إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الهبة والعطية [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أحكام الهبة التي يجدر الإحاطة بها: معرفة ما تنعقد به، وما تصير به لازمة، وهل الإبراء من الدين يدخل في باب الهبة، وما هي الأشياء التي تجوز فيها الهبة، وغير ذلك من الأحكام، وكل ذلك موضح في هذا الدرس.

    1.   

    ما تنعقد به الهبة والعطية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يتم بها عقد الهبة.

    فالهبة تارةً تنعقد بالقول وتارةً تنعقد بالفعل، وإذا وهب الإنسان شيئاً وقبله أخوه المسلم؛ فقد تم عقد الهبة.

    فقال رحمه الله: [وتنعقد بالإيجاب والمعاطاة] الإيجاب هو قول الواهب: وهبتك سيارتي أو دابتي أو بيتي.

    والقبول قول الموهوب له: قبلتُ، رضيتُ، ونحو ذلك من الألفاظ.

    فإذا قال الواهب: وهبتك، وقلت أنتَ: قبلتُ، فقد تمت الهبة وتم عقدها.

    وحينئذٍ صرح المصنف -رحمه الله- بأن هذه الصيغة القولية تقتضي ثبوت عقد الهبة.

    وكما تنعقد الهبة بالأقوال تنعقد بالأفعال، فإذا جرى العرف بأن فعلاً معيناً يدل على الهبة؛ فإنه يُحكم بثبوتها بذلك الفعل.

    ومن أمثلة ذلك: ما يقع في الهدايا والهبات في المناسبات، فقد جرى العرف أنه لو صارت للإنسان مناسبة من زواج أو غيره فجاء شخص بهدية وحملها معه ليلة زواجه ودفعها للشخص الذي له المناسبة دون أن يتكلم وأخذها الموهوب له دون أن يتكلم أيضاً، فإن هذا الفعل تنعقد به الهبة، ويحصل القبض على الصفة التي سنذكرها -إن شاء الله- وتكون الهبة والهدية ملكاً للموهوب والمُعطى.

    إذاً: عندنا قول، وعندنا فعل.

    قوله رحمه الله: (والمعاطاة) أي: تنعقد بالمعاطاة؛ وهذه هي الصيغة الفعلية، وقد بينا أن شيخ الإسلام -رحمه الله قرر في أكثر من موضع في مجموع الفتاوى وفي كتابه النفيس القواعد النورانية: أن الشريعة لا تلزمنا بألفاظ مخصوصة إلا فيما دل الشرع على التقيد فيه باللفظ المخصوص، ولا تلزمنا بصيغة القول إلا إذا دل الشرع على التقيد بالصيغة القولية، وأن الأصل أنه إذا جرى العرف بين المسلمين أن فعلاً ما يدل على شيء من العقود فإنه يُحكم بذلك الفعل.

    فإذاً: مراده رحمه الله أننا لا نتقيد بالقول، فلو أن شخصاً جاء وأعطى ساعةً لأخيه المسلم في مناسبة، فقبضها الموهوب له دون أن يتكلم، ثم قال: أنا لم أقصد الهبة أو العطية، نقول: الدلائل والقرائن كلها دالة على الهبة والهدية، فتُلزم بها؛ لأنها قد قُبضت، ونُنَزِّل الأفعال منزلة الأقوال، ولا نقيد الحكم بالقول؛ لأن العرف في الإسلام مُحْتَكَمٌ إليه، وقد ذكرنا غير مرة أن من قواعد الشريعة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وأجمع العلماء على العمل بها قولهم: (العادة مُحَكَّمَة).

    فإذاً: إذا جرى العرف بأن فعلاً ما يدل على الهبة أو الهدية، وأن فيه ما يدل على القبول والرضا، فإنه يُحْكَمُ بذلك ويُعْتَدُّ به.

    1.   

    ما تصير به الهبة لازمة

    قال المصنف رحمه الله: [وتلزم بالقبض بإذن واهبٍ إلا ما كان في يد مُتَّهِبٍ].

    قوله: [وتلزم بالقبض] عندنا عقد الهبة والهدية والعطية، وعندنا اللزوم.

    الهبة والهدية من حيث الأصل تبرُّعٌ وإحسان، والإنسان إذا أعطى هديةً لأخيه المسلم أو وهبه شيئاً فإنه في حكم المحسن، والله تعالى يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]؛ لكن هذا الإحسان نلزمه به، وتصبح العين الموهوبة ملكاً للموهوب له بوصفٍِ شرعي أو بشرط أجمع العلماء رحمهم الله على اعتباره والعمل به، وأنه يصيِّر الهبة والهدية ملزِمة.

    هذا الشرط هو القبض، فإذا خاطب إنسان غيره وقال: وهبتُك سيارتي أو هذه الساعة أو هذا القلم، فقال الآخر: قبلتُ أو رضيتُ، فقد تم عقد الهبة والهدية.

    فلو أنه رجع عن هبته وقال: رجعتُ، أو طرأ عليه ظرف، فامتنع من إنفاذه، فإنه لا يُلزم به؛ لأن الشرط المعتبَر للإلزام حصول القبض، فإذا قُبض الشيء الموهوب لزم، والأصل في ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها: (يا بُنَيَّة! إني كنت قد وهبتك عشرين وسقاً جاداً من أرضي بالغابة -وهي شمالي المدينة، وكان له فيها مزارع- فلو أنك قبضتها لكانت ملكاً لكِ اليوم، أما وإنك لم تقبضيها فأنت اليوم وإخوتك فيها سواء).

    هذا الخليفة الراشد سنته مُحْتَجٌّ بها، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على العمل بما دل عليه هذا الأثر، من حيث أن القبض يصير الهبة لازمة، فهو قد وهبها وأعطاها عشرين وسقاً من التمر من مزرعته، ولكنها تأخرت في قبض هذه الهبة والعطية، فعندما حضرت أبا بكر الوفاة رجع عن هبته وأعطيته، فإذا حضرت الوفاة للشخص الواهب، ولم يتم قبض الهدية والهبة، فحينئذٍ يكون حكمها حكم التصرف بالتبرعات في مرض الموت، حكمها -كما سيأتينا ونبهنا غير مرة- أنها لا تصح إلا في حدود الثلث، فما زاد عن الثلث، فهذا يُرجع فيه إلى الورثة، إن أجازوه وأمضوه فلا إشكال، وإلَّا فلا.

    إذاً: أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يحكم بلزوم هبته وعطيته لأم المؤمنين رضي الله عنها إلا بالقبض، ولذلك قال لها: (لو أنك قبضتيه -وفي رواية: حزتيه - لكان ملكاً لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك، فأنت وإخوتك فيه اليوم سواء).

    فدل هذا على أن القبض معمول به، وقد حكى الإمام ابن قدامة وابن أبي هبيرة في الإفصاح وغيرهم من الأئمة والفقهاء الإجماع على أن الهبة تلزم بالقبض.

    وبين المصنف رحمه الله أن هناك مرحلتين:

    المرحلة الأولى: مرحلة الصيغة والعقد، والمرحلة الثانية: مرحلة القبض.

    فكل هبة صدرت من إنسان اشتملت على عقد وقبض حكمنا بلزومها.

    أما ما قبل ذلك فلا نحكم بلزومها، أي: إذا وقع العقد ولم يحصل القبض كأن يقول شخص لآخر: وهبتك كذا، فيرد عليه: رضيت، ولم يقبضها، فإنه لا يُلْزَم الواهب بالهبة التي وعد بها أو تلفظ بها، ولو كانت حاضرة.

    فطالما لم تمتد يد الموهوب له، لقبضه بإذن الواهب فإنه لا يُحكم بلزوم الهبة والهدية والعطية إلا بعد تحقق هذا الشرط.

    إذاً: هناك عقد، وهناك قبض، وقد يجتمع الاثنان مع بعضهما، مثلما ذكرنا، كأن تأتي في مناسبة -زواج أو غيره- إلى أخيك ومعك الهدية أو الشيء الذي تريد أن تهبه، ولا تتكلم، فتعطيه إياها، فيجتمع الفعل في الدلالة على الصيغة، ويكون قبضُه لذلك الشيء الموهوب ملزم للواهب لهبته.

    قبض الهبة صوره وأحكامه

    وقوله: [وتلزم بالقبض بإذن واهبٍ]

    القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء، والأصل عند العلماء رحمهم الله -وهي قاعدة نبهنا عليها في المعاملات- أن كل شيء اشترطه الشرع ولم يضع له قيوداً معينة وأطلقه؛ فإنه يُرجع فيه إلى عرف الناس.

    فالقبض ليس في الكتاب والسنة تحديد لضوابطه وما يُحكم به، ولذلك يقول العلماء: يُرجع في القبض إلى العرف.

    فكل ما سماه العرف قبضاً حكمنا بكونه قبضاً.

    فمثلاً: في البيوت والعمائر والمساكن والعقارات، يتمثل القبض في إعطاء المفتاح، ويخلِّي بينه وبين العمارة أن يفتحها، فحينئذٍ لو لم يُمْكِنْه أن يقبض العمارة فهل يستطيع أن يقبضها بيده؟

    لا يمكن، هذا مستحيل.

    فنقول: القبض في البيوت والدور والمساكن والمزارع بالتخلية، وهذا نص عليه العلماء.

    فإذا مكَّنه من مفاتيح المزرعة والدار والعقار، وقال له: وهبتك مزرعتي، وأعطاه المفاتيح وخلى بينه وبينها، فقد تم القبض.

    والقبض -مثلاً- في السيارة في أعرافنا اليوم: أن يعطيه مفاتيحها ويخلي بينه وبين ركوبها، فإن ركبها وأدار محركها، فلا إشكال في أنه قد قبض.

    والقبض في الطعام يكون قبضاً حقيقياً، فلو أنه وهبه صاعاً فليأخذ الصاع وليقبضه، إذ لا بد فيه من الحيازة، فإذا حازه حكمنا بثبوت القبض.

    ويستوي في ذلك أن يقبض الموهوبُ بنفسه أو يقبضه وكيلُه نيابةً عنه، فيقول: يا محمد! اقبض عني السيارة، أو خذ السيارة من فلان، أو خذ هديتي التي أعطانيها فلان، فإذا قبض وكيله نُزِّل منزلة الأصيل؛ لأن القاعدة: أن الوكيل مُنَزَّل منزلة الأصيل.

    يكون القبض في الأشياء العادية بإمساكها، فالقلم يأخذه ويمسكه ويضعه في جيبه أو حقيبته.

    ففي هذه الأحوال كلها يختلف القبض بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة، وما جرى العرف باعتباره قبضاً.

    ومن هنا نص العلماء -رحمهم الله- على أن القبض في المبيعات يختلف بحسب اختلافها، ويُحتكم إلى العرف في تحديد ضابط القبض، حتى يحكم القاضي والمفتي بثبوت الهبة والهدية إذا تحقق وجوده.

    لكن الشرط في القبض أن يكون بإذن الواهب.

    فالقبض له صورتان:

    - الصورة الأولى: أن يأذن الواهب للموهوب له بالقبض، فيقول له: وهبتك سيارتي، خذ هذه المفاتيح. ويرمي مفاتيحها إليه.

    - أو: خذ قلمي هذا، أو وهبتك قلمي، أو كتابي، ويعطيه إياه.

    فإذا كان القبض بإذن من الواهب فالإجماع منعقد على أنه قبض معتبر.

    لكن لو أن القبض بدون إذن الواهب، كرجل وهب سيارة، فقام الموهوب له وأخذ مفتاح السيارة بدون علم الواهب، وركبها وقادها، ثم رجع الواهب عن هبته، فإننا نقول: الهبة غير لازمة؛ لأنه لم يقع القبض المعتبر بإذن الواهب.

    إذاً: يشترط في لزوم الهبة: القبض، وهذا القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة.

    ويشترط أيضاً أن يكون بإذن الواهب، فلو قبض الموهوب له بدون إذن الواهب لم يكن قبضه مؤثراً.

    قوله: [إلا ما كان في يد مُتَّهِبٍ]

    في الحقيقة هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ فبعض العلماء يقول: يشترط القبض بإذن الواهب ولو كان الشيء في يد المُتَّهِب.

    مثال ذلك: جاءه وقال: أريد السيارة أذهب بها إلى مكان.

    فقال له: خذها.

    فذهب بالسيارة وقضى بها حاجته، فلما جاء يردها قال: وهبتُكها، وهي في يده، فهل يُستدام حكم القبض ويكون كأنه قبض مستأنف، فتكون السيارة له مِن كونه يقول له: خذها، وهبتُكها.

    أو جاء بالقلم يكتب به، ثم جاء ليرده فقال له: وهبتُكَه. فأخذ القلم ووضعه، ولم يرده إلى صاحبه.

    أو جاء وقال له: يا فلان! إني استعرت منك الكتاب وأريده مدةً أطول، فقال: هو هبة لك، فقال: قبلتُ؟

    فهل يُشترط أن يرده ويقبضه مرة أخرى حتى يفرق بين اليدين: اليد الأولى واليد الثانية؛ لأن اليد الأولى: يد عارية، واليد الثانية: يد تمليك.

    فالأولى: تكون له يدٌ على سبيل التمليك للمنفعة، وأما الثانية: فتمليك للعين والمنافع.

    فبعض العلماء يقول: إنه يشترط أن يقع القبض حتى ولو كان في الشيء الذي تستدام فيه اليد، كما لو أعطاه داراً يسكنها شهراً، ثم في نهاية الشهر قال: وهبتُها لك، أو أعطاه سيارة ليحمل عليها متاعه، ثم قال: وهبتُها لك.

    فإنه يُحكم بثبوت اليد الأولى، ويكون في حكم من أقبض وأنشأ القبض.

    وبعض العلماء يقول: لا بد أن يردها، ثم بعد ذلك يعطيه إياها حتى يتحقق القبض المشترط.

    ولا شك أن إحداث القبض ورد العين ثم حصول القبض على الصفة المعتبرة أسلم وأفضل وأبرأ خروجاً من الخلاف.

    فائدة الخلاف:

    لو أن رجلاً مكن شخصاً من عمارة ليسكنها شهراً ثم وهبه له، ثم توفي الواهب.

    فإذا قلنا: يشترط أن تسترد ويَقْبِض الواهب عمارته ثم يُقْبِض الموهوب له بعد ذلك بإقباض جديد، فإن لم يحصل هذا الأمر واعترض الورثة فإن الهبة تلغى، وتكون في حدود الثلث، حكمها حكم الوصية إن كانت في مرض الموت ونحوه.

    أما إذا لم نشترط ذلك الشرط، فإنه يملكها الموهوب له، ولا يؤثر طَرَيان الموت بعد ذلك.

    قوله: [ووارث الواهب يقوم مقامه] أي: يقوم مقام الواهب في التمكين وحكم الهبة؛ لأن الورثة يأخذون حكم مورثهم، ولذلك جعل الله الاستحقاقات للوارث مكان مورثه.

    1.   

    الإبراء من الدين

    قوله: [ومَن أبرأ غريمَه من دَينه] من أحب الطاعات إلى الله سبحانه وتعالى إدخال السرور على المسلم بتنفيس كربته وتفريج همه وغمه وقضاء دَينه.

    والدَّين -كما لا يخفى- من أعظم البلايا وأشد الرزايا؛ لأن الإنسان يتحمل تبعةً عظيمة من حقوق الناس، فهو ذل النهار وهم الليل، ومن تحمل حقوق الناس تنغصت حياته، وتنكَّد عيشه، ولربما شوش عليه ذلك حتى في صلاته وعبادته، حتى كان بعض العلماء يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدَينه)، يقول: الحديث عام، فقد تجد الرجل صالحاً دَيِّناً خيِّراً؛ ولكنه يُعاق عن كثير من الطاعات بتعلق نفسه بحقوق الناس، التي هي في رقبته، ومسئول عنها.

    فلا شك أن الإنسان يصيبه الهم والغم من تبعة الدَّين، فإذا أبرأه صاحب الدَّين؛ فإن ذلك من أعظم الإحسان وأفضله وأجزله ثواباً عند الله سبحانه وتعالى حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان في من كان قبلكم رجلٌ يُدَيِّن الناس، وكان يقول لغلمانه ووكلائه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا. قال: فلقي الله، فقال الله تعالى: يا ملائكتي! نحن أحق بالعفو من عبدي، تجاوزوا عنه)، وهذا يدل على فضل التجاوز على المعسر، وخاصةً إذا وجد الإنسان الصدق في هذا المعسر، وأنه أخذ المال لأنه احتاجه، مثل: أن يسكن هو وأهله، فاستدان من أجل أجرة السكن، أو من أجل طعامه وطعام أولاده.

    فالتخفيف عن أمثال هؤلاء والتوسعة عليهم وتفريج الكربة وإزالة الهم والغم عنهم بمسامحتهم وإبرائهم، من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأعظمها أجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى، ومما يبارك الله به وبسببه في مال العبد، وهذا هو المال الصالح عند الرجل الصالح، الذي يتزكى ويرجو زكاة نفسه وماله بالتوسعة على إخوانه المسلمين.

    صور الإبراء والإحلال من الدين

    قوله: [ومَن أبرأ غريمَه] يكون الإبراء على صورتين:

    الصورة الأولى: أن تجود نفسُك بدون أن يطلب منك أخوك المسلم، فهذا أفضل وأكمل وأعظم ثواباً وأجراً؛ وذلك لأنه إذا سألك فقد أحوج نفسه، وأصابه ذل السؤال؛ لكن كونك أنت الذي تتفضل وتقول: يا فلان! لا أريد من هذا الدَّين شيئاً؛ فإن هذا أعظم ثواباً.

    وكان بعض العلماء رحمهم الله إذا جاءه أحد إخوانه يسأله الدَّين نوى من أول إعطائه المجاوزة، أنه لا يريد هذا الدَّين، ويوصي ورثته ويكتب: أن ديني عند فلان قد أسقطته وأبرأته، وهو في حل منه، ولو جاء يرده فلا تأخذوه منه، ويقول: ما أعطيتك هذا المال وأنا أرجوه يوماً من الأيام.

    وهذا من أفضل ما يكون من الإبراء؛ لأنك إذا أبرأت الغريم، وقد جاءك معسراً أو محتاجاً، وأعطيته ديناً في أول محرم إلى آخر السنة، إن سامحته من أول أخذه؛ كتب الله لك ثواب الأجر تاماً كاملاً من أول لحظة من الدين؛ لكن لو انتظرت حتى يأتي وقت السداد، كان أجر المال قرضاً في الفترة التي يستغرقها مستقرضاً، ثم يكون بعد ذلك فضل الإنسان بالمسامحة، وهذا أقل ثواباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن الله يتلقى الصدقة من عبده بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له ويربيها له كما يربي أحدكم فُلُوَّهُ حتى يجدها يوم القيامة أوفر ما تكون).

    فهذا يدل على فضل الإبراء عند أول الدين، ولا شك أن هذا -كما قلنا- أفضل وأعظم ثواباً وأجراً.

    أما الصورة الثانية من الإبراء فهي: الإبراء الذي يكون بعد الطلب أو السؤال أو اطلاع الإنسان على حالة المحتاج، فهذا أقل ثواباً وأقل فضيلة من الأول.

    وهناك ما يسمى بالإبراء المعلق، والإبراء المعلق يدخل في الصورة الأولى، مثاله: أن يعطيه الدَّين ويقول: إن وجدتَ سداداً فردَّه، وإذا لم تجد سداداً فإني مسامحك وأنت في حل.

    هذا يكون فيه معلقاً بين الأمرين؛ لكن الأول أفضل وأكمل.

    حتى كان بعض المحسنين والصالحين ممن أدركناهم يخبر عن والده الذي كان من أكثر أهل المدينة فضلاً وإحساناً على الناس، فيقول: لما حضرته الوفاة -وكان عنده سجلان في تجارته- قال لولده: ناشدتك الله أو أسألك بالله، هذا السجل الأول لا تفتحه، ولا تسأل أحداً ما في هذا السجل، وأما السجل الثاني فهذا فيه الغرماء القادرون على السداد والعطاء، فأما الأول فوالله ما وضعتُ فيه إلا أيتاماً وأرامل ومحتاجين، فإياك أن تفتحه، واستسمح إخوانك من حقوقهم فيه، وأحرقه مباشرة.

    قال: فبمجرد ما توفي نفذنا وصيته، فأحرقنا السجل، ولا نعلم من هي الأسر الموجودة فيه.

    وهذا من أكمل ما يكون من التوفيق.

    لكن إذا كان أبرأه إبراءً بالطلب وقال له: يا فلان! إني عاجز عن السداد، فقال: أنت في حل، أو قال: إني عاجز عن رد المبلغ فقال: أبرأتُك، فحينئذٍ إذا أبرأه مَلَكَ مالَه، وحُكِم ببراءة ذمة المديون، ولا يلزم أن يرد المال ثم يبرئه.

    وهذه المسألة مثل الهبة لكنها اختلفت في وجود الدَّين السابق، ثم بعد أخذه للدَّين سامحه صاحب الدَّين وأبرأه، فهل يشترط أن يرد له ثم يعطيه؟

    والجواب: أنه إذا أبرأه فقد برئ، وإذا جعله في حل؛ فقد أصبح حلالاً من تبعة ذلك المال أو الدَّين.

    صيغ الإبراء من الدين

    قال المصنف رحمه الله: [بلفظ الإحلال أو الصدقة أو الهبة ونحوها]

    قوله: [بلفظ الإحلال] أي: أنت في حل، أو بلفظ الإبراء: أبرأتك، أو بلفظ الهبة: وهبتُك دَيني.

    ولا عبرة باللفظ بل يرجع إلى العرف؛ لأن الأعراف تختلف، وبعض الكلمات يستحي الواحد من ذكرها، فتكون صريحة عند العلماء؛ لكنها في العرف صعبة، فيختار لفظاً مناسباً بالعرف، فكل ما دل على الإبراء وجرى العرف به؛ فإنه يُحكم به ويُعتد، كما سبق بيانه في الصيغة الفعلية.

    قوله: [برئت ذمته] أي: ذمة المديون.

    قوله: [ولو لم يقبل] هناك خلاف عند العلماء -رحمهم الله- في شخص لك عليه دَين وقلت له: سامحتُك وأبرأتُك.

    فقال: لا. سأرد الدَّين. ثم توفي هذا الشخص.

    فإن قلنا: إن القبول شرط؛ فإنه حينئذٍ يُخصم من تركته على قدر الدَّين، ويجب الوفاء؛ لأن ذمته مشغولة بهذا الدَّين.

    وإن قلنا: إن قبول المديون ليس شرطاً، فحينئذٍ لزمه الإبراء، وقد سقط الدَّين، ولا يؤخذ من تركته بقدر دَينه.

    فهذه فائدة الخلاف.

    فأشار رحمه الله بقوله: [ولو لم يقبل] إلى خلاف في المذهب، فبعض العلماء يقول: يشترط القبول؛ لأن من حقي ألَّا أقبل هذا الإبراء؛ لأنه ربما يكون غضاضة على الإنسان ومنقصةً له، ولذلك يقولون: لا يمكن أن نلزمه بهذه الهبة؛ لأنه قد يحصل له غضاضةٌ، فمن حقه أن يمتنع وأن يرد الحق إلى صاحبه، ولا شك أنه إذا كان هناك مثل هذه المعاني يُخشى من الإنسان الذي وهب أن يكون له غرض سيئ، أو يكون ممن يمن على الإنسان أو يشهِّر به فيقول: أعطيتُ فلاناً، وفعلتُ مع فلان، وفلان استدان مني فسامحته، وفلان كان لي عليه دَين ففعلت معه كذا، فمن حقك أن تدفع هذه الغضاضة.

    فالحقيقة: القول باشتراط القبول من القوة بمكان.

    وبعض العلماء يقول: لا يشترط القبول، وهو اختيار المصنف، لكن -في الحقيقة- قبول الإبراء إذا نُظِر إلى وجود الضرر فيه في بعض الأحوال فلا شك أن الأصل يقتضيه؛ لأن من الحق أني أخذت المال ملتزماً برده، والعقد بيني وبينه على أن أرده، وهذا أكمل لكرامة الإنسان، وأصون لماء وجهه.

    فإذا مُكِّن من هذا فلا شك أنه أحظ له.

    أما أن يقال: أنه لا يشترط، ويُلزم بذلك، ثم يصبح الرجل يمتن عليه أو يؤذيه بذلك أو يستغله في أمور لا تُحمَد، فإن هذا يؤدي إلى المفاسد، والشريعة جاءت لدرء المفاسد، فاعتبار الأصل من هذا الوجه أقوى.

    1.   

    ما تجوز فيه الهبة

    قوله: [ويجوز هبةُ كلِّ عينٍ تُباعُ] الشيء الموهوب هو كل عين تُباع، فكل ما جاز بيعه جازت هبته.

    فمثلاً: يجوز أن يهب العقارات، كالأرضين والدور والمساكن والمزارع والمنقولات المباحة، مثل السيارات في زماننا والدواب والأطعمة والأكسية والأغذية، هذه كلها أعيان تباع وتجوز هبتها.

    مفهوم ذلك: أن ما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته. ومن أمثلة ذلك: الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقد صح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم غداة فتح مكة يقول: (إن الله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام)، فهذه منصوص على تحريم بيعها، فلا تصح هبتها.

    فلو وهبه خمراً أو ميتة مثل الحيوانات المحنطة غير المذكاة ذكاة شرعية مما تشترط لها الذكاة، أو وهبه خنزيراً أو ما هو مُصَنَّع من الخنزير ومن شحومه، أو وهبه أصناماً أو صوراً مجسمة، فإنها لا تصح هبتها؛ لأن الشريعة نصت على أن هذه الأمور لا يجوز بيعها، وجمهرةُ العلماء نصوا على أن كل ما جاز بيعه جازت هبته.

    وبناءً على ذلك: يشترط أن يكون مالكاً لهذا الشيء الذي يهبه، وأن يكون الشرع قد أذن بالمناقلة فيه والملكية.

    ومن هنا يظهر الخطأ في قول من قال: يجوز التبرع بالأعضاء؛ ويُحَرِّم بيعها.

    فالأصل أنه كل ما جاز بيعه جازت هبته.

    فإذا قالوا: بأنه لا يجوز بيع الأعضاء؛ دل هذا على أنه لا يملكها، وإذا كان لا يملكها فإن أصل الهبة قائمة على الملكية.

    ومن هنا ضَعُف قول من يقول بجواز التبرع، من هذا الوجه؛ لأنه يرى أن الملكية ليست بثابتة، بدليل أنهم يقرون بعدم جواز بيعها، وإذا ثبت أن الملكية ليست بثابتة، فإنه لا يصح أن يهب الإنسانُ شيئاً لا يملكه.

    ثم لو سُلِّم فرضاً أنها مملوكة للإنسان فهذا التمليك قاصر، ولذلك لا يجوز للإنسان أن يبيع نفسه، فقد تملك الشيء ولا يجوز أن تعطيه للغير، كما في أم الولد، فإن المرأة ملك لسيدها ويطؤها وهي ملك يمينه، ولا يجوز له بيعها، فقد جاء في الحديث: (أنه لا يجوز بيع أمهات الأولاد).

    ولذلك نص العلماء كالإمام النووي وغيره أن الشيء قد يكون ملكاً غير قابل للتمليك وغير قابل للبذل بأن يملكه للغير.

    فالشاهد أن مسألة الهبة يشترط فيها أن تكون مما أذن الشرع وسلط المكلف على التصرف فيه بالبذل للغير، خاصةً وأنه بذل بدون عوض.

    فيجوز هبة العقارات والمنقولات والمبيعات المباحة، ولا بأس بذلك.

    قوله: [وكلبٍ يُقْتَنى] أي: يجوز هبة الكلب الذي يُقْتَنى مثل كلب الصيد والماشية والزرع، فهذه الأنواع الثلاثة من الكلاب -أكرمكم الله- أذن الشرع فيها بهذه المنافع، فإذا وهبها من أجل هذه المنافع صحت هبته، كما اختاره المصنف -رحمه الله- ونص عليه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم منع الرجل زوجته من قضاء الصيام مخافةً على جنينها

    السؤال: امرأة حامل تريد قضاء ما فاتها من رمضان الماضي، وزوجها يمنعها خشيةً على جنينها، فهل له أن يمنعها أم لا؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

    أما بعد:

    فإذا كانت المرأة حاملاً، وغلب على ظنها أنها تضع حملها، وتطهر من نفاسها قبل دخول رمضان الثاني، فيجب عليها طاعة زوجها؛ لأن قضاء رمضان موسَّع وليس بمضيَّق، والدليل على ذلك حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الصحيح: (إن كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان)، فدل هذا على أن المرأة يجوز لها أن تؤخر القضاء إلى شعبان.

    وعلى هذا فلو غلب على ظنها أنها تضع الولد في رجب كأقصى مدة للحمل، وتطهر في شعبان -مثلاً- في منتصفه، ويبقى منتصفه الآخر، فحينئذٍ تؤخر الصوم، ومن حق الزوج أن يمنعها، أما لو كانت في بداية حملها وغلب على ظنها أنه لا يمكنها أن تحصِّل شعبان للقضاء، فحينئذٍ فيه تفصيل:

    إن قال الأطباء: إن صومها يؤثر على الجنين، كان الحق مع زوجها.

    وإن قالوا: لا يؤثر الصوم على الجنين وجب عليها أن تقضي. وهذه من الصور التي ينتقل فيها رمضان من القضاء الموسع إلى القضاء المضيَّق، ويلزمها أن تعجِّل؛ لأنه غلب على ظنها أنها لا تتمكن من قضائه قبل رمضان الثاني إلا على هذا الوجه، و(ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فيُفصَّل في هذه المسألة على هذا الوجه. والله تعالى أعلم.

    فضائل الذكر

    السؤال: نرجو منكم بيان الفضائل المترتبة على الذكر، وما أثر ذلك على طالب العلم؟

    الجواب: ذكر الله سبحانه من أحب الطاعات، وأشرف القربات الموجبةِ لرفعة الدرجات، وغفران الذنوب والسيئات، وانشراح صدور المؤمنين والمؤمنات.

    ولو لم يكن في ذكر الله عزَّ وجلَّ إلا أن الله عظَّمه وأكبَرَه من فوق سبع سماوات، فقال سبحانه وتعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].

    قال بعض العلماء: إنه أكبر من كل شيء؛ لأن توحيد الله سبحانه وتعالى قائم على ذكر الله، فهو مشتمل على أحب الأشياء وأعظمها زلفى عند الله سبحانه وتعالى وهو توحيد الله سبحانه، فالذاكر لله موحد لله عزَّ وجلَّ.

    وللذكر فضائل عظيمة:

    - منها: ما بين الإنسان ونفسه في أمور دينه.

    - ومنها: ما يرجع إلى أمور الدنيا.

    - ومنها: ما يرجع إلى أمور الآخرة.

    وقد تكلم العلماء رحمهم الله على كثير من الفضائل المترتبة على الذكر، وبينوها وهي مأخوذةً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن لا يستطيع الإنسان أن يستوعب ذلك كله خاصةً لضيق الوقت.

    فمن أعظم وأفضل ما يكون في الذكر: أن الله تعالى أخبر أنه يذكر مَن ذكره، قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، فمن كان في بلاء وذكرَ اللهَ -جلَّ جلالُه- وأثنى على الله بما هو أهله؛ جعل الله له من بلائه فرجاً ومخرجاً، ومن كان في ضيق وذكرَ اللهَ جلَّ جلالُه مخلصاً من قلبه وتوجه إلى الله بصدق وإخلاص؛ جعل الله ضيقه سعةً عاجلاً أو آجلاً، فالله تعالى جعل مزية الذكر في ذكره لعبده، فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] سواء كان الإنسان في شدة أو رخاء، فإن كان في رخاء بارك الله رخاءَه، فأصبحت نعمتُه واسعةً عليه مباركاً له فيها، سواء كانت نعمةَ مال أو ولد أو صحة أو علم أو غير ذلك من نعم الله جلَّ جلالُه.

    ومن أعظم فضائل الذكر المتعلقة بالدين: أنه الله جعله حرزاً حصيناً من الشيطان الرجيم، من الوساوس والخطرات المهلكات المرديات، فإذا تسلط الشيطان على الإنسان أهلكه، فإن آدم عليه السلام وسوس له الشيطان أن يأكل من الشجرة فحصل ما حصل له من البلاء، وهو في المرتبة الكريمة والمنزلة الشريفة العظيمة، فانظر -رحمك الله- إلى هلاك الإنسان إذا لم يتداركه الله برحمته.

    فالإنسان إذا لم يتداركه الله برحمته سيهلكه الشيطان، وهذا كله بقدرة الله جلَّ جلالُه، فيحتاج إلى أن يستعصم بالله سبحانه وتعالى، ولذلك ترى الصالحين إذا أدمنوا ذكر الله، فأكثروا من تلاوة القرآن ومن التسبيح والتحميد والتكبير وذكرِ الله جلَّ جلالُه، وجدتهم في ثبات على الطاعة وقوة على الخير، وتجد النفس نشيطةً على الإحسان والبر، راضيةً مرضيا عنها.

    لكن ما أن يغفل ولو كان من أصلح عباد الله إلا تسلط الشيطان عليه، فلربما هدم الشيطان بوساوسه ما سبق له من البنيان، ولربما استزله إلى شهوة أو شبهة، فأردته -والعياذ بالله- فخُتم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية.

    فما أحوج الإنسان إلى الذكر حتى يستعصم بالله عزَّ وجلَّ من الشيطان.

    كذلك من فوائد الذكر: أن الإنسان ضعيف، ومن ضعفه أنه إذا توالت عليه هموم الدنيا وتكالبت عليه غمومها، فإن ذلك قد يفت من عزيمته ويكسر من قوة شوكته، فيحتاج إلى شيء يطمئن به قلبه، ولن يكون ذلك إلا بذكر الله سبحانه وتعالى، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    يكون الإنسان في ضيق من أشد ما يكون الضيق وتجده من أضعف خلق الله؛ فقيراً وحيداً، وتجده في حالة قد يغلب على ظنك أنه لن ينجو؛ ولكن يستعصم بربه فيلهج لسانه بذكر الله ويلتجئ إلى الله ويحتمي بالله سبحانه وتعالى فيأتيه الفرج من حيث لا يحتسب.

    ذو النون -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وحيدٌ فريد وهو في الظلمات، ومع ذلك أخرجه الله عزَّ وجلَّ بفضله ومنته من تلك الظلمة بالتوحيد والذكر.

    فالذكر طمأنينة للقلب، والإنسان إذا نزلت عليه كروب الدنيا وتشتت ذهنه وتفرقت نفسه هلك.

    وقد كان السلف يستدلون على النصر والتأييد بالثبات عند حصول الفواجع والقوارع، فإذا وجدت العبد إذا نزلت به المصائب والشدائد ثابت القلب قوي الجنان ذاكراً للرحمن مستعصماً بالديان، فاعلم أنه منصور بإذن الله عزَّ وجلَّ؛ لأن السكينة تتنزَّل على قلبه، يثبت الله بها جَنانه، ويسدد بها لسانه وبيانه، حتى ينجو من هلكته، ويعصمه ربه بعصمته.

    كذلك من فؤائد الذكر: أن الله سبحانه وتعالى يرفع به درجة العبد، وأحوجُ ما يكون الإنسان احتياجُه إلى رفعة الدرجة! فالإنسان لو أنه بُلِّغ الجنة وهو في درجاتها التي ليست بالعلى، أصابه الغم وخسر هذه الدنيا، إذْ لم يصل إلى الدرجة العالية الكاملة، وهذا الخسران النفسي، وليس الخسران بالمعنى الأعم المطلق، إنما المراد به أنه يحس أنه مغبون، ولذلك سمى الله يوم القيامة بيوم التغابن؛ لأنه ولو كان صالحاً أصابه الغم، أنه لم يستكثر من الخير والبر؛ ولكن بذكر الله يُدْرِكُ مَن فاته، ويسبق مَن بعده، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (سبق المفرِّدون. قالوا: يا رسول الله! وما المفرِّدون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).

    المفرِّدون: التالون لكتاب الله آناء الليل وآناء النهار.

    المفرِّدون: المسبحون الحامدون المستغفرون المُثْنُون على الله عزَّ وجلَّ بما هو أهله.

    كذلك أيضاً: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط).

    قالوا: إن انتظار الصلاة بعد الصلاة لا يكون إلا للذاكرين؛ لأن القلب معلق بذكر الله؛ والصلاة من أعظم الذكر.

    فإذا كان انتظارها وشغف القلب بها موجباً لرفع الدرجة، فكيف بمن كان دأبه على عمارة وقته وساعات ليله ونهاره بذكر الله عزَّ وجلَّ؟!

    وأياً ما كان فلا يزال ذاكر الله سبحانه وتعالى في عصمة من الله في أمور دينه ودنياه وآخرته، حتى يأتيه الموت وهو على طاعة من الطاعات، فيُختم له بخاتمة السعداء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلَّا الله) دخل الجنة).

    ولذلك يقول بعض العلماء: إن الإنسان إذا أكثر من تلاوة القرآن آناء الليل والنهار، فالغالب أن يُختم له على كتاب الله.

    وهذا مجرَّب، فكثيراً ما تجد حفاظ القرآن الذين يتلون كتاب الله آناء الليل وآناء النهار ما يختم لهم إلا بأحسن الخواتم، فإما أن تجده مصلياً فيُختم له وهو راكع أو يموت وهو ساجد، ووالله رأينا بأعيننا من خواتم السعداء من أمثال هؤلاء الذين يكثرون من ذكر الله عزَّ وجلَّ، والله عزَّ وجلَّ يعصمهم بعصمته ويحسن لهم الخاتمة بفضله ومنِّه.

    نسأل الله تعالى أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر الحظ والنصيب.

    ومن أفضل الذكر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى:

    - ذكرُ العلم بحفظِ القرآن، ومدارسته ومذاكرته، والجلوس في مجالسه، والحث عليه دون سآمة أو ملل، وتقدير أهله من الأحياء والأموات، والترحم على الأموات، وذكرهم بالجميل، والدعاء لهم، والاستغفار لهم، كل هذا من ذكر الله عزَّ وجلَّ.

    ومن ترحم على علماء المسلمين وذكرهم بالخير، وسأل ربه أن يغفر لهم ذنوبهم وأن يرفع لهم درجاتهم؛ قيَّض الله له بعد موته من يفعل به كفعله أو أفضل من فعله.

    فيحرص الإنسان على هذا الخصلة العظيمة، خاصةً طلاب العلم، فأحق من يكون من الذاكرين هم طلاب العلم، فإذا انتهى من مجالس الذكر قام يتلو القرآن، وإذا جلس بين الناس جلس مستغفراً مسبحاً حامداً مهللاً مكبراً لله سبحانه وتعالى، وبذلك يكون أمة وقدوة للناس.

    وجماعُ الخير كله أن يحرص الإنسان على ذكر الله عزَّ وجلَّ بالوارد الذي دلت عليه نصوص الكتاب ونصوص السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدع ما سوى ذلك، فإذا ذكر الله بالوارد عظُم أجره وثقُل ميزانه.

    والله تعالى أعلم.

    الوقت المفضل لأذكار المساء

    السؤال: ما هو الوقت المفضل لأذكار المساء؟ أيكون بعد صلاة العصر أم بعد المغرب؟

    الجواب: هذا فيه تفصيل، ما ورد مقيداً من الأذكار يُقَيَّد، منه ما يكون بعد أذان المغرب بدخول الليل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (مَن قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، فقوله: (في ليلة) لا يتحقق قبل أذان المغرب، وإنما يتحقق بعد أذان المغرب مباشرة؛ لأن الليل يدخل بعد الأذان. فهذا من أذكار المساء المقيدة بالغروب.

    وهكذا ما ورد من الأحاديث الأخر التي تكون بعد غروب الشمس، كقوله: (اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك، أسألك أن تغفر لي)، فهذا مقيد.

    وما كان مقيداً بصلاة المغرب لا يصح قبل صلاة المغرب، ولا يصح قبل غروب الشمس، مثل: التهليل عشر مرات قبل أن يثني رجله وقبل أن يكلم غيره، وقول: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) سبع مرات، قبل أن يثني رجله وقبل أن يكلم غيره. فهذا مقيد.

    أما بعد صلاة العصر، فالتهليل عشر مرات عقب الصلاة مباشرة؛ لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فيهلل عشر مرات، مثل ما ذكرنا في صفة المغرب.

    ويبقى هذا الوقت ما بين العصر وما بين غروب الشمس وقتاً لأذكار المساء: (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا)، وكذلك التسبيح وقول: (لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) مائة مرة، ناوياً بها المساء؛ لأن المساء يكون بعد صلاة العصر، وهكذا (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وغيرها من الأذكار المطلقة في المساء تكون بعد صلاة العصر، ويمكن أن تكون قبل غروب الشمس.

    وأما ما ورد من تلاوة المعوذتين و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فإنه يكون بعد دخول المغرب في اختيار بعض العلماء رحمهم الله كما في حديث عبد الله بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (قل. قلت: ما أقول؟ قال: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) والمعوذتين إذا أمسيت وأصبحت، تكفيك من كل شر).

    فهذا فضل عظيم؛ ولكن بعض أهل العلم استحبوا أن يكون بعد غروب الشمس وقبل الصلاة. والله تعالى أعلم.

    المفاضلة بني اتباع الجنازة وبين الجلوس في المسجد حتى طلوع الشمس

    السؤال: أيهما أفضل بعد صلاة الفجر: أن أنتظر حتى طلوع الشمس كما جاء في الحديث، أم المشي في الجنازة إذا وافَقَت جنازةٌ في صلاة الفجر؟

    الجواب: الجنازة تنقسم إلى قسمين:

    إذا كانت جنازةَ مَن يعظُم حقُّه ويلزم بره كالوالدين ونحوهما، فلا إشكال؛ لأنها لازمة، ولا يُفَضَّل بين اللازم الواجب وبين المستحب المرغَّب.

    أما إذا كانت جنازةً مِن عامة الناس، فحينئذٍ يكون السؤال مبنياً على التفضيل بين الحج والعمرة التامة التامة بالجلوس بعد صلاة الفجر إلى الإشراق وصلاة الركعتين، وبين تشييع الجنازة، فإذا نُظر إلى التشييع ونُظر إلى الحج والعمرة وُجد أن فضل الحج والعمرة أعظم من التشييع؛ لأن الحج والعمرة من جنس الأركان، وفضيلة الحج والعمرة لا يُشك أنها من أعظم الفضائل وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله قال: (إيمان بالله، ثم حج مبرور) فذَكَر الحج المبرور بعد الإيمان بالله -عزَّ وجلَّ-.

    هذا الوجه، دائماً إذا تعارضت عندك الفضائل في الطاعات ردها إلى الأصول، فالطاعة التي هي من جنس الأركان ليست كالطاعة التي هي من جنس المستحبات، والطاعة التي من جنس الواجبات ليست كالطاعة التي من جنس السنن والرغائب، وهكذا.

    هذه أصول عند العلماء تُعرف عند ازدحام الفضائل، فجنس الحج والعمرة مقدم على جنس التشييع؛ لكن عند العلماء أصل آخر وهو أن الفضائل المتعدية ليست كالفضائل القاصرة، فتشييع الجنازة فيه فضيلة متعدية، وذلك من حصول الانتفاع للإنسان في نفسه والاتعاظ والاعتبار، وتعزيته للمصابين بمواساته لهم، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إذا رأى بدعةً ونهى وزجر عنها، فإن هذه الفضائل متعدية وأجورها عظيمة، قد تقتضي تفضيل الشهود على الحج والعمرة.

    لكن يشكل على هذا أن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه، فإن هذا الذي ذُكر إنما يقع في بعض الجنائز دون بعضها، فليس في كل جنازة منكر، ثم إن المنكرات تختلف درجاتها، ثم ليس هناك في كل جنازة يتمكن الإنسان من بعض الفضائل المتعدية بحيث يمكن أن يحكم بها، فقد تكون الجنازة ليس لها أقرباء، ويكون كغريب توفي وليس له أقرباء يُعَزَّون، ونحو ذلك. فهذا تفضيلٌ نسبي، والتفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه.

    بناءً على ذلك، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن بقاءه إلى طلوع الشمس أعظم في أجره -إن شاء الله تعالى- من حيث الأصول.

    لكن لا يمنع إذا وُجدت جنائزَ فُرادَى فيها نِسب تقتضي التفضيل من بعض الوجوه فإن هذا يقتضي تخصيص الحكم بها، وليس بعام من كل وجه.

    ولذلك -وهذه الفائدة مهمة جداً- في بعض الفتاوى تجد المفتي يفضل شيئاً على شيء بالتفضيل النسبي؛ لأنه يُشكل عليه، فيرى ويقول: ربما لو أنك شهدتَ الجنازة لفعلتَ وفعلتَ، فيحكم بالتفضيل، وهذا ينبغي التنبه له؛ لأن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل المطلق.

    ومن هنا أبو بكر رضي الله عنه فضُل على جميع الصحابة، مع أن بعض الصحابة خُصُّوا ببعض المناقب والمزايا؛ لكن التفضيل النسبي لم يقتضِ تفضيلاً مطلقاً على أبي بكر رضي الله عنه، فقد قال لـسعد : (ارمِ، فداك أبي وأمي)، وخص حذيفة بن اليمان بأسرار المنافقين، حتى إن عمر احتاج أن يسأله، ويقول له: ( أناشدك الله! أكنتُ فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال: لا. ولا أزكي بعدك أحداً )، فهل هذا يعني أن حذيفة أفضل من عمر ؟!

    نقول: هذا التفضيلُ نسبيٌّ.

    فالتفضيل النسبي وورود الشرع بفضيلة خاصة من وجه خاص لا يقتضي الحكم بالعموم.

    وهكذا في الفضائل هنا، فإنه إذا نُظر إلى وجود بعض الفضائل في بعض الجنائز لا يقتضي تفضيل شهود الجنائز على فضيلة الحج والعمرة من كل وجه. والله تعالى أعلم.

    وقت الدعاء المستجاب للصائم

    السؤال: للصائم دعوةٌ مستجابةٌ عند فطره، فمتى تكون هذه؟ هل قبل الفطر أو بعده؟ وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: عند الشيء قربُه، ولو كان مراد الشرع ما بعد وجود الفطر، لقال: بعد أن يفطر؛ ولكنه خص ذلك بما قبل الفطر بالوقت اليسير، وهذا له نظائر في الشريعة، ولذلك تجد في الصلاة أن الدعاء قبل السلام مظنة الإجابة فيعطى العبد مسألته، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخِر وأدبار الصلوات المكتوبات)، أدبار: ودُبُرُ الشيءِ مِنْهُ.

    وكذلك الزكاة، فإنه إذا جاء ليزكي ويعطي الزكاة يستغفر له الإمام ويدعو، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] وهذا عند قبضها.

    ومعلومٌ أن القبض يسبق إنفاق الزكوات وصرفها للمستحقين، فلذلك تكون قبل تمام العبادة، كأنه وفَّى لله والله يوفَِّي له، فإذا وفَّى لله وقام بحق الله على أتم الوجوه؛ رُزِق هذه الدعوة الصالحة.

    فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه عند فطره، يعني: عند مقاربة الفطر، فينادي الله -عزَّ وجلَّ- ويدعوه، وقد ضمرت أحشاؤه وخوت أمعاؤه، يسأل ربه سبحانه بتلك الكلمات الطيبات المباركات، فيلهج بهن بخلوف أطيب عند الله من ريح المسك.

    فيسأل ربه قبل الإفطار مباشرة، فهذا من أفضل ما يكون، وهو الذي يدل عليه ظاهر الحديث، وتدل عليه النظائر. والله تعالى أعلم.

    دعوة المظلوم

    السؤال: دعوة المظلوم مستجابة، فهل هذا إذا كانت على مَن ظَلَمَه، أم أنها مستجابة حتى لو دعا لنفسه في وقت كونه مظلوماً؟

    الجواب: دعوة المظلوم مستجابة، النص فيها صحيح صريح.

    ولذلك روى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقول: وعزتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين)، فدعوة المظلوم مستجابة إذا كانت على مَن ظلمه. وينبغي أن يكون دعاؤه في حدود مظلمته.

    ويشمل دعاء المظلوم على عدة أوجه:

    الوجه الأول: أن يسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكفيه شر الظالم وأذيته، وهذه دعوة السلامة.

    فيقول: اللهم إني أدرأ بك في نحر فلان، وأعوذ بك من شره، أو يقول: اللهم اكفني شر فلان بما شئت، اللهم إن عبدك فلان قد ظلمني وأساء إلي أو انتهك عرضي أو أخذ مالي، اللهم اكفني ظلمه بما شئت، اللهم اقطع عني أذيته، واكفني شر بليته، ونحو ذلك من دعاء السلامة.

    فهذا الدعاء إذا دعاه الإنسان لا يُذهب أجره، وليس فيه اعتداء على الظالم، وليس فيه نقصان لأجره؛ لأنه يكتب له أجر الأذية التي حصلت فيما مضى؛ لأنه لم يدعُ على مَن ظَلَمَه، وإنما سأل الله أن ينجيه من هذا البلاء.

    أما النوع الثاني من دعاء المظلوم: فهو دعاء السلامة مع الدعاء على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده أو غير ذلك، فإذا دعا على الظالم فأيضاً يُفَصَّل فيه:

    فتارةً يدعو على الظالم دعوةً يسأل ربه فيها ألَّا يسلطه على غيره، فيقول: اللهم إن عبدك قد ظلمني، أسألك اللهم أن تحول بينه وبين عبادك المسلمين فلا يظلمهم، أو أسألك اللهم أن تقطع دابر أذيته عن المسلمين، أو نحو ذلك من الدعاء الذي يُقصد به كف شر الظالم عنه وعن المسلمين.

    فهذا عند بعض العلماء لاحق بالأول، ويقرنون حكمه بدعاء السلامة من هذا الوجه.

    لكن إذا دعا على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده فلا يخلو من حالتين:

    فيقول مثلاً: اللهم إن فلاناً ظلمني فافعل به كذا وكذا، أو خذ منه كذا وكذا، أو أنزل به كذا وكذا، ففيه تفصيل:

    إما أن يدعو في حدود مظلمته، فهذا قد أخذ حقه بسؤال ربه على قدر مظلمته.

    وإما أن يدعو أكثر من حقه، فمثلاً: لو جاء إنسان وظلمه وأخذ منه القلم، فقال: اللهم إني أسألك أن تعمي بصره، فأخذ البصر ليس كأخذ القلم، فليست هناك موافقة.

    وأما حينما يدعو عليه أو على ولده أو أهله، فهذا النوع من الدعاء يعتبره العلماء اعتداءً.

    قالوا: وفي حكم هذا الدعاء على ولاة الأمر والعلماء؛ لأن الضرر إذا نزل بهم يتعدى إلى المسلمين، ويكون ضررهم عاماً، فلو دعا على عالم، فإنه ربما ضر بإخوانه المسلمين وانقطع نفعه عن المسلمين، فهذا من الاعتداء.

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (يأتي في آخر الزمان أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطهور).

    فدل هذا على أنه ممنوع منه، حتى قال بعض العلماء: إن هذا يؤمَن عليه من القصاص، وأخذ حقه منه.

    وفي حكم هذا: أن يدعو على ولده، ويقول: اللهم نكِّد عليه عيشه في أهله وولده وكذا وكذا، فهذا يرونه من الاعتداء.

    لكن بعض العلماء يقول: من حقه أن يدعو دعوةً قاصمةً لظهر الظالم إذا كانت هناك مظلمة يتعدى ضررها من الشخص بالتشهير به أو انتهاك عرضه.

    ومن أمثلة ذلك: فعل السلف الصالح رحمهم الله، فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كذب عليه أهل الكوفة وآذَوه، وهذه هي سنة الله في الأخيار والصالحين، أنهم يُتَّهمون ويُقْذَفون ويُنْتَقصون حتى يبرئهم الله -جلَّ جلالُه- من فوق سبع سماوات. فـسعد رضي الله عنه صحابي جليل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدته ورخائه، وكان سدسَ الإسلام يوم أسلم رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارمِ، فداك أبي وأمي) من عظيم ما كان من شأنه في الإسلام، فهو أول من رمى في سبيل الله، وأول من جمع له النبي صلى الله عليه وسلم بين والديه.

    هذا الصحابي الجليل كذبوا عليه، حتى جاءوا إلى عمر وقالوا له: (إنه لا يحسن كيف يصلي).

    انظروا -يا إخوان- وفي هذا العبرة لكل داعية وصالح وتقي! أنه إذا جاء الكلام فيه من ورائه فإنه يُطْعَن في كل شيء، حتى في دينه في عقيدته، في منهجه، في فكره؛ لأن هناك أناس ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالناس، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الفرقان:20]!

    رجل من أهل الكوفة يأتي إلى عمر ويقول له: هذا الرجل الذي وضعتَه لنا لا يعرف كيف يصلي.

    فقام عمر رضي الله عنه وأمر باستدعاء سعد إليه، وقطع هذه المسافة الشاسعة من الكوفة إلى المدينة من أجل ذلك، تصوروا كيف يطوي تلك المسافات الشاسعات وتمضي عليه ساعات الليل والنهار وهو في هم الظلم، حتى جاء إلى المدينة.

    فقام وفد الكوفة الظالم الجائر فقال قائلهم: (أما وقد سألتنا عن سعد ، فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يحسن كيف يصلي بنا).

    الله أكبر! هذا الصحابي الجليل يصل إلى هذا القدر!

    فقال سعد رضي الله عنه: (والله ما كنتُ آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطوِّل في الأوليين، وأخفف في الأخريين، اللهم إن كنتُ تعلم أن عبدك هذا قد كذب وفجر فيما قال، اللهم أطل عمره، وخُذ بصره، وعرِّضه للفتن)، ثلاث دعوات.

    فاستجيبت دعوته رضي الله عنه.

    فعُمِّر الرجل فوق مائة سنة، وكف بصره والعياذ بالله، وأصبح يتغزل النساء في آخر عمره والعياذ بالله، فتقول له المرأة: (اتقِ الله وأنت كبيرُ سِن). فيقول: (أصابتني دعوة الرجل الصالح).

    واشتكت امرأة إلى عمر وتكذب على سعيد بن زيد رضي الله عنه حيث ادعت أنه ظلمها في بئرها.

    فقال سعيد : (اللهم إن كنت تعلم أنها كاذبة اللهم اجعل قبرها في بئرها).

    فعمي بصرُها -والعياذ بالله- فسقطت يوماً من الأيام في البئر فماتت، فكان البئر قبراً لها.

    فهذه كلها نقم من الله سبحانه وتعالى.

    وفي بعض الأحيان يُسَلَّط على من يؤذي عباد الله سبحانه وتعالى من حيث لا يحتسب، خاصةً إذا لم يدعُ المظلوم، فإنه إذا لم يدعُ تولى الله سبحانه وتعالى أمره.

    حتى ذكروا عن بني إسرائيل من قصصهم المعتبرة: أن رجلاً ظَلَم امرأة، فابتُلي -نسأل الله السلامة والعافية- ببلية لم يُدْرَ لها علاج.

    فاشتكوا إلى حبر من أحبار اليهود، فقال لهم: ما شأنه؟

    قالوا: ظلم فلانة.

    قال: اذهبوا إلى فلانة، واسألوها أن تسامحه.

    فامتنعت أن تسامحه. وكان قد ظلمها مظلمةً عظيمة.

    فقال لهم: اذهبوا إليها، وأكثروا من ذكر سيئاته التي كان يفعلها بها حتى يثور غضبُها وتتكلم.

    فصاروا يذكرون أذيَّته لها حتى دعت عليه، فذهبت البلية التي كانت على الرجل ونزلت به الدعوة التي دعت عليه بها، فخف البلاء أكثر من الأول.

    فقالوا له: كيف علمتَ ذلك؟

    قال: لأنها سكتت، فتولى الله جلَّ جلالُه نصرتها، فلما أصابها الغيظ وانتصرت لنفسها، زال البلاء، وأصبحت مستشفيةً لغيظها.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا ويتجاوز، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله وسلم على نبيه محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756003638