إسلام ويب

شرح زاد المستقنع فصل: أركان الصلاة [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للصلاة أركان دلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، ومن تركها عمداً بطلت صلاته، ومن تركها سهواً فإن أمكنه أن يعود عاد وأداها، وإن لم يمكنه فإنه يقضي الركعة كاملة، وهي: القيام، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال عن الركوع، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال عن السجود، والجلوس بين السجدتين.. وغيرها.

    1.   

    أركان الصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [فصلٌ أركانها].

    ركن الشيء: دعامته وعمدته التي يقوم عليها، وقد دلت النصوص الصحيحة الصريحة في الكتاب والسنة على أركان الصلاة، وهذه الأركان من تركها عامداً بطلت صلاته، ومن تركها ساهياً فإن أمكنه أن يعود إليها عاد وجبرها، وإن لم يمكنه العود إليها فإنه يقضي الركعة كاملة.

    فمن ترك قراءة الفاتحة عامداً وهو يرى رُكنيتها بطلت صلاته، ولو في ركعةٍ واحدة، ومن تركها ساهياً، كما لو صليتَ فابتدأت الصلاة مباشرة، وقرأت دعاء الاستفتاح، ثم سهوت فقرأت: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1]، فابتدأت بالسورة قبل أن تبدأ بالفاتحة، فلما كنت في أثنائها تنبهت أو ذكّرك من وراءك إن كنت إماماً، فإنك ترجع وتقرأ الفاتحة وتتدارك الركن؛ لأنه يمكن التدارك حيث لم تدخل في ركنٍ بعدي، أما إذا كان لا يمكن التدارك كأن تكون دخلت في الركعة الثانية فتذكَّرت أنك في الركعة الأولى لم تركع أو لم تسجد، وقمت إلى الركعة الثانية فإنه حينئذٍ يلزمك قضاء الركعة الأولى، على تفصيل في كونك تلغي الركعة وتلفِّق، أو تبني الصلاة وتعيد الركعة من موضعها؟

    الأدلة من السنة على أركان الصلاة

    الأركان هي أهم شيءٍ في الصلاة، والأصل فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً ذات يومٍ مع أصحابه في المسجد، فدخل رجلٌ فصلَّى واستعجل في صلاته، فلم يحسن ركوعه ولا سجوده ولا جلوسه، فلما فرَغ من الصلاة قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ مع أصحابه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصلّ)، فرجع الرجل وصلى كحاله أولاً، ثم أتاه فسلم فرد عليه، فقال: (ارجع فصلّ؛ فإنك لم تصلّ)، فلما كانت الثالثة قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها).

    فهذا الحديث بيّن النبي صلى الله عليه وسلم فيه الأركان التي لا تصح الصلاة إلا بها، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنك لم تصلّ)، فيكون بيانه هنا بياناً للأركان، ولذلك ذكر غير واحدٍ من أهل العلم رحمةُ الله عليهم أن حديث أبي هريرة هذا الذي يسميه العلماء: (حديثُ المسيء صلاته) قد جمع التنبيه على أركان الصلاة، فلذلك اعتنى علماء الإسلام رحمهم الله بهذه الكلمة، وهي مصطلح الأركان والواجبات والسنن.

    و

    هذه المصطلحات ليست ببدع كما يظن بعض من ليس عنده إلمام بالعلم وضبطه، فيظن أن هذه أمور محدثة، فيقول: من أين جاءنا الركن أو الواجب أو السنة؟

    فإنا نظرنا في الشرع فوجدناه تارةً يقول: إذا فات هذا الشيء بطلت الصلاة، أو: يجب قضاء الركعة، ووجدناه تارةً يبين أن الشيء الذي فات يمكن جبره بالسجود، ووجدناه يُرخِّص في ترك شيءٍ، فعلمنا أن أعمال الصلاة ثلاثة أشياء: شيءٌ تبطل الصلاة بعدم وجوده، وشيءٌ يمكن جبره بالسجود، وشيءٌ يُتسامح فيه فلو تركه الإنسان ولو متعمداً صحت صلاته.

    وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى ركعتين ثم سلمّ -كما في قصة ذي اليدين- فقال له ذو اليدين : يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: كل ذلك لم يكن. فقال: بلى. قد كان بعض ذلك. فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين ؟ قالوا: نعم. فرجع فصلى ركعتين)؛ وكان قد قام من مصلاه كما في الصحيح، قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين وسلم.

    فدل هذا على أن الأركان لا تُجبر إلا بالفعل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر السهو موجباً لإسقاط الركن، بل تعتبر الركعة بمثابة الركن في الصلاة الجامع للأركان، فهي أصل في الصلاة، فكما أن الظهر قائمة على أربع ركعات كذلك كل ركعة قائمةً على أركانها.

    ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم تفوته أشياء من أفعال الصلاة ويجبرها بالسجود، فقد صلى عليه الصلاة والسلام إحدى صلاتي العشي، فسجد السجدة الثانية من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد، بل استوى واعتدل قائماً، فلما كبر سبح له الصحابة ليعود إلى جلسة التشهد، فأشار إليهم بيديه من وراء ظهره أن: قوموا. أي: إني لستُ براجعٍ وقد لَزِمَكم الركن البعدي الذي هو القيام للركعة الثالثة، فقام الصحابة، فأتم بهم الركعتين ثم سجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فهنا فات شيء من أفعال الصلاة، ولكنه اعتبره مجبوراً بالسهو، فعلمنا أن مرتبة هذه الأفعال دون مرتبة الأفعال التي قبلها.

    وكذلك أيضاً وجدناه عليه الصلاة والسلام يرى بعض الأقوال في الصلاة لازمة. وبعضها غير لازمة، فقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فلم يعتد بالصلاة ولم يعتبرها عند عدم وجود الفاتحة، ووجدناه يسامح في ترك دعاء الاستفتاح، فقد قال له أبو هريرة : (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي..).

    فقد ثبت قطعاً أن الصحابة لم يعلموا ما الذي يقول، فلو كان هذا الدعاء حتماً كالفاتحة لألزَمهم به وعلّمهم إياه، فدل على أن هناك أموراً تلزم في الصلاة وأموراً لا تلزم، ولذلك قلنا: إن مثل هذا سنة.

    فأصبحت القسمة عندنا بتتبع واستقراء الشرع تنقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام، فوجدنا ما هو ركنٌ وما هو واجبٌ وما هو سنةٌ.

    فلو قال قائلٌ: إن هذا بدعة نقول: إن الأسماء في ظاهرها بدعة -أي: لا نعرفها في القديم- ولكنها في الحقيقة موجودةٌ في حكم الشرع، ولا مشاحةً في الاصطلاح أن تسمي الشيء بأي اسم ما دام أن الشرع قد ترك لك التسمية والحكم موجود.

    فإنك لو قلتَ: جميع أقوال الصلاة وجميع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لازم لتناقضت النصوص، ولو قلتَ: إن جميع ما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصلاة ليس بلازم لتناقضت النصوص.

    فإذاً لا بد من التفريق بين اللازم وغير اللازم، وذلك هو مصطلح العلماء بالأركان والواجبات والسنن.

    وقوله: [فصلٌ] يبين دقته رحمه الله تعالى، حيث ذكر صفة الصلاة كاملة، ثم جاء يبين ما الذي يَلزَم وما الذي لا يَلزَم، ثم الذي يَلزَم منه ما هو ركنٌ تتوقف الصلاة عليه، ومنها ما ليس بركنٍ وهو الواجب الذي لا تتوقف صحة الصلاة عليه، بحيث لو تركه الإنسان سهواً أمكنه أن يجبره بسجود السهو.

    فابتدأ رحمه الله بالأركان، اعتناءً بالأهم، وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى؛ لأن أهم ما في الصلاة أركانها، ولذلك ابتدأ، فقال: [أركانها]. والضمير عائدٌ إلى الصلاة.

    الركن الأول: القيام

    قال رحمه الله تعالى: [أركانها: القيام].

    القيام ضد القعود، يقال: قَام إذا انْتَصَب عوده، أي: استَتَم.

    وقوله: [القيام]، أي: أول ركنٌ من أركان الصلاة القيام، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6]، وقال تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).

    هذه النصوص دلت على وجوب القيام ولزومه على سبيل الركنية والفرض، ولذلك ذهب إلى هذا الحكم جماهير أهل العلم رحمةُ الله عليهم، لكنهم قالوا: الصلاة لا تخلو من حالتين: إما أن تكون فريضة أو نافلة، فإن كانت فريضةً وصلى جالساً مع القدرة على القيام بطلت صلاته؛ لأنه لم يُصلِّ كما أمره الله بالقيام، لكن لو كان في نفلٍ صحَّ له أن يصلي جالساً لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) ، وهذا إنما هو في النفل.

    والظاهرية حملوا قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) على الفريضة بالنسبة للمعذور، وقولهم مردود؛ لأننا لو حملنا هذا الحديث على الفريضة بالنسبة للمعذور لردت نصوص الشريعة التي تدل على أن كل مريضٍ ومعذورٍ أجره كامل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)، فحينئذٍ بتناقض النصوص، فدلّ هذا الحديث على صرف عموم الحديث الذي معنا عن ظاهره، وأن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) النافلة دون الفريضة، ووجدنا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر يُصلِّي على دابته غير المكتوبة.

    ومن هنا قلنا: إنه يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، بدليل أنه في السفر يصلي على الدابة حيثما توجهت، وهذا في النافلة دون الفريضة.

    وعليه فيلزمك القيام لصحة الصلاة المفروضة، لكن بشرط أن توجد القدرة، وذلك لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فالعاجز عن القيام معذور.

    وقد أثبت المصنف أن القيام مع القدرة ركن.

    وأما ضابط القيام فقالوا: الضابط في القيام أن لا تصل كفَّاك إلى ركبتيك، فلو انحنيت بحيث تصل الكفان إلى الركبتين فقد خرجت عن كونك قائماً إلى كونك راكعاً ومنحنياً.

    ويتفرع على هذا مسائل:

    المسألة الأولى: لو أن إنساناً يكون جالساً فيكبر الإمام تكبيرة الإحرام، فيقوم فيستعجل فيكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يستتم قيامه، فلا تنعقد تكبيرة الإحرام؛ لأن من شروط انعقادها أن يكون قائماً كما أمر الله عز وجل، فإذا كان أثناء قيامه وانتصابه رفع يديه وكبّر ولم يستتم، بحيث أمكن لليدين أن تنال الركبتين، وهو الانحناء المؤثِّر، فهذا لا يُعتد بتكبيره؛ لأن هذا الركن -وهو تكبيرة الإحرام- يُشترط فيه أن يكون في حال القيام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).

    فدل على أن القيام يسبق التكبير، ومن فعل هذا الفعل فقد سبق تكبيره القيام، فلم يصلِّ كما أمره الله.

    المسألة الثانية: المعذور الذي لا يستطيع القيام يصلي قاعداً، وهيئة القعود تختلف، فبعض الأحيان لا يستطيع أن يصلي قاعداً إلا على علو ونَشَز، كأن يجلس على دكةً أو سرير أو كرسي، فهذا الجلوس ينبغي أن يُفَصَّل فيه، فإن كان قادراً على القيام في تكبيرة الإحرام، فلا يأتي ويجلس مباشرة ويكبر، وإنما يكبر قائماً؛ لأنه بإمكانه أن يكبر في حال القيام، ثم يجلس إذا كان يشق عليه أن يقوم، وإن كان يمتنع أو يصعب عليه أن يقوم، كالحال في المشلول، فإنه يكبر وهو جالس، أما إذا كان يمكنه أن يقف فإنه يقف ويجعل الكرسي وراءه ولا حرج، فإن أدركته المشقة رجع فجلس، كما هي القاعدة في الفقه أن الضرورة تقدر بقدرها، ويتفرع عنها أن ما أبيح للحاجة يُقَدَّر بقدْرِها.

    فلما كانت ضرورته أن القيام يشق عليه نقول: كبِّر قائماً ثم اجلس. لكن لما كانت الضرورة أن يتعذر عليه القيام قلنا: كبِّر جالساً ولا حرج. فهذا له قدره وهذا له قدره، فيُنَبَّه الناس؛ لأنك قد ترى الرجل يكبر وهو جالس مع أنه يستطيع أن يقف، وقد يقف ويتناول الكرسي ويخرج به وهو حاملٌ له، فمثل هذا لا يُرَخَّص له أن يؤدي الركن وهو تكبيرة الإحرام في حال قعوده، فهذا يُنَبَّه عليه، فإن تعذر عليه القيام قلنا: يجلس.

    وهذا الجلوس جلوسان: جلوس على هيئة شرعيةٍ، وجلوس على غير الهيئة الشرعية.

    فجلوس الهيئة الشرعية كأن يجلس الإنسان متربعاً أو مفترشاً أو متورِّكاً، ووجه كونها شرعية أنها جلسة اعتبرها الشرع للتشهد وللجلسة بين السجدتين، فإذا كان جلوسه على هذه الهيئة فحينئذٍ لا إشكال عليه لو جلس بهذه الصفة.

    لكن الإشكال إذا جلس الجلسة الثانية، وهي غير الهيئة الشرعية، كأن يجلس على سريرٍ أو كرسي، فإنه بجلوسه على السرير والكرسي في حال القيام يُعذَر، لكن عند التشهد لا يكون ملاصقاً للأرض، ومقصود الشرع أنك عند التشهد أو بين السجدتين تكون قريباً من الأرض، فحينئذٍ يكون ارتفاعه على الأرض خلاف ما ورد في الشرع من كونه ملتصقاً بالأرض.

    قال العلماء: إن تَعذَّر عليه أن يجلس انتقل بالانفصال هذا لكونه متصلاً بالأرض عن طريق الكرسي، فكان في حكم الجالس، وأبيح له أن يصلي على هذه الهيئة، أما لو كان بإمكانه أن ينزل ويجلس جلسة المفترش، أو جلسة المتربِّع فإنه يلزمه ذلك ولا يجلس على كرسيّ ونَشَز؛ لأنه يفوِّت صفة الصلاة.

    وفي جلوسه متربعاً أو مفترشاً وجهان للعلماء، وأشار إلى ذلك الطبري وابن المنذر في الأوسط.

    فقال بعض العلماء -وهو مأثور عن بعض الصحابة-: يجلس جلسة التشهد. وهذا أقوى، وذلك لأنها هيئة أقرب لهيئة الصلاة.

    وقال بعضهم: يجلس متربعاً لأنه أَرفق. وهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    والأمر واسع فإن كان الأرفق له أن يجلس متربعاً جلس، وإن كان على جلسة المتشهد جلس، لكن ينبغي أن يُنَبَّه على إعانته على السجود؛ فإن جلوسه كجلسة المتشهد أبلغ في إعانته على السجود من هيئته إذا كان على هيئة المتربِّع؛ لأنه عند التربع يحتاج إلى كلفة حتى يتمكن من السجود.

    ودليلنا على الترخيص أن يصلي جالساً ما ثبت في حديث عمران رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان عمران مبتلى بالبواسير، فشكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فوسَّع النبي صلى الله عليه وسلم للمعذور؛ لأن من به بواسير فإنه يشق عليه في هيئات الصلاة أن يقوم، ولربما أضرَّه القيام، ولذلك رخَّص له صلوات الله وسلامه عليه، فدلّ على التوسعة في حال وجود العذر، وأنه عند وجود الرُّخصة والعذر لا حرج، وقد قال تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]: .

    الركن الثاني: تكبيرة الإحرام

    قال رحمه الله تعالى: [والتحريمة].

    المراد بالتحريمة تكبيرة الإحرام، فالركن الأول: القيام مع القدرة، والركن الثاني: تكبيرة الإحرام.

    فبعض العلماء يختصر ويقول: التحريمة. ومراده تكبيرة الإحرام.

    ووُصِفت بكونها تحريمه أو تكبيرة إحرام لأن المكلف إذا جاء بها دخل في حُرُمات الصلاة، ولا يمكن أن يُحكم بكونه مصلياً إلا بعد إتيانه بها.

    والتكبير للدخول في الصلاة يُعتَبر ركناً من أركان الصلاة، والدليل على ركنيته قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيحين للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فأمره بالتكبير.

    وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر تكبيرة الإحرام في أكثر من ستين حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك بلغ مبلغ التواتر.

    وأما إلزام المكلف بها بحيث لو لم يأت بها لم تصح صلاته فلقوله عليه الصلاة والسلام: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، فقوله في هذا الحديث: (تحريمها التكبير)، أي أن دخول المكلف في حرمات الصلاة يتوقف على شيءٍ وهو تكبيرة الإحرام.

    فإن وُجِد هذا الشيء حكمت بكونه مصلياً وقد دخل في الحرمات، وإن لم يوجد حكمت بكونه غير مصلٍ، ولذلك قالوا: هي ركن من أركان الصلاة.

    وتكبيرة الإحرام للعلماء -رحمهم الله- فيها ثلاثة أوجه:

    الوجه الأول: أن تكبيرة الإحرام لا تنعقد إلا بلفظ: (الله أكبر) بخصوصه، كما هو مسلك المالكية والحنابلة من حيث الجملة.

    الوجه الثاني: يصح للمكلف أن يقول: (الله أكبر) وما اشتُق من هذا اللفظ، كأن تقول: (الله كبير)، وتنعقد تحريمته، وهو قول الشافعية.

    الوجه الثالث: يصح للمكلف أن يدخل في الصلاة بكل لفظ دال على التعظيم، فإن قال: (الله العظيم) أو (الله الجليل) صح ذلك وأجزأه واعتبر داخلاً في حرمات الصلاة، وهو قول الحنفية.

    والصحيح أنه لا بد من قول المكلف: (الله أكبر)، وأنه لو غيَّر في هذه الصيغة ولو بالذكر العام فإنها لا تنعقد تحريمته ولا يعتبر داخلاً في حرمات الصلاة.

    فإن كان القيام ركناً فلا تصح تكبيرة الإحرام إلا بعد أن يستتم المكلف قائماً، وإن كان القيام موسعاً فيه كصلاة النافلة فيصح أن يكبر وهو جالسٌ تكبيرة الإحرام، ويصح أن يكبر أثناء قيامه، ويصح أن يكبر بعد أن يستتم قائماً.

    وبناءً على هذا فإن من الأخطاء التي يفعلها بعض الناس في الصلاة المفروضة أن تُقَام الصلاة فيستعجل الشخص في القيام، فقبل أن يستتم قائماً يكون قد كبَّر.

    فلا ينعقد تكبيره إلا بعد ثبوت القيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فجعل التكبير مرتباً على القيام، ولذلك لا بد من سبق القيام للتكبير، ولا يصح أن يُكبِّر قبل أن يستتم قائماً، فتلازم القيام والتكبير.

    الركن الثالث: قراءة سورة الفاتحة

    قال رحمه الله تعالى: [والفاتحة].

    هذا هو الركن الثالث، أي: قراءة سورة الفاتحة.

    وهذا الركن دليل لزومه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج) أي: ناقصة.

    وهذان الحديثان صحيحان ثابتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صلَّى ولم يقرأ الفاتحة فإن صلاته لا تصح.

    وفي قراءة الفاتحة مسائل:

    المسألة الأولى: أن قراءة الفاتحة لازمة، وأنها ركن من أركان الصلاة لظاهر السنة.

    وهذا الركن يجب في الصلاة في كل ركعة، ولا يختص بجزء منها؛ لأن العلماء اختلفوا، فمنهم من يقول: من قرأ الفاتحة في ركعة صحت صلاته، ولو تركها في بقية الركعات.

    وقال الإمام مالك رحمه الله -في إحدى الروايات عنه-: لو ترك الفاتحة في ركعة من رباعية صحت صلاته.

    والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، وذلك لدليلين:

    أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، الثاني: قوله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل...) الحديث، فذكر القراءة وهي واقعة في الركعة، فصح أن يصدق على الركعة أنها صلاة، وأن جزء الصلاة الذي هو الركعة يُعتبر صلاةً، لأن الذين قالوا: يجوز أن تقرأ الفاتحة في ركعة وتجزيك، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صلاة لا يقرأ فيها..)، وأنت قد قرأت. فيقولون: يصح أن تقرأها في ركعة، ويصح أن تقرأها في ركعتين، وتقتصر على هذا.

    والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، ويقوي هذا حديث المسيء صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره بالقيام والقراءة في الركعة الأولى ووصفها قال له بعد القراءة: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع) ثم ذكر السجود، ثم قال له بعد السجدة الثانية: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)، فدل على أن هذا الموصوف الذي ذكره وألزم فيه بالقراءة في الأولى أنه يسري حكمه إلى غيره كما هو ثابت فيه، وبناءً على ذلك يُلزَم المكلَّف بقراءة الفاتحة في كل ركعة.

    وكان بعض العلماء يقول: إن الأخريين من صلاة الظهر لا يُقرأ فيهما، والصحيح أنه يُقرأ، وكانوا يقولون: إنه يرخص للمكلف أن يترك الفاتحة فيهما، واحتجوا بما أُثر عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما رخصا في ترك الفاتحة، كما روى ذلك مالك عن عمر في الموطأ.

    والصحيح أن الحجة في السنة، ويعتذر لـعمر -إن ثبت عنه، وإن كان الأثر عنه غريباً- بأنه لم يبلغه الحديث، والصحيح ما ذكرناه لظاهر السنة، وهو الذي يجب على المكلف التزامه في كل ركعة.

    المسألة الثانية: قراءة الفاتحة للمنفرد والإمام والمأموم:

    أما المنفرد والإمام فنلزمهما قراءة الفاتحة وجهاً واحداً.

    وأما المأموم فللعلماء فيه أقوال:

    فبعض أهل العلم رحمة الله عليهم يرون أن المأموم يَحْمِل الإمام عنه قراءة الفاتحة، فمذهب الحنفية وإحدى الروايات عن الإمام مالك أنه إذا قرأ الإمام -خاصة في الجهرية- سقط عن المأموم قراءة الفاتحة، ولزمه الإنصات والاستماع.

    والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ووافقهم الظاهرية وبعض أهل الحديث أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة وراء إمامه، وذلك لأمور:

    أولها: أن الحديث الذي دل على وجوب الفاتحة ولزومها عام شامل لحال المنفرد والمأموم، ولا مخصص له.

    ثانيها: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه، فقال: (إنكم تقرءون خلف إمامكم! قالوا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فإن هذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن المأموم ملزم بالقراءة وراء الإمام، فإن قوله: (إلا بفاتحة الكتاب) استثناء، والقاعدة في الأصول أن الاستثناء إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، وقال: (فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، أي: بفاتحة الكتاب افعلوا. فألزم النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها وراء الإمام، فدل على أن المأموم وراء الإمام يلزمه أن يقرأ الفاتحة.

    وأما من قال بعدم لزومها فاحتج بحديث جابر : (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا الحديث ضعفه جماهير أهل الحديث، والضعف فيه من القوة بمكان، وقد نبه على ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، لكن هناك من أهل العلم من حسن الحديث، وحَسّن إسناده لشواهد.

    فعلى القول بتحسين هذا الحديث قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) يدل على سقوط الفاتحة. وهذا الحديث يُجاب عنه من وجهين:

    الوجه الأول: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) المراد به قراءة الإمام التي يختارها بعد الفاتحة، ولذلك نسبها إليه، أي: لو أن الإمام قال: (ولا الضالين) وقلت: آمين، ثم قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، فلا تقرأها، فقراءة الإمام بـ(سبِّح) لك قراءة، فكأنك قد قرأتها.

    فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (فقراءة الإمام له قراءة) أي: فيما كان من غير الفاتحة، وهذا هو الذي ورد فيه الحديث.

    الوجه الثاني: أن من قال: إن هذا الحديث متأخر عن حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب). يجاب عنه بأنه ليس هناك دليل صحيح يدل على تأخر هذا عن تاريخ الذي قبله، وقد تقرر في الأصول أن ادعاء النسخ ليس بحجة؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فلو قال أحد: إن هذا الحديث متأخر عن الذي قبله لا يُقبل قوله حتى يأتي بالدليل على تأخره، وأنه قد وقع بعده لكي يكون ناسخاً.

    ولذلك فالأحاديث التي تدل على وجوب قراءة الفاتحة على العموم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وكذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) كلها نصوص صحيحة تدل على أنك إذا كنت وراء الإمام فإن قراءة الفاتحة تلزمك.

    وهذه الركنية شاملة للمنفرد وللإمام وللمأموم، ويستوي في هذا أن تكون الصلاة جهرية أو سرية، فأما الجهرية فقراءة الفاتحة بالنسبة لك ركن، واستماعك لقراءة الإمام لما بعد الفاتحة أعلى درجاته أنه واجب على القول بظاهر الآية: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، فنقول: إنه قد تعارض الركن والواجب فيقدم الركن على الواجب.

    ولو أن قائلاً قال: إن إثبات الركنية إنما هو بالاجتهاد. فلو سُلِّم هذا جدلاً فإننا نقول: هب أنهما واجبان، واجب متصل وواجب منفصل، والقاعدة أنه إذا تعارض الواجب المتصل بعبادة المكلف مع الواجب المنفصل فإن الواجب المتصل الذي أُمِر به إلزاماً يقدم على ما انفصل عنه على سبيل المتابعة للإمام.

    وقوله: [الفاتحة] يخالفه فيه بعض العلماء فيقول: قراءة الفاتحة. وهذا أدق، فالتعبير بالقراءة إسقاط لما في السِّر، فلا يجزئ الإنسان أن يقفل فمه؛ لأن بعض الناس يكبر تكبيرة الإحرام ويقفل فمه فتجده كالصامت وهو يقرأ في داخل نفسه، فهذه القراءة لا تجزيه، ولا تصح منه حتى ينطق، وقالوا: يُسمِع نفسه.

    ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ) والقراءة إنما تكون باللفظ، وأما ما كان في النفس فليس بقراءة ولا في حكم القراءة.

    المسألة الثالثة: إذا ثبت أن المأموم مأمور بقراءة الفاتحة فإنه يستثنى من هذا إذا أدرك الإمام راكعاً، فإنه تسقط عنه الفاتحة لظاهر حديث أبي بكرة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وهذا نص، وبناءً على هذين الحديثين نقول: إن هذا استثناء لهذه الحالة بعينها، فمن أدرك الإمام راكعاً سقطت عنه الفاتحة؛ لأنه لم يُدرِك وقتاً يمكنه فيه القيام بركنها.

    أما إذا أدركه قبل الركوع فحينئذ لا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يدرك وقتاً يتسنى له أن يقرأ فيه الفاتحة فيقصِّر أو يشتغل بدعاء الاستفتاح، فحينئذٍ يلزمه قضاء الركعة إن لم يقرأ الفاتحة، لأنه كان بإمكانه أن يقرأ.

    الضرب الثاني: أما لو أدرك وقتاً لا يمكن معه قراءة الفاتحة، فبمجرد أن كبَّر وقبض يديه وشرع في الفاتحة كبَّر الإمام للركوع، فتسقط عنه الفاتحة؛ لأنه لم يدرك وقتاً يُلزَم في مثله بالقراءة.

    المسألة الرابعة: الأصل وجوب قراءة الفاتحة باللفظ، ويستثنى المريض الذي تكون في لسانه عاهة، ولا يمكنه التحريك، فإنه يجزيه أن يقرأ في نفسه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يقرأ إلا على هذا الوجه، فسقط عنه اللفظ وتحريك اللسان وبقي على الأصل.

    وفي حكم هذا من كان في لسانه جراح بحيث يصعب عليه، أو يتألم عند تحريك اللسان، فإنه يجزيه لو أطبق الشفتين وقرأ في نفسه، وتصح منه القراءة ويعتد بها.

    الركن الرابع: الركوع

    قال رحمه الله تعالى: [والركوع].

    الركن الرابع الركوع، ودليل ركنيته قوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، فقوله تعالى: (اركعوا) أمر، ودلت السنة على ثبوت ذلك ولزومه، كما قال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً)، فدل على لزوم الركوع، وأنه ركن في الصلاة، والركوع يتحقق بوصول اليد إلى الركبة، فإذا وصل الكف إلى الركبة فقد ركع.

    وبناءً على ذلك لو انحنى فلم تصل الكف إلى ركبته فإنه لا يعتبر راكعاً ولا يجزيه ذلك، ولو انحنى فوصلت كفاه إلى ركبتيه ولكنه لم يهصر ظهره فإنه حينئذ يُجزيه الركوع وفاتته السنة؛ لأن السنة أن يهصر ظهره، كما جاء في حديث عائشة : (ثم هصر ظهره)، فإذا هصر الظهر واعتدل الظهر فهذه مرتبة الكمال، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    فإن حصل منه قدر الإجزاء -وهو بلوغ الكفين إلى الركبتين- صح ركوعه، ولكن فاته الكمال، فإن وُجِد عذرٌ من مرض أو ضيق مكان كتب له أجر السنة كاملاً لوجود العذر.

    فمن كان مريضاً على وجهٍ لا يتسنى له أن يركع، فحينئذٍ يُجزيه أن ينحني بالقدر الذي يصل إليه على حالةٍ لا يشق عليه فيها، أو لا يبلغ فيها بنفسه درجة المشقة، فإذا انحنى بهذا القدر من الانحناء الذي يستطيعه ويطيقه فقد أجزأه وانعقد ركوعه، ويستثنى من كمال الانحناء لانعقاد هذا الركن.

    كذلك يستثنى من ركنية الركوع أن يكون الإنسان على دابته في السفر ويصلي النافلة، فإن الركوع يعتبر ركناً، بمعنى أنه يُطلب فعلُه، ولكنه ركن باعتبار، فينحني ويكون انحناؤه أقل من انحناء السجود، أما انحناء السجود فإنه يكون أبلغ، فينحني انحناءً بقدر، فإذا حصل هذا الانحناء صدق عليه أنه ركع وأجزأه وتحقق الركن من صلاته النافلة.

    الركن الخامس: الاعتدال من الركوع

    قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه].

    الركن الخامس الاعتدال عن الركوع، والاعتدال: هو الذي لا اعوجاج فيه.

    فلما كان المكلَّف في حال الركوع ينحني ظهره، فإنه يخرج عن هذا الركن إلى الركن الذي بعده بوجود الاعتدال، والاعتدال: هو أن يستتم قائماً.

    ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى موضعه)، والمراد بقوله: (كل فقار) أي: فقرات الظهر؛ لأن ظهر الإنسان فيه فقرات، فإذا انحنى تباعد ما بين الفقرات، لكنه إذا اعتدل كأنها رجعت إلى حالتها الطبيعية، وهذا الحديث يدل على هديه في الاعتدال.

    أما كون الاعتدال ركناً فدليله قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع -أي: من الركوع- حتى تعتدل قائماً)، فإذا حصل الاعتدال قائماً أجزأه وتحقق الركن، لكنه لو رفع من الركوع وقبل أن يستتم قائماً انحنى ساجداً أو خرَّ ساجداً فإنه لا يُجزيه ولا يصح منه ذلك، وإذا لم يتداركه وجب عليه قضاء الركعة، فإن لم يقضها بطلت صلاته؛ لأنه لا بد من ركن الاعتدال، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)، فلا بد من أن يستتم قائماً، فلو أنه قال: (سمع الله لمن حمده) ولم يستتم قائماً وبادر بالسجود فإنه حينئذ يُحكم بأنه لم يقم صلبه.

    ويستثنى من هذا الذي لا يستطيع أن يستتم قائماً كالمريض، أو الشيخ الهرم إذا كان منحني الظهر، فإن ركوعه يكون بالقدر، ويكون رفعه من الركوع على القدر الذي يستطيع تحصيله في حال قيامه.

    الركن السادس: السجود على الأعضاء السبعة

    قال رحمه الله تعالى: [والسجود على الأعضاء السبعة].

    من أركان الصلاة أن تسجد على الأعضاء السبعة.

    أما دليل ركنية السجود فقوله سبحانه وتعالى في آية الحج: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، فإن قوله سبحانه وتعالى: (اسجدوا) أمر، والأمر يدل على اللزوم والوجوب.

    وقال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً)، فدل على أن السجود ركن من أركان الصلاة.

    ويتحقق السجود على الكمال في كونه على الأعضاء السبعة، وقد بيّنا ذلك، وبينا دليله من حديث ابن عباس الثابت في الصحيح: (أمرت أن أسجد على سبعة آراب)، أو : (على سبعة أعظم)، كما في الرواية الثانية.

    فإذا سجد فكان سجوده على الأعضاء السبعة فإنه تم ركنه، وأجزأه بمماسة الأرض، ثم يبقى شرط الطمأنينة الذي يأتي ذكره.

    ويُستثنى من هذا من كان مريضاً بحيث لا يمكنه الهوي للسجود ولا السجود، حتى ولو كان يخشى ضرراً بعضو أو نفس، كمن أجريت له عملية في عينه، فإنه قد يُمنع من السجود خشية ذهاب البصر، فأصح الأقوال -وهو قول جماهير السلف رحمة الله عليهم والعلماء- أنه يُرخص للإنسان إذا خاف على بصره بطب ونحوه أن يترك السجود.

    وشدَّد في ذلك بعض السلف ومنهم ابن عباس ، رضي الله عنهما، فقد قال العلماء عن ابن عباس إن سبب إصابته بالعمى أنه كان مريضاً في عينه، فنصحه الطبيب أن لا يسجد، فلم يرض ابن عباس بذلك وسجد فكُفّ بصره رضي الله عنه.

    وإن كان الذي ذكره غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم أن ابن عباس ابتلِي بذهاب البصر لأنه قل أن يرى أحدٌ الملائكة إلا عمي بصره، وكان ابن عباس قد رأى الملائكة -كما جاء في الحديث الصحيح- لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبوه العباس ، فلما دخل سلّم العباس فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه إذ كان مشغولاً بالوحي، وكان جبريل عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فسلّم وكرر السلام فلم يرد عليه فانصرف العباس وفي نفسه شيء، وخاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجِد عليه، فلما انصرف علم عبد الله من أبيه ما علم، فقال: يا أبتِ! إنه قد شغل بمن معه، وكان قد رأى جبريل، فلما قال ذلك رجع العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل رأيته يا عبد الله؟ قال: نعم. قال: ذاك جبريل)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو كان معي بصري لأريتكم الغار الذي نزلت منه الملائكة يوم بدر) أي: يوم القتال، وقد ذكر عن بعض الصحابة ومن غير الصحابة أنهم رأوا الملائكة فكُفّت أبصارهم، فيقولون: إن هذه سنة كونية من الله عز وجل أنه لا يبقى له البصر لقوة ما رآه.

    ولكن هذا قد يستثنى منه الأنبياء ونحوهم مما أُعطوا بإقدار الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل على حقيقته.

    والمقصود أن هناك من العلماء من يقول: إن ابن عباس كان مذهبه أنه يشدد في ذلك، حتى إنه حين نهاه الطبيب خشية أن يكف البصر لم يرخص لنفسه.

    ولهذا قال بعض العلماء: إن الخوف على العضو أو الخوف من الزيادة في المرض لا يرخِّص به في السجود. والصحيح أنه يرخص به، فمن كان قد تعاطى علاجاً أو عملية جراحية في صلبه أو ظهره، وخُشِي أنه لو سجد يتضرر أو يذهب عضو من أعضائه فإنه يُرخَّص له في ترك السجود، ولا حرج عليه أن يسجد بالقدر الذي يصل إليه.

    فإن صلّى على مرتفع أو نشز كالكرسي ونحوه فسجوده أخفض من ركوعه، بمعنى أن يكون انحناؤه أبلغ ما يكون في السجود، ويكون الركوع أرفع منه قليلاً، وهذا إذا كان على نشز، أما لو كان على الأرض كأن يجلس جلسة التشهد، فإن سجوده أن ينحني إلى القدر الذي يستطيع تحصيله دون ضرر، فإذا بلغ هذا القدر فإنه يُعتبر ساجداً، لكن ينبغي أن يُنبه على كيفية السجود، فبعض الناس يكون مريضاً ولا يستطيع السجود، فتجده إذا سجد وضع كفيه على فخذيه وانحنى، وهذا لا يصح، بل ينبغي أن ينزل الكفين إلى الأرض، لأنه مأمور بالسجود على السبعة الآراب (الأعضاء)، فكونه عاجزاً عن إيصال الجبهة أو الرأس إلى الأرض لا يُوجِب ذلك الترخيص بترك مماسة اليدين للأرض؛ لأن القاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها، فضرورته أن لا يصل رأسه إلى الأرض، والزائد على الضرورة من كونه يترخص بسحب اليد ووضعها على الفخذ لا موجب له، فيبقى على الأصل الموجب لتحصيل السجود به.

    الركن السابع: الاعتدال من السجود

    قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه].

    أي: الاعتدال عن السجود، والمراد بذلك أن يحصِّل القَعْدة وذلك بالرفع من السجود، فإذا اعتدل من السجود حصل الركن، وهذا الاعتدال أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته فقال له: (ثم ارفع حتى تستوي جالساً)، فدل على ركنية هذا الرفع من السجود وأنه يُلزم به، وقد ذكره في موضعين: في السجدة الأولى وفي السجدة الثانية، فقال: (حتى تستوي جالساً)، وقال: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً)، فدل على ركنين:

    الركن الأول: الرفع من السجود أو الاعتدال عنه.

    والركن الثاني: الجلسة بين السجدتين.

    الركن الثامن: الجلوس بين السجدتين

    قال رحمه الله تعالى: [والجلوس بين السجدتين].

    من دقة المصنف وتحرِّيه وفقهه جعل الاعتدال من السجود والجلوس بين السجدتين ركنين، وليس ركناً واحداً؛ لأن هناك فرقاً بين الجلوس بين السجدتين والاعتدال من السجود؛ لأن الاعتدال يقع بالجلوس ويقع أيضاً بعد الجلوس، كما لو سجد السجدة الثانية، فمن دقة المصنف أن قال: (الاعتدال عنه)، حتى يشمل ما بعد السجدة الثانية.

    ويكون والجلوس بين السجدتين ركن منفصل؛ لأنه يختص بما بين السجدتين، فلو قال: [الاعتدال عنه] وسكت، فإنه لا يتضمن ذلك الجلسة بين السجدتين، ولو قال: [الجلوس بين السجدتين] وسكت، فإن هذا لا يشمل الرفع بعد السجدة الثانية، ومن هنا كان من فقهه رحمة الله عليه أن جعلهما ركنين، وهذا هو الصحيح، ولذلك تعقُّب بعض الشراح على المصنف رحمه الله ليس في محله، بل من دقته أن هذا ركن وهذا ركن؛ لأنك لو قلت: (الجلسة بين السجدتين) فحسب لم تنبه على ركن الرفع من السجدة الثانية، فإن الرفع من السجدة الثانية ليس فيه جلوس بين السجدتين كما هو معلوم، ولو قلت: (الرفع من السجود) فحسب فإن الرفع من السجود مطلق لا يستلزم جلوسك بين السجدتين؛ لأن من رفع ولم يجلس صدُق عليه أنه قد حصل الركن.

    والجلوس بين السجدتين يتحقق بحصول الجلسة، والجلسة بين السجدتين تكون بالافتراش بأن يرفع الإنسان رأسه حتى يستوي جالساً وتحصل له طمأنينة الجالس، لكن لو أنه رفع من السجود وقبل أن يستوي جالساً كبّر للسجدة الثانية فإنه لا يجزيه، ولم يتحقق ركن الجلوس بين السجدتين، فيلزمه أن يرجع مرة ثانية ويستقر جالساً؛ لأنه قال: [والجلوس بين السجدتين] وهذا لم يجلس.

    ويتحقق الجلوس بالتصاق الإلية بالعقب، أو إذا فرش رجله اليمنى للإليتين، فإذا حصل هذا فقد جلس، لكن لو أنه قبل أن يرجع وتصل الإلية إلى العقب قال: الله أكبر. لم يصح ذلك ولم يُجزه، ويلزمه أن يعيد الجلوس بين السجدتين، وتُلغى السجدة الثانية التي سجدها، ويسجد لها سجود الزيادة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755775206