إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الخيار [8]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله عز وجل الخيار لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين، ومن ذلك أنه إذا اختلف العاقدان في عين المبيع، فإنهما يتحالفان ويترادان، ولكن قد يأبى كل من الخصمين أن يرد ما بيده، أو يكون الثمن غير حاضر في المجلس، أو يكون غائماً عن البلد، وغير ذلك. والفقهاء رحمهم الله قد فصلوا أحكام ذلك، وافترضوا خصومات وخلافات بين المتعاقدين، فاستخرجوا لها أحكاماً شرعية تحفظ الحقوق، وتنصف المظلوم. وهذه الأحكام ينبغي على المسلم أن يتعلمها حتى يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وكيف يتعامل المعاملة الصحيحة المطابقة للشرع.

    1.   

    الاختلاف في المبيع وصوره

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    الاختلاف في عين المبيع

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا وبطل البيع]:

    كان حديثنا في المجالس الماضية عن الأحكام المتعلقة بالخيار، وهذه الجملة التي بين فيها المصنف رحمه الله اختلافَ كل من البائع والمشتري، في عين المبيع، تعتبر من مسائل الخيار.

    ووجه دخولها في الخيار: أنك إذا قلت: اشتريتُ منك سلعة كذا، وقال البائع: بل اشتريتَ مني سلعة كذا؛ فإنه إذا اختلف المتبايعان في عين المبيع، فلا وجه لأن نُلْزِم البائع بأن يبذل شيئاً لم يقصده، ولا وجه أن نُلْزِم المشتري بأخذ شيءٍ لم يقصده.

    وحينئذٍ يكون الحكم كالآتي:

    أولاً: عندنا اختلاف في عين المبيع.

    ثانيا:ً عندنا التحالف.

    ثالثاً: عندنا الحكم بالفسخ، والتراد.

    فأما مسألة الاختلاف في عين المبيع كأن يقول البائع: بعتُك شيئاً وتقول: بل اشتريتُ شيئاً آخر، فلا تخلو هذه المسألة من صور:

    الصورة الأولى: أن يتفقا على الجنس ويختلفا في النوع.

    الصورة الثانية: أن يتفقا على النوع ويختلفا في العين.

    الصورة الثالثة: أن يختلفا في الجنس.

    مثال الصورة التي يختلف فيها الجنس: أن يقول البائع: بعتك سيارة، فهذا من المنقولات والمعدودات، ويقول المشتري: بل اشتريت طعاماً.

    ومن المعلوم أن جنس السيارات غير جنس الطعام، فاختلفا في جنسين غير متفقين.

    كذلك أيضاً ربما قال: بعتك عقاراً، وتقول: بل بعتني منقولاً، كأن يقول: بعتك أرضاً، وتقول: بل اشتريت سيارة، فهذا من الاختلاف في جنس المبيع.

    مثال الصورة التي يتفقا على الجنس ويختلفا في النوع، يكون -مثلاً- جنس البهائم، يختلفا في نوعه، فالبهيمة عندنا الإبل والبقر والغنم، فيقول: بعتني ناقة، ويقول: بل بعتك شاة، أو يقول: بعتني بقرة، فيقول: بل بعتك شاة، فيختلفا في نوع الجنس.

    وتارةً يتفقا على الجنس والنوع، فالجنس بهيمة، والنوع من الشياه، ويختلفا في تعيين الفرد من أفراد هذا النوع، فيقول: بعتني هذه الشاة، فيقول: بل بعتك تلك الشاة، فالجنس واحد، والنوع واحد، ولكن الخلاف في تحديد المراد أو عين المبيع.

    وربما يقع في العقار، فيتفقان في جنس العقارات يقول: بعتني الأرض التي رقمها مائة، ويقول: بل بعتك الأرض التي رقمها مائتان أو رقمها مائة وعشرة في المخطط، فهذا كله من الأمثلة القديمة والحديثة في ألا يتفقا على عين المبيع.

    وصورة المسألة تعود على أنهما لا يتفقان على شيء معين أنهما تبايعا عليه.

    أيضاً: إذا اختلفا إما أن يختلفا في ثمن المنقود المدفوع، فيستلم مثلاً البائع المال، ثم يأتي بالسلعة فيقول المشتري: هذه السلعة لم أتفق عليها معك. فقد حصل القبض بالثمن، وتعين الثمن.

    وتارة يقول له: هذه أرض في المخطط الفلاني في المكان الفلاني بمائة ألف، قال: قبلت، وتم البيع وأوجبا، ثم اختلفا، هل هي الرقم هذا، أو الرقم ذاك؟

    فإذاً: عندنا اختلاف في عين المبيع مع اتحاد الأجناس، وعندنا اختلاف الأنواع مع اختلاف الأجناس وعندنا اتحاد الأجناس والأنواع مع الاختلاف في تحديد العين والذات.

    هذه كلها تدخل في مسألة اختلاف المتبايعين، فإذا عرفنا صورة الخلاف، فنقول:

    ثانياً: ما الحكم؟

    الجواب: إن رضي أحدهما بقول الآخر، فلا إشكال، مثل:

    قال له: بعتك أرضاً، قال: بل بعتني سيارة، أو قال: بعتك مزرعتي قال: بل دفعت لك مائة ألف لقاء سيارتك هذه، قال: إذاً خذ السيارة بمائة ألف، أي: فما دمت لا تريد الأرض فخذ السيارة بمائة ألف، إذاً: فلا خلاف، وإذا اتفقا وارتفع الخلاف، فالحكم أنه يثبت البيع على ما اتفقا عليه.

    وأما إذا لم يتفقا، فيقول: اشتريت منك السيارة، فيقول: بل بعتك المزرعة، قال: إما أن تعطيني سيارتك على ما اتفقنا عليه، وأدين الله أنك تبايعت معي عليه، وإلا فأعطني مالي.

    فيصر المشتري على قوله، ويصر البائع على قوله، فحينئذٍ يلجأ إلى القاضي، ويلجأ إلى المفتي الفقيه، ويلجأ إلى الحكم الذي ينصب بين الطرفين لحل الاختلافات.

    الحكم المترتب على الاختلاف في عين المبيع

    قال رحمه الله: (تحالفا) أي: حلف البائع: والله ما بعتك أرضي أو مزرعتي الفلانية، وإنما بعتك سيارتي الفلانية، فيحلف على النفي والإثبات؛ لأن الطرفين متفقان على وجود بيع، ولكن الخلاف في تحديد المبيع.

    فإذاً: لا بد أن يحلف على إثبات شيء ونفي ما أثبته خصمه، والخصم يحلف على نفي ما أثبته البائع، وإثبات ما يدعيه هو.

    فيبدأ البائع ثم المشتري، على خلاف بين العلماء رحمهم الله.

    وبعد التحالف يقع عندنا الآتي:

    إذا حلف البائع وحلف المشتري، كل منهما حلف على النفي والإثبات تعارضت البينتان، فلا تستطيع أن تلزمني أنا المشتري، بما حلفت عليه، ولا أستطيع أن ألزمك بما حلفت، فإذاً يمينك تسقط يميني، ويميني تسقط يمينك، ودعواك تسقط دعواي، وكلا القولين يسقط، فنرجع إلى الأصل فنرد لكل ذي حق حقه، هذا بالنسبة لصورة المسألة.

    إذاً: حينما حصل عندنا ثلاثة أمور:

    أولاً: أن يقع الخلاف بين الطرفين فلا يتفقان، بجميع الصور التي ذكرناها.

    ثانياً: الحكم أنهما يتحالفان بالنفي والإثبات على الترتيب الذي ذكرناه، يحلف البائع لأنه يلزم المشتري، ثم بعد ذلك المشتري يحلف بالنفي والإثبات.

    فإذا حلف البائع والمشتري جاءت المرحلة الثالثة وهي الحكم بفسخ البيع، ثم يترتب على ذلك الأمر الرابع، وهو رد المبيع ثمناً ومثمناً.

    إذاً: عندنا الشيء الأول: وقوع الخلاف وهو أن يختلفا في عين المبيع، وقد يختلفا في قدر الثمن وصنفه، فهذا نوع ذكرناه وبيناه؛ لكن الخلاف هنا في عين المبيع، فكأن المسألة هنا أصعب؛ لأنك تثبت بيعاً، لا يسلم خصمك به، فأولاً: يقع الخلاف.

    ثانياً: يتحالفان.

    ثالثاً: إذا حلف البائع أو حلف المشتري حكمنا بانفساخ البيع، فلا يثبت بيع هذا، ولا يثبت بيع هذا.

    رابعاً: يترادان، فهذه أربعة أمور لا بد من ضبطها.

    فإذاً: وقوع الاختلاف بصوره التي ذكرناها، ثم يتحالفان إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، وهذا الحلف -كما سبق وأن بيناه- يسمى يمين التهم، ثم يحكم بفسخ البيع، ثم يترادان.

    وهذا من عدل الله بين عباده، فإن فسخ البيع بينهما عدل بين قول البائع والمشتري، ثم لماذا نحكم بفسخ البيع؟ لأنك إذا قلت: إن البيع منفسخ يترتب عليه آثار، فالسلعة بنتاجها وما عليها تعود إلى البائع، والثمن يعود بكامله إلى المشتري، فلا يثبت بيع على هذا لقول هذا، ولا العكس.

    قال رحمه الله: [تحالفا، وبطل البيع]:

    أي: تحالف الطرفان، وهذا سبق وسماه العلماء يمين التهم، ويمين التهم لها أصل في آية الشهادة على الوصية في السفر.

    [وبطل البيع]:

    هذا هو الحكم الثالث.

    إذا اختلفا في عين المبيع ورفضا تسليم ما في أيديهما والثمن عين

    قال رحمه الله: [وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض، والثمن عين، نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن]:

    قوله: (وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده)

    أي: إذا اختلفا في عين المبيع تحالفا، وحكمنا بفسخ البيع، وبقي وجوب رد الثمن والمثمن، وإذا حكمت بوجوب رد الثمن والمثمن، لا يخلو المتعاقدان من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يتفقا وتكون مسألة رد الثمن والمثمن سهلة ويسيرة ويتراضيان ويرد كل منهما للآخر، بأن يثق كل منهما بالآخر، يقول: يا فلان أعطني مالي، وقال الآخر: إذاً أعطني ساعتي أو قلمي... إلخ، فيترادان، فلا إشكال في هذا.

    لكن المشكلة في بعض الأشياء المبيعة التي يقع عليها التنازع، ولا يثق أحد الطرفين بالآخر، وقد يثق لكن يخشى جريان الحكم بالفلس، فلا يتصور الطالب أن مسائل الفقه تقف عند الريال والريالين، بل قد تصل إلى ملايين، فالشريعة كما أنها تحتاط للملايين تحتاط للريال الواحد.

    فهي تريد أن تعطي كل ذي حق حقه، فلو جئنا إلى مسألة رد الثمن والمثمن، فالثمن قد يكون مبالغ طائلة، قد يتفقان على بيع أرض في مخطط، قيمتها مليون ريال، فيستلم البائع المليون، ثم ينقله إلى أرض أخرى، ويدعي أنه باعه أرضاً أخرى، فإذاً المبلغ ليس باليسير.

    ففي هذه الحالة، لو تأخرت يوماً واحداً ربما حكم بالحجر على صاحبك الذي تتعامل معه، فتكون أسوة الغرماء.

    فالأمر ليس بالسهل، في مسألة رد الحقوق، وخاصة في القديم لما كان الناس يتشددون في الأحكام، وكانوا يسألون عن كل مسألة صغيرة وكبيرة في المعاملات، يقف الأمر على رد الحقوق لأصحابها في الأعيان، وفي الذمم.

    ونحن سبق وأن ذكرنا أن المبيعات إما أن تكون عيناً، وإما أن تكون في الذمة، وقلنا: العين أن تقول: بعتك هذا القلم، بهذه المائة، فهذا باع عيناً بعين.

    فإذا قلت: بعتك هذا القلم بمائة، صار البيع عيناً بذمة.

    وإذا قال له: بقلم من نوع كذا، فمعناه أنه موصوف في الذمة، والتزم في ذمته أن يدفع قلماً موصوفاً بهذه الصفات.

    وهكذا لو قال: بعتك هذا القلم بعشرة، فإذا قال: بعشرة، فهو موصوف في الذمة، لكن إذا قال: بهذه العشرة صارت معينة.

    أي أنه إذا قال لك: بعتك هذا القلم بهذه العشرة، فمعناه أن الحق تعلق بالعشرة بعينها.

    وانظر إلى عدل الشريعة، ودقة الفقهاء رحمهم الله، حتى في الثمن الذي دفعه، إذا كان عيناً لا بد أن ترد نفس العشرة، إن كانت برأسها برأسها وإن كانت كما يقول العلماء: (تفاريق) رد (التفاريق) وإن كانت جملة ردها جملة، فهنا -مثلاً- لو أنه قال له: بعتك، واختلفا في عين المبيع، فأردنا أن نعطي البائع المثمن، ونعطي المشتري الثمن، فلا يخلو المتعاقدان من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يتفقا ويرد كل منهما للآخر وقلنا: لا إشكال في هذه المسألة وهي أن يرد لكل منهما حقه.

    الحالة الثانية: أن يصر أحدهم فيقول: ادفع أولاً، فيقول الآخر: بل أنت ادفع لي أولاً، أو قال: أنا لا أعطيه ولا أثق في فلان بعد أن دلس عليّ في بيعي، فيتهمه بالخيانة، والآخر أيضاً يتهم المشتري بالخيانة فلا يثق كل منهما بالآخر.

    فمن دقة الفقهاء أن ذكروا هذه المسألة، فقالوا: ينصب عدل، وتنصيب العدل أن يختار القاضي أو يختاران رجلاً عدلاً؛ فهذا الرجل يقف بينهما وينصف كلاً منهما من الآخر، فيأخذ من البائع ويأخذ من المشتري.

    لكن هنا مسألة مهمة وهي مسألة الثمن، قال المصنف: [والثمن عين] أي: فهناك فرق بين كون الثمن عيناً وبين كون الثمن موصوفاً في الذمة.

    فمثال كون الثمن عيناً: قوله: بهذه المائة، بهذه العشرة، بهذه الألف، بهذه الخمسمائة، فالثمن عيناً هنا عين، فيجب رده بعينه.

    فحينئذٍ عندنا مسألة دقيقة وهي مسألة الاستحقاق في العين والذمة، وهي مسألة تحتاج إلى مدخل لكي يتصور طالب العلم، لماذا نص المصنف على مسألة (عين)؛ لأن هذه الكلمة من ورائها مغزى فقهي، وهو أن الحقوق التي في الذمة أخف من الحقوق المعينة، بدليل أنك لو جئت بمثال للقلم أو ببديل عن القلم في الحقوق المعينة، لم يجز حتى تعلم القلم بعينه، لو قال: أبيعك هذا القلم، وتفاسختما وجب عليك أن ترد عين القلم، ولا ترد مثله.

    ولو باعك كتاباً بعينه وجب رد عين الكتاب.

    وقد ذكرنا هذه المسألة حينما ذكرنا صور البيع: العين بالعين، والذمة بالذمة، والعين بالذمة.

    لكن الذي نحب أن ننبه عليه هنا مسألة الاستحقاق في العين والذمة، وعندنا حديث يحتاج أن نتأمله وننظر إلى معانيه والأحكام والمسائل الموجودة فيه، والحديث ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) نريد أن نصور هذا الحديث حتى نعرف لماذا استنبط العلماء هذا الحكم الدقيق، وهو أن الحقوق العينية مقدمة على الحقوق في الذمم.

    الحديث يقول: (من وجد متاعه بعينه) مثاله: عندنا رجل تاجر دخل في تجارته بمليون، ثم انتكست تجارته، وخسر، فأصبحت التجارة الموجودة عنده بنصف مليون، فمعناه أن ديونه أكثر من رأس ماله، وإذا زادت الديون على رأس مال التاجر واشتكاه غرماؤه وهم أصحاب الحقوق، حكم القاضي بالحجر عليه، وهذا ما يسمى بالحجر على المفلس.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم قضى بالحجر على المفلس كما في حديث معاذ رضي الله عنه، الذي أصله من حيث الإجمال متفق عليه.

    فلو فرضنا أن النصف المليون الموجودة عنده تقوم على شيئين اثنين: عمارة قيمتها مائتان وخمسون ألفاً، وسيولة أو تجارات أخرى قيمتها مائتان وخمسون ألفاً، لكن العمارة أخذها منك، والعمارة اشتراها منك، فهذا المفلس إذا كان دينه مليوناً، والذين يسألون الدين أربعة أشخاص لكل شخص ربع مليون، فالأربعة الأشخاص يستحقون النصف مليون الموجودة، فمن حيث القسمة الشرعية تقسم النصف مليون الموجودة على أربعة أقسام، ويعطى كل غريم قدر حصته من الدين الأساسي، فالذي له نصف الدين يأخذ ربع المليون، والذي له الثمن يأخذ الثمن، والذي له الثمن الآخر يأخذ الثمن الباقي.

    إذاً: إذا عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالحجر على المفلس، وأنه يجب عليه رد الحقوق إلى الغرماء، وبين أن من كان له عين المتاع، كصاحب العمارة فإنه يأخذ العمارة بعينها، ويلاحظ أنه إذا أخذ العمارة كان أفضل له من أن يدخل شريكاً للغرماء الباقين، فانظر كيف فضل النبي صلى الله عليه وسلم من كان له حق عيني على من له حق في الذمة.

    ومن هنا نص العلماء على هذا، وذكروا أن مسألة الحقوق العينية مقدمة على الحقوق في الذمة، فعرفنا لماذا قال المصنف: [والثمن عين]؛ لأنه إذا كان الثمن عيناً، قابل المعين من المبيعات، وحينئذٍ لا بد أن يقبض العيني حتى يقبض ما يقابله من المبيع ويدفع لكل حقه.

    وبهذا تقرر أن الحقوق العينية مستحقة ومقدمة على التي في الذمة، فإذا كان الثمن عيناً، والمثمن المبيع مختصاً فيه ولم يتعين، هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا.

    فإذا حكمنا بالرد؛ فإنه يرد السؤال: أننا لو نصبنا رجلاً عدلاً يأخذ من الطرفين، فكيف يكون العدل بين الخصمين؟

    بحث العلماء مسألة كيف يأخذ العدل؟ قالوا: يأخذ من الطرفين معاً؛ لأن الحقوق متساوية، وهذا اختاره غير واحد من أصحاب الإمام أحمد كـابن حمدان ، كما أشار إليه البعلي رحمه الله في المبدع، أنه يأخذ منهما معاً من باب العدل بين الطرفين.

    قوله: [نصب عدل يقبض منهما، ويسلم المبيع ثم الثمن]:

    فالعدل ينصبه القاضي؛ لأنهما إذا اختلفا في عين المبيع، وأردنا أن نحكم بالفسخ، فلا بد أن نرد لكل ذي حق حقه، فإذا اختلفا، فقال كل منهما: لا أرد فلا بد للقاضي أن يفصل، والقاضي لو جاء بنفسه يستلم من هذا ويعطي هذا، نكون قد أشغلنا القاضي عن قضاياه وأشغلناه عما هو أهم، وأشغلناه عن أمر يمكن للغير أن يقوم به، فينصب القاضي العدل؛ لأن هناك أشياء لا يمكن إحضارها إلى مجلس القضاء، فإنهم إذا اختلفوا في ثمن في بيوع المقايظة فدفع أحدهما للآخر -مثلاً- طناً من نحاس والآخر دفع له طناً من حديد، فيصعب أن يحضرونها إلى مجلس القاضي، أو يذهب القاضي ويخرج معهما لكي يسلم لهذا حقه وهذا حقه.

    فلذلك قال العلماء: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فالواجب العدل بين الخصمين، ولا يتأتى للقاضي أن يخرج بنفسه في غالب الأحوال لانشغاله بما هو أهم، فحينئذٍ ينصب العدل، فهذا وجه ما نص عليه العلماء رحمهم الله من تنصيب العدل، فهو من القاعدة المعروفة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما وجب العدل بينهما، بالقبض منهما معا،ً وتسليمهما إبراءً للذمة، وجب تنصيب العدل من هذا الوجه.

    إذا اختلف المتبايعان والثمن موجود في المجلس

    قال رحمه الله: [وإن كان ديناً حالاً أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس]:

    [وإن كان ديناً حالاً، أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس] في بعض الأحيان يتعامل الطرفان بالدين الحال الذي هو الموصوف في الذمة، يقول: أشتريها منك بمائة ألف، فهذا بيع ذمة.

    فإذا كان الثمن موصوفاً في الذمة، فهل تساوى الطرفان من حيث الحق والعين أو تفاوتا؟

    الجواب: تفاوتا، فبعض العلماء يرى أن الدنانير والدراهم والنقود تتعين بالتعيين، وهذه مسألة قد تأتي في الصرف إن شاء الله.

    فعلى هذا الوجه لو قلنا إن الدين حال، بمعنى أنه أعطاه في المجلس، فهو موجود عند البائع في المجلس [أجبر بائع ثم أجبر مشترٍ] أي: على التسليم، بخلاف الصورة الأولى، لتفاوت الحقين؛ لأنه هنا حق عيني وذمي، وفي الصورة الأولى تساويا معاً.

    إذا اختلفا والثمن غائب

    قال رحمه الله: [وإن كان غائباً في البلد حجر عليه في المبيع، وبقية ماله حتى يحضره]

    هذه المسألة كثيراً ما تقع في حال ما إذا أعطاه مثلاً مليون ريال.

    لو فرضنا أنه باعه بمائة ألف ريال، فقال له: بعتك سيارة من نوع كذا وكذا بمائة ألف، أو سيارتي هذه بمائة ألف، فقال: قبلت، فهذا الثمن في الذمة، فإذا أعطاه إياه، فأخذ البائع المائة ألف، ثم بعد ذلك اختلفا، هل هذه هي السيارة التي تعاقدا عليها أو غيرها، وحكمنا بالفسخ بين الطرفين، يصبح الثمن في هذه الحالة موصوفاً في الذمة، فيحتاج البائع الذي باع السيارة إلى أن يحضر الثمن من خارج البلد؛ لأن الثمن ليس موجوداً عنده حتى يتم فسخ البيع بصورته الكاملة، فيحتاج أن يسافر، ونحن لا نضمن أنه سيعود، أو لربما يحجر عليه أثناء السفر أو يأتيه عارض، أو يسرق منه المال، فإنه يحجر عليه أولاً في المبيع، فلا يتصرف فيه؛ لأنه هو المالك الحقيقي؛ فلا يتصرف في المبيع.

    فيحجر عليه في المبيع ويحجر عليه في أمواله، والسبب في هذا ما ذكرناه: أنه يخشى أن يدخل عليه الحكم بالفلس، والحجر بالفلس سيتضرر به صاحب الحق لتأخر حقه عنه، فهذا وجه ما نص عليه العلماء رحمهم الله من مسألة الحجر؛ ليتبين أنه ليس من باب الظلم، إنما من باب رد الحقوق لأهلها، فإن هذا الرجل لو سافر ربما غاب عنك غيبة طويلة، وهذا يضر بك، فنقول: كما أضر بك في حقوقك فجزاؤه أن يتضرر فيحجر عليه في ماله.

    والتلاعب قد يوجد بين التجار، فحينما تحجر عليه في جميع ماله، فإنه في اليوم الثاني سيضع المال عند القاضي، وقد حدث في بعض القضايا أنه امتنع رجل غني ثري من إعطاء عامل حقه، وجلس عنده ثلاث سنوات يكدح بعرق جبينه حتى أصبح ماله ثلاثين ألفاً، فادعى أنه مفلس، فأصبح يشتغل بثمانمائة ريال كذباً من باب الغش، ورفعت القضية إلى أحد القضاة الموفقين وهو الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله عليه، وتبين له الأمر جلياً، وأن الرجل كذاب ومخادع.

    وكان هذا الرجل الضعيف العامل الذي تضرر ليس عنده بينة ولا شهود، فقال له القاضي: إن شئت أن تحلف اليمين فإني أقبلها منك، ولكن ليس لك في ذلك خير، قال: أحلف اليمين، قال: إذاً: لا تحلف اليمين، وكتب إلى المسئول: أن هذا الرجل كذاب مماطل، وثبت عندي بالتحري أنه كذاب مماطل، والذي أرى أن يحجر عليه في جميع ماله، حتى يؤدي لهذا الرجل حقه، فقد عمل عنده ثلاث سنوات وهو غريب عن أهله، وهو الآن في أشد ما يكون من العناء. وذكر الشيخ عنه أنه كان يغمس كسرة الخبز اليابسة في (الشاهي) حتى لا ينفق من ماله الذي يكتنزه عند الرجل مؤتمناً عليه.

    فشاء الله أنه حجر عليه في يوم الأربعاء، ثم كتب إلى المسئول أن هذا الرجل يمنع حتى من زيارة الغير له، فكما آذى الناس يؤذى، فما جاء يوم السبت إلا والثلاثون ألفاً موضوعة على طاولة الشيخ كاملة، فمثل هذه الأمور لابد من الحجر فيها، والقضاء ما نصب إلا من أجل الفصل بين الناس.

    فحينما ينص الفقهاء رحمهم الله على الحجر فهو مما رأوا من خلال تجاربهم في القضاء والفتاوى، فهذه المتون خرجت من تجربة وخرجت من معاناة؛ لأنه ممكن أن يأتي شخص ويتعامل معك في قطعة أرض يبيعها لك بمليونين، ثم بعد أن يستلم منك المبلغ، يقول: ما بعتك هذه الأرض وإنما بعتك أرضاً أخرى، فتختصما إلى القاضي، فيقوم القاضي بطلب كل منكما أن يدفع، فيماطلك ويؤخرك ويستفيد منها شهوراً وربما دهوراً ثم يدفعها لك بعد ذلك، فأنت تستضر بهذا، لكن حينما يحجر عليه في ماله، ويحجر عليه في مبيعه، كما أضر بغيره أو أراد الإضرار بغيره، فإنه يسلم الحق ويندفع الضرر عن غيره.

    ولذلك لم يكن نص العلماء على الحجر من فراغ، وإنما نصوا عليه لوجود الاستحقاق، وهو استحقاق الأذى بالتضرر بالتأخر، وعلى هذا يشرع أن يحجر عليه كما يحجر على غيره.

    والحجر في اللغة: المنع، يقال: حجر عليه إذا منعه، ومنه قوله تعالى : وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:22] حينما كانوا يجعلون بينهم وبين القرآن مانعاً من أن يستجيبوا له، وكذلك قوله تعالى : وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:53] أي: حائلاً يحول بينهما، ويمنع من دخول أحدهما على الآخر، فالمقصود أن الحجر المنع.

    وأما في الاصطلاح: فهو منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي في المال، وبعض العلماء يعرفه بتعريف أدق، ويقول: الحجر في الاصطلاح: المنع من التصرفات المالية، وهذا أنسب.

    قال رحمه الله: [وإن كان غائباً بعيداً عنها، والمشتري معسر، فللبائع الفسخ]:

    هذه كما ذكرنا يقال له: لك الفسخ، أي: أنت بالخيار إن شئت انتظرت وإن شئت فسخت البيع، فإن قال: أريد الفسخ، فحينئذٍ يفسخ، وإن قال: أنتظره فذلك به.

    فوجه إدخال هذه المسألة في باب الخيار، أنه يترك له الخيار إن شاء أن يمضي الصفقة وإن شاء ألغاها، والأمر إليه.

    1.   

    خيار الصفة

    قال رحمه الله: [ويثبت الخيار للخلف في الصفة، ولتغير ما تقدمت رؤيته]:

    هذه المسألة يقصد منها إثبات خيار الصفة، فيثبت الخيار لاختلاف الصفة، وهذا النوع الأخير يسمى خيار الاختلاف في الصفة، وبعض العلماء يسميه خيار الصفة، وهو أنسب.

    وخيار الصفة يقع في نوع خاص من البيوع، وهو الذي يسمى ببيع الغائب.

    وبيع الغائب: كأن تأتي إلى رجل ويقول لك: عندي أرض، أو عندي سيارة، أو عندي طعام، وهذه الأشياء غير موجودة في مجلس العقد، ومعنى ذلك أن البيع سيقوم بينك وبينه على الصفة، وأصح أقوال العلماء: أنه يصح بيع الغائب، وهو مذهب الجمهور من حيث الجملة.

    فإنه قد وقع بين عثمان وطلحة رضي الله عن الجميع، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة.

    فإذا باعك رجل شيئاً غائباً -كما يقع الآن في بيع المخططات- ووصفه لك بوصف معين، فيكون لك الخيار عند الرؤية فتنظر في هذا المبيع، فإن طابقت الصفة المبيع، لزمك البيع وإن اختلفت فأنت بالخيار بين الإمضاء وبين الإلغاء.

    إذاً: صورة المسألة تقع في بيع الغائب عند من يقول بصحة بيع الغائب، ولذلك فالذين لا يرون صحة بيع الغائب لا يقع عندهم خيار بيع الصفة، وهم الشافعية رحمهم الله ومن وافقهم.

    ويخالف الحنفية فيقولون: لك الخيار مطلقاً سواء اتفقت الصفة أو لم تتفق، وهذا ضعيف، والصحيح مذهب المالكية والحنابلة، أنه يلزمك البيع إن طابقت الصفة المبيع، ولا خيار لك.

    لكن لو جئت فوجدت الصفة مختلفة، فلك الخيار، إن شئت رضيت بالموجود، وإن شئت أبطلت البيع ورددت الثمن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756180078