبة على اختلاط الماء، ولذلك قال: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) ، فهذا يدل على أنه لا يجوز الوطء للمرأة التي علق ماؤها من الغير، وكذلك لا يجوز وطء معتدة غيره وامرأة غيره بعد فراقهما إلا بعد استبرائهما.

    من المحرمات إلى أمد الزانية

    قال رحمه الله: [ والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها ].

    ولا يجوز نكاح الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، هذان شرطان: الشرط الأول: يتعلق بصلاحها واستقامتها وتوبتها من الزنا. والشرط الثاني: يتعلق بطهارة فرجها ورحمها، فأما بالنسبة للدليل على تحريم نكاح الزانية فقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] قيل: إن هذه الآية نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه وقد أراد أن ينكح عناقاً ، ونكاح الرجل للمرأة الزانية يدخل الضرر على أولاده وذريته ونسله، وتختلط الأنساب، ولا يأمن منها أن تدنس فراشه، وتلوث نسبه والعياذ بالله! فتدخل عليه من الشر والبلاء، وتدخل على جماعته وجيرانه من السوء ما الله به عليم، فإن المرأة الزانية مشئومة وفيها من الشؤم والبلاء ما قد يكون سبباً في الضرر على غيرها، فكم أفسدت وأهلكت من بيوت وأسرٍ، ودمرت من أناسٍ بسبب ما يكون منها من الزنا نسأل الله السلامة والعافية!

    فالزانية شر عظيم، ولذلك حرم الله نكاح الزانيات، فقال تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3] ، وعلى الصحيح من قولي العلماء: أن الزنا يمنع النكاح، فيحرم على المسلم أن ينكح الزانية، وهذا مانع آخر، فقد ذكرنا قبلاً مانع الجمع، ومانع الزوجية، ومانع العدة، والعدة في حكم الزوجية، وذكرنا بعد ذلك الاستبراء، ثم هانحن نذكر مانع الزنا، هذا المانع الرابع من موانع المحرمات إلى أمد، وتستطيع أن تجعل المستبرأة في حكم ذات الزوج؛ لأنها تابعة لماء الأول، وتجعل هذا مانعاً ثالثاً مؤقتاً، وهو مانع الزنا، والصحيح من أقوال العلماء: أن الزنا يمنع من النكاح ويحرم.

    وعليه فلا يجوز أن ينكح المسلم الزانية إلا بشرطين: الشرط الأول: أن تتوب، وتوبتها تكون بما يظهر من صلاح حالها واستقامتها وبعدها عن الحرام. وقال بعض العلماء: لا توبة لها إلا إذا اختبرت وظهرت براءتها، وقالوا: اختبارها أن تراود على الزنا فلا تعود، وهذا شرط صعب، فإن المرأة قد تتوب توبة نصوحاً، ولكنها إذا ذكرت بماضيها ربما ضعفت، ولذلك أمر التوبة في هذا من الصعوبة بمكان؛ لكن ظواهر الحال والقرائن الظاهرة إن شاء الله كافية. بعض العلماء يعتبرون بصلاح الحال أغلب الحول، أي: أنه إذا مضى عليها أغلب الحول وهي مستقيمة طائعة نادمة على ما فات، وظهر من أحوالها التوبة صح منها ذلك، مثال ذلك: أنها كانت تخرج فصارت تقر في بيتها، وكانت تتصل بالناس فقطعت صلتها بالناس، فظهرت أمارات ودلائل وآثار تدل على صدق توبتها، حينها نحكم بتوبتها، فإذا حكمنا بتوبتها وظهر ما يدل على صلاحها واستقامتها، فإنه يستبرئ ما يكون منها، فلا يجوز له أن يطأها قبل أن تستبرئ من وطء الزنا؛ لأن هذا يوجب خلط الأنساب.

    لكن لو كان الذي زنى -والعياذ بالله- يريد كما يقولون: أن يستر الزانية، فيتزوجها بعد أن خدع المرأة وأصابها فوجدها بكراً فيطمع فيها.

    فمذهب طائفة من السلف: أنه يجوز له أن يتزوجها ويسترها.

    وقال بعض الصحابة: أوله حرام وآخره حلال، وأوله سفاح وآخره نكاح، فخففوا في ذلك، وقال به بعض الأئمة.

    وذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله، وهو الأقوى والصحيح: أنه لا يجوز له أن يعقد عليها حتى تتوب توبة نصوحاً، وتستبرئ من الحرام، حيث لا يجوز إدخال الحلال على الحرام، والسنة قاضية على أنه يجب التفريق بين الحلال والحرام، وذلك في حديث وطء المسبية فإنه يدل على أنه لا يجوز، وكما هو معلوم فإن عندنا نصاً يدل على أن ماء الزنا حرام، وليس للرجل فيه حق: (الولد للفراش) ، فكيف نقول: يتزوجها من أجل أن يسترها، فحينئذٍ إن سترها ضيّع حق الولد فإنه يدخل ولداً على ذريته ليس منهم؛ ولذلك نص عليه الصلاة والسلام بقوله: (الولد للفراش) ، فهذا يدل دلالة واضحة على أن هذا الولد ليس من حقه، فهو يتذرع بأن هذا الولد ولده، ويريد أن يبقيها في عصمته من أجل هذا الولد، والواقع أنه ليس بولده، وهذا الولد لابد وأن يأخذ حكمه الشرعي في كونه ولد سفاح، فإذا جاء يقول: أنا أسترها، إنما سترها بمحرم، وأدخل السفاح على النكاح، فأدخل ولداً ينسب إليه، ويقارن بأبنائه وبناته، يشاركهم ويزاحمهم في الإرث هو وذريته وذرية ذريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن بقي نسله، وكل ذلك مما ليس له أصل شرعي.

    صحيح أن ستر المرأة مشروع، وأن الزاني يستر غيره ويستر نفسه فهذا لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه ماعز قال له: (ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) لكن أن يدخل الحلال على الحرام فلا؛ لأنه سيضر بحقوق الورثة، وهذا الولد ليس له حق؛ لأن هذا الماء الذي وطِئَ وأُنجب منه، واغتذى به الفرج، وحصل منه الإنجاب، ماء لا حرمة له، فهو بهذا الستر يدخل الحرمة، وبالإجماع على أنه يشرع الستر ما لم يتضمن إضراراً بالغير، وفواتاً لحقه، لو أن الرجل توفي وليس له ولد إلا هذا الولد الذي من الزنا، وفرضنا أنه طلق أم هذا الولد وتزوج زوجة ثانية وليس له إلا هذا الولد الذي من الزنا والعياذ بالله! ففي هذه الحالة تنتقل المرأة من إرثها من الربع إلى إرثها من الثمن، بسبب ولد الزنا؛ لأن هذا الولد يحجبها، ثم إن العصبة الذين هم قرابته أحق بميراثه، فيأتي ابن الزنا -والعياذ بالله- ويأخذ الميراث منهم تعصيباً.

    فالمسألة ليست مسألة عاطفة، المسألة مسألة أحكام، ولذلك فإن قول من قال: لا يدخل الحرام على الحلال ولا يدخل الحلال على الحرام أقوى، والأصول شاهدة له، والسنة دالة عليه.

    والذي تطمئن إليه النفس أنه لا يصح هذا، وهو اختيار جمع من العلماء وطائفة من مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أولى بالصواب إن شاء الله تعالى؛ لدلالة النصوص والأصول الشرعية عليه.

    من المحرمات إلى أمد المطلقة ثلاثاً

    قال رحمه الله: [ ومطلقته ثلاثاً حتى يطأها زوج غيره ]

    قوله: (ومطلقته ثلاثاً) إذا احتسبنا المستبرأة داخلة تحت المعتدة، فالنوع الرابع مطلقته ثلاثاً لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا -أي: الطلقة الثالثة- فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فهذا نص على أن المرأة المطلقة ثلاثاً لا تحل حتى تنكح زوجاً غيره، وجاءت السنة بزيادة شرط فإن ظاهر القرآن: حَتَّى تَنكِحَ [البقرة:230] ظاهره العقد، وأنه إذا عقد عليها زوج حلت للأول الذي طلقها ثلاثاً إن طلقها الثاني أو بانت منه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن في حديث امرأة رفاعة بن رافع القرظي رضي الله عن الجميع حينما بانت من رفاعة وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت، وقالت حينما نكحت عبد الرحمن بن الزبير : (إنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ فقال: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ، فهي لما طلقها رفاعة الطلقة الثالثة بانت منه، وبت طلاقها وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير فأرادت أن ترجع إلى رفاعة ، وقيل: أن ما اتهمت به عبد الرحمن بن الزبير ليس بصحيح؛ لأنها لما جاءت تشتكي ابن الزبير كان معه ولد، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أهذا ولدك؟ قال: نعم) فعلم كذبها، وأنها تريد أن ترجع إلى الأول، ففطن صلى الله عليه وسلم لذلك، وعلى هذا ينبغي على القاضي والمفتي أن يكون ذا فطنة وذا علم وبصيرة، وأن ينتبه إلى ما يدعيه المدعي، وأن تكون عنده من الفراسة ما يمكنه من معرفة الكلام الذي يقال، والدعوة التي تذكر من الخصمين.

    الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها إلى رفاعة إلا بعد أن يذوق الثاني العسيلة، وهذا مكنىً به عن الجماع، ولذلك أجمع العلماء على أنها لا تحل للأول إلا بعد وطء الثاني لها، ويكون ذلك بإيلاج الحشفة أو قدرها إن كانت مقطوعة، وحصول الإيلاج في الفرج أمر شرعي معتبر، ثم إن أراد أن يطلقها بعد ذلك فإنه جائز؛ لكن بشرط ألا يكون نكاح محلل، فإذا وقع ذلك وطلقت ورجعت إلى الأول حلّت له، وسيأتي إن شاء الله بيانه في مسائل الطلاق، هل تحل له بثلاث طلقات جديدة، أو تحل له بطلقة واحدة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، هذا مانع التطليق ثلاثاً، وهو من الموانع المؤقتة، لأنها إذا نكحت زوجاً غيره مطلقها حلّت للذي قبل.

    من المحرمات إلى أمد المحرِمة

    قال رحمه الله: [ والمحرمة حتى تحل ].

    مانع الإحرام مانع مؤقت، وقد بيّنا مانع الإحرام في كتاب المناسك، وبيّنا أن الصحيح من مذهب الجمهور: أن المحرم لا ينكح ولا يُنكح ولا يخطب، وبيّنا صريح السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل على رجحان هذا القول، وأجبنا عن أجوبة المخالفين، وأنه لا يحل نكاح المرأة المحرمة حتى تتحلل من إحرامها، ولا يجوز للرجل المحرم أن ينكح، ولو كانت المنكوحة حلالاً فلا يجوز نكاح المحرمين، ولا نكاح محرمة من حلال، ولا نكاح حلال من امرأة محرمة، ولا محرم من امرأة حلال، لا يجوز هذا سواء كان الاثنان محرمين، أو كان أحدهما محرماً، والآخر حلالاً، فلا يجوز النكاح على هذا الوجه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ينكح المحرم -إذا كان زوجاً رجلاً- ولا يُنكح -إذا كان امرأة-) ، فجمع بين الاثنين، ودل على تحريم النكاح بالإحرام.

    1.   

    حكم تزويج الكافر بمسلمة

    قال رحمه الله:[ ولا ينكح كافر مسلمة ].

    هذا مانع الكفر (لا ينكح كافر مسلمة)؛ لقوله تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] ، فحرم الله عز وجل على الكافر أن ينكح المسلمة، وأباح للمسلم أن ينكح الكتابية مع أنها كافرة؛ وذلك لأن سلطان الرجل أقوى من سلطان المرأة، ولو أن الكافر تزوج المسلمة لأغواها، فإن المرأة أضعف من الرجل، وتسلط الرجل عليها أقوى، فجعل حق القوامة والعلو للإسلام لا للكفر، ولذلك لا يحل أن يكون الزوج كافراً، وقال تعالى: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة:10] إذا آمن الكافرات وهاجرن وثبت إيمانهن فلا يجوز أن نقوم بإرجاعهن إلى الكفار؛ لقوله: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10] فنص الله عز وجل على أنها حرام على الكافر في استدامة العقد، فمن باب أولى في إنشاء العقود، يعني: يستوي في ذلك أن تسلم فنمنعها من زوجها الكافر، أو يكون كافراً يريد أن يتزوج مسلمة، فلا يجوز للكافر أن يطأ المسلمة بالنكاح لا ابتداء بعقد نكاح ولا استدامة، فبمجرد إسلامها يفرق بينه وبينها.

    1.   

    حرمة تزوج المسلم بالكافرة باستثناء الكتابية

    قال رحمه الله: [ ولا مسلم ولو عبداً كافرة إلا حرة كتابية ].

    لا يجوز للمسلم أن يتزوج الكافرة؛ وهذا من الولاء والبراء الذي يقوم عليه دين الإسلام، فلا يجوز للمسلم أن يوالي أعداء الله عز وجل، والنكاح بطبيعة الحال مداخلة، وفيه من الود والمحبة ما قد يؤثر على الدين، وفتنة الدنيا قد تعمي البصيرة والعياذ بالله، ولذلك قطع الله عز وجل الروابط بين المسلمين والكافرين، وقدم حق الإسلام وحق طهارة العقيدة وسلامتها من المؤثرات والدواخل على شهوات النفوس؛ لأن البديل موجود، وفي الإسلام غناء عن الكفر، فلا يجوز للمسلم أن يتزوج الكافرة، فالكافرة شر وبلاء، وإن كان رجلاً قوياً قادراً على كفها ومنعها من التسلط عليه إذا أرادت أن تغويه، فإنه لا يستطيع أن يمنع سلطانها على أولاده، فإن الأم لها قوة ونفوذ على الأولاد، ولذلك أصبح لهذا الأمر خطران: خطر على الزوج، وخطر على الأولاد.

    أضف إلى ذلك: أنه ما من رجل مسلم ينكح امرأة كافرة إلا وسيدخلها على قومه وجماعته وبيئته، فربما أغوت وأضلت كما ضلت، فكانت غاوية مغوية لغيرها فتفسد بيئة المسلمين، ولو أن كل مسلم ذهب وأتي بكافرة فُتن بجمالها، ثم أتى بها إلى بلاد المسلمين فإن هذا يدمر الإسلام، ويحدث فجوة عظيمة داخل البيوت وداخل الأسر، وأعظم ما تقوم عليه الأمم والمجتمعات الأسرة، وهو الكيان الذي منه ينطلق صلاح المجتمع، فلابد أن تكون قائمة على تقوى الله عز وجل، وتؤسس على تقوى من الله ورضوان، وتؤسس على صلاح الدين والإيمان بالله عز وجل.

    فلا يجوز نكاح الكافرة: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10] فحرم الله عز وجل الإمساك بعصم الكوافر، وحرم نكاح المشركات: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] فحرم نكاح الكافرات، لكن استثني الكتابية؛ لأن الكتابية لها دين سماوي، وأَلِفَتِ التعبد بذلك الدين السماوي، فهناك مدخل أن يؤثر عليها للإسلام، فيتزوجها وفي نيته أن يصلحها، ويقدم حق الله عز وجل على حق نفسه، ففي هذه الحالة الزواج من الكتابية على مطمع إسلامها مباح في أصل الشرع، وجماهير السلف رحمهم الله والخلف والأئمة والفتوى على جواز نكاح الكتابية؛ لأن الله يقول: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5] ، فنصه سبحانه وتعالى على حلّ المحصنات من أهل الكتاب، ويستوي في ذلك اليهود والنصارى. وعند العلماء تفصيل: بعض العلماء يقول: يشترط أن تكون كتابية الأبوين، يعني: والدها كتابي وكذلك أمها كتابية، فإن كانت من أحدهما لم يصح، وظاهر القرآن أن العبرة بها؛ وذلك لقوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5] ، فإن كانت هي تدين بدين أهل الكتاب حلّ نكاحها على نص القرآن وظاهره، وهذه التفصيلات فيها محل اجتهاد ولا تخلو من نظر.

    لكن مسألة الزواج من الكتابيات أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والعصور والدهور، فلا يفتح باب النكاح من الكتابيات، ففي زماننا من المجرب والمعروف أنه شر عظيم وبلاء عظيم، وقوة نفوذ أهل الكتاب خاصة في العصور المتأخرة، فإن المرأة الكتابية قد تتزوج المسلم ثم بعد ذلك تأخذ أولادها منه بالقوة وتنتزعهم منه شاء أو أبى، وتستطيع أن تستغل نفوذاً أوسع من نفوذها، ولذلك لابد من فقه الفتوى في الزمان، والنظر إلى ما يجر على المسلمين ومجتمعات المسلمين من فتح هذا الباب من الشر العظيم والبلاء الوخيم، إضافة إلى ما يعرف منهن من أن بعضهن لا يعرفن إلا التهتك، يعني: ليس عندهن إلا الاسم فقط من كونهن كتابيات، والتهتك والعهر والفساد -والعياذ بالله- منتشر بينهن، أضف إلى ما عرف منهن من الكيد للإسلام والخديعة للمسلمين، والتظاهر بمحبة الإسلام من أجل أذية المسلمين، ولذلك لابد من وضع هذه الأمور كلها في الحسبان، فلا نأتي ونقول مثلاً: الله أحل لنا نساء أهل الكتاب، بل أحل لك أن تنكح المرأة المسلمة؛ لكن إذا أردت أن تتزوج امرأة مسلمة ولكنها شريرة، وتؤذي جيرانها، وتؤذي أهلك، ولربما كانت نمامة تنقل الحديث، هل يحل لك أن تدخلها على بيئتك ومجتمعك، أم تقف أمام حدود الله ونصوص الشرع من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتتقي الله في جيرانك وأهلك وأمتك ومجتمعك؟ كذلك أيضاً أهل الكتاب في زماننا، فإننا وإن وجدنا النص يحل نكاح النساء منهم، ونظرنا إلى الواقع والحقيقة وما يجر ذلك من تبعات وأضرار، فإننا نعطي كل زمان حقه وقدره، فنقول: من أراد أن يأخذ بهذا الحلال، ينبغي أن يضع في حسبانه جميع الآثار والسلبيات والنتائج المترتبة على مثل هذا، والله عز وجل بمنه ورحمته قد أغنى المسلمين عن أمثال هؤلاء، وإنما يقع هذا خاصة في القديم حينما كان أهل الكتاب أهل ذمة وتحت المسلمين، وكانوا يتأثرون بالمسلمين، فالمرأة كانت تحب الإسلام، وهذا كان يقع في المجتمعات التي كان فيها أهل ذمة، ولكن بحكم بيئتها لا تستطيع أن تسلم، فإذا انتزعها المسلم من تلك البيئة وجاء بها أسلمت، ووقع هذا في عصور حينما كانت العزة للإسلام وأهله، ولا زالت والحمد لله العزة للإسلام وأهله، ولكن هناك أمور لابد من وضعها في الحسبان، ولا ينبغي أن نفتح الباب هكذا.

    هناك بعض الباحثين كتب في هذه المسألة ورغّب وبيّن أنه حق، وبعض المحاضرين أتى بمحاضرة في نكاح الكتابيات وأنه أمر جائز، دون التفات إلى السلبيات والآثار التي ينبغي وضعها في الحسبان، فالشيء يكون حلالاً، لكنه في زمان يحتاج إلى نظر وتأمل، لا نقول: إننا نحرمه، ولكن نقول: من أراد أن يقدم على هذا الشيء، فعليه أن ينظر إلى الآثار السيئة الموجودة المترتبة على هذا الشيء، ثم يقارن: هل يستطيع أن يلقى الله سبحانه وتعالى وقد دفع عن الأمة وعن نفسه وعن ذريته وأهله وولده هذه كلها، أم أنه مستعد لأن يلقى الله سبحانه وتعالى بتبعة ذلك وسيئاته وآثامه؟

    1.   

    حكم تزوج الحر المسلم بأمة مسلمة

    قال رحمه الله: [ ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة إلا أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة أو الخدمة ويعجز عن طول حرة أو ثمن أمة]

    قوله: (ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة) هذا المانع يسمى: بمانع الرق، تعرفون أن الرق في الإسلام لا يختص بجنس ولا بلون ولا بطائفة ولا بطبقة، إنما هو لمن كفر، فإذا كفر وحاد الله ورسوله وشاق الله ورسوله، ووقع الجهاد الشرعي بالصفة الشرعية، وأذن الإمام في الرق، حينئذٍ كانت منقصة من جهة الكفر، فالحر المسلم إذا تزوج مثل هذا النوع الذي في أصله على الكفر فإن هذا يضر بولده ويضر بذريته؛ لأن الولد يتبع أمه رقاً وحرية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) ، وهذا من حق الولد على والده.

    فالحر المسلم لا ينكح الأمة إلا بشرطين، وهذان الشرطان لا بد من تحققهما للحكم بالجواز وقد جمعتهما آية النساء : الشرط الأول: أن لا يستطيع طول الحرة، يعني: ليس عنده مال ولا قدرة على الزواج من حرة، فلو كان أقل زواج الحرة يكلف مثلاً خمسة آلاف، وليس عنده خمسة آلاف، والنص على اشتراط العجز في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ [النساء:25].

    الشرط الثاني: أن يخشى على نفسه الزنا، والنص على الشرط الثاني قوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النساء:25] ، ومع ذلك فضّل الصبر، رعاية لحق الولد. فهنا شرطان:

    أولاً: أن يخاف على نفسه الزنا.

    وثانياً: ألا يملك طولاً.

    فإن كان قادراً على الصبر صبر؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله).

    وأما بالنسبة لما يلتحق بمسألة خوف العنت، ألحق بعض العلماء الخدمة، كأن يكون مثلاً رجلاً كبير السن ولم يجد حرة يتزوجها، قالوا: يجوز أن يتزوج أمة، وفي هذه الحالة يتزوجها لوجود الحاجة والضرورة كما ذكرنا. فمانع الرق هو أن لا يجوز أن ينكح حر مسلم أمة، فجاز للعبد أن ينكح الأمة للمساواة، وهذا تفريق من الشرع لا أحد يتدخل فيه، ولا يحق لأحد أن يقول: الإسلام يفرق أو ما يفرق، والله لو فرق الإسلام بين أرواحنا وأجسادنا لنعمت عيوننا، ويخسأ أعداء الإسلام، ولا نجلس ونحاول تحليل بعض الشبهات ونهدر جانب العبودية.

    فالمرأ إذا وجد حكماً من أحكام الله عز وجل، والمرأة إذا وجدت حكماً من أحكام الله عز وجل في أمر فرق الله عز جل فيه بين مجتمعين، أو ساوى فيه بين مختلفين أو متضادين في الحكم، ما يملك الواحد منا إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، ولا نتكلف الرد ونجلس نحلل وكأننا مهزومون أمام أعدائنا، نقول للعدو: رغم أنفك، وعلى رغم أنفك نقبل ذلك، نعم نحن نفرق، وهناك فرق بين الرجل والمرأة نعم، وتقول المرأة بملء فِيها: رضيت بما يحكم الله عز وجل به، نعم ترضى بذلك وتؤمن به وتسلم به؛ حتى يخسأ عدو الله، أما أن نجلس نلفق ونقول: إن الإسلام لا يقبل هذا إلا في حالات اضطرارية وفي حالات استثنائية، ولا يبيح الرق إلا في حالة كذا وكذا، هذه أحكام شرعية لا يتدخل فيها المكلف، ولا يقيد شيئاً أطلقه كتاب الله وأطلقته سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحاول أن يتكلف في الجواب عن شبهة هي من أصلها ساقطة؛ لأن أهل الشبهة يريدون من المسلم أن يقف موقف المهزوم، لكن لو أننا اعتدنا كلما جاءنا أعداء الإسلام بشبهة نقول: نعم، نرضى بذلك وإن رغم أنفك البعيد، نعم رضينا بذلك، وأبو بكر رضي الله عنه حينما جاءه كفار قريش وقالوا: قد زعم صاحبك أنه ذهب إلى بيت المقدس، قال: هو يقول ذلك؟ -وما زاد على هذا- قالوا: نعم، قال: صدق. هو قادر أن يقول: إن الله على كل شيء قدير، وإن الله من قدرته قادر على أن يبين لهم، لكن أراد أن يخسئهم، قال: هو يقول ذلك؟ قالوا: نعم، قال: صدق.

    ولو أن كل امرأة مسلمة من نساء المؤمنين كلما دخل عليها داخل بالشبهات تقول: نعم رضيت، الإسلام يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، نعم رضيت بملء قلبي وملء لساني، وما الذي يضرني؟ لا يضرني شيء؛ لأني أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله بحكمه حكيم عليم، فمثل هذه الأمور ينبغي وضعها في الحسبان.

    فحينما يجعل الإسلام للرجل الحر أن يتزوج الأمة بشروط فهذا حكم الإسلام، ومن عايش الوضع، يعني حينما يكون الإسلام في زمان بينه وبين ملة تخالفه وتضاده وتعاديه، وهذا مشاهد فإن عدو الإسلام إذا تركته جاءك، فلابد للإسلام أن تكون له الكلمة، فلما امتنع هذا من قبول كلمة الإسلام، ووقف وأشهر السلاح في وجه الإسلام، والله عز وجل بحكمه من فوق سبع سماوات أمرنا بقتال هؤلاء، وأباح لنا استرقاقهم، ويصبح العبد مسلوب الحرية، ثم نأتي ونقول: لا ما يسلب الحرية، ما يضرب عليه الرق، ونجد من يقول: ما يضرب الرق إلا في حالات، والإسلام فتح أبواب الخروج من الرق، مع أن الكافر يسترق الحر أكثر من استرقاق الإسلام له، والإسلام لما استرق أعطى حقوقاً تعجز الأمم كلها عن الإنصاف فيها مثلما أنصف الإسلام.

    فالمقصود أننا ننبه على أنه لا ينبغي العجز أمام أعداء الإسلام في مثل هذه الشبهات، في مسألة النكاح؛ لأن هذه من الشبهات التي أثيرت، يقولون: انظروا كيف يفرق الإسلام! مع أنهم هم يفرقون بين طبقات مجتمعاتهم وبيئاتهم تفريقاً أسوأ من التفريق الذي يفرقه الإسلام.

    فالمقصود: أن حكم الإسلام أنه يجوز للحر أن ينكح الحرة، لكن لا يجوز له أن ينكح الأمة إلا بشروط، وهذا شيء قرره الله عز وجل وأثبته في كتابه، لا يملك المسلم إلا أن يقول: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] ، فمانع الرق ثابت ومعتبر على التفصيل الذي بينَّاه ووضَّحناه.

    1.   

    عدم جواز نكاح العبد لسيدته والسيد لأمته إلا بعد العتق

    قال رحمه الله: [ولا ينكح عبد سيدته ولا سيد أمته]

    قوله: (ولا ينكح عبد سيدته) أنتم تعلمون أن السيد يملك عبده بنص الشرع، وهذه الملكية يخالفها حق الزواج، فلا يمكن أن يكون عبداً ويكون زوجاً، آمراً ومأموراً، مملوكاً ومالكاً؛ لأنه إذا تزوج ملك منافع الوطء، وإذا بيع رقيقاً ملكه من اشتراه، فهذا نوع من التضاد، وهذا مسلك فقهي صحيح، وهو تضارب العقود، ولذلك أجمع العلماء على عدم صحة هذا النوع من العقود، ما يمكن أن نقول: إنه عبد وزوج، ما يمكن للعبد أن يتزوج سيدته، تريد أن يتزوجها تعتقه ثم يتزوجها، وهكذا بالنسبة للعكس، فالسيد لا يتزوج أمته؛ لأنه يحل له وطؤها بملك اليمين، فإذا أراد أن يطأها يطؤها بملك اليمين، أما إذا أراد أن يتزوجها نكاحاً بعقد، نقول في هذه الحالة: أعتقها ثم اعقد عليها عقداً شرعياً.

    1.   

    جواز نكاح أمة الأب دون نكاح أمة الابن

    قال رحمه الله:[وللحر نكاح أمة أبيه دون أمة ابنه]

    قوله: (وللحر نكاح أمة أبيه) يعني: لو أن رجلاً لا يستطيع أن ينكح الحرة، ويخاف على نفسه الزنا، فأمة أبيه ليست ملكاً له وإنما هي ملك لأبيه، فصارت كالأجنبية، فجاز له أن ينكح أمة أبيه، أظن هذا واضحاً، نقول: يجوز لابن السيد أن يتزوج أمة والده إذا تحقق فيه شرط زواج الحر من الأمة؛ لأن الشرط موجود ولا يمتنع، لماذا حلّ له؟ لأن في هذه الصورة الولد لا يملك مال أبيه، ولا يوجد ملكية ونكاح، هنا فقط نكاح.

    أما الوالد فإنه لا يجوز أن يعقد على أمة ابنه؛ لأن الولد وما ملك لأبيه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، فجعل الفرع تابعاً لأصله، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) ، فرد الفرع إلى أصله، فقالوا: لو كانت الأمة للرجل وأراد أن يعقد عليها فإنه بالإجماع لا يصح، ولو سئلت لماذا؟ تقول: لأنه يجمع بين النكاح وبين ملكية الأمة، وهذا لا يصح، إما أن يجعلها مملوكة ويطأها بملك اليمين يتسراها، وإما أن يجعلها منكوحة فيعتقها وينكحها، هذا في حكم من كان مالكاً، أما لو كانت أمة ابنه فأمة ابنه كأمته، فكما يحرم على ابنه أن يعقد عليها كذلك يحرم عليه؛ لأن الولد تابع لأبيه.

    1.   

    عدم جواز أن تنكح الحرة عبد ولدها

    قال رحمه الله: [ وليس للحرة نكاح عبد ولدها ]

    قوله: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها)، فالأم لا تتزوج عبد ولدها؛ لأن ولدها يملك هذا العبد ومال ولدها في حكم: (أنت ومالك لأبيك) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فهذا للذكر والأنثى فالأم والأب سواء.

    يا إخوان! حتى تتضح الصورة، ما هو ضابط هذه المسائل؟

    إذا كان الذي يريد أن يعقد على أمة وهو مالك لها فإنه لا يصح أن يجمع بين نكاح وبين ملك، تقرر على هذا أنه يستوي أن يكون هو المالك أو في حكم المالك، كوالد مع ولده فتجعل الرقيق أنثى، أو أم مع ولدها وتجعل الرقيق ذكراً، فتقول: أم مع عبد ملك لولدها، وأب مع أمة ملك لولده لا يجوز نكاحهما، كما لا يصح لسيدة أن تنكح عبدها، ولا يصح لسيد أن ينكح أمته، هذا ضابط المسألة، وبهذا لا يشكل عليك الأمر.

    يعني: بعض الإخوان يجد صعوبة في مسألة الأمة مع سيدها، ويجد نوعاً من التضارب، أهم شيء هي القواعد، وميزة المتون الفقهية وأهم ما فيها أنك تستطيع أن تتصور وتعرف الضابط، هذا قبل الدخول في المثال، والضابط يدور حول عدم الجمع بين الملكية والنكاح، فلا يصح أن يكون مالكاً وزوجاً في آن واحد، فهذا تضارب، ولا يصح أن تكون سيدة وزوجة في آن واحد، فإما هذا وإما هذا، إذا قررت هذا الأصل فيمكنك أن تأتي بالفروع؛ لأن الفقه أصول وفروع.

    إذا كان هذا الأصل وهذا الذي أجمع عليه العلماء في حكمه، وفي ما يلتحق به أن تكون امرأة تطلب عبداً لولدها، أو رجل يطلب أمة لولده، لكن إذا كان العكس يصح، مثلاً: ولد يطلب أمة لوالده، فإن الولد لا يملك أمة والده فيصح أن ينكح بشرط؛ لأنه لا يجمع بين الملكية وبين النكاح، ولو أن بنتاً تطلب رقيقاً لوالدها وكانت مملوكة، كما يقع في الكفر، وكانت بنته كافرة يصح، ولا بأس في هذا.

    1.   

    من الأحوال التي ينفسخ فيها عقد النكاح

    قال رحمه الله: [ وليس للحرة نكاح عبد ولدها ]

    قوله: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها)، فالأم لا تتزوج عبد ولدها؛ لأن ولدها يملك هذا العبد ومال ولدها في حكم: (أنت ومالك لأبيك) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فهذا للذكر والأنثى فالأم والأب سواء.

    يا إخوان! حتى تتضح الصورة، ما هو ضابط هذه المسائل؟

    إذا كان الذي يريد أن يعقد على أمة وهو مالك لها فإنه لا يصح أن يجمع بين نكاح وبين ملك، تقرر على هذا أنه يستوي أن يكون هو المالك أو في حكم المالك، كوالد مع ولده فتجعل الرقيق أنثى، أو أم مع ولدها وتجعل الرقيق ذكراً، فتقول: أم مع عبد ملك لولدها، وأب مع أمة ملك لولده لا يجوز نكاحهما، كما لا يصح لسيدة أن تنكح عبدها، ولا يصح لسيد أن ينكح أمته، هذا ضابط المسألة، وبهذا لا يشكل عليك الأمر.

    يعني: بعض الإخوان يجد صعوبة في مسألة الأمة مع سيدها، ويجد نوعاً من التضارب، أهم شيء هي القواعد، وميزة المتون الفقهية وأهم ما فيها أنك تستطيع أن تتصور وتعرف الضابط، هذا قبل الدخول في المثال، والضابط يدور حول عدم الجمع بين الملكية والنكاح، فلا يصح أن يكون مالكاً وزوجاً في آن واحد، فهذا تضارب، ولا يصح أن تكون سيدة وزوجة في آن واحد، فإما هذا وإما هذا، إذا قررت هذا الأصل فيمكنك أن تأتي بالفروع؛ لأن الفقه أصول وفروع.

    إذا كان هذا الأصل وهذا الذي أجمع عليه العلماء في حكمه، وفي ما يلتحق به أن تكون امرأة تطلب عبداً لولدها، أو رجل يطلب أمة لولده، لكن إذا كان العكس يصح، مثلاً: ولد يطلب أمة لوالده، فإن الولد لا يملك أمة والده فيصح أن ينكح بشرط؛ لأنه لا يجمع بين الملكية وبين النكاح، ولو أن بنتاً تطلب رقيقاً لوالدها وكانت مملوكة، كما يقع في الكفر، وكانت بنته كافرة يصح، ولا بأس في هذا.

    انفساخ النكاح إن ملك أحد الزوجين الآخر حقيقة أو حكماً

    قال رحمه الله: [ وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده الحر ].

    انظروا إلى دقة العلماء! بحيث لو قرأت المتن أولاً تحس بشيء غريب، لكن لما تمسك الضوابط تحس بمتعة هذه المتون الفقهية ودقة العلماء رحمهم الله، والفقه رياضة الذهن. المصنف أعطانا الضابط الأصلي، وهو أنه لا يجمع بين الملكية والنكاح في الأصل، ويلزم أن تبني على ذلك ما كانت الملكية تبعاً كوالدٍ مع ولده أنثى أو ذكر، أم أو أب. بعد هذا تأتي أشياء مفرعة على المسألة، أنت تقرر أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أمة إذا كان مالكاً لها. إذاً افرض أنها زوجة له وطرأت الملكية، انتبه! هناك ابتداء وهناك استدامة، فهل الحكم الذي ثبت في الابتداء يؤثر أيضاً في الاستدامة؟

    وهذا تقدم معنا في أكثر من مسألة، أنه لما يأتي بموانع النكاح ينبه عليها في الابتداء ثم ينبه عليها في الاستئناف، فهذه من مسائل الاستئناف، ومن هنا سيدخل في الاستئناف.

    حسناً! لو طرأت الملكية كامرأة اشترت زوجها، كان زوجاً لها ثم اشترته، يقع في المملوكية إذا اشترته وأذن لها سيدها، في هذه الحالة صار ملكاً لها، ومثل هذا مثل ما يقع بين السيدة وعبدها ومملوكها، قلنا: لا يصح، فحينئذٍ كما يؤثر في الابتداء يؤثر في الاستدامة هذا ضابطه، والآن انظر إلى المسألة.

    قوله: (وإن) لما يؤتى بهذا غالباً يفرع على ما قبله، فهو لما يقول: وإن حصل كذا وكذا، كأنه يبني هذه المسألة على ما قبلها.

    قوله: (وإن اشترى أحد الزوجين) يعني: هو زوج لها فاشترته، أو هي زوجة له فاشتراها، مثلاً: مثلما ذكرنا الحر لا يستطيع طولاً، فينكح ماذا؟ ينكح الأمة، ثم أصبح هذا الحر غنياً ثرياً، فضايقه سيد زوجته، فاشتراها منه، فما الحكم؟ يصبح حينئذٍ سيداً من وجه وزوجاً من وجه آخر، فدخول الملكية يفسد النكاح، فأصبح مانعاً من الابتداء ومانعاً من الاستدامة؛ لأن هناك شيئاً يمنع من الابتداء والاستدامة، وهناك شيئاً يمنع من الابتداء ولا يمنع من الاستدامة، هناك موانع لا تمنع من الاستدامة. الآن مثلاً: عندنا الإحرام مانع من الابتداء؛ لكن لو أن زوجين أحرما مع بعضهما هل نقول: يفرق بينهما؟ لا، ما يقال ذلك، فإذن مانع الإحرام يمنع الابتداء ولا يمنع الاستدامة، وعندنا مانع يمنع الابتداء والاستدامة، وهذا كله مبني على أصول شرعية، يعني: هذه المسائل مبنية على أصول شرعية، لكن يراد بها رياضة الذهن، وإذا قام طالب العلم بالتجربة وقرأ في المطولات واستمر في مسائل الفقه، فإنه يصبح عنده الفقه ملكة.

    هذه المسائل التي ترى ما كانت موجودة في المتون المتقدمة قبلها، لكن المتون المتقدمة قبلها نصت على مسائل فتّحت الأذهان لهذه المسائل التي طرأت، وهذه القراءة الآن تفتح بها مسائل قد تطرأ عليك في عصرك الآن، لأنك إذا أخذت الضابط بالاستدامة والابتداء فإنك تستطيع أن تقرر مسائل أخر تأتي جديدة سواء في المعاملات المالية أو الشخصية أو الجنايات، كل هذا يراد به رياضة الذهن وتقويته، لكن ينبغي أن يكون مقيداً بالنصوص من الكتاب والسنة، ما يخرج إلى تكلف الآراء التي لا نص فيها ولا أصل لها، أو تعلل بعلل ضعيفة واهية.

    قوله: (أو ولده الحر) يعني: عنده ولد حر، فرضنا أن زيداً تزوج خديجة وأنجب منها محمداً، وخديجة حرة وزيد حر، ثم بعد ذلك ماتت خديجة فأراد والد زيدٍ أن يتزوج وليس عنده مال ليتزوج حرة، ما الحكم؟ يجوز له نكاح الأمة، فلما تزوج الأمة بالشرط المعتبر شرعاً، أصبحت زوجته أمة وعنده ولد حر من غيرها، وبعد زمان اشترى الولد الحر زوجة أبيه الأمة، وقد قلنا في الضابط: إن الولد في حكم الوالد، فحينئذٍ كما أثر في الابتداء في مسألة الولد والوالد فإنه مؤثر في الاستدامة.

    أظن هذا واضحاً، فبعد فهم الضابط ليس هناك إشكال في المسألة؛ لأن الأمر واضح سواء اشترى هو أو اشترى فرعه، ثم يأتون بمثال الأم مع ولدها.

    انفساخ نكاح المكاتب أو المكاتبة إن ملك أحدهما الآخر

    قال رحمه الله: [أو مكاتبة الزوج الآخر]

    بعض الأحيان يأتون بشيء أغرب من هذا: وهو الذي يكون في حكم ملكية الشخص كالمكاتبة، فلو قال: أو مكاتبهم، نفس الحكم؛ لأن المكاتب إذا كان يكاتبك ليس بحر، ما دام في حال الكتابة، إنما يصير حراً بعد أداء نجوم الكتابة، ففي حال كونه مكاتباً اشترى الأمة التي تزوجها، كولدك الذي اشترى الأمة التي تزوجها، فالمسألة كلها تدور حول الضابط.

    انفساخ النكاح عندما يملك أحد الزوجين جزء الآخر

    قال رحمه الله: [ أو بعضه انفسخ نكاحهما ].

    أي: لو اشترى الكل أو اشترى البعض فالحكم واحد، نحن استفدنا فائدة: أنه سواء كانت الملكية للكل أو الملكية للبعض، فلو أن هذه الأمة التي تزوجها والده ملك لشخصين زيد وعمرو، فاشترى الولد نصف ملك زيد، فأصبح يملك نصف أمة هي زوجة أبيه، إذاً يصبح أبوه يملك نصف المرأة التي اشتراها ولده وزوج لكلها، حينئذٍ ينفسخ النكاح؛ لأنه كما أثر في الكل فإنه يؤثر في الجزء، فالحكم في ذلك سواء.

    انظروا كيف يدخلون العبارات في بعض؛ لأنهم يريدون الاختصار، فيجيبون: أو مكاتبه أو كذا؛ لأنه لو أراد أن يشرح لك القواعد لاحتاج إلى صفحات؛ لكن هو يشرحها بهذه الأمثلة، أرأيت هذه الأمثلة التي قد يتهكم بها البعض، هذه هي التي تفتح ذهن الطالب إلى الأصل، فالعلماء ما مرادهم بهذا التمثيل كمثال، وهذه الأمثلة لما تراها ترى شيئاً غريباً وتقول: هذا من أين جاء؟ أو من أين أتى؟ أتى من نص الكتاب والسنة كقاعدة، فلو جاء الفقيه يريد أن يشرح هذه القواعد لاحتاج إلى مطولات واحتاج إلى وقت، فهم إنما جعلوا المتون الفقهية أمثلة، وجعلوا شرح هذه القواعد وأدلتها للفقهاء والعلماء الذين يشرحون، وكلاً على حسب قوته وطاقته، ثم أصبح الفقه مجموعاً في هذه المتون تحت أمثلة هي في الواقع أصول لغيرها.

    وليس المراد الإحاطة بهذه الأمثلة ذاتها والعجز عن الإتيان بغيرها، بل لابد أن يلم بأصلها فيستطيع أن يلحق بها غيرها، فيصبح عند طالب العلم الفقه القديم والفقه الجديد، وهذه ملكة تعين على مسألة التخريج الفقهي، يعني: أنه إذا ضبط هذه الأمثلة وأعانه الله عز وجل على فهم ضوابطها، فإنه يستطيع بإذن الله أن يتكلم على المسائل والنوازل التي تجدّ وتطرأ على زمانه، ويمكنه أن يعرف حكم الله عز وجل فيها.

    1.   

    حكم وطء المحارم بملك اليمين

    قال رحمه الله: [ ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين إلا أمة كتابية ]

    هذه مسألة فيمن ملك ذات محرم منه، لا يجوز أن يطأ أخته بملك اليمين، ولا يجوز أن يطأ عمته بملك اليمين، لو أنه أسلم ثم أسرت عمته واسترقت وبيعت فاشتراها، فالأصل يقتضي أن من ملك ذا محرم منه فقد عتق عليه على تفصيل سيأتي في باب العتق، لكن على القول أنها لا تعتق وأراد أن يطأها بملك اليمين فإنه لا يجوز، هذه مسائل ملحقة، ووجه إدخالها في باب النكاح هو إلحاقها بمسألة الجمع بين الأختين، فإن الجمع بين الأختين اختلف فيه: هل يجوز أن يجمع بين الأختين بملك اليمين؟ لو أن رجلاً اشترى أمتين أختين هل يجوز أن يطأهما معاً بملك اليمين؟

    هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله، فكان عثمان رضي الله عنه إذا سئل عن هذه المسألة يقول: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أحلتهما آية وهي قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] ، وقوله في الاستثناء: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] في المحرمات، وحرمتهما آية وهي قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23] فأطلق، ومن جهة المعنى يقوى المنع كما ذكرنا في الزنا، ولذلك الشبهة موجودة فيه كالشبهة في الجمع بين الحلال والحرام، كما قدمناه في مانع الزنا.

    1.   

    حكم من جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد

    قال رحمه الله: [ ومن جمع بين محللة ومحرمة في عقد صح فيمن تحل ]

    أي: من جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد صح فيمن تحل وحرم فيمن تحرم.

    المصنف رحمه الله ذكر الموانع، وبين حكم العقد على المحرمة، وأنه يفسخ النكاح؛ لأن الحرام يمنع من الابتداء والاستدامة، فإذا عرفنا الحرام المحض وعرفنا الحلال المحض، فما الحكم لو جمع بين حرام وحلال؟ كأن يقول له رجل في عقد واحد: زوجتك فلانة وفلانة، وكان هذا الرجل ولياً لامرأتين: إحداهما يحل لك نكاحها، والثانية يحرم عليك نكاحها، فزوجكهما معاً، صح العقد فيمن حلت وحرم فيمن حرمت؛ وذلك للقاعدة التي تقول: تصحيح العقود ما أمكن. فلما كان الأصل صحة العقد إلا ما دل الدليل الشرعي على تحريمه وبطلانه، حكمنا بالتحريم فيما حرم وحكمنا بالحل فيما حل. وقال بعض العلماء: ينهدم العقد من أصله فيبطل في الاثنين.

    1.   

    حكم نكاح الخنثى المشكل

    قال رحمه الله: [ ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره ]

    قوله: (ولا يصح نكاح خنثى) الخنثى من عنده آلة الذكر وآلة الأنثى، وينقسم إلى قسمين: خنثى تبين أمره وانكشف، بأن تبين أنه رجل فحكمه حكم الرجل، أو تبين أنه أنثى فحكمه حكم الإناث، لكن هناك نوع من الخنثى الذي هو المشكل الذي لا يتبين حاله، وهذا له أحكام شرعية، وتقدم معنا في العبادات. وبعض العلماء يقول: الخنثى يعطى حكم الأنثى إلا في مسائل، ويعطى حكم الأضعف حتى يتبين أنه ذكر؛ وذلك لأننا على يقين بالأقل حتى نستيقن ما هو أعلى منه، وهذا أصل صحيح، وذكره العلماء في قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، وفرعوا مسائل الخنثى عليها، لكن الخنثى المشكل لا يجوز نكاحه؛ لأنه ربما زوج على أنه امرأة فبان ذكراً، أو زوج على أنه ذكر فبان أنثى، فلذلك يتوقف في أمره حتى يستبين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756273672