إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب شروط الصلاة [7]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما لا ينبغي لكل مسلم جهله معرفة شروط الصلاة، والأماكن التي تحرم الصلاة فيها، وحكم الصلاة في الكعبة وعليها، وهل الِحجر داخل فيها، وحكم استقبال القبلة، وهل الفريضة والنافلة في ذلك سواء، وأحوال المصلي في استقباله للكعبة، وما هي الأمور التي يستدل بها على جهة القبلة، وغيرها مما يجدر الإحاطة به.

    1.   

    شرط استقبال القبلة في الصلاة وأدلته

    قال المصنف رحمه الله: [ومنها استقبال القبلة].

    أي: من شروط الصلاة التي ينبغي على المكلف أن يراعيها للحكم بصحة صلاته استقبال القبلة، والاستقبال استفعال من القُبُل، ويُقال: الشيءُ قِبَل الشيء، إذا كان مواجهاً له؛ لأن القُبُل ضد الدُبُر، فيُقال استدبَرَه، إذا كان من خلفه، واستقبله، إذا كان من أمامه.

    قالوا: وُصِفت القبلة بذلك لأنها تكون قِبَالة الإنسان، أي: من وجهه، وقد أُمِر بالشرع أن يجعلها قِبَالة وجهه، ولذلك ينبغي في الصلاة إذا صلَّى أن يجعل ناحية البيت قِبل وجهه، وذلك لأمر الله عز وجل به في كتابه المبين، وكذلك ثبَت بهدي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وأجمعت الأمة على اعتباره.

    أما دليل الكتاب فقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:149]، فإن قوله سبحانه: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) أمر، وقوله: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: ناحية المسجد الحرام، وسنبيِّن تفصيل هذه الآية وما دلّت عليه.

    فوجه الدلالة أن الآية أمرَت فدل على لزوم استقبال القبلة.

    أما دليل السنة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر..)، فقال له: (استقبل القبلة)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا تصح الصلاة إذا استقبل الإنسان فيها غير القبلة، إلا في حالتين: حالة العذر من وجود السفر، أو حالة العذر من جهة المسايفة، وما في حُكمِها مِن كون الإنسان لا يستطيع أن يتحول إلى القبلة كالمريض الذي يكون مشلولاً ولا يجد من يوجهه إلى القبلة.

    فاشتراط هذا الشرط دلّ عليه دليل الكتاب ودليل السنة والإجماع.

    حكم استقبال القبلة للعاجز والمسافر

    قال رحمه الله تعالى: [فلا تصح بدونه إلا لعاجز].

    قوله: [فلا تصح بدونه] أي: الصلاة، والفاء للتفريع، أي: إذا علمت رحمك الله أن استقبال القبلة لازم على المكلَّف وواجب عليه، فلا تصح الصلاة مطلقاً سواءٌ أكانت نافلة أم فريضة إذا لم يستقبل القبلة، وذلك لأمر الله عز وجل بها وتعيينها على المكلَّف، إلا ما استثناه الشرع.

    قال رحمه الله تعالى: [إلا لعاجز].

    قوله: (إلا) استثناء، والقاعدة أن الاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ.

    وقوله: (لعاجز) العاجز يكون على أحوال، كالإنسان المريض الذي يكون مشلولاً ولا يستطيع أن يتحرك يميناً أو شمالاً، وكان على جهة غير القبلة، وحضَرته الصلاة، وليس عنده أحد يحرِفه إلى جهة القبلة، فحينئذٍ يصلي على حالته، خاصة إذا خرج عليه الوقت وهو على تلك الحالة؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وقد قال الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وهذا ليس بوسعه أن يستقبل، وليس بوسعه أن ينحرف إلى القبلة، فيبقى على العذر لمكان العجز المتعلق به.

    ولو أن إنساناً رُبِط في بئر أو في مكان بحيث لا يستطيع أن يتحول أو ينحرف، أو رُبط بالجدار وكان وجهه إلى غير القبلة، أو سُجن في موضعٍ فوُضِع وجهه على غير القبلة، ولا يستطيع أن يتحرك، فإن هذا يصلي على حالته؛ لأنه عاجز، والتكليف شرطه الإمكان، والعجز يوجب سقوط التكليف، فلذلك لا يُكلَّف.

    قال رحمه الله تعالى: [ومتنفل راكب سائر في سفر].

    قوله: (ومتنفِّلٍ) أي: في سفر، فيَخرج المفترض، فإن المفترِض يجب عليه أن يستقبل في السفر، وبناءً على ذلك ينزل من على دابته ويستقبل، ودليل استثناء المتنفِّل ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به).

    فهذا الحديث دل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من هديه في السفر أن يصلي حيثما توجهت به الدابة، فدل على أنه لا يتعيَّن عليه أثناء ركوبه على الدابة أن يستقبل القبلة، وإنما يصلي حيثما انصرفت الدابة.

    الدليل الثاني: حديث أنس في الصحيح، وقد رواه ابن سيرين رحمة الله عليه يقول: (خرجنا نتلقى أنس بن مالك حين قدِم من الشام، -فلم ينتظروه حتى يدخل المدينة، ولكن كان السلف الصالح رحمهم الله يُجِلُّون أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال: فلقيناه بعين التمر وهو على دابته، ووجهه من ذي الجانب -يعني على غير القبلة- فقالوا: رأيناك تصلِّي على غير قبلة! فقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله ما فعلته) .

    فدل على أنه من هديه عليه الصلاة والسلام الصلاة على النافلة في السفر حيثما توجّهت به.

    فإذا ثبت أن المتنفِّل على الراحلة في السفر يصلي حيثما توجَّهَتْ به راحلته فهنا مسائل ينبغي التنبيه عليها:

    المسألة الأولى: أنه ينبغي عليه أن يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام، وذلك لحديث أبي داود ، وهو حديث حسن، وما ورد من الأحاديث المطلقة عن ابن عمر وأنس مقيد بما ورد بهذا الحديث، ولذلك نقول: إن حديث ابن عمر ذكر الأصل، والقاعدة أن الذي يُفصِّل يُقدَّم على الذي يُجمِل.

    فكونه يُجمِل ويقول: كان يصلي على دابته حيثما توجَّهت به، هذا يُقدَّم عليه المفصِّل الذي يبيِّن أنه عند تكبيرة الإحرام يَحرِف دابته ويستقبل القبلة، وبناءً على ذلك لا بد من استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام.

    فإذا كان على بعيرٍ حرَف البعير واستقبل جهة الكعبة وكبَّر ثم عطَف البعير على جهة السير، وهذا بالنسبة إذا أمكن.

    المسألة الثانية: إذا لم يمكنه ذلك كما هو الحال الآن -مثلاً- في السيارات، فلو كان الإنسان في السيارة والسيارة منطلقة، خاصة إذا كان راكباً فإنه محكوم بقيادة غيره، فحينئذٍ يُكبِّر حيثما توجّهت به السيارة للتعذُّر، فيُستثنَى من هذا الأصل التعذُّر أو حصول المشقة الشديدة، قالوا: وأيضاً في حكمها القاطرة في القديم، وكذلك القطار في الحديث، فإن الإنسان إذا أراد أن يتنفل في قطار أو طيارة أو سيارة وتعذَّر عليه أن ينحرف، فحينئذٍ يكبر على الوجهة التي هو فيها.

    وإن كان بعض العلماء اجتهد فقال: ينحرف بجسمه ويكبِّر ثم يرجع إلى وضعه، ولكن هذا الفعل فيه إشكال، ويحتاج إلى نظر.

    وبناءً على ذلك إذا ثبت أن الأصل أنه يكبِّر تكبيرة الإحرام ثم يعطف الدابة ويمشي، فإذا مشت الدابة فحينئذٍ الرخصة أن تمشي في مسيرها الذي هو أصل سيرها، وهذا محل الرخصة، قالوا: فإن انحرفت الدابة عن مسيرها المقصود إلى مسيرٍ آخر كان كانحرافه عن القبلة؛ لأنه إنما جاز له لمكان الحاجة، فهو يستقبل جهته التي ذهب إليها كسباً لوقته، فإذا كان عنده من الوقت أن ينحرف عن طريقه، فالأولى أن ينزل ويستقبل قبلة الله التي أوجبها على عباده.

    إذاً لا بد وأن يكون على الوجهة التي هو ماضٍ إليها، فإن انحرفت دابته فإنه يكون كما لو انحرف عن القبلة قصداً، وهذا إذا لم توجد حاجة، أما لو انحرفت اضطراراً، أو انحرفت كما يحدث الآن في السيارات أن تنحرف لعارض أو لحاجة فهذا لا يؤثر؛ لأنه في حكم القصد الذي مشى عليه الإنسان من حاجته، فهذا بالنسبة لصلاته على الدابة.

    المسألة الثالثة: قالوا: إن الله عز وجل لطف بالعباد وخفَّف عليهم، وهذا من شرف العبادة أن جعلهم في عبادة حتى وهم على الدواب، فيؤجرُ المسافر على ذكر الله عز وجل وهو على دابته وبعيره، فكان من رحمة الله عز وجل أن أجاز للمسلمين أن يصلوا وهم على دوابهم حتى لا يفوت المسافر الخير، وبناءً على هذا تكون هذه الرخصة أصل.

    المسألة الرابعة: لو أن إنساناً كان مسافراً وراكباً على دابته عرَفنا حكمَه، فهَب أنه يمشي على قدمه، فما حكمُه؟

    قالوا: إذا مشى على قدمه فإنه يستقبل القبلة ويكبِّر، ثم ينحرف ويمشي في مسيره، فإن جاء وقت الركوع وقَف وركع، وقالوا: يَسُوغ له أن يركع ماشياً؛ لأنه لا يُعذر بالركوع مثل الذي على الدابة؛ لأن الذي على الدابة يومي إيماء، ولا يلزمه أن يقوم ويركع؛ لأنه ربما سقط، كالحال في السفينة أو نحوها.

    ثم إذا كان يمشي يركع وهو على وجهه، قالوا: ثم يسجد وهو على وجهه، ولا يُعذَر بترك ركوعٍ ولا سجود، فيُفرَّق بين الماشي والراكب على دابته من هذا الوجه.

    صلاة المتنفل في السفر

    قال المصنف رحمه الله: [ويلزمه افتتاح الصلاة إليها، وماشٍ، ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها].

    قوله: (ويلزمه) أي: يجب عليه، وقوله: (افتتاح الصلاة إليها) أي: إلى جهة القبلة -كما قلنا- وهو أصح أقوال العلماء، لحديث أبي داود الذي ذكرناه.

    وقوله: [وماشٍ] أي: يجوز له إذا كان ماشياً أن يصلي حيثما استقبل من وجهه الذي هو مسافرٌ إليه.

    قوله: [ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها].

    قال بعض العلماء مثلما درج عليه المصنف في الركوع والسجود: ينحرف الماشي ويركع ويسجد، وهذا أحوط المذاهب، وهو أقربها إلى الصواب إن شاء الله.

    وقال بعض العلماء: إنه يركع على سبيله أو على طريقه.

    فقال الآخرون: لا؛ لأن الرخصة إنما ثبتت عند الحاجة، وهذا بإمكانه أن ينحرف إلى القبلة ويركع ويسجد، وهذا أحوط وأبلغ في إعمال الأصل، ولذلك اعتباره أولى.

    أحوال استقبال القبلة

    قال رحمه الله تعالى: [وفرض من قرُب من القبلة إصابة عينها ومن بعد جهتها].

    المصلي لا يخلو من ثلاثة أحوال:

    إما أن يكون داخل المسجد الحرام.

    وإما أن يكون داخل الحرم وخارج المسجد، كبيوت أهل مكة.

    وإما أن يكون خارج الحرم وخارج المسجد، وهم أهل الآفاق، ومن في حكمهم.

    فإن كنت داخل المسجد الحرام فيجب عليك استقبال عين الكعبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -كما في حديث ابن عباس في الصحيح- لما خرج من الكعبة كبَّر وركع ركعتين، وقال: (هذه القبلة)، أي: هذا الذي فعلته من الاستقبال هو المتعيِّن واللازم على المكلَّف، فاستقبل عين الكعبة، فيجب على المكلَّف أن يستقبل عين الكعبة ما دام داخل المسجد.

    وبناءً على ذلك لو كان في الأروقة ينبغي أن يتحرَّى وأن يستبين، ولا يفعل كما يفعل العوام، فبمجرد ما يجد صفاً يكبِّر، بل ينبغي أن يحتاط ويتحرَّى استقبال عين الكعبة؛ لأنه ربما صار مستقبلاً للفراغ خاصة عند طول الصفوف، فينبغي الاحتياط والتثبت، وكذلك أيضاً لو كان في الأدوار العليا وهو بعيد ينبغي عليه أن يحتاط ويتثبت، ويبني على غالب الظن إذا كانت هناك أمارات وعلامات يقوى بها إلى الاهتداء إلى جهة الكعبة، فيصيب تلك العلامات، أو يكون بينها حتى يكون مصيباً لعين الكعبة.

    فإذا تبيَّن أنه كان مستقبلاً لفراغٍ أو فضاء، بمعنى أنه لم يستقبل الكعبة لزِمته الإعادة، وذلك لأنه فرّط، فيُلزم بعاقبة تفريطه، فيُعيد صلاته لإمكان استقبال عين الكعبة.

    الحالة الثانية: أن يكون داخل بيوت مكة وخارج مسجد الكعبة، فهذا يستقبل المسجد، أي: يَعْتَد بالمسجد، ولذلك صلَّى عليه الصلاة والسلام بالمحصَّب، وكذلك صلّى عليه الصلاة والسلام بالبطحاء، قالوا: فاستقبل جهة المسجد.

    والدليل على أنه يستقبل جهة المسجد أنه لما صلى في منىً وهي في الحرم صلّى بالخط الطويل؛ لأنه كان صف أصحابه طويلاً، ومع ذلك لم يحدد عدد الصف حتى يصيب عين الكعبة؛ لأن الصف الطويل قطعاً سيصيب الفراغ، فكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي بالصفوف الطويلة من أصحابه وهو داخل حدود مكة أثناء حجِّه عليه الصلاة والسلام يدلُّ على أن العبرة بجهة المسجد، وأنه إذا استقبل جهة المسجد أجزأه ما دام أنه داخل حدود الحرم.

    الحالة الثالثة: أن يكون خارج حدود الحرم، فهذا العبرة عنده بجهة مكة، وبناءً على ذلك قالوا في قوله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، والضمير عائد إلى المسجد، قالوا: (شطره) أي: ناحيته.

    وقد دلّ الدليل الصحيح على أن العبرة بالناحية والجهة، ووقع إجماع العلماء على أنك إذا كنت في المدينة فاعتبِر الجهة، فجهة القبلة في المدينة في الجنوب منحرفة قليلاً إلى الغرب، وإذا وقفت إلى الجنوب المحض فأنت مستقبل للقبلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قبلة أهل المدينة: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقال كما في الصحيحين من حديث أبي أيوب : (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببولٍ ولا غائط، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا)، فدل على أن القبلة بين الشرق والغرب بالنسبة لأهل المدينة، وهذا يُثبت على أن العبرة بالجهة، وليس المراد إصابة عين الكعبة؛ لأن كون الإنسان وهو في المدينة أو جدَّة أو الطائف أو آفاق الأرض يستقبل عين الكعبة فهذا متعذِّر، ولذلك العبرة بالجهة.

    وإذا ثبَت أن العبرة بالجهة، فحينئذٍ لو أن الإنسان انحرف انحرافاً لا يخرجه عن جهة القبلة فلا بأس بذلك، فلو أن قبلته في الجنوب، ولم ينحرف إلى الشرق ولا إلى الغرب، أو إلى جهة فرعية يتبين بها انحرافه فصلاته صحيحة، وقبلته معتبرة، وقال بعض العلماء بإلغاء الجهات الفرعية، والعبرة بالجهات الأصلية، وهذا مذهب قوي، خاصة للأحاديث التي ذكرناها.

    ومن هنا يُنبّه على ما شاع وذاع في هذه العصور المتأخرة من العمل بالبوصلة، وتشكيك الناس في محاريبهم، فإن بعض من يضبط بالبوصلة يبالغ في الضبط بها، فلو حُدِّدت الدرجة لأهل المدينة -مثلاً- تسع عشرة درجة، فهل معنى ذلك أن شرق المدينة كغربها كوسطها؟ لا.

    فإذا وجدنا المسجد ينحرف قليلاً، فما دام أنه يصيب الجهة فلا داعي لتشكيك الناس في صلاتهم، وهدم بيوت الله عز وجل، وإحداث الشوشرة على الناس، فلا يُعتد بالانحراف اليسير؛ لأن الله عز وجل كلَّفهم بالجهة، كما قال تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فإذاً العبرة بالشطر والناحية، فكونه بعد وجود هذه الآلات الدقيقة يُحرص على أنه لا بد من أن يكون استقبالاً محضاً، فهذا محل نظر، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإمكانه أن يستقبل عين الكعبة بالوحي.

    فإن قال قائل: إن وجود هذه الآلات الآن أمكن معها ضبط عين القبلة! نقول: نعم. لكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان محرابه مصيباً لعين الكعبة، وقال بعض العلماء بالإجماع على ذلك، ومع ذلك ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي إلى مساجد الناس في المدينة ويقول لهم: هلموا أضبط لكم قبلة الكعبة بعينها، بل ترَكهم يجتهدون، وقال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وهذه هي سماحة الدين ويُسره، وأما المبالغة في الضبط والتحرَّي، وتشكيك الناس في صلاتهم فهذا لا ينبغي؛ لأن الله عز وجل وسَّع على عباده، وديننا دين رحمة، وليس دين عذابٍ وعنت، ولذلك ما دام أنه استقبالٌ للجهة فهذا يكفي، ولا عبرة بالتحديد المبالغ فيه كما ذكرنا.

    وقوله: (ومن بَعُد جهتها) أي: جهة الكعبة، فإن كانت جهتها في المشرق فالقبلة المشرق، وإن كانت جهتها المغرب فالقبلة المغرب، لا يكلِّفك الله أكثر من الجهة، والدليل على هذا قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، والشطر هو الناحية؛ لأن الشطر يُطلق بمعنيين: بمعنى النصف، وبمعنى الناحية، فيُقال شطر كذا، بمعنى ناحيته، وشطر كذا، أي: نصفه.

    كيفية الاستدلال على جهة القبلة

    قال المصنف رحمه الله: [فإن أخبره ثقة بيقين أو وجد محاريب إسلامية عمل بها].

    بعد أن عرفنا أن من كان داخل المسجد يستقبل العين، وأن من كان خارج المسجد يستقبل المسجد، وأن من كان خارج مكة يستقبل جهة مكة، بقي معرفة هذه الجهات، فللمصلي حينئذٍ حالات:

    الحالة الأولى: أن يكون عالماً بها عارفاً لها، يعلم أن جهة مكة هنا، فحينئذٍ يعمل بعلمه، وهذا لا يحتاج إلى اجتهاد ما دام أنه يعلم أن جهتها في هذه الجهة؛ فيعمل بما يعلم.

    الحالة الثانية: أن يكون غير عالمٍ بجهة الكعبة، ولكن هناك من يعلم جهتها، فإن أخبره وهو ثقة عمِل بقوله ما دام أنه يعلمها بيقين، وليست المسألة هنا مسألة اجتهاد، بل مسألة العلم، وفرقٌ بين مسألة العلم والاجتهاد، فالعلم أن تعلم جهة الكعبة، والاجتهاد أن تجتهد في ضبطها، فهذا شيء، وهذا شيء.

    مثال ذلك: لو كنت في دار بجوار مسجد الكعبة، وهذه الدار تطِل على البيت، لكن الغرفة التي أنت فيها ليس فيها نافذة تطل على البيت، والغرفة التي فوقك فيها نافذة، فجاءك الذي فوقك، وقال لك: القبلة هكذا لأنه نظر ووجد أن القبلة أمامه مباشرة، فحينئذٍ يلزمك أن تعمل بخبره، كأنك رأيت أنّ القبلة في هذا الموضع، وهذه المسألة ليست موضع اجتهاد، بل هذا موضع النقل، وموضع النقل شيء، وموضع التحرِّي والاجتهاد شيءٌ آخر.

    فابتدأ المصنِّف رحمه الله بمسألة العلم والاطلاع، إن اطلعت بنفسك على الكعبة، فكنتَ في غرفة تطل على مسجد الكعبة، وتعلم أنك تستقبل ما بين الركنين صحّ ذلك ولزِمك أن تعمل بهذا؛ لأنه اليقين، وليس هناك أرفع ولا أعلى من نظر الإنسان إلى الشيء؛ لأنه علم اليقين.

    الحالة الثالثة: أن يكون في حكم علم اليقين، كإخبار الشخص الثقة، أي: العدل الذي يوثق بقوله، وليس بإنسان كذاب، ولا فاسق لا يُعتَد بقوله وخبره، فإن كان فاسقاً لزِمك التبيُّن؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6].

    كذلك في حكم هذا قالوا: لو نزل الضيف على مضيفه، فإن صاحب الدار له أن يُعلِمه بأمور، منها قبلتَه ومكان قضاء حاجته؛ لأنه يحتاج إلى ذلك، فالأول لدينه، والثاني لرفقه ببدنه، فإذا أعلمك صاحب الدار عملت بعلمه؛ لأنه لا مساغ في مثل هذه المواضع أن تجتهد، وإنما هي مواضع النقل.

    قوله: [أو وجد محاريب إسلامية عمل بها].

    المحاريب: جمع محراب، وكان بعض السلف يكرهون وجودها في المساجد، ويكرهون الصلاة فيها، كما أُثِر عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورخَّص فيها بعض العلماء، قالوا: هذا مما سكت عنه الشرع، ويُعتبر من المصالح المرسلة؛ لأن الناس ضعُف فيهم الاجتهاد الذي يعلمون به القبلة، والأمر الثاني: قل أن تجد إنساناً منهم يعلم جهة القبلة، وربما جاء الغريب إلى البلد، فإذا وجد المساجد مربَّعة ليس فيها موضع القبلة فإلى أين يصلي؟ قالوا: فإذن هذه تعين على مقصود الشرع من استقبال القبلة، فتسامح فيها طائفة من العلماء رحمة الله عليهم.

    ودُرِج على ذلك، وانتشرت المحاريب ووُجِدت، وحصل الخلاف على ما ذكرنا، فبعض العلماء يكرهها، وبعض العلماء يُجيزها، وإن كان الأصل كراهيتها، لكن نظراً لوجود الحاجة قد يُغتفر وجودها.

    وبناءً على هذا فإذا وُجِد في المسجد محراب فإن هذا المحراب دليلٌ على القبلة، وأهل المسجد أعلم بقبلتهم، فكون هذه الأمة كلها تصلي في هذا المسجد، وأهل البلد أو أهل هذا الحي كلهم متظافرون ومتفقون على أن القبلة هنا، فمثل هؤلاء يُعتَد باجتهادهم.

    قالوا: هذه حالة الغريب إذا نزل، فحينئذٍ يلزمه أن يعمل بهذا المحراب، فيستقبل جهة المحراب؛ لأنها دليل على جهة القبلة، ولا يُعقل أن هؤلاء كلهم يتظافرون على خطأ دون نكير.

    وقوله: [محاريب إسلامية] مفهوم ذلك أن محاريب غير المسلمين لا يُعتَد بها كالديَر والصوامع، ويتأتى ذلك لو أن إنساناً -مثلاً- مسافر بين الشام وبين المدينة، ورأى بَيْعة (كنيسة) مستقبِلة إلى جهة بيت المقدس يعلم أن عكسها هو القبلة؛ لأن بيت المقدس على عكسه، فيعكس إلى القبلة فيستقبل الجنوب؛ لأن الذي يريد أن يستقبل بيت المقدس يستقبل الشمال، فإذا أراد أن يستقبل الكعبة يستقبل الجنوب.

    فقالوا: إن هذا لا يُعتد به؛ لأن النصارى لا يُؤمَن منهم تحريف دينهم، فخرج من هذا محاريب غير المسلمين، فقالوا: العبرة بمحاريب المسلمين دون غير المسلمين.

    العلامات التي يستدل بها المسافر ونحوه على القبلة

    قال رحمه الله تعالى: [ويُستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما].

    قوله: [ويستدل عليها بالسفر] أي: في حال السفر؛ لأن الباء تأتي بعشرة معانٍ، ومنها الظرفية.

    تعد لصوقاً واستعن بتسبـب وبدِّل صحاباً قابلوك بالاستعلاء

    وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلا

    فمن معانيها الظرفية، تقول: محمدٌ بالبيت، أي: في البيت.

    فُستدل على القبلة بالسفر -أي: في حال السفر- بالقطب، والقطب نجمٌ صغير خفي، والمراد به القطب الشمالي، ويكون بين بنات نعش الصغرى، وهو لا يكاد يظهر إلا في الليالي المقمرة، ويستدل عليه بالجَدي وبالفَرقَدَين، والفرقدان: النجمان اللذان يدوران على القطب، والقطب ثابت لا يتحول، ولكن دورتهما خفيفة، وبقية النجوم التي تراها حوله تدور حوله ومحيطة به كإحاطة الرحى، ولذلك يقولون: سمِّي قُطباً من هذا الوجه، ويستدل عليه إما بالجدي، وإلا بالفرقدين، ويحتاج إلى إنسان له علم وبصيرة بموضعه.

    وهذا القطب يكون في الجهة الشمالية، وفي بعض المواضع يمكن للإنسان أن يحدد موضع القبلة على حسبه، فإذا كان الإنسان في الشام، أي: في جهة الشمال، ووَضَعه وراء ظهره، ووراء أذنه، قالوا: هذا يُعد مستقبلاً للقبلة، وإذا كان في جهة اليمن يجعله في وجهه، كما قيل:

    مَن واجه القطب بأرض اليمن وعكسه الشام وخلف الأذُن

    يُمنى عراقٍ ثم يُسرى مصـر قد صححوا استقبالها في العمر

    ففي اليمن يجعله في وجهه؛ لأنه يكون في الجنوب فيَعكِس؛ لأن من كان في جنوب الجزيرة تكون قبلته في الشمال، فيجعل القُطب في شماله، وإذا كان في الشمال سيكون الأمر بالعكس، فيجعل القطب وراءه، ويكون في يمين مَن كان في جهة العراق، ويَسار من كان في جهة مصر، فهذا المشرق وهذا المغرب، فيُستدل بالقطب، وهو دليلٌ ثابت، هذا إذا كان يعرفه، ويمكنه أن يهتدي إليه.

    قوله: [والشمس والقمر ومنازلهما].

    كذلك الشمس والقمر، فلو فرَضنا أن إنساناً أراد أن يصلي الصبح قضاءً، حيث استيقظ بعد طلوع الشمس، فهو يعلَم أن الجهة التي فيها الشمس الآن هي المشرق، ويقابلها تماماً المغرب، فإذا كانت قبلته في جهة الشرق استقبل جهة طلوع الشمس، وإذا كانت في جهة الغرب استقبل جهة غروب الشمس العكسية، وجعل الشمس وراء ظهره عند الإشراق.

    لكن ينتبه لفصل الشتاء وفصل الصيف؛ لأنها في فصل الشتاء تنحرف إلى جهة الشمال، وتكون عند مهب الصبا في الشتاء، فينتبه لهذا الانحراف في الدرجات حتى يُراعِي السمت والجهة، ويكون أقرب إلى إصابة جهة الكعبة.

    وكذلك منازل القمر، فلو أنه في الليلة الأولى رأى الهلال فإنه يعلم أنها جهة المغرب، فإذا أراد أن يستقبل القبلة وكانت هذه جهة المغرب التي فيها الهلال فمعناه أن التي يخالفها المشرق.

    فإن كان من أهل المغرب جعل الهلال وراء ظهره واستقبل عكس الجهة التي هو فيها، وإن كان من أهل المشرق جعله في جهة المغرب؛ لأن قبلته ستكون في المغرب.

    قوله: [ومنازلهما] للقمر منازل، فمثلاً في الليلة السابعة لو أن الإنسان في المشرق يكون القمر مواجهاً له، بحيث لو استقبله يكون على القبلة، فهذا في الليلة السابعة؛ لأنه في كل ليلة يكون للقمر منزلة، وهي ثمانٍ وعشرون منزلة.

    والمقصود أنه يتعلم هذه الأمارات والعلامات ويطبِّقها، وهذا إذا كانت السماء صحواً وأمكنه أن يعلم، أما إذا كانت مغيمة فحينئذٍ يكون الحكم شيئاً آخر، فيستدل إذا وُجِد الإمكان للاستدلال، لكن لو لم يمكن له الاستدلال لوجود الغيم فحينئذٍ لا يُكلَّف بالاستدلال لعدم وجود الأمارات والعلامات، والأصل في اعتبار هذا الدليل وهذه الأمارات قول الله تعالى: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، وهذه من نعم الله عز وجل.

    وذكر لنا بعض مشايخنا رحمة الله عليهم -وقد كان يفسِّر لنا قوله تعالى: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [النمل:63]- أنه كان في صِغَرِه مسافراً من مصر إلى مكّة من أجل الحج، وهذا الكلام قبل قرابة ثمانين سنة، وقد توفِّي الشيخ وكان من العلماء الأجلاء رحمة الله عليه، يقول: كنا في الليل في السفينة، وكنت بجوار الذي يقود السفينة، فوجدته ينظر إلى السماء ويقود، وكنت صغير السن، فعجبت؛ فسألته وقلت له: كيف تقود وأنت تنظر إلى السماء؟ قال: إن بعض الشعاب المرجانية الموجودة في البحر يُستدَل عليها بالنجوم، فبعض النجوم تدل على مواضعها.

    ولا يقف الأمر عند العلامات والأمارات التي تكون بالجهات، بل حتى ساعات الليل من ناحية أوله وأوسطه وآخره، فالثلث الأول والثلث الأوسط والثلث الأخير يدل على ذلك إذا ضبطها الإنسان، فكل شيء موزون، وليس في الكون اختلاج؛ لأنه من صنع اللطيف الخبير والحكيم البصير سبحانه الذي لا يمكن أن تجد في خِلقته أو صنعه أي خلل، وخلَق كل شيءٍ فقدَّره تقديراً.

    وقد وضع بعض الخبراء في موضع ما ثقباً صغيراً لا يدخل ضوء الشمس منه إلا في لحظة معينة من السنة كلها، وهذا يدل على أن مجرى الشمس ثابت لا يمكن أن يتحول شعرةً واحدة، وهو يوم معين في السنة خاصة على الأيام التي تكون منضبطة بالأشهر الشمسية، فالشاهد من هذا أن هذه العلامات والأمارات ثابتة، وعلم النجوم محرَّم إذا كان يُتوصل به إلى ادعاء علم الغيب، أو يتوصل به للاعتقاد بالنجوم كما هو مذهب السامرة الذين يعبدون النجوم والكواكب -والعياذ بالله-، وهم قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهذا كفر -والعياذ بالله-، ويعتبر ردة وخروجاً عن الإسلام إذا اعتقد الإنسان أنها تنفع وتضر، كالاعتقاد في بعض النجوم أنها إذا ظهرت كان بلاءٌ وشقاءٌ على الناس، أو إذا اختفت أن ذلك نعمة ويسر، ويسمون هذا سعد السعود، وهذا سعد الذابح ونحو ذلك، فلا يجوز الاعتقاد في الكواكب ولا في النجوم، وإنما يعتقد في الله سبحانه وتعالى الذي يحكم ولا يعقَّب حكمه وهو الحكيم الخبير، فالمقصود أنه يجوز الاهتداء بالنجوم وبالكواكب وبالشمس وبالقمر لمن يعرف هذا الدليل.

    قال بعض العلماء: يجب على الإنسان إذا سافر أن يكون على علم بهذا الدليل، وإذا تركه يأثم؛ لأنه تلبَّس بالحاجة، وإذا تلبس الإنسان بالحاجة يجب عليه تعلم علمها، وكذلك يقولون: يجب تعلم أحكام البيع لمن تلبس بالبيع، ويجب تعلم أحكام التجارة لمن تلبس بالتجارة، وأحكام الحج لمن أراد الحج، وكذلك هنا من أراد السفر ينبغي أن يتعلم هذه الأمارات والعلامات حتى يكون آمناً أو سالماً في دينه.

    وهناك أدلة أخرى لم يذكرها المصنف، ومن أضعفها الرياح، فقد ذكر الإمام النووي رحمه الله أن للقبلة أدلة كثيرة، حتى أُلِّفت فيها مؤلفات، وكثيرٌ منها مخطوط، ويقول: إن أضعفها الرياح. فالريح أحياناً يستدل بها على القبلة، كالصبا والدبور والشمال والجنوب، فهذه كلها رياح يُستدل بها على الجهات، خاصةً إذا كان الإنسان غالب حاله في البر فإنه يضبط هذا، فأهل البر عندهم علم وخبرة بذلك.

    وأذكر أنني ذات مرة زرت بعض المناطق التي على الساحل، فقال أحد المشايخ الفضلاء: إنه إذا جاء الزوال هبت الرياح من البحر، وكانت في أول النهار تهب الرياح إلى داخل البحر، وإذا جاء الزوال هبت من البحر، ثم لا نلبث أن نمكث ثلاث ساعات إلى ساعتين ونصف حتى تهب إلى داخل البحر، ثم إذا جاء العشي أو آخر النهار هبت من البحر، فانظر إلى رحمة الله ولطفه؛ لأنهم في أول النهار يحتاجون الدخول إلى البحر، فسخرها سبحانه على البحر، ثم إذا قضوا معاشهم في منتصف النهار احتاجوا للرجوع فسخرها الله على البر، ثم إذا قضوا واستجموا كانوا أحوج ما يكونون للدخول، فيسخرها الله على البحر ويرسلها على البحر ثم يعيدها إلى البر، وهذا كله من لطف الله سبحانه وتعالى.

    اختلاف مجتهدين في القبلة

    قال رحمه الله تعالى: [وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهةً لم يتبع أحدهما الآخر ويتبع المقلد أوثقهما عنده].

    إذا اجتهد المجتهدان فلن يخلو اجتهادهما من حالتين: إما أن يتفقا وإما أن يختلفا، فإذا اتفقا على الجهة وجب عليهما أن يصليا على هذه الجهة، ويأتمُّ كلٌ منهما بالآخر والجماعة فرضٌ في حقهما؛ لأن صلاة الجماعة خاصة على المذهب واجبة، وهذا هو الصحيح لدلالة السنة، ففي هذه الحالة إذا اتفق اجتهادهما لزمتهما الجماعة، ووجب عليهما أن يقيما الجماعة، ويأتم أحدهما بالآخر؛ لأنه يعتقد أنه يصلي إلى القبلة.

    لكن لو أن أحدهما قال: القبلة هنا، وقال الثاني: القبلة هنا، فحينئذٍ ينبغي النظر في دليل كلٍ منهما، فإن كان لا يمكن الجمع بين الدليلين والنظر إلى الأصوب منهما فحينئذٍ يصلي كل واحدٍ منهما إلى جهته، ولا يأتم أحدهما بالآخر؛ لأنه إذا ائتم به اعتقد بطلان صلاته؛ لأنه يصلي على غير جهة القبلة.

    وقال بعض العلماء: الشروط مسامحٌ فيها إذا اختلف حال المأموم والإمام. لكن لا أحفظ أن منها القبلة، والمحفوظ في شرط الطهارة والوقت، مثال ذلك: لو أن حنبلياً يرى صلاة الجمعة قبل الزوال، قالوا: يسوغ للمالكي والحنفي أن يصلي الجمعة وراءه؛ لأنها صحيحةٌ في أصلها من جهة المكلف، وقالوا: كذلك أيضاً لو أن من يرى أن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء جاز لمن يرى أنه ناقض أن يصلي وراءه، قالوا: فالخلاف في الفروع يرتفع في الاقتداء.

    وهذا مذهب المحققين، وقد نبه على ذلك ابن عابدين في حاشيته، وابن الهُمَام في فتح القدير، وأئمة المالكية كما في شروح المختصر، حيث يقولون: يرتفع الخلاف في الفروع في مسائل الاقتداء، ونبه عليه الشافعية ومنهم الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم، وفي روضة الطالبين، فذكر أن الخلاف في الفروع يرتفع، ويجوز للإنسان أن يصلي وراء من يرى أن مذهبه مرجوحٌ.

    وعلى هذا فرّع بعض العلماء مسألة الاقتداء، ولكن فُرِّق بينهما بأن الجهة تخالف الطهارة؛ لأن الطهارة أنت متطهر، قالوا: إنه متطهر في نفسه فصحَّت الصلاة.

    فالشاهد أن اقتداء المجتهدين بعضهما ببعض لا يتفرع إلا على مسألة من يرى اغتفار الخلاف في الفروع.

    لكن لو فرضنا أن الخلاف في الفروع مرتفع، وأنه يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر فمن الذي يكون إماماً؟ إذ ربما يقول أحدهما: أنا أريد أن أكون إماماً حتى أخرج من الإشكال ومن خلاف العلماء. ويقول الآخر: لا، بل أنا الإمام. فقالوا: العبرة بالإمام في الأصل، فإن تشاحَّا جرت بينهما القرعة، فمن خرجت القرعة له فالقبلة ما رجَّحه، هذا بالنسبة إذا حصل خلاف بينهما.

    وهذا على القول بأنه يأتم أحدهما بالآخر، أما على القول أنهما لا يأتم أحدهما بالآخر كما ما رجح المصنف فلا إشكال.

    قوله: [ويتبع المقلد أوثقهما عنده] المقلد: هو الذي لا يستطيع أن يجتهد، وليس عنده علم بأدلة القبلة، ولا يعرف القطب، ولا يعرف منازل القمر، ولا يعرف كيف يهتدي إلى جهة القبلة.

    فلو كان هناك مجتهدان واختلفا، وكان معهما عوام، فمن يتبع العوامُ؟

    قالوا: ينظر العامي إلى أقربهما أو أعدلهما أو أوثقهما في نظره، فإن رأى أن أحدهما أكثر ضبطاً وأكثر علماً ائتم به، وهذه المسألة التي يلغزون فيها ويقولون: عاميٌ يجتهد في المجتهد لأن المجتهدين كلٌ منهما توفرت آلته، قالوا: فيجتهد فيهما، فينظُر أيهما أقرب إلى الخير أو أكثر علماً ويصلي وراءه.

    وقال بعض العلماء: يُستثنى من هذا إذا كان أحدهما أميراً في السفر وهو إمامهم، فحينئذٍ تتبعه لمكان حق الإمارة؛ لأن إمامته هي المنعقدة، فالمأموم تبعٌ لهذا الأمير في سفره.

    حكم الصلاة بغير اجتهاد ولا تقليد إلى غير القبلة

    قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى بغير اجتهادٍ ولا تقليدٍ قضى إن وجد من يقلده].

    لو أن شخصاً لا يعرف أن يجتهد، وعنده إنسان عنده علم ومعرفة بجهة القبلة ولم يسأله ولا تابعه بجهة القبلة، وإنما جاء من نفسه وصلى إلى غير القبلة، فإنهم قالوا: صلاته باطلة؛ لأنه اجتهد من نفسه، وهو لا يحق له أن يجتهد، مع إمكان اطلاعه على جهة القبلة من جهة الاجتهاد، ولذلك ما دام أنه بوسعه أن يسأل هذا المجتهد، وأن يرجع إلى مَن هو أعلم منه يُلزم بعاقبة تقصيره، ويُطالب بإعادة الصلاة ولو طالت مدة هذه الصلاة، فلو جلس شهراً ثم سأل يلزم بإعادة الصلاة؛ لأنه صلى إلى غير قبلة، فالذي ليس عنده علم أو إلمام بجهات القبلة مع إمكانه أن يسأل مفرط، فيلزم بعاقبة تفريطه؛ لأن الله لا يأذن له أن يجتهد لنفسه ما دام أنه غير محصِّلٍ لآلة الاجتهاد.

    الاجتهاد في تحديد القبلة لكل صلاة

    قال رحمه الله تعالى: [ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاةٍ].

    قررنا أن المجتهد يجتهد، فإن كان عندك علم أن جهة القبلة في هذه الناحية، فصليت البارحة العشاء في هذه الجهة، فإن أصبحت وجاء الفجر فهل تبقى على اجتهادك الأول أم تجتهد اجتهاداً جديداً؟ لأنه ربما في الليل تهتدي بالقطب، ولكن في ليلة ثمانٍ وعشرين ربما تجتهد بطلوع القمر هلالاً من جهة المشرق، فيكون عندك دليل قد يكون أقوى من استدلالك بالقطب في الليل، فبعض الأحيان قد يحصل عند الإنسان في اجتهاده اختلاف على حسب الأدلة والأوقات، ولذلك قالوا: كل صلاةٍ يستأنف الاجتهاد فيها وهذا هو الصحيح، حتى يكون محصِّلاً للأصل، وهو كونه مطالباً بالنظر والاستدلال.

    قال رحمه الله تعالى: [ويصلي بالثاني ولا يقضي ما صلى بالأول].

    إذا اجتهد ثانية لا يخلو من حالتين: إما أن يوافق اجتهاده الثاني اجتهاده الأول فلا إشكال، كما لو صلى العشاء على هذه الناحية، فلما استيقظ الفجر اجتهد فوجد أن القبلة على هذه الناحية، لكن الإشكال لو أنه صلى العشاء على هذه الناحية، ثم اجتهد فوجد أن القبلة في هذه الناحية أو على العكس تماماً من الجهة التي استقبلها، قالوا: يصلي على اجتهاده الثاني ومضت صلاته على اجتهاده الأول؛ لما ثبت عند أبي داود والدارقطني والبيهقي وحسنه غير واحد من حديث سعد بن عامر رضي الله عنه: (أنهم كانوا في سفر في ليلةٍ ذات غيم فأرادوا الصلاة فنظروا -أي: اجتهدوا-، فلما أصبحوا إذا بهم على غير قبلة، قال: فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد مضت صلاتكم) أي: ما دمتم أنكم اجتهدتم وتحرَّيتم فقد مضت صلاتكم، أي أنها معتبرةٌ وصحيحة.

    1.   

    الأسئلة

    حكم صلاة الفريضة داخل الحِجْر

    السؤال: هل تصح صلاة الفريضة داخل الحِجْر؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فهذه المسألة تقدّم الكلام عليها، والحِجْر آخذ حكم داخل البيت؛ لأن الحجر تُرِك منه ستة أذرع، واختُلِف فيما هو زائد على ستة أذرع، كما ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من البيت قدر ستة أذرع وشيء، واختُلِف في هذا الشيء، وتكلَّم عليه المؤرخون الذين تكلموا على تاريخ مكة والكعبة، فقال بعضهم: إنه يصل إلى النصف، وقال بعضهم: إنه دون النصف بقليل.

    فهذا القدر يُعتبر من البيت، فإن صلى في هذا الحد وقع الخلاف الذي ذكرناه، أما لو أنه صلى فيما هو خارجٌ عنه، -أي: وراء الستة الأذرع والنصف- فإن صلاته صحيحة ومعتبرة، والله تعالى أعلم.

    حكم النظر إلى الكعبة أثناء الصلاة في الحرم

    السؤال: إذا كان الإنسان داخل الحرم فهل يلزمه أن ينظر إلى عين الكعبة أم ينظر إلى موضع سجوده؟

    الجواب: هذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء رحمة الله عليهم، قال بعض أهل العلم: من صلَّى فإنه يضع وجهه قِبَلَه ولا يضعه جهة السجود، وذلك لأن الله عز وجل يقول: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، وأما ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرمي ببصره إلى موضع سجوده، فقالوا: لا مانع أن يكون الأصل أنه كان يرمي ببصره إلى حيث أُمِر، ثم إنه يرمي إلى موضع سجوده في بعض الأحيان، كما يقع من الإنسان الخاشع، فهذا وجه من يقول: إنه يستقبل جهة القبلة ويجعل بصره أمامه.

    وأكدوا هذا أيضاً فقالوا: لأنه يحقق مقصود الشرع، فإنه لو مر أحدٌ بين يديه ينتبه له، ولكن إذا كان رامياً إلى موضع سجوده فقد يكون أقل انتباهاً لمن يمر، ولذلك قالوا: إن الأفضل والأولى أن يجعل وجهه قِبَل القبلة، بمعنى أنه يرفعه.

    وقال بعض العلماء: السنة أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وذلك لثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا صلى رآه الصحابة رامياً ببصره إلى موضع سجوده) صلوات الله وسلامه عليه.

    قالوا: وهو أيضاً يحقق مقصود الشرع؛ لأنه أقرب إلى الخشوع.

    وجاء حديث أم سلمة يؤكد هذا، وهو: (أن الناس كانوا إذا صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت أبصارهم لا تفارق موضع سجودهم، ثم لما قُتِل عمر رضي الله عنه نظروا أمامهم، فلما قتل عثمان أخذوا يميناً وشمالاً)، أي: على حسب الفتن، نسأل الله السلامة والعافية.

    فكان الخشوع موجوداً فيهم، ثم لما حصلت الفتن أصبح الناس يسلبون الخشوع شيئاً فشيئاً، كما جاء في حديث الدارمي : (إن أول ما يرفع من العلم الخشوع).

    فالمقصود أنهم قالوا: إن أم سلمة أثبتت هذا، فدل على أن مقصود الشرع أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وهذا القول في الحقيقة أقوى، وبناءً على ذلك إذا كان في مكة أو داخل البيت فإنه يأخذ بالسنة من الرمي إلى موضع السجود، وإن رفَع بصره إلى جهة الكعبة فلا حرج، لكن الذي تطمئن إليه النفس ما ذكرناه لورود الخبر مع تحقيق مقصود الشرع من الخشوع.

    وما ذكروه من دفع المصلي فإننا نقول: إذا تعارضت فضيلتان: الانتباه لدفع المصلي وخشوع المصلي، فإن خشوع المصلي متصلٌ بالصلاة، وفضيلته متصلة من هذا الوجه، ودفع المصلي منفصلٌ عن الصلاة ففضيلته منفصلة من هذا الوجه، فتُقدَّم الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

    استقبال القبلة لصلاة الفريضة في الطائرة

    السؤال: في بعض الأسفار تطير الطائرة لمدة ثلاث عشرة ساعة أو أكثر، ويتعذر استقبال الكعبة، فكيف تصلى الفريضة؟

    الجواب: بالنسبة للأسفار الطويلة في الطائرة فإنه يلزمه أن يستقبل جهة الكعبة، فيقوم ويأتي في هذا الممر؛ لأنه لا بد من وجود أوقات يمكن أن يستقبل فيها القبلة حتى ولو يؤخر إلى آخر الوقت، وإذا كان الناس يمرون أخر إلى آخر الوقت، وهذا مما يُستثنى من النهي عن الصلاة في قارعة الطريق، فإن النهي عن الصلاة في قارعة الطريق أضعف من أن يمنع المكلف من ركن الصلاة الذي هو القيام والركوع والسجود.

    ولذلك الأقوى -كما اختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم والنفس تميل إليه- أنه إذا جاء وقت الصلاة يقوم فيستقبل جهة مكة أو جهة الكعبة، وخاصة في بعض الرحلات حيث يتيسر فيها وجود البوصلة التي تدل على الجهة، فحينئذٍ يستقبل الجهة، ثم يصلِّي ولو في الممر، كأن يأتي في آخر الممر ويبسط سجادة ثم يصلي، فيأتي بالقيام والركوع والسجود والجلوس، لكنه لو جلس على كرسيه فلا يستطيع القيام ولا الركوع ولا السجود، فيُذهِب ما لا يقل عن ثلاثة أركان من أركان الصلاة، ولذلك لا يُخفَّف؛ لأنه بإمكانه أن يُحقِّق هذه الأركان بهذا الموضع، ولذلك تُغتفر صلاته في الطريق؛ لأن حديثها ضعيف، وتبقى الأركان المأمور بها على الأصل، ولأن قارعة الطريق إنما نُهِي عنها لوجود الضرر، وخاصة في الطائرات التي تكون ممراتها متعددة، فالضرر غير موجود؛ لأنه إذا صُلِّي في هذه الطريق فيمكن أن يلتمس المارُّ طريقاً آخر، فالذي يظهر أنه يمكن من الصلاة على الصفة التي ذكرناها في كل وقتٍ بحسبه، والله تعالى أعلم.

    حكم السترة في الحرم

    السؤال: ما الحكم في سُترة المصلي داخل الحرم؟ وهل يعذر في قطع الصلاة بسبب الزحام ونحوه؟

    الجواب: النصوص في السترة عامةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل)، وسئل عليه الصلاة والسلام عن سترة المصلي فقال: (مثل مؤخرة الرحل)، فلا يضره من مر وراء ذلك، وقال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً) فهذه كلها تدل دلالةً واضحةً على اللزوم.

    وبناءً على ذلك نظرنا في هذا النص فوجدناه عاماً لم يفرق بين كون الإنسان داخل المسجد أو خارجه.

    وقال بعض العلماء باستثناء مكة وداخل المسجد، والحديث في ذلك ضعيف، فلم يصح حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء داخل الكعبة، وإنما استثناه العلماء بهذا الحديث الضعيف وبالنظر -أي: الاجتهاد- فقالوا: إنه داخل المسجد يرى الكعبة، فلا حرج أن يمر أحدٌ بين يديه ولا يقطع صلاته وهذا اجتهاد في مقابل عموم النص فيُقدَّم عموم النص عليه، والصحيح أنه لا بد من السترة، بل ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته إلى السترة في داخل مكة.

    ففي الصحيحين من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبةٍ له حمراء من أدم -وهذا بعد أن فرغ من المناسك ونزل عليه الصلاة والسلام- قال: فأتاه بلال بوضوءٍ ... إلى أن قال: ثم رُكزت له العَنَزَة).

    وهذا يدل على أن داخل مكة كخارجها سواءً بسواء، والحديث ضعيف فيُبقى على عموم النص، ويستوي من كان بالداخل والخارج.

    لكن لو أن إنساناً غُلِب بمرور الناس فليتنح إلى ناحية ليس فيها أُناس، خاصة إذا كان يريد أن يصلي صلاةً واجبةً عليه، كأن يقضي ظُهراً أو عصراً، أما أن يأتي في المطاف مثلاً، أو بجوار المطاف أو المقام، ويريد أن الناس لا تمر بين يديه فإنه يعتبر كالمتسبب لنفسه في مرور الناس، فلو ظن أنه لا يمر بين يديه أحد وغلبه الناس فلا حرج، فلو قام يصلي سنة الظهر، أو ليصلي صلاة رغيبة الفجر فجاء الناس ومروا بين يديه وغلب عليهم فلا حرج؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يدفع إذا حصل الضرر عليه بغلبة الناس له، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755899903