إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الوكالة [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأصل في الوكالة أن يقوم الوكيل بأداء ما وكِّل بالقيام به، لكن قد يحدث أن الوكيل يوكل غيره للقيام بهذا العمل، وهذا له حالات وتفاصيل. وأما الوكالة من حيث هي فهي عقد جائز ليس بلازم؛ لأن المقصود بها الإرفاق، ولها مبطلات كشأن سائر العقود.

    1.   

    حكم توكيل الوكيل لغيره

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فكان حديثنا عن باب الوكالة، ولا زال المصنف رحمه الله يبين المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب الذي تعم به البلوى، ويحتاجه الناس في كل زمانٍ ومكان، وشرع بهذه الجملة في بيان مسألة توكيل الوكيل لغيره، فقد تطلب من شخصٍ ما أن يقوم نيابةً عنك بأمرٍ ما، وأنت تقصد أن يقوم به بنفسه، فيفوض ذلك الأمر ويكله إلى غيره، وحينئذٍ يرد السؤال: هل يجوز له أن يقيم ذلك الغير مقامه، أو لا يجوز؟

    ثانياً: حينما أقام ذلك الغير مقامه فلربما تصرف تصرفاً فيه ضرر، فهل يضمنه الموكل الأصلي، أو يضمنه الوكيل؟ بعبارةٍ أخرى: هل هو وكيلٌ عن الأول، أو الثاني؟ وهذا كله يحتاج الناس إلى بيان حكمه.

    ومن هنا بين رحمه الله القاعدة فقال: [ليس للوكيل أن يوكِل فيما وُكِّل فيه].

    أمثلة هذه المسألة: قد تأتي إلى صديق لك أو أخ لك وتقول له مثلاً: بعْ لي هذه العمارة، فهذا الأخ أو هذا الصديق قد يتولى أمرها بنفسه، أو يذهب إلى مكتب عقارٍ فيوكل صاحب المكتب بالبيع، هذا مثال، وبناءً على ذلك يرد السؤال: هل لك إذا وُكِّلت من الغير أن توكل فيما وُكِّلت فيه، أو لا؟

    هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل.

    أولاً: إذا وكِّل الشخص في عمل أو وُكِّل للقيام بمهمةٍ من بيعٍ أو شراءٍ أو إجارةٍ أو غير ذلك، فلا يخلو هذا الشخص الذي يوَكَّل وهو الوكيل من حالات:

    الحالة الأولى: أن يوكل في شيء لا يقوم به مثله عُرفاً، وسنذكر مثال ذلك وحكمه.

    الحالة الثانية: أن يوكل في شيء يمكنه أن يقوم به لكن بمعونة الغير.

    الحالة الثالثة: أن يوكل في شيءٍ يمكنه أن يقوم به وحده.

    فهذه ثلاثة أحوال: إما أن يوكل في شيء جرى العرف أن مثله لا يقوم به، وإما أن يوكل في شيء يمكنه أن يقوم به بنفسه ولكن بشرط أن يوجد من يعينه على ذلك الشيء، وإما أن يوكل بشيء يمكنه أن يقوم به بنفسه دون أن يحتاج إلى غيره، فهذه ثلاثة أحوال سنفصل أحكامها.

    ان يوكل في شيء لا يقوم به مثله عرفاً

    الحالة الأولى: أن يوكل في شيء لا يمكنه أن يقوم به بنفسه عُرفاً، مثال: لو قال شخصٌ لآخر: اكنس لي أو نظف لي هذه العمارة، أو نظف لي -أكرمكم الله- دورات العمارة، فالعلماء رحمهم الله ذكروا هذه الحالة؛ لأنها توجد بين الناس، ومن الناس من يطلب من أخيه أو صديقه أو رفيقه أن يقوم بعملٍ ليس مثله يقوم به، ففي هذه الحالة إذا قلت لشخص: نظف لي العمارة، أو اكنس لي العمارة فهمنا أنك تقصد أن يأتي بشخصٍ يقوم بذلك، فهي في الأصل وكالة للشخص، لكن المقصود منها أن يقيم غيره مقامه، في هذه الحالة إذا طلبت من شخصٍ ليس مثله يقوم بالعمل أن يقوم بذلك العمل، نقول: الوكالة باللفظ له، ولكنها بالعُرف متضمنةً للإذن بالغير، فعلى هذا: يجوز أن يوكل غيره مقامه، وفي هذه الحالة شبه إجماع، أن الشخص لو قال لآخر: نظف لي العمارة، أو اكنس لي العمارة، أو اكنس لي البيت أو الدار، أو اكنس لي البركة، أو نظف لي دورة المياه -أكرمكم الله- ، أو أي شيء ليس مثله يقوم به فإنها وكالةٌ منصرفةٌ في الظاهر إلى المخاطب، وفي الباطن إذنٌ أن يقيم غيره مقامه.

    فنستثني من قول المصنف: (ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه)، ما إذا كان وكل بشيءٍ ليس مثله يقوم به، لكن الإشكال ليس هنا، وإنما حينما قال له: اكنس لي العمارة، أو نظف لي العمارة، فيرد السؤال: هل إذا قال له هذه الكلمة وذهب وجاء بشخصٍ آخر يقوم بالكنس، هل هذا الشخص الآخر الذي يقوم بهذا العمل وكيلٌ عن الأصل، أو وكيل عن الوكيل؟

    وهذا أمرٌ مهم جداً، فعندما تقول للشخص: أصلح لي الباب، ومثله ليس بنجار، أو أصلح لي السقف، وليس مثله بنّاء ليصلح السقوف، أو أصلح لي السيارة وليس مثله يصلح، فهل أنت بهذه الجملة قصدت له: اطلب من يصلحها، فيصبح لك وكيلاً، الوكيل الأول الذي خاطبته، والوكيل الثاني الذي يقيمه مقامه.

    فائدة هذا السؤال أنك لو قلت: إن الموكل حينما تلفظ وكّل الاثنين، فلو أنك طلبت منه أن يصلح سقف البيت فأبرم عقداً لمدة شهر لإصلاح السقف، وأثناء الشهر توفي ذلك الوكيل، فإن كان الثاني -الذي هو العامل- وكيلاً عنك، يعني: وكلت الاثنين، فلا تنفسخ الوكالة، ويبقى العقد كما هو، وإن كان وكيلاً عن وكيلك فحينئذٍ يحتاج إلى تجديد؛ لأن الوكالة قد انفسخت.

    وقال بعض العلماء: أُبرِم العقد وتم فلا يحتاج إلى تجديد؛ لأنه من العقود اللازمة؛ لأنه من عقود الإجارة، وبناءً على هذا: في حالة ما إذا كان موكلاً للغير وهذا الغير لا يقوم بذلك كإصلاح السيارات وإصلاح البيوت وتنظيفها أو نحو ذلك وليس مثله ممن يقوم به فإنه يصح له أن يوكل غيره ويقيمه مقامه.

    أن يوكَّل في شيء يحتاج فيه إلى معونة الغير

    الحالة الثانية: أن يكون الأمر المطلوب يمكنه أن يقوم به ولكن يحتاج إلى معونة الغير فيه، ومن أمثلة ذلك: العامل في المزرعة، أو الحارس في العمارة مثلاً، تقول له: يا فلان! نظّف لي العمارة، فإنه بطبيعة الحال سينظفها ولكن يحتاج إلى من يعينه إلى تنظيفها، فمثلاً قلت له: أريد تنظيف هذه العمارة هذا اليوم، فيفهم بداهة إذا كانت عمارة كبيرة أن للمقصود: التمس معك من يعينك على تنظيفها، بناءً على ذلك يصبح لك وكيلاً، الوكيل الأول الذي خاطبته، والوكيل الثاني الذي يقيمه معه، وذهب جماهير العلماء في هذه الحالة إلى أنك لو قلت للعامل أو قلت لشخص تعلم أنه يحتاج إلى معونة الغير: افعل لي كذا.. فأنت موكلٌ للاثنين، موكلٌ للوكيل الأصلي وموكل لمن يوكله معه.

    لكن هنا مسألةٌ مهمة وهي: إذا كنا نقول في الحالة الأولى والحالة الثانية أن من حق الوكيل أن يوكل غيره، فلا بد من بيان شرط مهم وهو: أنه لا يصح لهذا الوكيل أن يقيم معه الغير أو يوكل الغير إلا إذا كان أهلاً للقيام بالعمل، فأنت لا تتحمل المسئولية، لو قلت له: يا فلان! نظف لي العمارة أو ابن لي السقف أو ابن لي الجدار أو الغرفة أو ازرع لي الزرع، فذهب وجاء معه بشخصٍ آخر إذا كان مشاركاً، أو طلب شخصاً آخر يقوم بهذا العمل فإنك لا تتحمل مسئوليته إلا إذا كان على صفتين:

    الصفة الأولى: أن تكون عنده أهلية القيام بهذا العمل.

    الصفة الثانية: مسألة العدالة فيما يحصل فيه الضرر بفواتها.

    فمسألة العلم بالعمل مهمة، فلو أنك قلت لرجلٍ: ابن لي الدار أو نظّف لي الدار وليس مثله يقوم بذلك، واستأجر أجيراً لا يحسن تنظيف العمارة ولا الدار، ثم لما جاء يقوم بعمله أخل بذلك العمل، فلما أخل به قال لك: أنت وكلتني ولا بد أن تدفع أجرته. ففي هذه الحالة: لا تكون ملزماً إلا أن يقدر مقدار عمله الطيب الذي يستحق عليه أجرة، والباقي لا تتحمل مسئوليته، مثال ذلك: ذهب واستأجر عاملاً باليومية -بمائة ريال- أو أخذه مقاولة واتفق معه على خمسمائة، فلما قام بتنظيفها نظفها بمقدار نصف العمل أي: لم ينظف تنظيفاً متقناً، وإنما نظف تنظيفاً مخلاً، بحيث أنك ترى الغرفة عليها آثار الغبار وغيره، لأنه لا يحسن العمل، فحينئذٍ بعد إن انتهى من التنظيف قال لك: ادفع لي خمسمائة ريال أجرة العامل، فذهبت تنظر في عمل العامل وإذا بعمله ليس بمتقن، وليس بأهل أن يأخذ عليه هذه الأجرة، فسألت أهل الخبرة فقالوا: هذا نصف التنظيف، أو اجتهدت وأنت تعرف أنك ما ظلمته فقدرت عمله على أنه نصف عمل تقول له: خذ مائتين وخمسين، فتعطي وكيلك المائتين والخمسين ريالاً، ثم الباقي يتفاهم فيه مع العامل، أما من حيث إلزامك أنت فلا تلزم إلا بما يستحقه الأجير؛ لأنه في هذه الحالة لما أذنت له أن يقيم الغير مقامه بالعرف لا بد وأن يكون هذا العامل أهلاً بالعرف، فلما قصر الوكيل في التحري في صفة العامل وقصر في جلب من هو أهل لذلك يتحمل مسئولية الضرر.

    إذاً نقول في هذه الحالة: لو أقام غيره مقامه أو أقامه معه، فلا تتحمل مسئولية ذلك الغير إلا إذا كان أهلاً، هذا الشرط الأول.

    فلو أنه -مثلاً- جاء بعاملٍ وهذا العامل لا يحسن العمل في الكهرباء، وقلت له: أصلح لي الكهرباء في العمارة أو البيت، بمعنى: اذهب وانظر لي من هو أهل للقيام بذلك، فذهب إلى السوق وجاء بمن لا يحسن العمل بهذا الشيء، فلما جاء ليقوم بهذا العمل أضر بنفسه -أصابه مثلاً (شورت كهرباء) ومات- في هذه الحالة لا تتحمل المسئولية؛ لأنك لم تطلب منه أن يقيم كل شخص، فأنت حينما قلت له: وكلتك أن تصلح الكهرباء أو الماء فيها أو جدارها أو أرضها أو سقفها كأنك تقول: وكلتك أن توكل من هو أهل بالعرف، فكما أن العرف يصرف الوكالة عن الشخص نفسه إلى شخصٍ آخر، كذلك العرف يقيدها بمن هو أهله.

    إذاً: الخلاصة حينما قلنا في الحالتين: أن من حق الوكيل أن يوكل غيره فإننا نشترط أن يكون أهلاً، وإذا لم يكن أهلاً فلا يتحمل الوكيل الأصيل مسئوليته.

    ثانياً: أن يكون ممن توفرت فيه الأمانة والعدالة حتى لا يحصل الضرر بالإخلال، فلو أنه أقام شخصاً خائناً فجاء ووضعه وائتمنه على المال فسرق المال، فحينئذٍ هذه السرقة وقعت من الوكيل الثاني، وأنت حينما وكّلته وكلته بالعرف، فيتحمل الوكيل المسئولية عن السرقة ولا تتحملها أنت؛ لأنه وإن قلنا في هذه الحالة أنه من حقه أن يأتي بوكيل، لكن بشرط أن يتحمل، والدليل على أننا نلزمه بالضمان أنه في هذه الحالة قصر، والشرع يلزم من قصر بالضمان، ولذلك: قواعد الشريعة وأصولها دالة على أن من تحمل مسئولية شيء ونزل مكان الأصيل فإنه يتحمل الضرر الناشئ عن الإخلال بذلك الشيء، وتوضيح ذلك أكثر بعبارة مختصرة: أن الوكيل الثاني كان الأصل يوجب عليه أن يسأل في السوق، وأن يتحرى حتى يجد الأهل لذلك فيقيمه مقامه، فلما قصر في السؤال والتحري تحمل مسئولية الإخلال، ولذلك أي شخص يطلب منك أمراً أو يوكلك في أمر وأنت لا تحسنه، وأردت أن تقيم مقامك غيرك، أو دل العرف على أنه أراد أن تقيم غيرك مقامك، فينبغي أن تتحرى وأن تجتهد وأن تحب له ما تحب لنفسك، وأن تكره له ما تكره لنفسك ولا تذهب لكل أحد، فإنه لو كان العمل لك هل تقبل كل عامل؟ وهل ترضى بكل عامل؟ فكما أن الإنسان لا يرضى بالضرر على نفسه فإنه إذا كان وكيلاً عن غيره فعليه أن يتقي الله، وأن يعلم أنه مؤتمن وأن الغير ائتمنه فعليه أن يؤدي هذه الأمانة بالتحري والسؤال، فإذا جاء -مثلاً- يشتري أدوات الكهرباء يسأل صاحب المحل عن أحسن من يوثق فيه، أو يسأل: من الذي يستطيع أن يبحث لي عن عامل لي أمين؟ ويتحرى ويجتهد، فإذا بذل ما عنده فحينئذٍ لا يتحمل المسئولية.

    أن يوكَّل في شيء يقوم به بنفسه دون حاجة إلى غيره

    الحالة الثالثة: أن يوكل فيما يقوم فيه بنفسه، فلو قلت لرجلٍ: بع لي السيارة أو بع لي الأرض، أو مثلاً: مكاتب العقارات الآن، فتأتي إلى صاحب مكتب عقار وتقول له: يا فلان! وكلتك أن تبيع لي عمارتي الفلانية، قال: إذاً سأقوم بذلك، فإذا قلت له: وكلتك أن تقوم ببيع عمارتي الفلانية، فذهب إلى مكتب عقارٍ آخر واتفق معه، وبيعت العمارة، وجاء يسألك الأجرة وأنت قد قلت له: وكلتك أن تبحث لي عن من يشتري عمارتي أو وكلتك أن تشتري لي عمارة وأعطيك خمسة آلاف أعطيك ثلاثة آلاف أو أعطيك ألفين -لأنه ما يجوز أن أقول لك: آخذ منك اثنين ونصف في المائة، وهذا سيأتينا إن شاء الله في الإجارة؛ لأنه إذا كانت قيمة الأرض مجهولة فهي إجارة بالمجهول كأن تقول: أريد (2.5%) من القيمة ما ندري، قد تكون قيمة الأرض مليون ريال وأخذ اثنين ونصف في المائة من المليون ليس سهلاً، وقد تكون خمسمائة ألف، فالجهالة في الأجرة موجبة للبطلان كما قررناه في مسائل البطاقات، وإن شاء الله بإذن الله سنفصل هذه المسألة في باب الإجارة-.

    الشاهد: أنك لو قلت لصاحب المكتب: التمس لي أرضاً بصفة كذا وكذا أو في موقع كذا وكذا وأعطيك ألفين أو ثلاثة آلاف، فذهب صاحب المكتب وتقاول مع مكتبٍ آخر ثم جاءك وقال: إني قد وجدت لك أرضاً بنصف مليون، ولكن فلان صاحب المكتب يطالبني بخمسة آلاف؛ فتعطيني مع الألفين التي اتفقنا عليها ألفين ثانية أو خمسة آلاف أو ثلاثة آلاف، فتقول له: أنا وكلتك والوكالة بيني وبينك، وهذا الوكيل الثاني لم أوكلك به؛ لأن العمل يختص بك أنت، وتستطيع أن تقوم به لوحدك، فحينئذٍ أنت الذي تتحمل مسئولية من أقمته معك، وأنا لا أتحمل من حيث الأصل ما دام هذا عملك وقد وكلتك، فمعنى قولي: التمس لي من يستأجر عمارتي أو يشتري أرضي أو التمس لي أرضاً أو عمارةً فإنني في هذه الحالة وكلتك ولم أوكل غيرك، فهذا الغير الذي أقمته معك أنت الذي تدفع أجرته، وأنت الذي تتحمل مسئوليته وليس لي من دخلٍ في ذلك، هذا إذا كان وكله على أن يقوم بعملٍ يمكنه أن يقوم به لوحده؛ لأن مكتب العقار في الأصل يقوم بالعمل لوحده، ولكن كونه يستعين بالغير هذا في حالات استثنائية أو في حالات شاذة، لكن في الأصل أن مكتب العقار هو الذي يقوم بهذا العمل، وهو الذي يتحمل شراء الأشياء وبيعها وإجارتها ونحو ذلك، وبناءً على ذلك لا تتحمل أجرة هذا الوكيل الثاني.

    قال المصنف رحمه الله: [وليس للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكِّل فيه].

    اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة في الحالة الثالثة بالخصوص، أما من حيث الأصل إذا قال الوكيل لموكله: وكلتك، فلا يخلو من صورتين:

    الصورة الأولى: أن يقول له: وكلتك ولا أسمح لك أن توكل غيرك، فإن قال له: وكلتك ولا أسمح لك أن توكل غيرك فبالإجماع ليس للوكيل أن يوكل فيما وُكّل فيه، هذا إذا قال له: وكلتك ولا آذن لك أن توكل غيرك ففي هذه الحالة بالإجماع لا يصح أن يوكل غيره معه، ولا يصح أن يوكل غيره بدلاً منه.

    الصورة الثانية: صورة المسألة التي معنا، أن يقول له: وكلتك في بيع الأرض، مثل ما ذكرنا في مكتب العقار، ومكتب العقار يمكنه أن يتوكل لوحده، فهل لمكتب العقار أن يوكل غيره من أفراد الناس أو جماعتهم أو من مكاتب العقار أو غيرها؟

    اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

    جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة -رحمةُ الله عليهم- أنه لا يجوز للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه من حيث الجملة، وقالوا: إن الوكالة منصبة على شيء، إما بذلاً وإما أخذاً كمنفعة عين ..إلخ على حسب العقود، وهذا الشيء ملكٌ للأصيل، فإذا أذن للوكيل فإن غير الوكيل أجنبي وليس للوكيل أن يقيمه مقامه؛ لأنه أذن للوكيل وحده، فلا يجوز التصرف في أموال الناس وأملاكهم إلا بإذنٍ منهم، والإذن هنا خاصٌ بالوكيل وليس له أن يوكل غيره، هذا مذهب الجمهور وهو يستند إلى الأصل.

    القول الثاني: يجوز للوكيل أن يُوكِّلَ فيما وُكِّل فيه، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله ورواية عن الإمام أحمد ، وقال به بعض أصحاب الإمام الشافعي ، لكن مذهب الحنابلة والشافعية على القول الأول.

    فعلى القول الثاني قول الذين يقولون: يجوز للوكيل أن يوكِّل فيما وُكّلَ فيه، لو قلت لشخصٍ مثلاً: بعْ لي هذه العمارة، يجوز أن يبيعها بنفسه وأن يوكل من يرضاه ليقوم مقامه، ولو قلت له: أجّر لي داري أو مزرعتي، وقام بتأجيرها أو أقام غيره ممن هو أهل صح توكيله وقالوا: لأنه حينما وكل الوكيل فكأنه فوّض له أن يجلب المصلحة وأن يدفع الضرر، فكما أن المصلحة مجلوبة في الأصل بالوكيل فهي مجلوبةٌ بغيره، وكما أن المفسدة تندرئ بالوكيل تندرئ بغيره، أي: لا فرق بينه وبين غيره؛ لأن الهدف حصول المصلحة ودفع الضرر، قالوا: فهو وغيره في ذلك على حدٍ سواء، والصحيح مذهب الجمهور رحمهم الله لما ذكرنا.

    1.   

    حكم الوكالة وأحوال بطلانها

    يقول رحمه الله: [والوكالة عقد جائز وتبطل بفسخ أحدهما وموته وعزل الوكيل وحجر السفيه].

    الوكالة من العقود الجائزة

    يقول المصنف رحمه الله: (الوكالة عقدٌ جائز).

    حينما تقول لشخص: وكلتك أن تشتري لي سيارة، وأعطيته عشرة آلاف ريال، وذهب ليشتري السيارة ثم بدا لك قبل أن يشتريها أن تفسخ، وقلت: لا أريد سيارة، فهل من حقك الفسخ؟

    كذلك أيضاً: لو قلت لشخص: يا فلان! هذه مائة ألف اذهب واشترِ لي أرضاً في الموقع الفلاني أو المكان الفلاني أو في المخطط الفلاني، فقال: قبلت، فلما خرج من البيت ضاق عليه الوقت وقال: لا أستطيع أن أفعل ذلك، فهل في هذه الحالة أنت ملزم بإتمام الوكالة حتى يحصل المقصود أو لا؟

    وهل هذا الطرف الذي توكله إذا قبل الوكالة نلزمه أن يمضيها؟

    حينما تقول لشخص: بعْ لي سيارتي قال: قبلت، وذهب يريد بيعها ثم رجع لك بعد ساعة وقال: يا فلان! لا أستطيع أن أبيعها، قلت له: عندك عذر؟ قال: لا. ليس عندي عذر، قلت: ما أسامحك خذ السيارة وبعها، وألزمته وفرضت عليه، فهل من حقك أن تفرض عليه؟ يعني: إذا حصل الإيجاب والقبول فقلت: وكلتك قال: قبلت، هل أنت ملزم بإتمام الوكالة، وليس من حقك أن تفسخها؟ وهل هو ملزم بإتمامها وليس من حقه فسخها؟

    فقال رحمه الله: (والوكالة عقدٌ جائز).

    العقود -قلنا-: تنقسم إلى قسمين: إما عقود جائزة وإما عقود لازمة، وبينا هذا في أول باب البيوع، وضربنا الأمثلة وبينا أنواع العقود، وهنا يقول المصنف: (الوكالة عقدٌ جائز) إذا قلنا: عقدٌ لازم فضابطه: أنه لا يملكُ أحد الطرفين فسخه إلا برضا الآخر، فلو قلت له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف قال: قبلت، ثم افترقتما ثم جاء وقال: لا أستطيع فإنه يلزم شرعاً؛ لأن العقد لازمٌ للطرفين، فليس من حقه أن يرجع، وليس من حقك أن ترجع إلا برضا الطرف الثاني، لكن الوكالة على العكس، هي عقدٌ جائز، أي: يملك أحد الطرفين فسخه دون رضا الآخر، فمن حقك أن تفسخ الوكالة في أي وقتٍ شئت، ومن حق من توكله للقيام بالأمر أن يفسخ الوكالةِ في أي وقتٍ شاء.

    وعلى هذا: سواءً وُجد العذر أو لم يوجد، كرجل عَلم أنه لو أخذ الوكالة سيضر، وأنه لا يمكنه القيام بها، فهذا عذر، أو جاءه شيءٌ يشغله فهذا عذر، أو لم يوجد العذر كأن يريد أن يتخلى عن الوكالة هكذا.

    قال رحمه الله: (والوكالة عقدٌ جائز) أي: يملك أحد الطرفين فسخه دون رِضا الآخر، يقول العلماء في تقرير كون الوكالة عقداً جائزاً: إن الوكالة ننظر إليها من جانبين:

    الجانب الأول: الشخص الذي يوكل، والجانب الثاني: الشخص الذي يقبل والذي هو الوكيل، الأول: الموكل، والثاني: الوكيل، فقالوا: بالنسبة للشخص الذي يريد العمل ووكله الموكِّل قالوا: الوكالة منه إذْن، فإذا قال لك: بع عمارتي فهذا إذن بالبيع، والإذن ليس بلازم، أي: ليس هناك أحد ملزم أن يأذن للغير، وهل الإذن للغير لازم؟

    الجواب: بالإجماع: لا. قالوا: فإذا كان التوكيل من صاحب الحق إِذْناً للغير فالإذن من حقك في أي وقت أن ترجع عنه، وليس بإلزام، وبناءً على ذلك قالوا: الوكالة من صاحبها إذنٌ -الذي هو الموكل- ومن الوكيل الذي يقبلها فسخ؛ لأنه حينما يقول لك: خذ العشرة الآلاف واشترِ لي سيارة، فأنت تعينه على تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، فحينئذٍ كأنك تتفضل عليه، فالوكيل متفضل على الأصيل؛ ولذلك قالوا: من حقك أن تفسخ، وقد قال الله في كتابه: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91] فالوكيل محسن، وهذا إذا كانت الوكالة بدون أجرة، أما إذا كانت الوكالة بأجرة فشيء آخر؛ لأن الوكالة بأجرة فيها إلزام، فمثلاً: المحاماة، لو وكل محامياً في خصومة وقال له: اذهب وخاصم عني، فوكله بالخصومة وقال له: إذا جئتني بحقي مليون ريال في هذه الأرض التي ظلمت فيها وأثبت لي الحق أعطيك عشرة آلاف ريال، فيصبح العقد هنا عقد جُعل، فلا يستحق المحامي العشرة الآلاف إلا إذا جاء بالمليون كاملاً، فإذا تم العقد بينهما فإنه يكون عقد وكالة في الابتداء، فيكون جائزاً من حقك أن تفسخ في أي وقت، وفي الانتهاء: إذا استطاع أن يكسب القضية أو يكسب الحق يكون لازماً، فيلزمك أن تدفع له العشرة الآلاف، فهو جائزٌ في أول حال لازمٌ في ثاني حال، وبناءً على ذلك: يستثنى حالة اللزوم في ثاني حال إذا وكله أو كان عقد إجارةً، كأن يوكله على عمل إجارة، فإنه حينئذٍ يكون وكيلاً من وجه وأجيراً من وجهٍ آخر.

    بطلان الوكالة بفسخ أحد الطرفين لها

    قال رحمه الله: [وتبطل بفسخ أحدهما].

    والفسخ: الإزالة، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله، وفسخ العقد أن يزيل تأثيره، يرفع ثبوت الوكالة، فيقول له: أقلتك، أو رجعت عن وكالتي لا تبع، أو لا تشترِ، أو لا تؤجر، هذا كله فسخ، فالوكالة إذا فسخت انفسخت، فإذا قال له: لا تبع، ولا تؤجر فإنها تنفسخ في هذه الحالة، أو يبعث له رجلاً ويقول: فسخت وكالتي، فتنفسخ في أي وقتٍ يشاؤها ربها، وتنفسخ بفسخ أحدهما سواءً كان الأصيل أو الوكيل.

    بطلان الوكالة بموت أحد الطرفين أو جنونه

    قال رحمه الله: [وموته]

    إذا مات أحد الطرفين انفسخت الوكالة، فلو قلت لشخص: وكلتك أن تشتري لي سيارةً بعشرة آلاف فمات الموكل -الذي هو نفس الشخص الذي يريد السيارة- انفسخت الوكالة، لكن لو وقع البيع قبل الموت لزم البيع، مثلاً: قال رجلٌ لآخر: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فذهب واشتراها، وبعد أن اشتراها بنصف ساعة بلغه خبر موت من وكله بعد ثبوت البيع، فالبيع لازم ويلزم الورثة، ويمضي لوجهه؛ لأنه وقع حال حياة الموكل.

    وتبطل الوكالة بعزل الوكيل، وموته وجنونه، فلو جنّ أحد الطرفين جنوناً مطلقاً فإنه تنفسخ الوكالة؛ لأنه فاتت الأهلية، وإذا كان الموكل قد زال عنه العقل فإنه حينئذٍ يكون غير أهلٍ للتصرف في ماله، فتنفسخ وكالته.

    وهنا مسألة: بعض العلماء يقول: تقولون إن الجنون يوجب فسخ الوكالة، فيرد الإشكال، فإن الجنون زوال للعقل، والمجنون لا يصح منه التصرف، فما رأيكم في النائم، فلو أنه وكل شخصاً وقال له: وكلتك أن تبيع بيتي بعشرة آلاف، وباع وقت منام الموكل، أليست زالت عنه الأهلية بالإجماع؟ فالنائم لو تلفظ ما يؤخذ بلفظه: (رفع القلم عن ثلاثة)، فما هو الفرق بين النائم والمجنون؟

    فأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة منها:

    أن النائم إذا أيقظه أحد استيقظ، والمجنون لا يستطيع أحد أن يرد إليه عقله إلا الله وحده، وبناءً على ذلك هناك فرق بين الاثنين في ضابط الأهلية، فالمجنون سلبها ولا يستطيع أحد أن يردها، لكن في النوم تستطيع أن توقظه.

    فقالوا: نحن نورد اعتراضنا إذا وكل حال نومه، أي: وهو نائم، وأنتم تقولون عند الإيقاظ، وما عندنا مشكلة في هذا، لكن لو أنه وكله الساعة الثانية ظهراً، ثم وضع رأسه ونام، وخرج الرجل وابتاع الساعة الثانية والنصف والموكل مستغرق في النوم، أي: بحيث يكون ما عنده أهلية، فكيف يصح هنا العقد؟

    هذا يرجع إلى قاعدة تقول: (التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وهذه القاعدة تكلم عليها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه المفيد: قواعد الأحكام، كيف ينزل المعدوم منزلة الموجود؟

    قالوا: النائم إذا نام، نسألكم: كان مؤمناً ثم نام، وجاء رجل وقتله ألا نقول: قتل مؤمناً؟

    نقول: بلى، فهل أثناء النوم الإيمان موجود بمعنى: عنده تصرف وعنده أفعال؟

    قالوا: لا، إنما نزلنا المعدوم في الظاهر منزلة الموجود، فالأهلية الظاهرة وإن كانت معدومة لكنها في حكم الموجود، وهذا ما يسمى بالتقدير، فقالوا: أثناء نومه صحيحٌ أنه ليس من أهل الأهلية، ولكننا نزلنا الإذن قبل النوم واستصحبناه حال النوم، فصار من التقدير.

    ولذلك قالوا: لهذه القواعد عدة فروع منها: أطفال المؤمنين، يأخذون حكم آبائهم مع أن الإيمان غير موجود، فأنت عندما تأتي إلى بلد وتجد فيه طفلاً لقيطاً لا يعرف أبواه، إن كان في بلدٍ مسلم فتقول: هذا ابن للمسلمين، وعليه فتعطيه حكم أبناء المسلمين، ولا تقل: هل هو مسلم؟ لأنه لم يكن عليه التكليف، وقد رُفِع عنه القلم كالنائم، قالوا: فننزل المعدوم منزلة الموجود، وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه في الوكالة ونحوها من العقود يسري الحكم في حال النوم، كما لو كان مستيقظاً التفاتاً إلى الأصل من أن التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود.

    بطلان الوكالة بعزل الوكيل

    قال رحمه الله: [وعزل الوكيل].

    إذا كان وكّل شخصاً أن يبيع أو يشتري أو يؤجر ثم عزله، فإذا عزله انفسخت الوكالة.

    بطلان الوكالة بالحجر

    قال رحمه الله: [وحجر السفيه].

    أنتم تعلمون أن الوكالة تكون في الأموال وغير الأموال، فإذا كان الرجل الذي وكّل غيره -وهو الأصيل- من أهل التصرف في المال -وهو الرشيد- فإننا حينئذٍ نصحح الوكالة، لكن لو كان غير رشيد ومحجوراً عليه، فلا يصح أن يوكل غيره، ما الدليل؟ نقول: لأن المحجور عليه لا يصح تصرفه لنفسه، فمن باب أولى لا يصح أن يقيم غيره مقامه؛ لأنا قلنا: شرط الوكالة أن يكون الأصيل أهلاً للتصرف، فلا يستطيع أحد أن يوكل غيره وهو نفسه لا يجوز له أن يتصرف في الشيء، إذ يصير كما لو وكل في مال أجنبي، لو أن شخصاً قال لآخر: بع عمارة فلان، لم يصح؛ لأن عمارة فلان لفلان، وليس لأحد أن يتصرف فيها؛ لأنها ليست ملكاً إلا لصاحبها، قالوا: فإذا كان محجوراً عليه فليس بأهلٍ للتصرف، لا أصالةً ولا وكالةً.

    1.   

    الأسئلة

    حكم بيع اللحم معجلاً في صورة التأجيل

    السؤال: إذا دخلتُ على صاحب اللحم وقلت له: زِنْ لي كيلو من اللحم وسأعود بعد ساعةٍ وآخذ اللحم وأعطيك المال، فهل هذا البيع صحيح، أم هو من جنس بيع النسيئة بالنسيئة؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فإنه إذا دخل على صاحب المحل واتفق معه على البيع وأوجب البيع وتمت الصفقة فالبيع صحيح إذا توفرت فيه الشروط، وهذا البيع المذكور يعتبر صحيحاً من حيث الظاهر، إلا أن بعض العلماء يقول: يعتبر نسيئةً من الطرفين، إلا أنه من باب بيع العين بالذمة، العين وهو اللحم؛ لأنك قلت له: زِن لي من هذا اللحم نصف كيلو، فهذا بيع عين، بعشرةٍ، بخمسين، بمائة، هذا بيع ذمة، فأصبح ذمةً -وهو النقد- في مقابل عين -وهو اللحم- وهو بيع صحيح، أي: يجوز بيع العين بالذمة، إلا أن الإشكال فيه كما ورد في السؤال كونه يقول: بعد ساعة، فتعطيني بعد ساعة وأعطيك بعد ساعة، فهو لم يلتفت إلى كونه منجزاً من الطرفين؛ لأنه ليس بمؤجل الأجل المقصود، وإنما المراد به التنجيز، إلا أن التنجيز كان على العدة فأشبه بيع النسيئة، لكنه في الواقع ناجز من الطرفين، ويعتبر في حكم المنجز من الطرفين، وعلى هذا فالأشبه صحته، والله تعالى أعلم.

    حكم أداء العمرة عن النفس وعن المتوفى في سفرة واحدة

    السؤال: خرجت من سفرٍ إلى مكة لأداء عمرةٍ عن نفسي، فهل يمكن لي أن أؤدي عمرةً أخرى عن والدتي المتوفاة ولم تحج؟

    الجواب: هذا فيه تفصيل: إذا كنت خرجت من المدينة أو من مكانٍ خارج المواقيت وفي نيتك أن تعتمر عن نفسك وعن غيرك فيلزمك بعد فراغك من عمرتك عن نفسك أن ترجع إلى الميقات؛ لأنك مررت بالميقات وعندك نيتان، فيلزمك أن تحرم للنية الثانية كما يلزمك أن تحرم للنية الأولى من الميقات الأبعد.

    الحالة الثانية: أن تدخل معتمراً عن نفسك، فلما وصلت إلى مكة تذكرت والدتك أو والدك وأحببت أن تعتمر عن أحدهما أو عنهما، فيجوز لك أن تخرج إلى التنعيم وتحرم من التنعيم؛ لأنك أنشأت العمرة عن الغير بمكة، ومن أنشأ عمرته بمكة كان من أهلها لحديث عائشة رضي الله عنها، وظاهر حديث ابن عباس ، وحتى إن أهل مكة يهلون من مكة، والله تعالى أعلم.

    بالنسبة للوالدة يجوز أن يعتمر عنها سواء حجت أو لم تحج؛ لأنه لا يشترط في صحة العمرة عن الوالدة أو عن الوالد إذا كانت الوالدة متوفاة، أو كانت حية لا تستطيع أن تأتي بنفسها، فإذا كانت الوالدة أو الوالد أو من تريد أن تحج عنه وتعتمر لا يستطيع أن يأتي بالعمرة والحج بنفسه فيجوز حينئذٍ أن تعتمر عنه، سواءً تقدمت العمرة على الحج أو تأخرت العمرة عن الحج، يعني: لا يضر أن تعتمر عن الوالدة وهي لم تحج بعد، لكن لو كانت الوالدة قادرة على أن تأتي بنفسها فلا تحج عنها ولا تعتمر وإنما يحج ويعتمر عن العاجز، إلا ما وقع فيه الخلاف في المسألة في الحج عن الغير إذا كان نافلةً، والله تعالى أعلم.

    بطلان وكالة المحجور عليه لفلس

    السؤال: المحجور عليه لفلسٍ، هل له أن يوكل؟

    الجواب: المحجور عليه لفلس لا يصح أن يوكل في الأموال، وإنما ينتظر إلى زوال الحجر عنه.

    وقال بعض العلماء: يجوز ويصح للمفلس أن يوكل غيره للتصرف.

    والأشبه الأول لقوة الأصول الدالة على نزع التصرف في المال؛ لأنه لو أقام غيره مقامه فإن هذه الإقامة لا معنى لها؛ لأن هذا الغير لا يستطيع أن يتصرف، فأصبحت الوكالة لغواً، فإن صُححت ظاهراً أو شكلياً فهذا لا تأثير له في العقل؛ لأنه لا يستطيع أن يبيع ولا يستطيع أن يشتري، فيوكله بدون وكالة، فهو إذا قال له: وكلتك أن تبيع داري، فهو بنفسه لا يستطيع أن يبيع داره؛ لأنه محجور عليه للفلس، فهل هذا الوكيل سيبيع؟ بالإجماع لا يبيع، وإذا كان لا يبيع عنه فالوكالة وجودها وعدمها على حدٍ سواء، فالخلاف اللفظي لا تأثير له، والله تعالى أعلم.

    النهي عن السفر يوم الجمعة

    السؤال: هل النهي عن السفر في يوم الجمعة لأجل الصلاة أم هو عامٌ لليوم كله؟

    الجواب: هذه مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله:

    فبعض العلماء يقول: نُهي عن السفر يوم الجمعة حتى لا تضيع صلاة الجمعة، وبناءً على هذا القول: من كان مسافراً في الأصل كرجل سافر إلى مكة واعتمر، وأراد أن يرجع يجوز له أن يرجع في يوم الجمعة؛ لأن الجمعة ليست بواجبةٍ عليه أصلاً، وهكذا لو كانت امرأةً وأرادت أن تسافر فإنها تسافر؛ لأنها ليست من أهل الجمعة، فإذا قلنا: إن العلة هي صلاة الجمعة وخوف فواتها، فمن لا تلزمه الجمعة تتخلف فيه العلة، فيجوز له السفر بناءً على هذا القول، وبناءً على هذا القول يجوز له أن يسافر بعد صلاة الجمعة، فإذا صلى الجمعة جاز له السفر، وبعض أصحاب هذا القول قالوا: لو سافر يوم الجمعة وصلى الجمعة في حال سفره فإنه يجوز له ذلك ولا يشمله النهي.

    وأما القول الثاني فإنه يقول: النهي يشتمل على عدة علل منها: خاصية هذا اليوم وفضله، فيكون النهي أشبه بالعبادة، كأن يوم الجمعة يوم عيد للمسلمين وبناءً على ذلك فيه شعيرة فلا يخرج ولا يسافر وينتظر هذا اليوم حتى لا يُشغَل عن ذكر الله ولا يُشغل عن الطاعة، فإن المسافر تمحق بركة أيامه بالسفر:

    إياك والإكثار من أسفار فإنها تمحق بركة الأعمار

    فكثرة السفر تُذهب بركة الأيام وبركة الأعمار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب)، وأمر صلى الله عليه وسلم من سافر أن يعجل بالأوبة إذا قضى حاجته، ولذلك قال: (فإنه يمنع أحدكم نومه وشرابه)، فعلى هذا قالوا: إنه إذا سافر يوم الجمعة شُغِل عن ذكر الله، فالمسافر يكون مرهق البدن مُتعباً، فلا يستطيع أن يذكر الله عز وجل في هذا اليوم الذي سُن فيه الذكر خاصةً كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الفضائل التي تكون للحاضر، وعلى هذا القول فيشمل السفر في أول النهار وآخر النهار، والحقيقة ظاهر الحديث العموم، فلا يسافر يوم الجمعة سواءً كان من أهل الجمعة أو لم يكن، إعمالاً أن هذا أحوط وأبرأ للذمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فما نهيتكم عنه فانتهوا) فالنهي ظاهره العموم، والأولى والأشبه بالمسلم ألا يسافر يوم الجمعة إلا من ضرورة ملحة، وحاجة قصوى ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

    جواز الجمع بين المرأة وبنات عمتها وخالها وخالتها

    السؤال: هل يجوز الجمع بين المرأة وبنت عمتها، وكذلك بنت الخال والخالة أم أن الحكم يختص في الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها؟

    الجواب: هذه المسألة فيها نص وفيها اجتهاد، أما ظاهر القرآن فإن الله حرم الجمع بين المرأة وأختها، فقال تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، وكذلك حرمت السنة الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ولم يزد النص الوارد في الكتاب والسنة على هذه المحرمات، ثم جاء نص القرآن بقوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، فلما حرم لنا الجمع بين الأختين ثم جاءت السنة بزيادة المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال الله: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، أخذ من هذا جمهور العلماء جواز نكاح المرأة وبنت عمتها وبنت خالها وخالتها؛ لأن العمة والخالة ليست كبنت العمة وبنت الخالة، فالأمر أخف، وقطيعة الخالة ليست كقطيعة بنت الخالة، وقطيعة العمة ليست كقطيعة بنت العمة، ففرق بينهما من هذا الوجه، وهذا أقوى، وظاهر النص يدل عليه.

    وقال بعض العلماء: العلة خوف قطيعة الأرحام، فلا يجوز أن يجمع على وجهٍ يخشى منه وجود قطيعة الرحم، وهذا مذهبٌ مرجوح، والصحيح: أنه يجوز وقد قال الله عز وجل: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ) إلى أن قال: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ [الأحزاب:50]، فهذا نص: (وبنات عمك) ولم يفرق على سبيل الجمع وعلى سبيل التفريق خاصةً وأن آية التحريم جاء فيها: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، فالأصل الحل حتى يدل الدليل على التحريم، لكن ينبغي للمسلم أن ينظر بعيداً، فإذا كان بين بنتي العم شدة حزازية، أو أن هذا سيصبح له حزازة في النفوس وأثرٌ سيء في المستقبل على أعمامه وعماته وأخواله وخالاته فليتق الله، فإن هذا في بعض الأحيان قد يغلب على الظن حصول المفسدة، وحينئذٍ لا نحرم من أصل الجمع ولكن نحرم لعارض، ألا ترى المرأة الآن حلالٌ لك أن تنكحها وهي أجنبية ولكن إذا علمت أن في نكاحها مفسدة أو أنها تفسد الرجل على أمه، أو أنها تحدث الفتن بين الأخوات أو بين النساء، وأنها امرأة نمامة أو تنقل الحديث حرمنا نكاحها لأنه سيضر بالرحم، لا لذاتها وإنما للعارض، فنحن نقول: الجمع بين بنت العمة مع بنت العم لا بأس، وبنت العمة، مع بنت العمة وبنت العم مع بنت العم لا بأس، لكن بشرط أن لا يغلب على الظن حصول الضرر في القرابة، من أمثلة ذلك: أن تعلم أن أم بنت العم هذه وأم بنت العم الثانية كلتاهما شريرة -مثلاً- فإذا دخلت بنت هذه مع بنت هذه فهذا سيحدث ضرراً بين أم هذه وأم هذه، فهذه لا يمكن أن ترتاح حتى تحدث مفسدة، وهذه أيضاً لا يمكن أن ترتاح حتى تحدث مفسدة، فالناس يقدرون الأضرار والمفاسد والشرور المترتبة على مثل هذا النكاح، فيكون التحريم لعارض لا لذات الحكم، والله تعالى أعلم.

    مضاعفة الصلاة في الثلاثة المساجد عام في الفرض والنفل

    السؤال: على القول بأن الفضيلة في الصلاة في المسجد الحرام مختصة بمسجد الكعبة فأيهما أفضل: صلاة النافلة في المسجد الحرام أم في البيت؟

    الجواب: هذه المسألة اختلف فيها العلماء لورود حديثين:

    الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاةٌ في مسجدي هذا بألف صلاة إلا المسجد الحرام ..)، الحديث، فهذا الحديث يدل على أن الصلاة في المساجد الثلاثة مفضلة ومضاعفة، فجاء حديث آخر يعارضه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في قيام رمضان حينما صلى فأحيا الليلة الأولى والثانية، ثم امتنع من الخروج عليه الصلاة والسلام لما اجتمع الناس بعد ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (إنه لم يخفَ عليّ مكانكم بالأمس، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، فبعض العلماء يقول: الصلاة في المنزل نافلة أفضل من الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم من المساجد المفضلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، نخص المضاعفة في المساجد الثلاثة بالمكتوبة، فلا تشمل النوافل، فالنوافل الأفضل أن تكون في البيوت، هذا قول.

    القول الثاني يقول: إن الحديث قال: (صلاةٌ في مسجدي هذا)، وهذه نكرة، لم يقل: (صلاة فريضة)، ولم يقل: (صلاة مكتوبة)، فكل صلاةٍ شرعية يصدق عليها هذا الوصف بالعموم فتشمل النافلة والفريضة، قالوا: وإذا ثبت العموم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، قالوا: إن هذه فضيلةٌ من وجهٍ آخر، وهذا هو الصحيح، أن المضاعفة تشمل الفرائض والنوافل، وأن أفضلية البيت جاءت بلفظ؛ (فإن خير)، و(خير) بمعنى: أخير؛ لأن العرب تقول: خير وشر، بمعنى أفعل التفضيل، أخير وأشر، فتقول: محمد خيرٌ من علي، أي: محمد أخير من علي، ومنه قول أبي طالب :

    ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبياً كموسى خط في أول الكتب

    وأن عليه في العباد محبة ولا خير ممن خصه الله بالحب

    أصل التقدير: ولا أخير ممن خصه الله بالحب، فإذا أثبت أن: (خير) في لسان العرب بمعنى: أخير، فكأنها خيرية راجعةٌ إلى الإخلاص، فإن الرجل إذا صلى في بيته وجدناه يخلص أكثر، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (فإن خير)؛ لأن النافلة ليست بفريضة، فلو جلس يتركع في المسجد فإن هذا يحدث عند الناس شعوراً بصلاحه وتقواه وفضله، بخلاف ما إذا صلى الفريضة، فالكل يصلي الفريضة، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، أي: إنها من جهة الإخلاص وهذا راجعٌ إلى الباطن: (وصلاةٌ في مسجدي بألف صلاةٍ فيما سواه ..)، راجعٌ إلى ظاهر العدد، وشرط التعارض بين النصين عند الأصوليين: أن يتحد المورد، فالذي يترجح أنه ليس هناك تعارض بين الحديثين، وأن حديث: (إن خير صلاة المرء في بيته) راجعٌ إلى الإخلاص والنية، ويقول بعض العلماء: هناك خيرٌ ثانٍ وهو فضل الصلاة في البيوت؛ لأن البيوت إذا كثرت فيها الصلاة نزلت عليها البركة والخير، ويشهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعلٌ له من صلاته في بيته خيرا)؛ ولذلك كان بعض العلماء يوصي من كثرت عنده المشاكل الزوجية أن يكثر من الصلاة في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن الله جاعلٌ له من صلاته في بيته خيراً)، وكان بعض العلماء إذا اشتكى إليه الرجل بالفتنة بينه وبين زوجه يقول له: إنك لا تصلي في بيتك كثيراً، أنت تقتصر على الفرائض في المسجد والبيت أشبه بالبيت الخرب؛ لأنه لا يتلى فيه كتاب الله، ولا يصلى فيه، فتسلط عليه الشياطين وتكون الفتن فيه أكثر.

    فالذي يظهر: أن المضاعفة في المسجد الحرام ومسجد الكعبة والمسجد الأقصى أنها كما هي شاملةٌ للفرض والنفل، وأما البيت فهو أفضل من جهة الإخلاص والله تعالى أعلم.

    الحكمة من النهي عن التحلق يوم الجمعة

    السؤال: حديث النهي عن التحلّق يوم الجمعة، هل هو خاصٌ بالمسجد أم هو عامٌ في كل مكان حتى المنزل؟

    الجواب: هذا فيه تفصيل:

    بعض العلماء يقول: نُهي عن الحِلَق يوم الجمعة؛ لأنه يوم مخصوصٌ للخطبة، فالناس إذا جاءوا يوم الجمعة ولم يشهدوا إلا موعِظةً واحدة وتذكيراً واحداً وأتى الناس الذّكْر، وأقبلت على هذا الذّكْر، إذا لم تكن له من أول النهار إلى آخره إلا موعظة واحدة وعى وتأثر وهيأ نفسه للعمل، لكن إذا كان في أول النهار جالساً في حلقة وفي موعظة، ثم في المسجد من يعظ.. ثم بعده من يعظ..؛ فإنه في هذه الحالة تشتت أذهان الناس، والنفوس قد يصيبها الملل والسآمة ولذلك قال الصحابي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة)، فإذا كان هذا في الصحابة فمن باب أولى غيرهم.

    ومن هنا كره بعض العلماء أن يقوم الرجل بعد صلاة الجمعة ويلقي كلمة أو يعظ؛ لأن موعظة الإمام كافية في الأصل، وينبغي أن تترك الموعظة للإمام، لكن رخص بعض أهل العلم إذا كان الإمام ليس بذاك في العلم، وجاء رجل زائر أو ضيف وأحب أن يذكر الناس أو يعظهم فقالوا: لا بأس في هذا، لكن أن يكون بمجرد ما ينتهي الخطيب يقوم شخص موجود في الحي ويأتي بموعظة ثانية غير موعظة الخطيب، وقد يكرر ذلك المرة بعد المرة فهذا أشبه بالبدع والحدث، فيترك هذا اليوم لما شرعه الله عز وجل؛ لأن الإمام له حق، وإذا قام بعد الجمعة فكأنه يستدرك على الإمام، ولا بد أن تحفظ حرمة الأئمة، وأن يحفظ حقهم، خاصةً إذا كان الإمام من أهل العلم والفضل، فمثل هؤلاء حقهم على الناس عظيم، وعلى طلاب العلم وغيرهم، وعلى من دونهم في العلم والمرتبة، فالمقصود: أن الحِلق من هذا الوجه تكون مخصوصةً بحلق الذكر.

    الوجه الثاني: أنها عامة وتشمل حِلَق الذكْر وغيرها، وبناءً على هذا الوجه قالوا: كانوا في القديم يجلسون أبناء العم أو القبيلة أو الجماعة في ناحية وكانت هذه العادات موجودة في الجاهلية، كانوا إذا جلسوا يجلس كل جماعة إلى من يألفون وإلى من يجالسوه، فيكثر اللغط والحديث، فشرع في يوم الجمعة خاصة أن تقطع هذه الحِلق سواءً كانت في ذِكر أو كانت في الدنيا، وعلى هذا يكون النهي عاماً شاملاً لما قبل الصلاة وما بعدها، شاملاً للذكْر وغير الذكر على هذا الوجه الثاني، وظاهر الحديث يدل عليه، والله تعالى أعلم.

    وصية في لزوم الصبر على طلب العلم

    السؤال: هل من وصيةٍ حول الصبر على طلب العلم؟ وجزاكم الله خيرا.

    الجواب: الصبر خصلة جليلة كريمة لا يعطيها الله إلا لأحبابه، فالله يحب الصابرين ولا يعطيها إلا أولياءه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] ومن كان الله معه ثبته، وأعانه ووفقه وسدده، ولا يزال له من الله معينٌ وظهير، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبّره الله)، قال صلى الله عليه وسلم: (وما أُعطي عبدٌ عطاءً أفضل من الصبر)، وما يصبر الإنسان إلا بوازع من الرحمن وشعوره أن الله معه، وأن الله يثبته، وأن الله يوفقه ويسدده؛ ولذلك من قرأ كتاب الله وتدبر سيرة أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجد الصبر سبيلهم، والصبر طريقهم، والصبر نوراً لهم، فالصبر ضياء، ضياءٌ في كل ظلمة؛ ولذلك تجد عزائم المؤمنين قوية، وشكيمتهم قوية في الشدائد والمحن بفضل الله ثم بالصبر، فتضيق عليهم الأرض بما رحبت، وتضيق عليهم بما فيها، ولكن الله يوسعها بالصبر، فتجد الرجل الواحد في وحشته كأنه أبلغ ما يكون في أنسه، وتجده في شدته وفي كربته وحزنه وكأنه في قمة سعادته وفرحه كل ذلك بتصبير الله.

    ومن هنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)؛ لأن الصابر إذا صبر في تحصيل طاعة أو دفع كربة فإنه إنما يجعل الله نصب عينيه، فالله له عوضٌ عن كل فائت، والله سُلوةٌ له في كل حزن، وثبات له في كل قلق وكل أذية وبلية، فالصبر على طلب العلم صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ على مرضاة الله، والله أمرنا أن نصبر على طاعته، وخاصة نبي الأمة، وخير خلق الله، أحبهم إليه صلى الله عليه وسلم، وقال له: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، أمره أن يصبر ولا يأمر الله إلا بما فيه خير الدين والدنيا والآخرة، فطالب العلم أنعم الله عليه بشيءٍ هو أعز ما يطلب، وأشرف وأكرم وأفضل ما يرغب فيه ألا وهو العلم والحكمة، والنور والرحمة، والهدى والصراط المستقيم، وهل وجدت على هذه البسيطة وعلى هذه الأرض طالباً أشرف وأكرم على الله من طالب علم؟! فلن تجد مقاماً أفضل من مقام العلم طلباً وتعلماً وتعليماً وبذلاً وإعطاءً للغير، فالعلم رحمة، وإذا وفق الله طالب العلم وشعر بالذي يطلبه، وشعر بقيمة الشيء الذي يريده وأنه يخوض في رحمة الله، وأنه يسلك طريقاً إلى جنة الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، صدق وبر صلى الله عليه وسلم، وعد من الله، ما طلب طالب علمٍ مخلصٍ لوجه الله علماً مما يُبتغى به وجه الله إلا سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما وجدنا أفضل من عطاء الله للعلماء بعد الأنبياء، فهم بخير المنازل بعد الأنبياء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، فخليقٌ بمن أحس بقيمة العلم أن يصبر عليه، فقد صبر أهل المال على التجارة فتغربوا عن أوطانهم، وذاقوا شظف العيش وشدته ونكبته، ومذلة الحياة ومهانتها من أجل المال والدينار والدرهم، حتى إن الرجل إذا نظرت إليه كأنه يعبد ديناره ودرهمه -نسأل الله السلامة والعافية- فيحب من أجله، ويبغض من أجله، ويوالي فيه ويعادي فيه، ويكرم من أجله ويهين من أجله، حتى إن ابن عمه وقرابته الذي بينه وبينه لحمة النسب لربما دخل عليه وهو كبير في السن فلا يحترمه ولا يقدره لفقره، وإذا دخل عليه رجل -ولربما يكون من الكافرين- قام له وقبله وأجلسه وأكرمه؛ لأنه يعبد الدينار والدرهم، فيصل البعيد، ويقطع القريب من أجل الدنيا، والله عز وجل جعل الدين أعظم من هذا كله، فإذا كان أهل الباطل في هذه المودة والمحبة الصادقة للدنيا فو الله إن محبة أهل الدين أعظم، ومن عرف الله وأحبه صدق المحبة فليجعل العلم نصب عينيه، فمن تعب اليوم فإنه يرتاح غداً، ولذلك قال بعض السلف: (من كانت له بدايةٌ محرقة كانت له نهايةٌ مشرقة)، فأهل العلم لما تحملوا المشاق والمتاعب والمصائب، وعزفوا عن هذه الدنيا وأقبلوا على الآخرة إقبالاً صادقاً فتح الله لهم أبواب رحمته، وجعلهم يخوضون في هذه الرحمات بالعلوم النافعة والشافعة، وهي علوم الكتاب والسنة، وعلى هدي السلف الصالح وسلف الأمة، فأصبحوا يعيشون مع أقوام أموات وهم أحياءٌ بين الناس، وأصبحوا يعيشون مع: قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام، فلا إله إلا الله! لا يعلم مقدار ما لهم من الحسنات والدرجات في مضيهم إلى مجالس العلم، وحضورهم لمجالس العلم، وسماعهم للعلم، وتدوينهم للعلم، وحبهم للعلم وحرصهم على العلم إلا الله، وإذلالهم لأنفسهم من أجل هذا العلم، وكان حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه عبد الله بن عباس ينام على عتبة البيت، فيذلل نفسه للعلم حتى قال كلمته المشهورة: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً)، ذللت طالباً وأنا أطلب العلم حينما صبرت، ولا يمكن أن ينال هذه المرتبة الشريفة إلا من صبر للعلم، وأدى لهذا العلم حقه وحقوقه، وحفظ للعلماء الأحياء والأموات حقوقهم، وأحبهم من كل قلبه لله وفي الله، وأحس بكرامتهم التي أكرمهم الله بها حينما جعلهم يحملون رسالته، ويبلغون أمانته إلى العباد؛ فإن العلماء بمنزلة هي أعظم وأفضل وأشرف وأكرم منزلة على الله عز وجل، ولذلك قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69]، وهذه أعلى منزلة في الجنة، فليس فوق النبي منزلة لولي ولا لغيره، فأعلى منزلة مَنزلة الأنبياء، فقال الله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ثم بعدهم: وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69]، والصديقون: هم العلماء العاملون الذين علموا وعلّموا وعملوا بما علموا، فنفعهم الله ونفع بهم أولئك الذين شهد الله أنهم لا يخسرون، شهد الله من فوق سبع سماوات أن خلقه في خسارة إلا قومٌ استثناهم فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:3]، فهؤلاء الذين أصلحهم الله في أنفسهم وعملوا الصالحات، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، فهذا هو الإصلاح وتبليغ رسالة الله والدلالة على الخير والفلاح، هؤلاء هم صفوة الله، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، قال: هذا حبيب الله! هذا ولي الله! هذا صفوة الله من عباده، الذي علم وعمل ودعا إلى ما علم وعمل به. فإذا أراد الله عز وجل بطالب علم خيراً رزقه الأسباب التي تعينه على الصبر على هذا العلم، فالغاية الشريفة تحتاج من صاحبها أن يقدرها حق قدرها، وأن يتعب من أجل تحصيلها، فاصبر يصبرك الله، واسأل الله أن يعينك على هذا العلم، واعلموا -أيها الأحبة- أننا لو تأملنا حال السلف الصالح لاحتقرنا أنفسنا اليوم، فالرجل ما كان يحضر مجالس الذكر فقط، إنما كانوا يقرءون العلم قبل المجالس، فلا يمكن يشهد مجلساً حتى يقرأ ما فيه، إذا كان مما يُقرأ منه العلوم والأحاديث والأحكام يقرؤها المرة والمرتين والثلاث والأربع، وأعرف من طلاب العلم من لا يجلس مجلس علم حتى يقرأ ما يريد أن يسمعه من الشيخ ثلاث مرات، يقرأ قراءة متأنية متدبراً فيها، يحاول أن يعي هذا الكلام بشعوره بالمسئولية، وأن كل حرف سيسأل عنه وسيحاسب بين يدي الله، وأن هذا المجلس لا يتكرر.

    ثم يصبر مرةً ثانية على مجلس العلم فلربما جاءت أحكام غريبة، ولربما جاءت تفريعات كثيرة، فيصبر ويتحمل ففي اليوم الأول تحس أن بينك وبين العلم فجوة، وفي المجلس تحس بالفجوة، ثم اليوم الثاني يقربك ويقربك حتى يصبح أنساً لك من الوحشة ولذةً لك تنسيك كل لذة، فسلا أهل العلم عن لذة الدنيا بلذة العلم، والله إنهم في نزهة، وفي رحمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، هذا العلم نعمة عظيمة، فإذا صبرت وأنت في مجلس العلم صبرك الله وبلغت، ثم بعد مجلس العلم كانوا يكتبون ويدونون ويراجعون، ولربما يجلس في ليلته تلك يراجع ما سمعه إلى قرابة منتصف الليل، ولربما سهر الليل كله، رحمةُ الله عليهم أولئك القوم!

    أبو عبيد القاسم بن سلاّم رحمه الله قام مع أحد علمائه ومشايخه على باب المسجد وأراد أن يذاكره مسألة، فقام في ليلةٍ شاتية فسأله المسألة، ففتح له فروعها فأصبح من فرعٍ إلى فرع ومن مسألةٍ إلى مسألة حتى أذن الفجر ولا يشعر الشيخ ولا تلميذه! أناس كانوا يعطون العلم كليتهم وقالوا: (أعط العلم كلك يعطك بعضه)، فكيف بمن أعطى العلم بعضه؟! ومن صبر للعلم صبره الله وثبته، فوالله لن يموت حتى يقر الله عينه بالعاقبة الحميدة لما بذل، فالله الله لطالب العلم أن يصبر! وعليه أن يعلم أنه يعامل الله جل جلاله، وأن يحمد الله.

    ومما ينبغي التنبيه عليه: شكر الله على النعمة، فإن المجلس الذي تجلسه لن يعود أبداً، وهذا العلم الذي تعلمه في الجزئية تشرح من كتاب قد لا تشرح بعد اليوم،، وقد يكون هذا المجلس الذي تجلسه هو آخر عهدك إما بالشيخ وإما بالناس، فلا يدري الإنسان ربما يموت هو أو ربما يشغل عن العلم، فكم من إنسان كان يتمنى العلم حيل بينه وبين العلم! فجاءه من شواغل الدنيا وفتنها ما يصرفه -نسأل الله العافية- عن العلم وطلبه، فاحمد الله عز وجل على نعمته، واسع في تحصيل هذا العلم، وابذل كل ما تستطيع من حبه والصدق في روضته ولكن لله، لا تفعل ذلك رياءً ولا سمعةً ولا طلباً للدنيا، وإنما ابتغاءً لمرضاة الله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، ودائماً الإنسان يرجو من الله أفضل الأشياء، حتى لو كنت في مجلس العلم وأردت أن يصبرك الله على العلم فاجعل من نفسك أن تكون خير طالب في مجلس العلم وخير طالب إذا سمعت، وخير طالب إذا أنصت، دائماً تسمو إلى معالي الأمور، فإنك إذا سموت إلى معالي الأمور سمت همتك، وإذا سمت همتك قويت عزيمتك، وإذا قويت عزيمتك دام صبرك وقويت نفسك على الخير، وأصبح إلفاً لك لا تسأم ولا تمل، وإياك والضجر من العلم! فإن الله لا يمل حتى تملوا، فإن العلم أشرف من العبادة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)، فمن مل في العبادة فإنه يصرفه الله عز وجل عنها، ويحرم خيرها وبركتها، كذلك العلم إذا أردت أن تصبر عليه إياك والملل! ومما يصبرك على العلم شعورك بأن غيرك قد قضى هذا الوقت ربما في معصية ولربما في عقوق الوالدين، أو قطيعة رحم، أو حرمة ينتهكها، فقل: الحمد لله الذي بارك لي في وقتي، والحمد لله الذي شرفني بمجلسه، ودائماً اشكر الله على كل علمٍ تتعلمه، ولو سمعت كلمةً واحدة فاشكر الله وقل: الحمد لله الذي علمني ما لم أكن أعلم، اللهم لك الحمد، فمن عرف نعمة الله حري به أن يشكرها، وأن يقدرها حق قدرها، اللهم إنا نسألك لزوم طاعتك، والتوفيق لمرضاتك، ونسألك اللهم أن تجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهك الكريم، موجباً لرضوانك العظيم، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756360439