إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب صفة الحج والعمرة [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعد فراغه من رميه لجمرة العقبة يوم النحر أنه نحر، ثم حلق رأسه عليه الصلاة والسلام، ثم أفاض إلى مكة وطاف بالبيت طواف الإفاضة؛ فلابد من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في ترتيب مناسك الحج الواجبة والمستحبة، ولقد بين عليه الصلاة والسلام وقت كل منسك، وقال: (خذوا عني مناسككم).

    1.   

    بيان ما ينبغي على الحاج يوم النحر بعد فراغه من أعمال منى

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ثم يفيض إلى مكة].

    شرع رحمه الله في هذا الفصل ببيان ما ينبغي على الحاج يوم النحر بعد فراغه من رميه لجمرة العقبة، وقد كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه: أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة نحر ثلاثة وستين بدنة؛ والسبب في ذلك: أنه كان قارناً الحج والعمرة، ثم إنه عليه الصلاة والسلام بعد أن نحر حلق رأسه، ثم نزل فطاف طواف الإفاضة.

    قوله: (ثم يفيض) الإفاضة: أصلها الكثرة، وفاض الخبر إذا شاع وانتشر، وفاض الوادي إذا سال بالماء الكثير، ويسمى هذا الطواف: بطواف الإفاضة، ويسمى: طواف الزيارة، ويسمى: طواف الركن، ويسمى: الطواف الواجب، ويسمى: طواف الصَدَر، بفتح الصاد والدال، كلها أسماء لهذا الطواف، وهذا الطواف يعتبر ركناً من أركان الحج، والأصل في وجوب هذا الطواف وركنيته قوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] ، فأمر الله سبحانه وتعالى بهذا الطواف، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه ركن من أركان الحج، إلا أن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله يعبر عنه بالواجب، أما فرضيته ولزومه فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.

    ومعنى قوله: (ثم يفيض) أي: يذهب إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة.

    1.   

    حكم طواف الإفاضة بالنسبة للمفرد والقارن

    [ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة].

    قوله: (ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة) القارن والمفرد أفعالهما واحدة خلافاً للمتمتع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة : (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) وكانت متمتعة في الحج، فمن أفراد الحج فإنه يطوف بنية الركنية، وكذلك من قرن حجه مع العمرة فإنه أيضاً يطوف بنية الركنية، وأما بالنسبة للمتمتع فإنه قد سبقه الطواف والسعي؛ لأنه يتحلل بالعمرة. وطواف الإفاضة بالنسبة للمفرد والقارن يكون على صورتين:

    الصورة الأولى: أن يكون المفرد قد قدم إلى مكة وطاف قبل يوم عرفة، وحينئذٍ يكون الطواف الذي يفعله يوم العيد طوافاً عن حجه، ولا يلزمه أن يرمل ولا أن يضطبع؛ وذلك لأنه قد حيا البيت ورمل واضطبع في طواف القدوم الأول.

    الصورة الثانية: إن كان المفرد إنما قدم إلى عرفة مباشرة أو قدم إلى منى مباشرة ولم يكن قد طاف، فقال جمع من أهل العلم: إنه يرمل في طواف الإفاضة ويضطبع؛ لأن طوافه حينئذٍ يصبح عن الإفاضة وعن القدوم كأنه تحية للبيت.

    والمفرد والقارن تقدم ضابطهما، فهما يطوفان طواف الإفاضة بنية الركن؛ والسبب في ذلك أن الطواف عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، ومن طاف بالبيت ولم ينو أنه طواف ركن عن إفاضته فإنه لا يجزيه عن الإفاضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فدل هذا الحديث على أن من نوى الشيء كان له، ومن لم ينوه لم يكن له، فمن نوى الإفاضة كان إفاضة ومن لم ينوه لا يقع عن إفاضته.

    1.   

    بيان وقت طواف الإفاضة من حيث الابتداء والانتهاء والأفضلية

    [وأول وقته بعد نصف ليلة النحر]

    أي: أن أول وقت طواف الإفاضة بعد نصف ليلة النحر، هذا هو أحد قولي العلماء، واحتجوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها: (أنها دفعت من مزدلفة بعد منتصف الليل، ثم رمت جمرة العقبة، ونزلت وطافت وزارت البيت)، ولكن هذا الحديث حديث ضعيف، والذين قالوا: إن طواف الإفاضة يبتدئ من منتصف الليل احتجوا بهذا الحديث، واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة أن يدفعوا بعد منتصف الليل، ففهموا أن الإذن بالدفع بعد منتصف الليل، يستلزم الإذن بالطواف بعد منتصف الليل، وهذا القول خالفه جمع من العلماء وقالوا: إن طواف الإفاضة مختص بيوم النحر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف الإفاضة يوم النحر، ووقع فعله بياناً لواجب، وبناء على ذلك قالوا: لا يجزي أن يوقعه ليلة النحر، وإنما يبتدئ بطلوع فجر يوم النحر، وهذا القول الثاني أقرب إلى السنة وأقوى من جهة الدليل، خاصة وأن حديث أم سلمة فيه ما ذكرنا من الضعف الذي لا يقوى معه على الاحتجاج.

    بالنسبة لطواف الإفاضة هناك وقت أفضلية، وهناك وقت ابتداء، وهناك وقت انتهاء.

    أما وقت طواف الإفاضة فالسنة والأفضل والأكمل أن توقعه بعد طلوع الشمس وقبل زوالها من يوم النحر؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإن وقع طواف الإفاضة بعد الزوال فقد وافق وقت الجواز ولم يوافق وقت الأفضلية، هذا بالنسبة لوقت الأفضلية.

    أما وقت الابتداء ففيه قولان مشهوران:

    القول الأول: أنه يبتدئ من منتصف الليل وفيه ما فيه.

    القول الثاني: يبتدئ بطلوع الفجر من يوم النحر على ظاهر السنة الواردة عن رسول صلى الله عليه وسلم من طوافه يوم النحر.

    أقوال العلماء في تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر

    يبقى السؤال: ما هو الزمان الذي يجوز للحاج أن يؤخر طواف الإفاضة إليه؟

    قال بعض العلماء: إنه لا يؤخر طواف الإفاضة عن أيام التشريق، وإن أخره عن أيام التشريق كره له ذلك. ثم اختلفوا، قال بعض الذين يكرهون ذلك: إن أخره عن أيام التشريق لغير عذر فإنه يلزمه دم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر، وكانت أيام التشريق بمثابة الزمان المعتبر لإيقاع طواف الإفاضة، فإن تأخر عنها فإنه يلزمه دم؛ لأن أفعال الحج تتم بأيام التشريق.

    وقال بعض العلماء: لا يلزمه دم حتى ينتهي شهر ذي الحجة؛ لأن الله تعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كاملة، ففائدة التعبير بالجمع في قوله: (أشهر) يدل على أن آخر ما يقع فيه هذا الركن إنما هو شهر ذي الحجة، وهذا هو أقوى الأقوال، وأن ما وراء ذي الحجة فيه الدم؛ جبراناً للواجب الذي تركه وقصَّر فيه إذا لم يكن له عذر.

    أما إذا كان عند الإنسان عذر في تأخير طواف الإفاضة، كأن تكون المرأة حائضاً أو نفساءَ فأخرت طواف الإفاضة عن يوم النحر إلى أيام التشريق، أو أخرته عن أيام التشريق إلى آخر ذي الحجة، أو أخرته عن ذي الحجة لعذر، فإنه لا يجب عليها شيء، ويلزمها أن تطوف طواف الإفاضة بمجرد طهرها.

    ويبقى السؤال: لو أن الإنسان أدى مناسك الحج كاملة، ولكنه رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة، فما الحكم؟

    الجواب: أنه ليس لطواف الإفاضة من الزمان حد ينتهي إليه، بل قالوا: إن لم يطف طواف الإفاضة يبقى في ذمته ولو إلى آخر عمره، فلو عاد ولو بعد خمسين سنة فإنه يلزمه أن يطوف طواف الإفاضة، ويبقى في ذمته؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وأمر سبحانه بإتمام الحج، وهذا ركن من أركان الحج فيلزمه أن يوقع هذا الطواف وتبقى ذمته مشغولة بطواف الإفاضة ولو إلى سنوات، هذا بالنسبة لمن أخر طواف الإفاضة، وهذا هو الذي جعل العلماء يقولون: تبقى الذمة مشغولة به ولو إلى آخر العمر. أي: أنه لا بد له من أن يوقعه وأن يأتي به على وجهه.

    أفضلية الطواف للإفاضة يوم النحر

    [ويسن في يومه وله تأخيره]

    أي: ويسن له فعل الطواف يوم النحر؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والخير كل الخير في التأسي به صلوات الله وسلامه عليه، والخير في إيقاع أفعال الحج وأقواله على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحرص المسلم على أنه يوم النحر يوقع أفعال النحر مرتبة كما أوقعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل ويؤدي طواف الإفاضة على الهدي الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة به، فذلك هو الخير كله، فيسن للمسلم أن يحرص عليه، أما جواز التأخير ففيه ما فيه من التفصيل الذي ذكرناه.

    1.   

    السعي بعد طواف الإفاضة للقارن والمفرد والمتمتع الذي لم يسع

    [ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم]

    قوله: (ثم يسعى بين الصفا والمروة)، وهذا السعي ركن إذا كان الإنسان مفرداً، فالمفرد كما لا يخفى عليه سعي، وهو سعي عن حجه، فإذا كان قد جاء إلى منى أو إلى عرفات مباشرة، فمعنى ذلك: أنه لم يؤد ركن السعي، فإذا طاف طواف الإفاضة أوقع السعي بعد الطواف؛ لأن السعي لا يصح إلا بعد الطواف، فيلزمه بعد فراغه من طواف الإفاضة أن يمضي إلى الصفا والمروة ويؤدي سعي الحج إن كان مفرداً، وإن كان قارناً ولم يكن سعى قبل فحينئذٍ يسعى سعيه، ويكون السعي للقارن على هذا الوجه عن حجه وعمرته، وهكذا إذا كان متمتعاً فإن المتمتع إذا قدم بعمرته وأدى العمرة وتحلل منها، فإنه يلزمه أن يسعى سعياً آخر لحجه، وهذا السعي الآخر للحج يوقعه بعد طواف الإفاضة، حتى يقع سعيه بعد الطواف معتبراً.

    1.   

    حقيقة التحلل الأول والثاني وما يباح فيهما

    [ثم قد حل له كل شيء].

    قوله: (ثم قد حل له كل شيء) وهذا يسمى: بالتحلل الثاني، فالحج له تحللان: تحلل أول، وتحلل ثان، أما التحلل الأول فللعلماء فيه تفصيل:

    فمنهم من يقول: التحلل الأول يقع بمجرد رميه لجمرة العقبة، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا رميتم جمرة العقبة فقد حللتم). وقال بعض العلماء: إذا رمى أو حلق مع الرمي أو طاف فقد تحلل التحلل الأول. والتحلل الثاني إن كان قد طاف. فيقع تحلله بواحد من هذه الثلاث، وليس للنحر عند أصحاب هذا القول دخل، فلا يرون أن النحر مؤثر في التحلل، فإما أن يرمي ويحلق، وإما أن يرمي ويطوف، وعلى هذا قالوا: التحلل الأول يقع بالرمي مع الحلق، أو يقع بالرمي مع الطواف، وإذا رمى وطاف فقد تحلل التحلل الأول والثاني، هذا مذهب طائفة من العلماء، واختاره أئمة الشافعية والحنابلة رحمهم الله.

    والفرق بين التحلل الأول والثاني فالعلماء متفقون كلهم ومجمعون على أنه إذا تحلل التحلل الأول أنه لا يحل له وطء النساء. واختلفوا إذا تحلل التحلل الأول ما الذي يباح له بهذا التحلل؟

    فقال جمع من العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء، ثم اختلفوا على قولين: فقال بعضهم: يحل له كل شيء إلا وطء النساء، فيجوز له أن يقبل، ويجوز له أن يباشر، ويجوز له أن يعقد النكاح، ويجوز للمرأة أن تزوج -تنكح وتُنكح- ولكن لا يقع الوطء. هذا الوجه الأول، واحتجوا بحديث صفية رضي الله عنها وهو ثابت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد منها يوم النحر ما يريد الرجل من امرأته، فقيل: يا رسول الله! إنها حائض؟ فقال: أحابستنا هي؟ ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذنْ) قالوا: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد منها ما يريد الرجل من امرأته، وهذا المراد به مقدمات الجماع وليس المراد به الجماع، ولكن الصحيح أنه يحل له كل شيء إلا النساء خاصة، وحديث السنن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) ، فإن هذا الحديث قد جود إسناده غير واحد من أهل العلم وهو يدل على أن مسألة النساء عامة، فتشمل مقدمات النكاح وتشمل كذلك الوطء.

    هناك خلاف بالنسبة للقول الثاني في مسألة التحلل، قال بعض العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء وقتل الصيد، فأضافوا إلى النساء الصيد كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، فإذا تحلل التحلل الثاني حل له الجميع، والصحيح المذهب الأول، خاصة وأن السنة قوية في دلالتها على حلّ كل شيء إلا النساء، هذا بالنسبة للتحلل الأول والتحلل الثاني، ومن الأدلة الصريحة على أن التحلل ينقسم إلى هذين القسمين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب بعد رميه لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه -يعني: في الميقات- ، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) فلما قالت: (لحرمه قبل أن يطوف بالبيت) دل على أن محظور الطيب يرتفع برميه عليه الصلاة والسلام لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، وأنه لا يلزم في التحلل الأول أن يطوف بالبيت لظاهر هذه السنة الصحيحة.

    1.   

    ماء زمزم لما شرب له

    [ثم يشرب من ماء زمزم لما أحب، ويتضلع منه ويدعو بما ورد]

    قوله: (ثم يشرب من ماء زمزم)، وهذه سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما فرغ من طواف الإفاضة أتى سقاية العباس رضي الله عنه وأرضاه، وشرب منها بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه. قال العلماء: في هذا دليل على أن من طاف طواف الإفاضة فالسنة له أن يشرب من ماء زمزم.

    قوله: (لما أحب) أي: من خيري الدنيا والآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث -وصححه غير واحد من العلماء-: (ماء زمزم لما شرب له) ، وقد اشتهر هذا الحديث عند العلماء رحمهم الله، حتى قال بعض أهل العلم: إن التجربة دلت على صحته فمن شربه للعلم آتاه الله العلم، وقال الإمام أبو بكر بن العربي المفسر المشهور: شربت زمزم وسألت الله العلم وندمت أني لم أسأله مع العلم العمل. وقال بعض السلف: اللهم إنه قد جاء عن نبيك صلى الله عليه وسلم أن ماء زمزم لما شرب له اللهم إني أشربه لظمأ يوم الآخرة.

    فزمزم ماء له فضل وشرف بثبوت الأخبار والأدلة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يحب هذا الماء، وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الهدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى واليه بمكة عتاب بن أسيد ، ويأمره أن يوقر البعير بماء زمزم ويبعثه إليه بالمدينة صلوات الله وسلامه عليه.

    وقال جمع من العلماء: إن لهذا الماء مزية وفضلاً، حتى إنه عرف بالتجربة أنه يقوي القلب، مع ما فيه من فضائل من كونه: (لما شرب له) ولذلك كان بعض الأطباء يوصي به لضعيف القلب أن يشرب منه؛ لما جعل الله فيه من الخير والبركة.

    ومن الأدلة التي تدل على أنه: (لما شرب له) ما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه أنه لما آذاه المشركون واختبأ تحت ستار الكعبة كان يشرب زمزم وكان يستطعم به من الجوع حتى سمن رضي الله عنه وأرضاه فكان له طعام طعم كما قال عليه الصلاة والسلام: (وما يدريك أنه طعام طعم)، فماء زمزم ماء مبارك، ويشربه الإنسان وينوي به الخير، ونص العلماء والأئمة رحمهم الله على ذلك، وبثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) ، ويحرص الإنسان على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من طواف الإفاضة، بأن يأتي إلى ماء زمزم ويشرب منه، خاصة وأنه تيسر في هذا الزمان سهولة الشرب منه والارتواء منه، فيتضلع منه ويسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة.

    الدعاء عند شرب ماء زمزم

    (ويدعو بما ورد).

    لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء مخصوص لزمزم، وكان ابن عباس يسأل الله فيقول: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء. فكان يسأل الله عز وجل هذا، والأمر في هذا واسع أن يسأل الإنسان من خيري الدنيا والآخرة.

    1.   

    وجوب المبيت بمنى

    [ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال]

    ثم بعد انتهائه من طوف الإفاضة وسعيه، يرجع إلى منى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى منى يوم النحر، واختلفت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل صلى الظهر بمكة، أو صلاها بمنى؟

    وفي هذه المسألة خلاف مشهور، وأقوى ما ثبت حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى)، والرواية بصلاته بمنى أقوى، وعليه فيرجح القول بأنه صلى بمنى، وما ورد من الروايات بصلاته بمكة أجاب جمع من العلماء: بأن الرواية بكونه صلى بمنى اعتضدت بروايات أخر، حتى صارت الشهادة كاملة، بخلاف رواية جابر أنه صلى بمكة.

    وثانياً: أن حديث الصلاة بمكة يحمل على الإذن، أي: استؤذن عليه الصلاة والسلام فأذن بالصلاة بمكة، ولذلك قالوا: الأفضل والأكمل أن يصلي الظهر بمنى.

    وقال بعض السلف رحمهم الله: إذا كان يوم النحر موافقاً ليوم الجمعة، فإن الأفضل له أن يمضي إلى منى ويصلي الظهر بمنى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وهي أفضل من الجمعة؛ لمكان الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    [فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخيف بسبع حصيات].

    يبيت بمنى ليلة الحادي عشر، والمبيت واجب، وهو مذهب جمهور العلماء، خلافاً لأصحاب الإمام أبي حنيفة حيث قالوا: إن المبيت ليس بواجب.

    والصحيح: مذهب الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية) وقوله: (رخص) يدل دلالة واضحة على أن الأصل عزيمة؛ لأن التعبير بالرخصة يدل على أنها استباحة للمحظور، فدل على أن المبيت بغير منى للحاج محظور عليه من حيث الأصل، فيجب عليه أن يبيت بمنى ليالي التشريق، ثم إذا وجد عنده العذر من اشتغاله بمصالح الحجاج العامة، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم السقي والرعي، فحينئذٍ يجوز له أن يترخص، وأما من عدا هؤلاء فإنه يجب عليهم المبيت بمنى؛ لأن السنة واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بات بمنى، وقد وقع فعله بياناً للواجب، والقاعدة: أن الفعل إذا وقع بياناً لواجب فهو واجب.

    فاجتمع هذان الدليلان القولي والفعلي، القولي: بالرخصة للعباس ، والفعلي: بمبيته صلوات الله وسلامه عليه بمنى.

    1.   

    بيان وقت رمي الجمار وضرورة ترتيبها وأحكامها

    إذا أصبح اليوم الحادي عشر فالسنة أن ينتظر إلى الزوال، كما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر حتى زالت الشمس، فابتدأ بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات مثل حصى الخذف)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (لما فرغ من رميها تياسر قليلاً واستبطن من جهة الوادي ودعا صلوات الله وسلامه عليه وسأل الله من فضله وقام قياماً طويلاً) حتى جاء في حديث ابن مسعود وغيره: (أنه يقارب سورة البقرة) ، فوقف عليه الصلاة والسلام ودعا بعد رميه الصغرى، وأطال الدعاء وسؤال الله من فضله، ثم انطلق إلى الجمرة الوسطى ورماها بسبع حصيات أيضاً، ثم وقف ودعا ورفع يديه واستقبل القبلة عليه الصلاة والسلام، وأطال في دعائه أيضاً، ثم مضى إلى جمرة العقبة ورماها بسبع حصيات من بطن الوادي، ولم يقف بعدها وإنما انصرف صلوات الله وسلامه عليه، هذا بالنسبة لأفعال اليوم الحادي عشر:

    أولاً: بات ليلة الحادي عشر بمنى.

    ثانياً: أنه انتظر إلى زوال الشمس من يوم الحادي عشر.

    ثالثاً: أنه رمى الجمرات الثلاث.

    رابعاً: أنه رتب هذا الرمي وابتدأ بالصغرى قبل الوسطى، وبالوسطى قبل الكبرى، وعلى هذا فإنه لا يجوز له أن يرمي قبل الزوال؛ وذلك لأنها عبادة مؤقتة، والعبادات المؤقتة لا تصح قبل زمانها إلا بدليل شرعي، كما في الجمع بين الصلاتين إذا قدمت الثانية في وقت الأولى، ومن هنا نجد العلماء والفقهاء رحمهم الله حينما ذكروا الرمي قبل الزوال قالوا: لا يصح الرمي قبل الزوال كما لا تصح صلاة الظهر قبل الزوال، بجامع كون كلٍ منهما عبادة مؤقتة، فالرمي عبادة مؤقتة، وصلاة الظهر عبادة مؤقتة،كما أنه لا يجوز للمسلم أن يعتدي على الشرع بمجاوزته لهذا التأقيت بالسبق، فيصلي الظهر قبل زوال الشمس، أو يصلي المغرب قبل غروب الشمس، فإنه لا يجوز له أيضاً أن يعتدي على الشرع فيرمي قبل هذا الوقت المحدد المعين، وعلى هذا فإنه لا يجزيه الرمي قبل الزوال.

    وحكم الرمي قبل الزوال يطّرد في الثلاثة الأيام: اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر لمن لم يتعجل، وأما ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: (إذا انتفخ النهار من اليوم الثالث عشر فارم) ، فيجاب عن هذا الحديث سنداً ومتناً:

    أولاً: من جهة السند: فإن الحديث الذي دل على وجود الرمي بعد الزوال من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح وأثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وثانياً: من جهة المتن: فإن قوله: (انتفخ) فإن النهار لا يوصف بكونه منتفخاً، والشيء لا تصفه بكونه قد أخذ حظه إلا إذا جاوز النصف بحيث يصدق عليه أنه دخل في الكمال، وعلى هذا فإنه لا يصدق على النهار أنه قد استتم على الوجه المعتبر إلا من بعد الزوال، فكأن ابن عباس يريد أن يؤكد السنة التي وردت في هديه عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فإن القول الأخير بالرخصة أنه يجوز الرمي قبل الزوال قول مرجوح، والسنة على خلافه.

    وهنا ننبه على مسألة مهمة وهي: أننا إذا قلنا للناس: اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وارموا بعد الزوال في اليوم الأخير، وهو يوم النفر الأخير، تجدهم يقولون: إن الزمان قد تغيّر، وإن الناس يحطم بعضهم بعضاً، وكذا وكذا، وحينئذٍ يكون الجواب: إن هذه عبادات توقيفية، وأن مقصود الشرع من الحج هذا الزحام الذي تراه، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة : (يا رسول الله! هل على النساء جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) ، فكأن الشرع قصد أن يقف الناس على هذا الوجه، وأن يجتهد المسلم، وأن يجد العناء والمشقة، حتى يأتي الغني والفقير، والرفيع والوضيع، والجليل والحقير، فيجد الزحام، ويحتك بإخوانه، فتجد الذي لا يعاشر الناس ولا يخالط الناس كالغني والثري يدخل في زحمة الناس وحطمة الناس، وهذا يدفعه وهذا يهينه، فيحس بلذة العبادة، ويشعر بقيمة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

    فالمقصود من هذه العبادة: وجود المشقة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليهن جهاد)، والجهاد بذل الجهد والوسع والطاقة، فالحج بمثابة الجهاد، وليس المراد من ذلك أن نكلف الناس ما لا يطيقون، بل إن هذا الزحام وهذه المشقة إذا تأملتها فهي مقدور عليها، وليست بمشقة -والحمد لله- لا يقدر عليها، إنما الخطأ ليس في التشريع، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له، فكثير من الذين يحبون التوسعة على الناس، ولو على حساب النصوص تجدهم يقولون: إن هذا فيه أذية للناس وفيه ضرر وفيه وفيه، نقول لهم: ليس الخطأ في التشريع، وينبغي أن يفرق بين حكم الله وبين أعمال الناس، وطريقة أداء الناس للشعائر، وقيامهم بالمناسك، فإنك لو تأملت هذه العبادة، ولو أن كل مسلم حافظ على حرمة أخيه المسلم، ودخل لرميه أو طوافه أو سعيه متأدباً بآداب الإسلام، محافظاً على حقوق المسلمين، فإنك لا ترى إلا الخير، ولا ترى ما يسوء المسلم أو يؤذيه، ولكن الخطأ في أفعال الناس، وإذا أخطأ الناس في أفعالهم فإن هذا لا يدعونا إلى إلغاء شرع الله، أو التقديم لما حقه التأخير، أو التأخير لما حقه التقديم.

    فمسائل الفتوى في العبادات توقيفية، إلا فيما فتح الشرع فيه الاجتهاد، فمواقيت الرمي مواقيت تعبدية، وينبغي للمسلم أن يعلم أنه إذا قيل له: إن الاجتهاد يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، أن تقول في جواب هذا: إن الاجتهاد يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة فيما هو محل للاجتهاد، أما العبادات التوقيفية والتي ورد الشرع فيها بالإلزام بزمان معين، أو مكان معين فإنه لا يجوز للمسلم أن يقدم على تغيير هذه الصورة المعينة إلا بدليل توقيفي، فكما أنها ثبتت بالدليل التوقيفي لا يجوز تغييرها إلا بدليل توقيفي، وعلى هذا فإننا نقول: لا نستدرك على الله في شرعه، والله أمرنا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والتأسي به، وقد ثبتت السنة عنه عليه الصلاة والسلام أنه رمى بعد الزوال في اليوم الثالث وهو يوم التعجل، فإننا لا نرخص للناس ولا نرى وجهاً للترخيص بجواز الرمي قبل الزوال؛ لأن السنة صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت بياناً لهذه العبادة الواجبة، والقاعدة في الأصول: أن بيان الواجب يعتبر واجباً.

    وعلى هذا نخلص إلى أن الرمي يعتبر من واجبات الحج، وهذا الرمي يدخل فيه يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وينبغي على المسلم أن يراعي الزمان، وأن يراعي الترتيب، فلا يرمي الوسطى قبل الصغرى، ولا يرمي الكبرى قبل الوسطى والصغرى، ولو أن إنساناً رمى الجمرة الكبرى ثم الوسطى ثم الصغرى فإنه يقع رميه عن الصغرى ويلزمه أن يعيد الوسطى ثم يرمي بعدها الكبرى؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع الرمي مرتباً، قال جمهور العلماء: ومعنى ذلك: أنه لا يصح رميه للثانية إلا بعد فراغ ذمته من الأولى، ولا يصح رميه للثالثة وهي الكبرى إلى بعد فراغ ذمته من الوسطى وهي الثانية، فينبغي الترتيب وإيقاع الرمي على هذه الصفة المرتبة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك لو ابتدأ بالوسطى ثم رمى الكبرى ثم رجع للصغرى، فإن الحكم نفسه؛ يصح رميه للصغرى، ولا يصح رميه للوسطى ولا للكبرى، وعلى ذلك فإنه يلزمه أن يرتب على هذه الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجزي رمي الجمرة إذا كانت مرتبة عن ما قبلها إلا بعد إبراء الذمة برمي التي قبلها؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع الرمي على هذه الصفة.

    جعل الجمرتين الصغرى والوسطى عن يساره بعد رميهما عند الدعاء

    [ويجعلها عن يساره، ويتأخر قليلاً ويدعو طويلاً ثم الوسطى مثلها]

    قوله: (ويجعلها عن يساره) يجعل الجمرة عن يساره، أي: إذا أراد الدعاء ينحرف ذات اليسار، ثم قال بعض العلماء: يسهل، يعني: يكون إلى جهة السهل، وهذا قِبَلَ البناء وقِبَلَ البيوت، فيكون السهل ومجرى الوادي متياسراً عنك، فالسنة بعد فراغك من رميك للصغرى أن تمشي كأنك ماض إلى الوسطى وتأخذ ذات اليسار قليلاً، هذا هو الذي يعبر عنه العلماء: بالإسهال، ويعبر العلماء عنه أيضاً: بأخذ ذات اليسار بعد الرمي.

    عدم الوقوف عند جمرة العقبة بعد رميها من بطن الوادي

    [ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها ]

    جمرة العقبة سبق وأن ذكرنا أن لها موضعاً مخصوصاً من الرمي وهو بطن الوادي؛ والسبب في ذلك أن جمرة العقبة كانت في حضن الجبل، وعلى هذا لم يكن لها موضع للرمي إلا جهة واحدة، وهذه الجهة المعينة وهي نصف الحوض هي التي يقع فيها الرمي، فلو رماها من غير هذه الجهة قالوا: إنه إذا وقع حصاه خارجاً عن هذا النصف لم يجزه، ولابد من التقيد بهذا القدر الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محل الرمي؛ لأن العبرة في الرمي بالحوض، فإذا كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف الحوض بهذه الصفة فمعناه: أن البقية من الحوض والباقي من جهة الجبل ليس بمحل للرمي، فلو وقعت فيه الحصاة فقد وقعت خارجاً عن محل الرمي، ولذلك لا يجزي أن يرميها إلا من هذا الموضع، لكن قال بعض العلماء في القديم -قبل أن يزال الجبل-: إنه لو رقى الجبل ورماها من الجبل ووقعت حصاته بالجبل فإنه يجزيه، وهو قول طائفة من العلماء؛ لأن الرمي قد وقع، والعبرة بالرمي، وعلى هذا تبرأ ذمته بالإيقاع داخل الحوض، سواء كان من بطن الوادي وهو أفضل، أو كان من على الجبل وهو خلاف السنة، ولكن الأحوط والأفضل أن الإنسان يتحرى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم برميها من بطن الوادي ويكون مستقبل القبلة على الصفة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ لثبوت الخبر عنه عليه الصلاة والسلام في رميه يوم العيد وبقية أيام التشريق على هذا الوجه المعين.

    قوله: (ولا يقف عندها).

    أي: ولا يقف عند جمرة العقبة بإجماع العلماء، ولذلك بعض العلماء يقول: إنما يشرع الوقوف بعد الرمي إذا كان بعده رمي، وعلى هذا فالجمرة الصغرى إذا رماها فإنه يقف عندها؛ لأن بعدها رمياً وهو رمي الوسطى فيشرع له الوقوف، والجمرة الوسطى إذا رماها فإنه يقف عندها؛ لأن بعدها رمياً وهو رمي جمرة العقبة فيشرع الوقوف، وجمرة العقبة ليس بعدها رمي وإنما يكون بعدها فراغ من نسك الرمي، سواء في يوم العيد أو أيام التشريق، فلا يشرع الوقوف بعد رميها.

    مشروعية استقبال القبلة عند رمي الجمار

    [يفعل هذا في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال مستقبل القبلة مرتباً]

    قوله: (يفعل هذا) أي: يفعل هذا الفعل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، مرتباً إياه على الصفة التي ذكرناها؛ لأن السنة وقعت بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب.

    حكم جمع الرمي إلى اليوم الثاني أو الثالث

    [وإن رماه كله في الثالث أجزأه]

    وإن رمى الجمرات كلها في الثالث أجزأه، استدلوا برخصته عليه الصلاة والسلام للرعاة والسقاة أن يجمعوا رمي اليومين في اليوم الثاني، وكذلك أن يجمعوا رمي اليومين الأخيرين في اليوم الأخير، قالوا: فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالجمع دل على أن الوقت يتداخل، وأنه يجوز أن يجمع، ولكن هذا على سبيل العذر دون غير المعذور كما يقول جمهور العلماء، وعلى هذا فلا يجوز للمسلم أن يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بترك الرمي ليوم الحادي عشر أو اليوم الثاني عشر، ويجمع الرمي دفعة واحدة، وإنما عليه أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوقع الرمي في الأيام الثلاثة، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وجوب النية في الرمي مع الترتيب وجواز التوكيل فيه

    [ويرتبه بنيته].

    ويرتب الرمي بالنية؛ لأن الرمي عبادة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)؛ والرمي عمل تعبدي ولا يصح إلا بنية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، فلابد وأن ينويه، وإذا كان وكيلاً عن الغير في الرمي كأن يكون مريضاً، ويكون الإنسان مثلاً عاجزاً كالمشلول، أو يكون مريض القلب الذي لا يمكنه أن يدخل في زحام ليرمي، أو مجروح اليد على وجهٍ لا يمكنه الرمي، فإن هؤلاء يوكلون، وهكذا الحطمة من الناس، الذين يغلب على الظن أنهم لو دخلوا في الزحام لماتوا، أو لتضرروا ضرراً لا يمكن الصبر عليه، أو تلحق بهم مشقة فادحة بحيث لا يكلفون بمثلها، فهؤلاء إذا وكلوا الغير فإنه يشترط في الوكيل أن يكون حاجاً، فلا يصح الرمي وكالة ممن لم يحج، فلو أخذ الحصى وقال لرجل: ارم عني، وكان هذا الرجل غير حاج فإنه لا يجزيه؛ لأن هذه العبادات لا تصح إلا من الحاج، بل لابد وأن يكون متلبساً بالنسك، فإذا كان متلبساً بالنسك وأراد أن يرمي يبدأ رمي الثلاث الجمرات عن نفسه أولاً؛ حتى تبرأ ذمته عن الرمي كاملاً، ثم يرجع ويرمي عن موكله الجمرات الثلاث، سواء كان واحداً أو أكثر من واحد، فلا بأس أن يتوكل عن واحد فأكثر، ولا بأس أن يتوكل الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، على الأصل الذي ذكرناه في باب الوكالة في الحج.

    حكم تأخير الرمي وعدم المبيت بمنى

    [فإن أخره عنه أو لم يبت بها فعليه دم]

    أي: إن أخر الرمي عن اليوم الثالث الأخير، أو لم يبت بمنى، الباء للظرفية، بمعنى: في منى؛ لأن من معاني الباء الظرفية، فتقول: محمد بالبيت، أي: في البيت، أي: في داخله.

    والمبيت بمنى ذكرنا أنه واجب، وحينئذٍ ينبغي أن يكون مبيته داخل حدود منى، ومنى حدها كما لا يخفى من جمرة العقبة إلى وادي محسر، وجمرة العقبة على أصح الأقوال لا تدخل في حدود منى؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه كان يأمر بطرد الناس وإدخالهم إلى منى، فمن وجدوه عند جمرة العقبة وبعدها أمروه أن يدخل إلى منى. أما وادي محسر ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله:

    - فمن يقول باتصال المشعرين مزدلفة ومنى يرى أن وادي محسر من منى.

    - ومن لا يرى الاتصال يراه فاصلاً، وأنه مكان غضب وسخط، ولذلك حرك عليه الصلاة والسلام دابته -كما ثبت في الحديث الصحيح- حينما دفع من مزدلفة إلى منى عندما مر بهذا الوادي.

    وأما بالنسبة للجهة الشرقية إلى الجنوب، والغربية إلى الشمال فيكتنف منى جبلان: أحدهما يسمى: جبل ثبير، والثاني يسمى جبل الصانع، وهذان الجبلان قد أجمع العلماء على أن ما أقبل منهما من منى وما أدبر منهما ليس من منى، والحد بالقمم، فقمم الجبال هي الفاصل، فإذا كان على القمة فهو على الشبهة، وإنما يكون دون القمة، يعني: دون منتصف الجبل من قمته، فما كان من هذا فما دون فإنه من منى، وما كان من القمة وما وراءها فإنه يعتبر خارجاً عن منى، ولا بد أن يتحقق المبيت بكل الليل أو بأكثر الليل، وأما إذا كان جزءاً من الليل فللعلماء فيه خلاف مشهور:

    قال بعض العلماء: من اضطجع ونام بمنى ولو سويعات فقد بات بها.

    وقال بعض العلماء: إن المبيت يتحقق بالثلث فأكثر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) .

    وإذا قلنا: أكثر الليل، فللعلماء وجهان في ضابط الليل:

    قال بعض أهل العلم: تحسب من غروب الشمس إلى طلوعها، ثم تقسم على اثنين، وتضيف الناتج إلى ساعة الغروب، فلو كان غروب الشمس في السابعة وطلوع الشمس في السادسة، فهذه إحدى عشرة ساعة، تقسمها على اثنين فتصير خمس ساعات ونصفاً، تضيفها إلى سبع، فيكون منتصف الليل حينئذٍ عند الساعة الثانية عشرة والنصف، هذا بالنسبة لنصف الليل الأول، ثم ما بعد ذلك إذا كان قد دخل إلى حدود منى قبل الساعة الثانية عشرة والنصف، فإنه يكون قد بات بمنى أكثر الليل، وأما إذا كان بعد الثانية عشر والنصف أو في الثانية عشرة والنصف فإنه لم يتحقق المبيت أكثر الليل.

    وقال بعض العلماء: يحسب أكثر الليل من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، وهو أذان الفجر، فيرون أنه من مغيب الشمس، فإذا كان المغيب على السابعة وأذان الفجر على الخامسة مثلاً، فحينئذٍ تحسب ما بين السابعة وبين الخامسة وهي عشر ساعات تقريباً، وحينئذٍ تقسمها على اثنين وهي خمس ساعات، فتقول: إذا دخل قبل الثانية عشرة فإنه يعتبر قد أدرك أكثر الليل وسقط عنه الدم وإلا فلا، هذا بالنسبة لمسألة المبيت.

    ويتحقق المبيت بمضي أكثر الليل والإنسان في منى، سواء مضى عليه وهو نائم، أو مضى عليه وهو مستيقظ، فإن من كان في حدود منى فقد بات بها، سواء نام أو لم ينم، ولكن السنة أن ينام تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حقيقة التعجل ووجوب المبيت والرمي لغير المتعجل

    [ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب وإلا لزمه المبيت والرمي من الغد].

    قوله: (ومن تعجل في يومين) المراد بذلك: أن يتعجل في اليوم الثاني عشر فيخرج من حدود منى قبل مغيب الشمس، فإذا غابت عليه الشمس وهو خارج حدود منى فقد تعجل، والعجلة تستلزم من المسلم أن يأخذ بأسباب التعجل، وذلك بالاحتياط والتحفظ؛ لأن التعجل ورد في صيغة القرآن، في قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، هذا اللفظ الذي نص عليه القرآن يدل على شيء من التكلف، وأخذ الحيطة والحزم في الأمر، أما لو أنه قصر وغابت عليه الشمس ولو كان مرتحلاً وعجل فللعلماء فيه وجهان:

    جمهور العلماء -والمنصوص عليه عند الأئمة-: على أنه يعتبر ملزماً بالمبيت؛ لأنه لم يتعجل حقيقة، وفرق بين تعجل الصورة وتعجل الحقيقة؛ لأن الله يقول: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203] وفي للظرفية، ومعنى ذلك: أنه قد حصلت العجلة والخروج من حدود منى في اليومين، واليومان المراد بهما: الحادي عشر والثاني عشر، بمعنى: أنه قد خرج من حدود منى قبل أن تغيب عليه شمس اليوم الثاني عشر، واشترط بعض العلماء: أن يكون تعجله وخروجه من منى على التقوى؛ وذلك لقوله تعالى: لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] والمراد بالتقوى كما يقول بعض السلف: أن لا يخرج سآمة من الحج وفراراً من كلفة الحج، كما يفعله بعض العامة، فإنه يريد أن يتعجل لا من باب التقوى وإنما يتعجل سآمة وفراراً من تكاليف الحج، وحينئذ ٍقالوا: لم يتحقق فيه الشرط، ولا يجوز للمسلم أن يسأم العبادة والخير والطاعة والقربة، ولذلك ينبغي لمن تعجل أن ينتبه لهذا الأمر، وهو أن لا يخرج من مشعر منى كارهاً العبادة -والعياذ بالله-، أو سائماً منها أو فاراً من كلفتها وتبعتها، وإنما يخرج على سبيل التقوى والاسترخاص برخص الله كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم برخص الله التي رخص لكم) .

    قوله رحمه الله: (خرج) هذا يدل دلالة واضحة على أنه لابد وأن يتحقق الخروج، فإذا لم يحصل الخروج فإنه لم يتعجل، وهذا كما ينص عليه جماهير أهل العلم من السلف رحمهم الله ومن بعدهم: أنه لابد من حقيقة التعجل وذلك إعمالاً لنص القرآن على ظاهره: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، وحقيقة التعجل أن يخرج من حدود منى، فإذا خرج من حدود منى بمتاعه ورحله، وأدركه المغيب وهو خارج حدود منى ولو بخطوة واحدة فقد تعجل حقيقة، وحينئذٍ يسقط عنه مبيت اليوم الأخير والرمي عن اليوم الأخير، أما لو خرج عن حدود منى قبل المغيب ثم رجع بعد المغيب وأخذ متاعه فليس بمتعجل، وإنما هو محتال على الشرع ويلزمه المبيت الليلة الأخيرة ويلزمه الرمي لذلك اليوم؛ لأنه لم يتعجل حقيقة، وعبر المصنف بالخروج لكي يدل على أنه إذا لم يقع منه الخروج الحقيقي فليس بمتعجل، ويلزمه ما يلزم من لم يتعجل من مبيت الليلة الأخيرة والرمي إعمالاً للأصل الذي ذكرناه.

    1.   

    وجوب طواف الوداع وأن يكون آخر العهد بالبيت هذا الطواف

    [فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يطوف للوداع]

    قوله: (فإذا أراد الخروج) بمعنى: أنه تهيأ للخروج، لم يخرج من مكة حتى يطوف طواف الوداع، ويسمى: طواف الصَدَر أيضاً، وسمي طواف الوداع؛ لأن الحاج يودع به البيت، والأصل في هذا الطواف: أن الناس كانوا يصدرون من فجاج منى وعرفات إلى بلدانهم، قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح : (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)، هذا الطواف يسمى: طواف الوداع؛ لأنه آخر ما يكون من الحاج كأنه يودع البيت بالطواف عليه.

    لزوم إعادة طواف الوداع لمن اتجر بعده

    [فإن أقام أو اتجر بعده أعاده]

    قوله: (فإن أقام) بمكة (أو اتجر) أي: إذا باع واشترى فإن عليه أن يعيد طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع يشترط فيه أن يخرج مباشرة وقوله: (أو اتجر) فيه تفصيل: التجارة تقع بالبيع والشراء، ومن باع أو اشترى بعد طواف الوداع فله حالتان:

    الحالة الأولى: أن يقع بيعه وشراؤه على وجه يستعين به على الخروج، كأن يشتري زاداً لراحلته أو يشتري طعاماً لدابته، وفي زماننا لو توقف لوقود السيارة أو تغيير زيت السيارة مثلاً، فهذا التأخر في حكم الخروج؛ لأن المراد به الاستعانة به على الخروج، واغتفر العلماء مثل هذا في الرواحل في القديم، وهو مغتفر في زماننا في السيارات الموجودة ووسائل النقل الموجودة، ولو أراد أن يحجز وحجز لسفر في مركوب أو نحوه وتهيأ للركوب وأخذ يتهيأ له فظل ساعة أو ساعة ونصفاً وهو يتهيأ للسفر والذهاب إلى محطة السفر أو نحو ذلك، فهذا التأخر كله مغتفر إذا كان يسيراً، أما إذا تفاحش فإنه يلزمه الرجوع وإعادة طواف الوداع.

    الحالة الثانية: أن يتجر على وجه لا يقصد به الاستعانة على الخروج فإنه يُلْزَمُ بالرجوع لإعادة طواف الوداع، فلو خرج واشترى هدية لأولاده أو لزوجه أو لأقاربه، فإنه يلزمه أن يرجع بعد شرائه ويطوف طواف الوداع مرة ثانية؛ حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف، فإذا كان آخر عهده بالحج التجارة، فإنه يلزمه أن يرجع ويكون آخر عهده بالبيت الطواف، على الصفة الشرعية لمكان التعبد، ولذلك قال المصنف: (فإن أقام أو اتجر أعاده) أي: أعاد طواف الوداع بعد ذلك الفعل، الذي لا يعد من جنس الطواف ولا من جنس الخروج.

    ترك طواف الوداع للحائض والنفساء

    [وإن تركه غير حائض رجع إليه].

    هذا الطواف للعلماء فيه وجهان: أصحهما الوجوب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)؛ ولقول أم المؤمنين عائشة : (فأمروا) والأمر يدل على الوجوب، لكن يرخص للمرأة الحائض والنفساء، فالمرأة الحائض والنفساء تنفر وتصدر مباشرة دون أن تلزم بطواف الوداع؛ لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والنفساء) ، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما ذكر له أن صفية قد حاضت، قال: عقرى حلقى أحابستنا هي؟! ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر -يعني: طواف الإفاضة- قالوا: نعم، قال: فلا إذن -وفي رواية: انفري-) ، فأمرها بالنفر مع أنها لم تكن قد طافت طواف الوداع، وهذا يدل على الرخصة في طواف الوداع بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء.

    لزوم الدم على من ترك طواف الوداع وشق عليه الرجوع

    [وإن تركه غير حائض رجع إليه]

    وإذا خرج الإنسان من مكة وترك طواف الوداع أو نسيه، ثم تذكره فلا يخلو من حالتين: إما أن يتذكره قبل مسافة القصر فحينئذٍ إذا رجع سقط عنه الدم، وأما إذا تذكره بعد مسافة القصر فإنه يلزمه الدم، سواء رجع أو لم يرجع.

    [فإن شق أو لم يرجع فعليه دم]

    لأنه واجب، والواجب يجبر بالدم كما قررناه وذكرنا دليله غير مرة.

    دخول طواف الوداع تحت طواف الإفاضة إن أخر

    [وإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عن الوداع]

    قوله: (وإذا أخر طواف الزيارة) وهو الإفاضة، قوله: (طواف الزيارة) كره بعض السلف تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة، وقد أُثر عن الإمام مالك رحمه الله أنه كره هذه التسمية، ولكن جمهور العلماء على جواز التسمية بطواف الزيارة؛ لأن مسلماً أورد في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية : ألم تكن زارت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إِذَنْ) فسمى طواف الإفاضة: زيارة، فدل على جواز هذه التسمية، وأنه لا مانع منها ولا كراهة.

    فإذا أخر طواف الزيارة، كالمرأة الحائض تؤخر طواف الزيارة عن يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، ثم تطوف طواف الزيارة وتسافر مباشرة، فحينئذٍ يدخل طواف الوداع تحت طواف الإفاضة؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه إذا اندرج الأصغر تحت الأكبر وتحقق المقصود فإنه يجزيه الفعل الواحد. ووجه ذلك: أن المقصود من طواف الوداع أن يكون آخر عهد الإنسان بالبيت الطواف، فإذا طاف طواف الإفاضة فإنه سيكون آخر عهده بالبيت الطواف، وحينئذٍ يجزيه طواف الإفاضة عن طواف الوداع، ويسقط عنه طواف الوداع ولا حرج عليه في ذلك، وعلى هذا قال العلماء إذا أخره مع العذر، أما إذا لم يوجد العذر فخلاف السنة، فالسنة أن يطوف الإنسان يوم النحر وأن يحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.

    أقوال العلماء في وقوف غير الحائض بين الركن والباب

    [ويقف غير الحائض بين الركن والباب داعياً بما ورد].

    هذا يسمى: الملتزم، وخفف العلماء فيه وقالوا: لا بأس أن يلتزمه الإنسان بأن يلصق صدره به ويدعو ويسأل الله عز وجل من فضله، وينبغي أن يكون خالياً من المحظور، كالتمسح بجدران الكعبة والاعتقاد في هذا الموضع، يعني: لا يجوز للمسلم أن يحدث في مثل هذه الأمور التعبدية زائدة عن الوارد، وإنما قالوا: أثر عن بعض السلف رحمهم الله وفيه حديث مرفوع لكنه تكلم في سنده، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن بعض الصحابة أيضاً، وأشار المحب الطبري في كتابه: القرى لقاصد أم القرى، إلى آثار في ذلك، فالوارد عند الملتزم قالوا: يلتزم ويدعو ويسأل الله من فضله، ولا بأس بذلك ولا ينكر على الإنسان إذا فعله، إما إذا كان هناك زحام وتأذى الطائفون بوقوف الإنسان في هذا فإنه يتقي هذا؛ لأنه لا يجوز أذية الطائف، والطواف في البيت هو المقصود، وهي عبادة مقصودة أكثر من الالتزام، ولا ينبغي للإنسان أن يحرص على شيء لم تثبت فيه سنة قوية ثابتة، ومع ذلك قد يؤذي فيه الطائفين، أو يقع في محظور، كمزاحمة النساء ونحو ذلك، فعلى الإنسان أن يتقي مثل هذا، وليس هناك دعاء مخصوص وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا.

    عدم مشروعية الوقوف بباب المسجد الحرام للمرأة الحائض

    يقول رحمه الله: [وتقف الحائض ببابه وتدعو بالدعاء].

    قوله: (وتقف الحائض بابه) يعني: باب المسجد الحرام؛ لأن الحائض لا تدخل المسجد، وتدعو بما ورد، ووقوف المرأة هذا الوقوف فيه تكلف ولم يثبت به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك حاضت صفية ولم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقف هذا الموقف، ولذلك لا وجه لهذا ولا أصل له، بل إن المرأة الحائض تصدر من مكانها، وليس لهذا الوقوف داعٍ، وتكلف المجيء إلى المسجد على هذا الوجه ليس له داع، فلا وجه للأمر به والتعبد به على هذه الصفة إلا إذا ثبت نص صحيح، وليس ثم دليل يدل على ذلك، وعليه فإنه لا يشرع للمرأة الحائض أن تقف على هذا الوجه، أو تتكلف المجيء إلى المسجد لهذا الدعاء وهذه المسألة.

    1.   

    عدم مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره

    [وتستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه]

    قوله: (وتستحب) الاستحباب حكم شرعي، وقولهم: (تستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الاستحباب لم يرد دليل عليه، بل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) ، فدل على أنه لا يجوز شد الرحال في السفر لزيارة القبور، سواء كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر صاحبيه أو قبر غيرهم من الصالحين أو أي قبر، فلا يجوز للمسلم أن يشد الرحال لزيارة القبور، ولا للدعاء عندها، ولا للذبح ولا للنذر، ومن نذر شيئاً من ذلك فلا يلزمه الوفاء به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شد الرحال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، فدل على أن النذر إذا لم يكن على الصفة الشرعية أنه لا يلزم الوفاء به، وعلى هذا فإن قوله: (يستحب شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه) خلاف السنة، وخلاف الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا تشد الرحال)، وإنما المسنون أن يسافر وينوي من أجل زيارة المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فينوي زيارة المسجد.

    وقد فضل الله مسجد نبيه وحبيبه صلوات الله وسلامه عليه على غيره من المساجد، عدا المسجد الحرام، فينوي زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وينوي الصلاة في المسجد ولا ينوي زيارة القبر، وإنما ينوي هذه الزيارة الشرعية ويشد الرحال من أجل المسجد، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رغب في ذلك بقوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وإذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي له إذا دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد قبل أن يبدأ بأي شيء، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح في قصة المسيء صلاته: (فإن المسيء صلاته لما دخل المسجد جاء وركع ركعتين ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ارجع فصلِّ) قال العلماء: في هذا دليل على أن من دخل المسجد ينبغي أن يبدأ أول ما يبدأ بتحية المسجد؛ لأن الرجل ابتدأ بتحية المسجد ثم سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن السنة أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من التحية مضى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام الشرعي، ثم يسلم على أبي بكر ، ثم يسلم على عمر وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وسأل الله لنبيه عليه الصلاة والسلام الوسيلة، ثم بعد ذلك ينصرف، ولا يستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستغاثة والاستجارة والدعاء كلها أمور لا يجوز صرفها لغير الله جل جلاله، فإن الله لا يأذن لعبده أن يدعو سواه، أو يستغيث بأحد عداه، أو يستجير به، فإنه لا يملك النفع أو الضر إلا الله جل جلاله، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله! اشفني، أو يا رسول الله! عافني، أو يا رسول الله! أغثني، أو يا رسول الله! مدد، فإنه لا يشفي ولا يكفي ولا يجير ولا يدفع السوء إلا الله، ولا يقول: يا رسول الله! حقق لي سؤلي، أو اشفع لي عند ربي، أو نحو ذلك من الأمور التي لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى بالشرك في مكان آخر، فضلاً عن يأتي الإنسان لزيارته والسلام عليه صلوات الله وسلامه عليه ويشرك عند قبره، فالحرمة أعظم، وعلى من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراعي الأدب، فلا يرفع صوته عند قبره وإنما يغض من صوته ويسلم السلام الشرعي، ولا يتكلف بطول القيام وهو يمطط العبارات وينمق الكلمات، أو يغلو في وصفه عليه الصلاة والسلام، وإنما يسلم سلاماً شرعياً كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيونه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الوارد، وهذه هي الزيارة الشرعية.

    وأما أن يقف الإنسان الوقفات الطويلة، وهو يمطط العبارات ويترنم بالكلمات، ولربما تكون -والعياذ بالله- مشتملة على صرف حق الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول: يا مغيث الملهوفين! ويا ملاذ الهاربين! ويا أمان الخائفين! هذا كله ليس إلا لله جل جلاله، فلا أمان إلا من الله، فهو الذي يؤمِّن الخائف، وهو الملاذ للهارب والمعين للمستعين، والغوث للمستغيث، والمجير للمستجير: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] سبحانه لا إله إلا هو، فالله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل هذا الأصل وهو: أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يفرده بالعبادة، وأن يصرف حق الله لله خالصاً، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يستهين بمثل هذه الأمور، فبين الإسلام والشرك كلمة واحدة، فلو قال: يا رسول الله! اشفني، فإنه شرك أكبر -نسأل الله السلامة والعافية-، أو قال: أغثني، أو أدركني، أو المدد؛ كل ذلك من الشرك الأكبر، الدعاء والاستغاثة والاستجارة بغير الله كائناً ما كان ذلك المغاث به، سواءً كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، من الشرك الأكبر، قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، فالله عز وجل ذكر عن هؤلاء الصالحين الذين يُعْبَدُون من دون الله، قيل: إنها نزلت في عيسى بن مريم حين عبدته النصارى واتخذته إلهاً من دون الله، فقال الله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57]، فهؤلاء الصالحون يدعون الله ويلتجئون إلى الله، فحري بالمسلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن لله حقاً ولرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، ولا يجوز صرف حق الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام ما بعث ولا أرسل إلا من أجل هذا الأصل، وهو: إفراد الله بالعبادة، وصرف ما لله خالصاً لوجهه الكريم، والله يخاطب رسوله عليه الصلاة والسلام ويقول له: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66] ، أي: كن من الموحدين المخلصين له سبحانه وتعالى.

    فينبغي على المسلم أن يفرد الله بالعبادة، وأن يصرف حق الله خالصاً لوجهه، مثل: الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من الحقوق التي لا ينبغي صرفها إلا لله سبحانه وتعالى لا شريك له، وخاصة إذا كان المسلم قد جاء إلى الحج، فبينه وبين الله عهد وهو يقول: لبيك لا شريك لك لبيك، فمعنى ذلك: أنه سيفرد الله بالعبادة ولا يصرف حق الله عز وجل لغيره كائناً ما كان ذلك الغير.

    1.   

    الأسئلة

    مشروعية صلاة ركعتي الطواف

    السؤال: لم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن بعد طواف الإفاضة صلاة ركعتين، فهل تشرع الصلاة بعده، أم لا، أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فلكل طواف بالبيت ركعتان، ويلزم بهاتين الركعتين في طواف الإفاضة وغيره بإجماع العلماء. والله تعالى أعلم.

    وصايا عامة لمن وفقه الله للحج وما يكون عليه بعد الحج

    السؤال: هل من كلمة أو وصية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان بعد حجه، أثابكم الله؟

    الجواب: من وفقه الله للحج إلى بيت الله الحرام، فأول وصية له: أنه ينبغي عليه أن يحمد الله جل جلاله، وأن يشكره على فضله، يشكر نعمة الله التي أنعم بها عليه، ومنته التي أسدى إليه، ويقول: اللهم! لك الحمد ولك الشكر اخترتني من بين الملايين من الأمم، وحملتني على ما يسرت لي، وهديتني وأعنتني، وسلمت لي بدني وصحتي، ووفقتني إلى أداء هذه المناسك والشعائر لا أحصي ثناء عليك، ومن شكر الله زاده، ومن حمد الله فإن الله يحب أن يحمد ويحب أن يثنى عليه ويحب أن يمجد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أهل الثناء والمجد) فيحمد الله عز وجل أولاً.

    الوصية الثانية: من حج إلى بيت الله الحرام فإن الله عز وجل أكرمه ويسر له بالوقوف في هذه المشاعر والمناسك، فحط الآثام ومحيت عنه الخطايا، وتقرب إلى الله عز وجل بإراقة دمعة الندم، وأحس بالألم لما كان مما سلف من الذنوب والعصيان، فهجر هذه الذنوب وقلاها، وبكى بكاء الندم بين يدي الله مستغيثاً مستقيلاً تائباً راجياً رحمة الله جل جلاله، الله أعلم كم في هذه الرحاب من ذنوب غفرت، وخطايا محيت، وسيئات أقيل أصحابها، وعثرات أقال الله من تلبس بها، فهي منازل الكرم ومنازل الجود من الله جل جلاله سبحانه، له الحمد وله الفضل لا نحصي ثناء عليه، فإذا أحس المسلم أن الله أنعم عليه بهذه النعمة، فليكن أيضاً من شكره أن يحسن فيما بقي من عمره، وأن يكسر قلبه لله، وأن يسأل الله أن يحسن له الخاتمة، وأن يحسن له فيما بقي من الأجل، ويقول: يا رب! أسألك فيما بقي من عمري عملاً صالحاً يقربني إليك، فيرجع بقلب جديد وقالب جديد وعمل صالح رشيد.

    الوصية الثالثة: عليه أن لا يفتخر وأن لا يرائي، وأن لا يدلي على الله بنعمته، بل عليه أن يقول: اللهم! إني أسألك القبول.

    الوصية الخامسة: من دلائل قبول الحج أن يكون حال الإنسان بعد الحج أفضل من حاله قبل الحج، ولن يكون ذلك إلا بفعل فرائض الله، وترك حدود الله ومحارم الله، والخوف من عذاب الله ولقاء الله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، وعلى المسلم إذا رجع إلى أهله ورجع إلى وطنه وإلى بلده أن يرجع بعمل صالح جديد، وأن يحاول أن يغير من أخلاقه، فإن الإسلام أدبه وهذبه بهذه العبادة، فالذي حج إلى بيت الله الحرام، وامتنع من وطء ومباشرة زوجته -وهي حلال عليه- أيام الحج، حري به أن يتقي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والذي حج إلى بيت الله الحرام وعف عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، حري به أن يرجع عفيفاً عن أعراض المسلمين، فلا يغتاب ولا يقع في النميمة ولا يؤذي المسلمين، يرجع بحال جديد ويصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين عباد الله.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل حجنا مبروراً، وسعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، وعملنا صالحاً متقبلاً مبروراً.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755912241