إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب العارية [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العارية تفضل وإحسان ممن يعير، وهذا الإحسان لا ينبغي أن يقابل إلا بالإحسان، ولهذا إذا حصل تلف للعارية فإن المستعير يضمن هذا التلف، وكذلك إذا أخذها فإنه يردها ويتحمل مؤنة ردها، وهذا كله من مقابلة الإحسان بالإحسان.

    1.   

    مسائل تترتب على العارية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ولا أجرة لمن أعار حائطاً حتى يسقط].

    فقد تقدم بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالعارية، ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان بعض المسائل التي تترتب على العارية، ومن ذلك لو أن جاراً احتاج إلى وضع خشبه على جدار بيتك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا ألَّا يمنع بعضنا بعضاً من ذلك، وأن يكون بيننا من إخوة الإسلام والمحبة في هذا الدين ما يجعل الدنيا تبعاً ولا تكون أساساً للعبد، فإذا سأله أخوه هذه المصلحة أعانه عليها ويسر له السبيل للوصول إليها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره) وفي لفظ: (أن يغرز خشبةً على جداره) فدل هذا الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه لا ينبغي للمسلم إذا طلبه جاره معونة بوضع الخشب على جداره أن يمتنع من ذلك.

    وهنا يرد السؤال: هذا الجدار الذي لجارك إذا وضعت عليه الخشب فإنه يأخذ حكم العارية؛ لأنك استعرت من الجار منفعة وضع الخشب على جداره، وتكون هذه المنفعة منفعة.. استناد بيتك أو سقف بيتك على هذا الجدار.

    إذا ثبت أنه يشرع للمسلم أن يمكن جاره من وضع خشبه على جداره، فلو أنه وهبه في الابتداء فلما وضع الخشب وبنى بيته قال له: منعتك من ذلك، إما أن تدفع الأجرة وإما أن ترفع الخشب، فهل من حقه أن يرجع؟ هذا هو السؤال.

    أقسام العارية

    من حيث الأصل: العارية تنقسم إلى قسمين:

    - قسم مؤقت.

    - وقسم غير مؤقت، وهي العارية المطلقة.

    من حيث الأصل الشرعي أن من أعطاك شيئاً تنتفع به كالسيارة والبيت للسكنى؛ فإن من حقك أن تنتفع به ما لم يرجع، فلو قال لك: رجعت عن عاريتي، وكنت سألتَه السيارة أن تسافر بها إلى المدينة فأعطاك إياها الظهر، ولما أردت أن تخرج العصر جاءك وقال: لا أريدك أن تذهب بها، فرجع عن العارية مثل صاحب الجدار رجع عن عاريته، من حيث الأصل فالمسلم لا ينبغي له أن يهب شيئاً ويرجع فيه؛ لكن النص في كتاب الله عز وجل يدل على أن من تبرع بالشيء ليس عليه من سبيل، فلو بذل الشيء كاملاً ثم طرأت له ظروف وأخذ الشيء فليس عليه من شيء، قال تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]، أما إذا لم يوجد له عذر فيقبح منه فعل ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء؛ العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود يأكل قيئه) نسأل الله السلامة والعافية.

    إذا ثبت أنه من حقك أن ترجع في العارية من حيث الأصل العام: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91] ففي بعض العواري لا يكون هناك ضرر وفي بعضها يكون هناك ضرر.

    أحوال الرجوع في العارية وحكمها

    فكل من أخذ منك شيئاً إعارة وأردت أن ترجع في هذه العارية فلا يخلو الرجوع من حالتين:

    إما أن يكون هذا الرجوع لا ضرر فيه، وأصبحت مصلحة الإنسان ليست بمتعلقة به على الوجه الذي سنذكره في القسم الثاني. وإما العكس؛ فإن كان لا ضرر ولم يرتبط شيء بذلك الشيء الذي وهبت منفعته فيجوز لك الرجوع، وليس من حقه أن يمتنع، ويجب عليه أن يرد لك العين.

    الصورة الأولى: مثال: لو قلت له: خذ بيتي أو شقتي واسكنها شهراً، ثم طرأت لك الظروف أثناء الشهر فقلت: يرحمك الله تحول عن مسكني؛ فإنه يجب عليه أن يتحول، ولك الحق في الرجوع، وهكذا لو أعطيته سيارة أو أرضاً.

    الصورة الثانية: أن يحصل الضرر إذا رجع، مثال: أن تعطيه سفينة يركبها فلما صار في وسط البحر قلت: يرحمك الله تحول عن السفينة، فلا يمكن هذا؛ فإن الغالب أنه يهلك، أو كان له متاع فقلت له: هذا المركب وانقل به متاعك من طرف النهر إلى الطرف الآخر، فلما صار في وسط النهر قلت: أرجعه وهناك خطر عليه وضرر، حينها نقول: ليس من حقك أن ترجع، وعليك أن تبقى على عاريتك حتى ينتقل إلى الشق الثاني، ويخرج من لجة البحر.

    وكذلك في مسألة الجدار: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقك أن تقول له: ارفع الخشب؛ لأن في هذا ضرراً، وقد رضيت على نفسك بالضرر ابتداءً فلزمتك العارية ولزمك البذل إلى أن يسقط الجدار، فإذا سقط الجدار بنفسه فحينئذٍ لا شيء على صاحب الجدار -كما سيأتي- ولا يلزم الجار بدفع الأجرة ولو جلس الجدار مائة سنة يبقى الخشب عليه، لأنه قد التزم بذلك، لكن لو سقط الجدار فجأة فحينئذٍ تنقطع العارية وتنتهي، هذا بالنسبة لما فيه ضرر. من أمثلتها: الخشب على الجدار، والسفينة في وسط البحر، لكن لو كانت السفينة على طرف البحر فمن حقه أن يقول له: تحول عن سفينتي، ومن أمثلته: الأرض للدفن؛ فلو كان عنده أرض، وقال للناس: ادفنوا فيها موتاكم، أو أذن لميت أن يدفن في هذا الموضع ثم أراد أن يبنيه ورجع عن عاريته، وقال: انقلوا الميت من أرضي، نقول: ليس هذا من حقك حتى يبلى الميت، فإذا بلي الميت وصار تراباً -في قول طائفة من العلماء- صح الرجوع، وإلا فلا.

    إذاً القاعدة في العارية: من حقك أن ترجع لمصالحك، لكن بشرط أن لا تتسبب في الضرر على الغير، وإذا أثبتنا أنه من حقك الرجوع فينقسم الرجوع إلى قسمين:

    القسم الأول: أن لا يكون هناك ضرر، فنقول: من حقك الرجوع، لكن يقبح بك أن ترجع بدون عذر؛ للحديث الصحيح: (ليس لنا مثل السوء...) وأما إذا وجد الضرر فحينئذٍ نقول: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقه أن يقول: ادفع الأجرة، أو ارفع خشبك؛ حتى يسقط الجدار؛ لأنه قد رضي ببقائه على ذلك الجدار فلزمه ما التزم به.

    القسم الثاني: السفينة إذا ركبها فلجج بالبحر، إذا كان مكاناً غريقاً لا يمكن التحول فيه، والأرض للدفن، والأرض للزرع وفيها تفصيل، لو قال لك قائل: أريد أن أزرع أرضك الفلانية أو روضتك الفلانية، فقلت له: أعرتك إياها هذه السنة تزرعها، ولا أريد منك أجرة على ذلك، فأخذ الأرض فزرعها فلما زرعها ونمى الزرع وقبل الحصاد قلت له: اقلع الزرع وأخرجه عن أرضي، فحينئذٍ رجعت عن العارية والرجوع يتضمن الضرر وفساد الحصاد، وإذا كان على هذا الوجه فقال طائفة من العلماء: من حقك أن ترجع.

    وقولنا: (من حقك أن ترجع) لا نقول له: اقلع الزرع إلا إذا كان بالإمكان نقل الزرع، لكن إذا كان مثل الحب فلا يمكن نقله وبقية الزروع مثله، فنقول: تبقى إلى الحصاد، ومن العلماء من يقول: ليس من حقك الرجوع إلى الحصاد. وهذا هو الصحيح، مثل قضية الجدار، والسفينة، فالقياس من حيث وجود الضرر أنك حينما سمحت بزراعة الأرض فأنت متحمل لجميع التبعات والآثار المترتبة على هذا الإذن.

    لكن لو قلنا بقول بعض أئمة المذهب رحمهم الله الذين يقولون: من حقك أن ترجع، لا تفهم أنها تنتقل المسألة من العارية إلى الإجارة، ويصبح هذا الذي أخذ الأرض مستأجراً بعد أن كان مستعيراً، مثال ذلك: لو أخذ الأرض لزرع يستغرق أربعة أشهر فمضى شهران، فرجع صاحب الأرض وبقي شهران، على هذا القول يدفع أجرة الشهرين الباقيين، ونقول: أبقِ الزرع ولكن تلزمك أجرة بقية الأشهر أو المدة الباقية؛ لأنه انتقلت من الإعارة إلى الإجارة، والصحيح: أنه ليس من حقه أن يخرجه حتى يحصد الزرع، للأصول التي ذكرناها.

    سقوط الخشب الموضوع على جدار الجار وضمانه

    قال رحمه الله: [ولا يرد إن سقط إلا بإذنه].

    (ولا يرد)، أي: الخشب. قررنا أنه إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقه أن يرجع، وإذا قلت: ليس من حقه أن يرجع. وجدت عدة عبارات، تقول: ليس من حقه أن يرجع، لا أجرة له، أي: تصبح يد إجارة بعد يد العارية؛ لأن يد العارية يد ضمان، ويد الإجارة لا ضمان فيها.

    وفائدة المسألة: أنه لو حصل ضرر يضمن إن كان مستعيراً ولا يضمن إذا كان مستأجراً كما تقدم في الإجارة، إذا ثبت هذا فقد قلنا: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقك أن ترجع حتى يسقط الجدار؛ فإن سقط الجدار فلا يخلو سقوطه من حالتين:

    إما أن يسقط الجدار بدون وجود سبب من المالك؛ كأن تأتي الريح فتسقطه وينهدم البيت، فإذا سقط الجدار وتلف بسبب سقوطه الخشب فحينئذٍ يكون هناك سببية في التلف، وهو أن سقوط جدارك هو الذي تسبب في إتلاف الخشب، فيرد السؤال الآن: لو تلف خشب الجار فهل يضمن صاحب الجدار قيمة الخشب أو لا؟

    قالوا: لا ضمان على مالك الجدار مادام أنه لم يتلفه بنفسه، لكن لو أن مالك الجدار قال لشخص: اهدم هذا الجدار، فلما هدمه انكسر الخشب بسقوطه فحينئذٍ يضمن مثل الخشب، ونقول له: رد لصاحب الخشب مثله؛ لأنك أتلفته فإذا كان الخشب ليس له مثلي ونوع نادر أو قديم، نقول لأهل الخبرة: قدروا قيمة الخشب يوم سقط الجدار وانكسر، فإن كانت قيمة الخشب في الوقت الذي سقط فيه الجدار ألف ريال، ولما وقعت الخصومة بين الطرفين كانت تساوي ثمانية آلاف، نقول: العبرة بيوم سقوط الجدار.

    الخلاصة: إذا سقط الجدار فالجدار ملك للجار، ويتحمل مسئولية ما ينشأ عن سقوطه وعلى هذا نقول: إذا تلف الخشب بفعل السقوط فالأصل يقتضي أنه يضمن، إلا أنه إذا لم يتسبب في الإسقاط فلا ضمان عليه، فإذا ضمن نقول له: أحضر خشباً مثل هذا الخشب في نوعه وصفته وجودته ورداءته وعدده وقدره، فإذا لم يوجد مثله نقول له: اضمن قيمته، وإذا قلنا: إنه يضمن القيمة، فالسؤال: هل يضمن القيمة من يوم سقوط الجدار، أو يضمن قيمة الخشب يوم بناء الجدار، أو يضمن قيمة الخشب يوم الخصومة عند القاضي؛ لأنه قد تختلف القيمة، وقد يكون غالياً فيصبح رخيصاً والعكس؟ فنقول: عليك الضمان يوم السقوط؛ لأنه لما سقط شغلت ذمة المالك للجدار لضمان حق أخيه المسلم، فوجب عليه ما كانت عليه القيمة في ذلك الوقت الذي ترتب عليه الضمان.

    1.   

    ضمان العارية

    قال رحمه الله: [وتضمن العارية بقيمتها يوم تلفت ولو شرط نفي ضمانها].

    هذه المسألة مسألة خلافية، وهي: إذا استعار شخص منك شيئاً هل يضمن أو لا يضمن؟ كشخص استعار منك السيارة ثم تلفت في الطريق، هل نقول: عليه الضمان أو لا ضمان عليه؟

    قبل الدخول في هذه المسألة ينبغي أن نعلم أن التلف ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: إما أن يكون التلف بالتعدي والتفريط. فهذا بإجماع العلماء يضمن فيه المستعير، فلو خرج بالسيارة وساقها على طريق فيه ضرر نقول: يضمن، فكل شيء فيه تعدٍٍ وإساءة وإضرار تنتقل فيه يد الأمانة إلى الضمان بإجماع العلماء؛ فإذا أخذ منك أي شيء ولم يحسن التصرف أثناء أخذ منفعته المأذون بها فإنه ضامن.

    القسم الثاني: أن يأخذ منك الشيء ولا يتعدى ويحسن الانتفاع به؛ فتأتي آفة سماوية أو معتدٍ مجهول ويفسد هذا الشيء، كما لو أخذ منك السيارة ثم أوقفها في مكان أمين، فجاء شخص وأخذ منها أشياء ففي هذه الحالة يرد السؤال: هل يضمن أو لا يضمن؟ إن أخذ منك كتاباً فجاء شخص وأتلفه ولم نعلم من الذي أتلفه، إذ لو علمنا لضمناه، لكن السؤال: إذا لم نعلم، وقال: والله إن الكتاب الذي أخذته منك سرق.

    في هذه الأحوال كلها إذا كان فيه تعدٍ يلزمك الضمان، لكن إذا لم يفرط هل يضمن أو لا؟ قولان عند العلماء:

    القول الأول: كل عارية تؤخذ من صاحبها فإنها مضمونة حتى ترد، وهذا القول هو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث وأئمة السلف رحمة الله على الجميع.

    القول الثاني: العارية لا تضمن إلا إذا تعدى، وهذا مذهب المالكية والحنفية، والمالكية عندهم تفصيل بين الشيء الظاهر والشيء الخفي، لكن من حيث الجملة متفقون مع الحنفية على أن العارية لا تضمن.

    أما بالنسبة للذين قالوا: إن العواري تضمن فقد استدلوا بأدلة:

    الدليل الأول: ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد في مسنده وصححه الحاكم وغيره من حديث سمرة -وفيه الخلاف المشهور في سماع- الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) والصيغة صيغة إلزام ومعنى: (على اليد) الشخص الذي أخذ، فذكر الجزء وأراد الكل، وهذا معروف في لغة العرب كقوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ المسد:1].. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج:10] والمراد: كلك، فقوله: (على اليد)، يعني: على الإنسان الذي أخذ أن يؤدي الذي أخذه، فإذا أخذ منك قلماً يكتب به؛ يلزمه أن يرد ذلك الشيء، فلما قال: (عليه)، معناه: أنه ضامن، متحمل للمسئولية، ومعناه: أنه متكفل بذلك الشيء؛ بحيث لو طرأ عليه أي ضرر فإنه يتحمل مسئوليته.

    الدليل الثاني: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه غير واحد من العلماء: أنه لما أراد الخروج إلى غزوة حنين استعار من صفوان رضي الله عنه وأرضاه أدرعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزو حنين خرج معه المسلمون والمؤلفة قلوبهم من مكة، فزاد عدد الجيش الذي خرج من المدينة مع الذين أسلموا يوم الفتح، فاحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مثل هؤلاء أن يكون معهم سلاح زائد، فاستعار من صفوان رضي الله عنه سلاحه وأدرعه فقال صفوان : (أغصباً يا محمد!) يعني: هل أخذت مني هذه العارية بالقوة والغصب والقهر، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة) أي: ما أخذت حقك -وما كان صلى الله عليه وسلم ليأخذ حقوق الناس- بل سأقضي بها حاجتي ثم أردها إليك، ثم قال: (مضمونة) أي: أتحمل ردها إليك كاملة.

    فهم من هذا الفقهاء رحمهم الله الذين يقولون بالضمان: أن كل عارية تأخذها فأنت مسئول عنها حتى تردها كاملة إليه، يستوي في ذلك العقار كالبيوت ونحوها أو المنقولات كالسيارات ونحوها.

    فائدة هذا الحديث في دلالته على هذه المسألة: أننا نلزمك برد الشيء الذي أخذته حتى ولو تلف بدون اختيارك أو تفريط منك، وهذا معنى قوله: (بل عارية مضمونة) أي: سأرد لك هذا الشيء الذي أخذته منك عارية ولا أفرط فيه حتى يعود إليك كما أخذته.

    القول الثاني: الذين قالوا: بأنه لا يضمن، استدلوا بالقياس، وقالوا: الأصل العام في قواعد الشريعة: أن العارية كالوديعة، وكما أن الوديعة أمانة ولا تضمن إلا إذا فرط من استودع، كذلك العارية لا يضمن المستعير إلا إذا فرط فيها وعرضها للضرر، والصحيح ولا شك هو وجود الضمان وثبوته.

    فائدة الخلاف: أننا إذا قلنا: إنها مضمونة. فإنك لو أعطيت سيارة أو داراً وحصل أي ضرر على هذه السيارة أو الدار ولو لم يكن للمستعير فيه دخل ولم يكن بتفريط منه فإنه يلزمه الضمان، وكما أخذها كاملة يردها كاملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وقال: (بل عارية مضمونة) هذا بالنسبة لمسألة الضمان.

    حكم الاستعارة بشرط عدم ضمان العارية

    عرفنا أن القول الراجح هو: أن العارية مضمونة بدلالة السنة على ذلك، لكن يرد السؤال: إذا كانت مضمونة؛ فلو أن شخصاً أراد أن يستعير منك كتاباً وقال: أستعيره بشرط أني لا أضمنه، هل من حقه ذلك أو لا؟ وهل هذا الشرط الذي اشترطه عند الاستعارة يسقط الضمان أو لا يسقطه؟

    على القول بأن الضمان ثابت، يصبح الخلاف عند الشافعية والحنابلة قولان:

    القول الأول: الشرط باطل؛ لأنه مصادم للسنة، والسنة تقول: (بل عارية مضمونة)، ودل على أن شأن العواري أن تضمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط)، فالشروط التي تعارض الشرع لا يلتفت إليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه العارية بكونها مضمونة، فلا يمكن أن نلغي هذا الوصف بالشرط.

    القول الثاني: أن العارية إذا قلنا بضمانها يمكن إسقاط الضمان بالشرط، فتقول له: أستعير منك السيارة بشرط أن لا أضمنها إذا تلفت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم) وهذا مسلم قد اشترط أنه لا يضمن عاريتك.

    والصحيح: أن الشرط فاسد؛ لأن السنة دلت على وصف العارية بأنها مضمونة، وأن من شأنها أن تضمن؛ فإذا اشترط أنه لا يضمن فقد خالف شرع الله عز وجل، ولذلك نقول: لا نعرف العارية في الشرع إلا مضمونة، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فألزم الرد.

    ثم إننا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل في الشروط فيقول: (كل شرط ليس في كتاب الله...) والمراد بقوله: (ليس في كتاب الله)، ليس في الكتاب والسنة؛ لأن السنة من كتاب الله كما قال: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) فإذا كان الشرط يعارض السنة ويخالفها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فإننا نقول بالضمان.

    الأمر الثاني: مما يرجح هذا القول: أنه كما ترجح من جهة الأثر يترجح من جهة النظر، فإن صاحب الشيء المستعار الذي أعطاك سيارته أو كتابه قد تفضل وأحسن، ولا يمكن أن نجعل عليه غرمين، فهو لم يأخذ أجرة مقابل المنفعة، وليس من العدل أن نقول: وأيضاً تضمن التلف، بل العدل أن هذا يأخذ العارية وينتفع بها ويتحمل مسئولية ردها ويضمنها؛ بناء على ذلك: لو اشترط المستعير على المعير أن لا يرد فقد أجحف به وأضر، ولم يتحقق العدل الذي قامت عليه هذه الشريعة؛ وبناء على ذلك لابد من عدل بين الطرفين: المستعير والمعير، ونقول: إنه إذا اشترط فإن الشرط مجحف وفيه ضرر؛ فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه.

    1.   

    مؤنة العارية وأجرة ردها

    قال رحمه الله: [وعليه مؤنة ردها إلا المؤجرة ولا يعيرها].

    وعلى المستعير مؤنة رد العارية. هذه المسألة تقع في الأشياء التي تحتاج إلى كلفة النقل، وفي زماننا توجد الآلات التي يكون حملها فيه مؤنة أو يكون ما استعاره نقله من بلد إلى بلد، مثال: شخص جاءك وقال: أريد منك هذه الماكينة الزراعية فأخذها وانتفع بها سنة ثم جاءك بعد السنة، وقال لك: ائت خذ ماكينتك أو خذ الآلة التي أعرتني، تقول له: إن الشرع يلزمك بردها إليَّ: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ما دمت أنك قد أخذتها من مزرعتي فأنت ملزم بردها إلى الموضع الذي أخذتها منه، ولا يلزم بشيء زائد على ذلك.

    وإذا قلنا: إنه ملزم. تفرعت العبارة التي ذكرها المصنف، أنه يدفع مؤنة حملها، فلو قال لك: أنا نقلتها إلى مزرعتي؛ لأني محتاج إليها، والآن أنا لست محتاجاً بل أنت الذي تحتاجها فعليك ردها، لو كان فقيهاً يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، فدل على أنه يرد العارية، وأنه ملزم بردها، وعلى ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بل عارية مضمونة)، فنلزمه بالرد إلى الموضع الذي أخذ منه العارية، فلو أخذ العارية من طرف المدينة وأوصلها إلى المكان الذي أخذها فيه وقال لصاحبها: خذ عاريتك، قال: لا أقبل حتى تحضرها إلى بيتي، نقول: لست ملزماً بذلك بل أنت ملزم بإحضارها إلى الموضع الذي أخذتها منه، هذا بالنسبة لما فيه كلفة ومؤنة النقل.

    حكم رد العين المؤجرة

    ثم قال: (إلا المؤجرة).

    هذه العبارة استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، مثلاً: لو أخذ منك سيارة واستأجرها لكي يقضي عليها مصلحة، وجاء بالسيارة وأوقفها في مكان ما، وقال لك: خذ سيارتك، نقول: نعم. العين المؤجرة لا يلزم المستأجر ردها إلى صاحبها ومؤنة الرد عليه، مثل الشركات الموجودة الآن، لو استأجر هذه السيارة من الشركة على أن يذهب بها إلى المدينة والشركة في مكة، نقول: من ناحية شرعية يذهب بها إلى المدينة والشركة ملزمة برد سيارتها؛ لأن العين المؤجرة لا يضمن فيها المستأجر بردها إلى الموضع الذي أخذها منه، لكن لو كان الاتفاق أنه يرجع ما استعار، ففي هذه الحالة نقول: عليه أن يردها إلى الموضع الذي فيه الشركة.

    وبناءً على ذلك يفصل في الإجارة: من حيث الأصل العام لا نلزم المستأجر برد العين المؤجرة ويُلْزم فقط بالمحافظة عليها؛ لأن هناك فرقاً بين رد العين المؤجرة ومؤنة ردها وبين المحافظة عليها، وتقدم في كتاب الإجارة أن المستأجر يجب عليه شرعاً أن يرد العين التي استأجرها مثلما أخذها، فإذا استأجر عمارة أو شقة أو داراً يردها كاملة إن أخذها كاملة ويردها ناقصة إن كانت ناقصة، فإذا أخذها واستأجرها سنة فأتلف شيئاً في جدرها أو نوافذها أو أبوابها فإننا نلزمه بإصلاح ذلك الذي أتلفه كله، ويجب عليه أن يرد العين كاملة كما أخذها كاملة. هذا من جهة المحافظة، وليس له علاقة بمسألتنا.

    1.   

    الأسئلة

    حكم العارية إذا مات المستعير قبل انتهاء مدة الإعارة

    السؤال: رجل أعار أرضاً ثم مات ولم ينته الزمن الذي قد حدده، فهل للورثة رد العارية قبل الموعد؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد: فمن استعار شيئاً، وكانت العارية مؤقتة بزمان، وقال له صاحب الأرض: خذ هذه الأرض سنة، وتوفي في نصف السنة، فإن العارية إذن بالمنفعة وليست بتمليك، وتتخرج على نفس المسألة التي ذكرناها، وفي هذه الحالة يجب على الورثة أن يردوا الأرض إلى المالك الحقيقي؛ لأنهم لا يقومون مقام مورثهم، وليس للمستعير أن يقيم غيره مقامه، فإذا وجد فيها زرع نقول للورثة: عليكم دفع أجرة الزرع في النصف الباقي من السنة، فتنتقل العارية من كونها عارية إلى كونها إجارة إلا إذا طابت نفس المالك الحقيقي وقال: أعرتكم كما أعرت مورثكم. وفي هذه الحالة لا إشكال، والله تعالى أعلم.

    وجوب الضمان للعارية حتى ولو لم يوجد تفريط

    السؤال: هل تضمن العارية في حالة وقوع التلف أثناء الاستخدام حتى ولو لم يكن في استخدامه تعدٍٍ أو تفريط؟

    الجواب: إذا استخدم السيارة بدون تعدٍ أو تفريط وحصل تلف فهذا هو الذي فيه الخلاف، مثلاً: خرج بالسيارة من المدينة إلى جدة وفي الطريق حصل تلف في السيارة، فهذا التلف أهل الخبرة يقولون: ليس استعماله مؤثراً، إنما هو تلف عارض، فنقول في هذه الحالة: تضمن سواء كان التلف بسببك أو بدون سببك؛ لأنه إذا كان التلف بسببه فبالإجماع يضمن، ومحل الخلاف فقط: إذا كان التلف بغير سببه هل يضمن أو لا يضمن؟ والصحيح أنه يضمن لظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

    هناك قاعدة دلت عليها السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة في سنن أبي داود، وهي مما أجمع العلماء على العمل بمتنها، وهو من الأحاديث التي تكلم في سندها وصح متنها، وقد قرر شيخ الإسلام وأئمة الحديث أن من السنة ما صح متنه وضعف سنده؛ فأغنت صحة متنه وشهرته بين العلماء عن طلب السند، لأن الأصول تصححه وتقويه، فلو كان سنده ضعيفاً فإن الأصول الشرعية تدل على ثبوته، كما لو جاء حديث ضعيف يأمر بالصلاة فضعف سنده لا يوجب رده وقد يكون المتن صحيحاً فنعمل بالمتن، لكن ضعف السند يمنعنا من نسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك فرق بين القضيتين.

    ولذلك تجد البعض يشنع على من يقول بأحاديث ضعيفة، فيغفل عن هذه القواعد والضوابط التي قررها أهل العلم رحمة الله عليهم، فإن الحديث إذا كان ضعيفاً وحكاه أهل العلم وأشاروا إلى ضعفه أو عزوه إلى من أخرجه، كان ذكره من باب الاستشهاد بالمتن الذي شهدت له الأصول. يقول الإمام أحمد في حديث: (الخراج بالضمان) حديث عائشة الإجماع على العمل به، يعني: أجمع العلماء على العمل بمتنه، فهنا في العارية من الذي يأخذ المنفعة، من الذي يستفيد؟ المستعير، فنقول: تضمن هذه العين التي أنت آخذ منفعتها إذا حصل الضرر مدة الانتفاع.

    فحتى مع أصول الشريعة القول الذي يقول بالتضمين يستقيم من جهة النظر، ويستقيم أيضاً من جهة الأثر للحديث الذي ذكرناه، فسواء فرط أو لم يفرط فهو ضامن حتى يرد العين كما أخذها، والله تعالى أعلم.

    حكم تضمين العامل إذا أتلف شيئاً على الزبائن

    السؤال: لي محل لإصلاح الأجهزة، فأتلف العامل جهازاً لأحد الناس على وجه الخطأ، فمن الذي يضمن، العامل أم صاحب المحل؟

    الجواب: هنا أمران: الأمر الأول: الأجير أو العامل في المحل تارة يكون عاملاً عند صاحب المحل بالأجرة، وتارة يكون شريكاً معه، وهذا يقع على اختلاف العلماء في مسألة الشراكة، إذا كان العامل الذي في الدكان يعمل ويأخذ أجرة شهرية، فصاحب الدكان يتحمل ضرر العامل الذي لم يخرج فيه عن أصول المهنة، وكل ضرر يقع من العامل بدون تفريط أو خروج عن أصول المهنة يضمنه صاحب المحل؛ لأن صاحب المحل يأخذ ربح المحل فيتحمل الخسارة التي تقع في المحل على القاعدة التي ذكرناها.

    لكن لو أن العامل تساهل فحمل الزجاج ويده مبللة فسقط وانكسر، نقول: يضمن العامل؛ لأن المباشرة تسقط حكم السببية، وعلى هذا فقد باشر العامل الإتلاف بتفريط، وذلك عن طريق حمل هذا الشيء بطريقة محتملة للضرر ولم يتعاط أسباب المحافظة، وهذا تقصير وإهمال، ولو أن العامل جاء لكي يضع الغطاء على الشيء الذي أصلحه فوضعه بقوة فكسره أو أتلفه أو عطل شيئاً فيضمن العامل؛ لأن فعله وطريقة وضعه لا تتفق مع أصول المهنة، ولو جاء العالم بالأجهزة الكهربائية فشبكها -مثلاً- في الأفياش الكهربائية فاحترقت الأجهزة وكان هناك شيء في داخل الجهاز، نقول: إذا كانت أصول العمل عند الكهربائي أنه كان ينبغي عليه أن يفتش الجهاز الذي يريد إصلاحه فلم يفتش عن ذلك وجاء مباشرة وشغله حتى احترق فإنه يضمن لأن الاحتراق وقع بفعله، حينما أدخل هذا الفيش واشتعل الجهاز بسبب شبكه للفيش، فهو الذي باشر ويلزم بالضمان.

    كل هذا فيه قواعد وثوابت تدور حول إهمال العامل وعدم إهماله، فإذا فعل العامل أي شيء لا نستطيع أن نقول: إنه مهمل أو غير مهمل إلا عن طريق أهل الخبرة، فإن كان العامل في الحدادة نرجع إلى الحدادين، النجارة النجارين، أي صنعة نرجع إلى أهل الخبرة فيها، وهذا شيء تكلم العلماء عليه كلاماً نفيساً، وهي مسألة: شهادة أهل الخبرة.

    ومن قرأ الفقه الإسلامي يعلم عزة هذه الشريعة وعظمتها وسموها، ويدرك أن كل شيء وضعه العلماء والأئمة فهو في موضعه؛ لأن هذه الأحكام تفرعت وبنيت على شريعة كاملة، وما بني على التمام والكمال كان له حظ من ذلك الوصف، فالشيء الذي يبنى على قواعد يكون شيئاً مقرباً وثابتاً.

    فالعامل إذا عمل شيئاً خلاف ما قرره أهل الخبرة نقول: عليك الضمان، إذا عمل عملاً ليس موافقاً لكلام أهل الخبرة، وإذا حصل شيء قضاء وقدراً فإنه يضمن صاحب المحل وعليه الضمان بالشرط الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    الرجوع إلى العرف في الانتفاع بالعارية

    السؤال: إذا كانت العارية إذناً بالمنفعة وليست ملكاً للمنفعة، فأشكل عليَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار أدرعاً من صفوان رضي الله عنه وأعطاها الصحابة ولم ينتفع بها هو عليه السلام؟

    الجواب: لله درك، هذا سؤال جيد واستشكال جيد، وهذا قررناه وبيناه في مسائل الإجارة، مثلاً: عندما تقول لشخص: وكلتك في تنظيف العمارة، فإن الوكيل ليس له أن يوكل غيره، لكن العرف والمعروف أن مثله ليس هو الذي ينظف، ولما قلت له: وكلتك في تنظيفها، يعني: وكلتك أن تأتي بمن ينظفها، فهذا شيء له ضوابطه وثوابته: أن العطاء للعارية إن كان على وجه جرى به العرف واقتضى تقييداً وإطلاقاً قيد وأطلق به ولا إشكال في هذا، والحمد لله، والله تعالى أعلم.

    حكم تكرار العمرة للمتمتع قبل الحج

    السؤال: رجل تمتع بعمرة إلى الحج، ثم أراد أن يعتمر تطوعاً قبل اليوم الثامن، فهل يجوز له ذلك؟

    الجواب: العمرة جائزة في سائر السنة، وليس هناك محذور في إيقاع العمرة وزيارة البيت في أي وقت ما لم يكن الإنسان متلبساً بنسك الحج في وقت يمتنع عليه أن يأتي بالعمرة فيه، واختلف العلماء رحمهم الله في الحاج إذا تحلل وأراد أن يأتي بالعمرة في أيام التشريق، وهي مسألة خلافية تقدم الكلام عليها في كتاب المناسك، لكن بالنسبة لمسألتنا: لو جاء بعمرة من بلده ثم بقي بمكة ثم أنشأ عمرة ثانية وهو بمكة؛ فإن هذا جائز من حيث الأصل العام، ويستوي في ذلك أن تكون العمرة له أو لغيره، كأن ينشئ عمرة عن والده الميت الذي لم يعتمر، أو عن والدته، أو عن إنسان آخر لم يعتمر؛ فأراد أن يبرئ ذمته فهو مأجور على ذلك، أما عن نفسه فإن الأشبه والأولى أن لا يفعل ذلك، لكن لو فعله فليس هناك دليل يدل على التحريم والمنع، لكن يرد السؤال: لو فعل العمرة الثانية فهل التمتع بالأولى أم بالثانية؟

    والجواب: أن التمتع واقع بالعمرة الأولى لا الثانية؛ لأن العمرة الأولى أنشأها في أشهر الحج وهو ناوٍ للحج من عامه، وكان المنبغي عليه بعد انتهائه من عمرته وعند إرادته للحج أن يرجع إلى الميقات، فصار وجوب الدم عليه مبنياً على سقوط السفر إلى الميقات، فاستوى أن تدخل عمرة أو لا تدخل؛ لأن العبرة بكونه لم يسافر للإحرام بحجه من الميقات، ولذلك إذا رجع إلى بلده أو إلى ميقاته أو مسافة القصر سقط عنه دم التمتع، وعلى هذا فإننا نقول: إن العمرة الثانية لا تقطع العمرة الأولى على الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    سقوط طواف الوداع عمن دون مسافة القصر

    السؤال: من كان ساكناً بمنطقة مكة وخارج حدود الحرم -كأهل حي البحيرات- فهل عليهم طواف وداع؟

    الجواب: من كان خارج حدود الحرم ففيه تفصيل: إن كان دون مسافة القصر -كأهل الجموم- فهؤلاء ليس عليهم طواف وداع، وأما إذا كانوا فوق مسافة القصر -كأهل عسفان وقديد- فهؤلاء يلزمهم طواف الوداع، والله تعالى أعلم.

    حكم القارن إذا لم يستطع سوق الهدي

    السؤال: رجل يريد الحج قارناً ولم يستطع سوق الهدي، فهل يصح هذا النسك؟

    الجواب: ظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ساق الهدي، ولا يجوز للقارن أن يترك هذه السنة التي أطبقت فيها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: (إني قلدت هدي ولبدت شعري؛ فلا أحل حتى أنحر) فدل هذا على أن الأصل في القارن أن يسوق الهدي معه وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم العبرة بأن يوقف الهدي معه، فإذا حصل ذلك أجزأه حتى ولو أخذه من مكة، وأما بالنسبة لكونه يترك هذه السنة ويأخذ الهدي من مكة وهو قادر على سوقه، فقال بعض العلماء: يكون آثماً لمخالفته هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلي الذي قال: (خذوا عني مناسككم) فلابد من سوق الهدي في القارن على الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    أخذ المال على الحج عن الغير

    السؤال: إذا أردت الحج عن الغير بمقابل مال لنفقة الحج ولتسديد الديون، فهل هذا يجوز؟

    الجواب: لنفقة الحجة نعم، أما لتسديد الديون فلا يجوز، فالصحيح أن الحج ممكن أن تأخذ عليه أجرة بقدر ما أنفقت من مركب ومسكن ومنزل وهدي إذا كان الحج تمتعاً أو قراناً، أما أن يكون الحج محلاً للمزايدة والبيع والشراء، أحج عن ميتك بخمسة آلاف، لا بسبعة آلاف، كأنها بيع وشراء فلا، وهذا النوع من الإجارة يسميه العلماء بالإجارة على المقاطعة، والأول يسمونه الإجارة على البلاغ، والإجارة على البلاغ؛ أن يتحمل الورثة بلاغ الحاج إلى مكة، فيتحملون نفقة الركوب والأكل والملبس الذي يحتاج إليه لعمرته وحجه، وتحتسب النفقة ذهاباً وإياباً، ويكون الضابط فيها: العرف لمثله؛ فإذا التزموا بذلك وأعطوه مبلغاً ونقص المبلغ وجب عليهم أن يكملوه، ولو أعطوه مبلغاً وزاد المبلغ وجب عليه أن يرد الزيادة، فلو أعطيت شخصاً عشرة آلاف على أن يحج عن ميتك فحج وكلفه الحج أربعة آلاف وجب عليه رد الستة آلاف، ولو أعطيته ثلاثة آلاف وحج واشترى الهدي وبلغت تكاليفه خمسة آلاف تعطيه الألفين، هذا بالنسبة للأجرة على البلاغ، وهي التي يمكن أن يقال بها دون ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    توجيهات لطلبة العلم في التعامل مع الحجاج

    السؤال: بعض الحجاج يستفتي بعض طلبة العلم فما هو الطريق الصحيح لطالب العلم في مثل هذه الحالة؟

    الجواب: لاشك أن تعليم الحجاج ودلالتهم على الخير من أعظم الطاعات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الحجاج ضيوف على الله سبحانه وتعالى، والضيف يكرم ولا يهان يحسن إليه ولا يساء، ومن اتقى الله عز وجل في حجاج بيته فأحسن إليهم أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة، فإن الله وصف الحجاج بأنهم آمون لبيته يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً، وأعظم شيء يطلبه الإنسان رضوان الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، وهذا الرضا جعله الله فوق الجنة، أي: زيادة على الجنة، كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله يطلع على أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا! وأعطيتنا! وأعطيتنا فيقول الله تعالى: أو لا أزيدكم، أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبداً).

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحل علينا رضاه فلا يسخط علينا أبداً، اللهم إنا نسألك الرضا الذي لا تسخط بعده أبداً.

    فهذا الضيف الذي وعده الله عز وجل برضوانه وعفوه وغفرانه أن يعتق رقبته، وأن يعظم أجره ومثوبته، حتى أن الله لم يرض له جزاء إلا الجنة، يحتاج إلى تذكير بالله ودلالة على الخير، فإذا كان المسلم يستشعر أن الحاج ضيف على الله بهذه العبادة فليعلم أن أكمل ما تكون عليه العبادة هو العلم الشرعي المقرون بالعمل، ولا يمكن أن يكون حاجاً على أتم الحج وأكمله إلا إذا كان عالماً بالسنة ومطبقاً لها، ولا يمكن أن يتعلم إلا إذا وفقه الله عز وجل لمن كان على بصيرة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة؛ فعلمه وأفتاه وبين له الحق.

    أوصي طلاب العلم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن على أعناقهم ورقابهم أمانة وهي أمانة العلم، فتبليغ العلم أمانة، والله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات بأداء هذه الأمانة: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] فأمره أن يبلغ، وحتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحس أن هذا البلاغ حتم عليه وواجب، وأنه أمر عظيم ثقيل، وقف عليه الصلاة والسلام أمام الأمة في يوم حجة الوداع في يوم عرفة، وكان أول ما استفتح به عليه الصلاة والسلام أن قال: (أيها الناس! اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبداً، ثم قال: أيها الناس! إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت. فقال: اللهم فاشهد! اللهم فاشهد! اللهم فاشهد).

    هذا يدل على أن تبليغ العلم ودلالة الناس على الله عز وجل والقيام بهذا الواجب العظيم فريضة على كل من استبان له هذا الصراط المستقيم أن يدل الناس عليه، فالواجب أن تنظروا إلى الحجاج أنهم بحاجة إلى هذا العلم فتأخذوا بمجامع قلوبهم إلى الله، وأعظم ما تقدمونه لهم: صلاح دينهم وإيمانهم بالله عز وجل، وسلامة عقيدتهم بالإخلاص لله جل جلاله الذي من أجله كان الحج والعمرة، وشرائع الإسلام، وهو التوحيد الخالص والإيمان الكامل، ودلالتهم على صلتهم بالله عز وجل في الدعاء والاستغاثة والرجاء والذبح وغير ذلك من مسائل العقيدة المهمة التي عليها مدار الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، بل عليها قبول الأعمال وردها، بل من أجلها أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، وأول أمر في كتاب الله أمر الله به خلقه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وأول نهي في كتاب الله عز وجل نهى عنه خلقه: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، فالواجب على طلاب العلم أن يبدأوا بهذا الأساس العظيم الذي عليه صلاح الدين والدنيا والآخرة واستقامة الأمور كلها.

    أما الأمر الثاني الذي يجب على طلاب العلم أن ينتبهوا له: تعليم الناس هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلمونهم السنة وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحج، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمر، وماذا كان يفعل، وماذا كان يقول، فهذا من أعظم ما يكون فيه الخير والبر: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) هكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله) النضارة: الحسن والنور في الوجه، فأهل السنة وجوههم مشرقة في الدنيا والآخرة.

    فلا يزال طالب العلم في نور ورحمة يخوض غمار رحمات الله عز وجل، ومن هنا يبارك الله لطالب العلم في علمه حين يعلم الناس ويحرص على دلالتهم على الخير، وإذا جئت تحج تنظر عن يمينك وشمالك من الذي يحتاج إلى فتوجيه فتوجهه ولكن بالتي هي أحسن، فتنظرون إلى كبيرهم كأب ووالد تقدرونه وتجلونه، وتنظرون إلى من في سنكم أنه أخ لكم في لا إله إلا الله وبينكم وبينه وشائج الإسلام، وتنظرون إلى من هو صغير أنه مثل فلذات الكبد عزيز عليكم تنزلونه المنزل اللائق به، وتفعلون ذلك لله وفي الله وابتغاء مرضات الله.

    لا تنظروا إلى لون ولا جنس ولا مصر ولا قطر ولا طائفة، ولكن انظروا إلى شيء واحد وهو الأخوة في الإسلام، وكونهم إخوة لكم في هذا الدين تحبونهم في الله، ولتعلموا أنهم ضيوف عليكم، والله يعلم أنهم ضيوف عليكم وأنهم يحبونكم في هذا الدين، وأنهم قد استودعوا صدورهم حسن الظن بكم، ولنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم فوق ما يظن بكم من خير، والله أنعم على هذه البلاد نعمة عظيمة، فإن الناس يأتون هذا البيت ويزورونه فيخرجون بالمشاعر الطيبة، يخرجون وقد رأوا شعائر الإسلام وأخوة الإسلام، ورأوا أمة تقوم بصلاتها وزكاتها وعبادتها والتآلف فيما بينها، فهذا لا شك أنه نعمة عظيمة، يرون الإسلام أمام أعينهم بكم أنتم إذا وفقكم الله لتطبيقه والقيام بحقوقه والالتزام بفرائضه وأداء ما أوجب الله عليكم تجاه إخوانكم، فأحسنوا بهم الظنون، وأحسنوا إكرامهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا وإياكم على ذلك الخير والبر، والله تعالى أعلم.

    حكم الحاج إذا اعتمر عن الغير في أشهر الحج

    السؤال: من اعتمر في أشهر الحج عن الغير وحج عن نفسه؛ فهل تلك العمرة التي أداها عن الغير مؤثرة وتصير النسك إلى التمتع؟

    الجواب: إذا اعتمر عن شخص وحج عن آخر أو حج عن نفسه أو العكس فليس حاله بحال المتمتع ولا يلزمه دم التمتع، ويكون اعتماره عن الغير كاعتمار الغير معه، كما لو جاء الغير معه معتمراً وهو حاج عن نفسه؛ ونحو ذلك: إذا نوى العمرة عن والده ثم حج عن نفسه أو العكس، لكن المشكلة لو أنه دخل من ميقات الجحفة ناوياً العمرة عن والده والحج عن نفسه؛ فإن الواجب عليه بعد انتهائه من عمرة الوالد أن يرجع فيحرم بالحج من ميقات الجحفة؛ لأنه مر بالميقات ناوياً النسكين، فيلزمه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، فلا يحرم بالحج من هنا إلا إذا كان قد جاء بعمرة ولم ينو الحج في هذا العام، ثم طرأت عليه نية الحج وهو بمكة؛ فأصبح هناك صورتان:

    الصورة الأولى: أن يأتي من خارج المواقيت ناوياً النسكين بالنوعين اللذين ذكرناهما، فنقول: ليس بمتمتع، هذا الحكم الأول، الحكم الثاني: يرجع بعد العمرة لكي يأتي بالحج من الميقات، فلا يتمتع بالعمرة إلى الحج لأنها عمرة منفصلة عن الحج، وإنما تكون العمرة متصلة لو كانت عن الشخص نفسه فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] فهي للشخص نفسه، أما لو كانت العمرة عن شخص والحج عن آخر فإنه يكون كحج لشخص وعمرة لشخص جاءا مع بعضهما، هل نقول: عليهما دم تمتع؟ نقول: لا، فكذلك إذا نواه عن الغير؛ لأنه نية الغير ليست له هو، ولم يتمتع بها لحجه هو، وكذلك إذا كان الحج لوالده فلم يتمتع بها لحج والده، ولذلك تقع لوالده حجة مفردة ولا تقع تمتعاً.

    الأمر الثاني: يلزمك أن تخرج إلى الميقات؛ لأنك مررت بالميقات في زمان الحج ناوياً النسكين، إلا إذا طرأت نية النسك الثاني وأنت بمكة فتحرم من مكة ولا شيء عليك، فإن لم يرجع إلى الميقات -في الصورة الأولى- وأحرم بالحج من مكة فعليه دم الجبران لا دم التمتع، وعليه جماهير السلف والخلف وأئمة الصحابة رضي الله عنهم ورحم الله أئمة العلم أجمعين.

    والله تعالى أعلم.

    حكم طواف الإفاضة لمن عجز عنه

    السؤال: من عجز عن طواف الإفاضة لكبر السن، وليس له مال يدفعه لمن يحمله ويطوف به، فما الحكم؟

    الجواب: طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، ومن حيث الأصل: التوكيل يجوز في الحج كله ويجوز في بعضه، وورد التوكيل في مسألة الرمي، فكان بعض مشائخنا رحمهم الله يقول: إذا طرأ عذر على الحاج ولم يستطع أن يطوف طواف الإفاضة وانتقل إلى بلده، مثلاً: حصل عليه حادث فانعاق كلية، أو حصل عليه ضرر لا يستطيع معه أن يطوف البتة، ففي هذه الحالة قولان:

    القول الأول: أنه لا يجب عليه أن يطوف، كالميت الذي وقصته دابته فلم يلزمه إتمام نسكه للعجز؛ ولكن هذا القول مرجوح، وهناك من بعض مشائخنا من ناظر في هذه المسألة مَن كان يقول بهذا القول وقال: الأشبه أن يوكل؛ لأنه تعذر عليه أصالةً، وقد صح شرعاً أن يوكل في كل الحج، فلأن يصح في جزء الحج من باب أولى وأحرى.

    القول الثاني: أنه يوكل غيره في حال عجزه الكلي، فإن كان لا يستطيع أن يطوف البتة، فإنه يمكن أن يقال بأنه يوكل من يطوف عنه، كما لو تعذر عليه الحج كله، فإنه يجوز أن يحج عنه غيره.

    وبناءً على ذلك: يستقيم أن يوكل من يطوف عنه طواف الإفاضة، ويبقى ممتنعاً حتى يُطاف عنه، يعني: يكون التحلل الثاني بالنسبة له متوقفاً على هذا الطواف.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756404142