إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
رقم هذا الدرس: (169) من أمالي شرح بلوغ المرام، والتاريخ هو السادس والعشرون من شهر ربيع الثاني من سنة (1425هـ)، والمكان جامع الراجحي بـبريدة، ضمن الدورة العلمية المقامة في الصيف لهذا العام.
والدرس هو امتداد لشرح أحاديث متعلقة بصلاة المسافر والمريض، وقد أنجزنا أمس بحمد الله عدداً من الأحاديث المتعلقة بهذا الموضوع، وبالذات حديث أنس رضي الله عنه في الجمع بين الصلاتين.
واليوم عندنا تقريباً ثلاثة أحاديث إن شاء الله ننهيها؛ لأنه ليس فيها مسائل كثيرة، فهي تدور حول بعض الموضوعات التي ذكرناها سلفاً.
الحديث الأول منها: ما ذكره المصنف رحمه الله ورقمه: (439) عن معاذ رضي الله عنه قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً )، رواه مسلم.
وهكذا خرَّجه أهل السنن، فقد رواه النسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه في أبواب الصلاة، ورواه أحمد في مسنده ومالك في موطئه في باب النداء للصلاة، والدارمي، وهو في مستخرج أبي نعيم وأبي عوانة .. وغيرهم.
معاذاً
خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم -وكذلك الصحابة- إلى تبوك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع -كما في الحديث هنا- بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فلما كان ذات يوم دخل ثم خرج، فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً، ثم قال لأصحابه رضي الله عنهم: إنكم ستقدمون غداً على عين تبوك، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئاً، قال: فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم غدا على العين فإذا عندها رجلان، فسألهما: هل مسستم من مائها شيئاً؟ قالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم نظر في مائها فإذا هو مثل الشِّراك، وإذا هي تبضُ، فأخذ الناس من مائها بأيديهم شيئاً فشيئاً ووضعوه في إناء، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم فيه يده وتمضمض فيه ثم صبه على العين فجاشت بالماء، فأخذ الناس منه وتوضئوا وشربوا )، هذه خلاصة الرواية.وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخره لـمعاذ أيضاً الحديث المشهور: ( يوشك يا معاذ
أما غزوة تبوك المشار إليها في الحديث فكانت سنة تسع، أظنها في رجب سنة (9هـ)، وهي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان معه جمع غفير من أصحابه، وقصَد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الروم بالشام؛ لأن تبوك على حدودهم، وذهب النبي صلى الله عليه وسلم وصالح أقواماً وأخذ الجزية من أقوام، ثم رجع من تبوك ولم يلقَ حرباً.
وفي تلك الغزوة حصلت أحداث كثيرة جداً وقصص معروفة، مثل: قصص المنافقين الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءوا يعتذرون، ومثل قصة الثلاثة الذين خلفوا: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:118]، ونزل فيهم ما نزل، وذكر كعب بن مالك قصته مع صاحبيه.
وأيضاً: مثل محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم في عَقَبَةٍ على الطريق من قبل بعضهم .. وقصص كثيرة جداً وقعت، وفي آخرها بعدها نزلت سورة التوبة التي كان ابن عباس وغيره يسمونها الفاضحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين فيها أحوال كثير من المنافقين، وكأن تلك الغزوة كانت من جهة تهييباً لقبائل العرب: أن الإسلام وقوته وانتشاره وصل إلى حيث أصبح يناهز ويناهض ويناوش الأمم والدول الكبرى كفارس والروم، وهذا يجعلهم يكفون عن التفكير بغزو المدينة أو أذية المسلمين.
ومن جهة أخرى: فيها توجيه للمسلمين إلى أن يفكروا بفتح الدول والأمم الأخرى والتخطيط لغزوها وإزالة الظلم والطغيان الذي كان يسيطر على بلاد فارس وبلاد الروم وغيرها من أمم الأرض، خصوصاً إذا علمنا أن تلك الأمم كلها لم يكن بينها وبين المسلمين لا عقد ولا عهد ولا ميثاق ولا أي أمر من الأمور، بل كان المسلمون يخشون من سطوتها وسلطانها، وفي صحيح مسلم قصة ابن عباس الطويلة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (كنا نتحدث أنهم ينعلون الخيل لحربنا)، فكانوا يتوقعون في أي لحظة أن يكون عليهم هجوم، فبادءوهم بهذه الغزوة وكان عدد المسلمين -كما قلت- كبيراً بالآلاف، هذا ما يتعلق بغزوة تبوك.
وهذه الرواية هنا في حديث معاذ تشبه الرواية التي ذكرناها أمس في حديث أنس بن مالك، وإذا كنا قلنا: إن الرواية في حديث أنس فيها شذوذ بزيادة كلمة (العصر) وهي لم ترد في الصحيحين، فكذلك نقول في حديث معاذ هنا: إن هذه الرواية التي فيها زيادة: (أنه كان يؤخر) أنها زيادة لا تصح بل هي منكرة، وإن جاءت من أكثر من طريق فقد جاءت من طريق هشام بن سعد عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي عن جابر بن عبد الله، وهشام بن سعد هنا في روايته مقال وقد خالف الثقات .
وجاءت أيضاً من طريق آخر: من طريق قتيبة عن الليث بن سعد، وهذا الطريق أيضاً طريق منكر، وأشار البخاري إلى أن بعض أصحاب قتيبة أدخلوه عليه من حديثه -أي: بعض الضعفاء- فتلقنه وأخذه ورواه، وأن الأئمة خالفوا هذه الرواية، فأكثر من روى الحديث عن الليث وعن أبي الزبير أيضاً وعن أبي الطفيل لم يذكروا هذه الزيادة: أنه كان (إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر)، يعني: جَمَعَ جَمْع تقديم.
الخلاصة: أن رواية جمع التقديم هنا لا تصح، وقد أنكرها الأئمة كما ذكرناه عن البخاري هنا، وغيره من أئمة الحديث، هذا ما يتعلق بقوله: (إنه صلى الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً).
دخل في خبائه أو خيمته التي نصبت له، ثم خرج منها وصلى المغرب والعشاء، وما زعمه بعضهم من أنه ترك الطريق فهذا ضعيف جداً، والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيماً مع أصحابه وضُرب له خباء أو خيمة فخرج منها وصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل فيها ثم خرج وصلى المغرب والعشاء جميعاً.
ولهذا نقول: إن حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة وهو صحابي من صغار الصحابة وهو آخر الصحابة موتاً كما يقول بعضهم، مات سنة مائة وعشرة هجرية، يروي عن معاذ بن جبل وهو صحابي أيضاً، فـأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي يروي عن أبي الطفيل الذي هو عامر بن واثلة، وعامر يروي عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الجمع وهو مقيم، فهذه حجة قوية لجواز جمع الإنسان وهو مسافر، وهذه الحجة لا ينقضها شيء، فهو دليل على جواز ذلك، ولذلك قال بعض الشراح: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، ونحن نقول: الجواز كافٍ.
فأقول: ذبحتنا الضوابط، يعني: إذا جاءنا سعة في الشريعة ما هناك داع لأن نسأل ونشدد على أنفسنا، بينما نجد أن الضابط أصلاً هو الحاجة، طيب، واحد يقول: ما ضابط الحاجة؟ ما لها ضابط.
أن الإنسان محتاج إلى هذا الأمر، وحتى لو كان هناك سبب أصلي مثل السفر، فإذا احتاج الإنسان إلى حاجة للجمع فليس عليه في ذلك حرج، مثلما لو كان يريد أن يصلي المغرب والعشاء لينام مبكراً، أو كان يريد أن يصلي الظهر والعصر جمعاً؛ لأنه يريد أن ينطلق في السفر ولا يريد أن يتوقف، أو كان يريد أن يجمعهما حتى يكون عنده وقت طويل للمراجعة ومتابعة بعض الإجراءات وبعض المعاملات الموجودة له في إحدى الدوائر الحكومية، أو مثلما حصل في الحج: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بـعرفة من أجل الدعاء.
طيب! والذي ما يدعو أيضاً ما نقول: يجمع؟ يجمع، حتى لو كان يريد أن ينام أو يسولف مع رفقته، وهكذا جمع بين المغرب والعشاء بـمزدلفة ونام بعدها، وإن كان جمع مزدلفة هو جمع تأخير على ما هو معروف.
فالمقصود: أن الضابط هو الحاجة، ولا يسأل أحد ما ضابط الحاجة، الحاجة هي الضابط.
إذاً: هذا هو مدار المسألة ومدار هذا الحديث في موضوع قوله: ( ثم دخل، ثم خرج فصلى الظهر والعصر، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء ).
قوله صلى الله عليه وسلم لهم: ( إنكم تأتون غداً عين تبوك )، وهي عين فيها ماء كما هو واضح تبض بالماء، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلمسوا أو يقربوا منها شيئاً حتى يكون صلى الله عليه وسلم هو أول من يباشرها؛ لأنهم كانوا بحاجة إلى الماء؛ بسبب السفر وليس معهم ماء، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هو من يباشرها حتى تنزل فيها البركة.
فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجد عندها رجلين فسألهما: ( هل مسستما -وهي تنطق بكسر السين مسستما، على الأفصح، ويجوز فيها الفتح مسستما- من مائها شيئاً؟ فقالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم )، وقد يكون ذلك عتاباً منه صلى الله عليه وسلم على ما بدر منهما.
وقيل: إن هذين الرجلين كانا من المنافقين، وهذا ليس ببعيد، وقد يكون الرجلان -كما يقول بعض الشراح- حملا نهي النبي صلى الله عليه وسلم على الكراهة، أو يكونا لم يعلما بنهيه، وهذا بعيد؛ لأنهما لو لم يعلما لاعتذرا بذلك وعذرهما النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يعذر فيما هو أبعد من هذا، فالأقرب ما قاله جمع من الشراح بأن الرجلين كانا من المنافقين.
( ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى العين فإذا هي تبض مثل الشراك )، تبض بالباء والضاد المنقوطة، يعني: تفيض بالقليل من الماء، يقال: يبض، يعني: يخرج قليلاً، وهذا يطلق على الأشياء المادية والمعنوية، إذا طلبت من إنسان غني -مثلاً- أن يتبرع لمشروع خيري ولم يخرج إلا القليل، تقول: فلان لا يبض إلا بالقليل، تشبهه بالماء القليل الذي يخرج من العيون، بخلاف الماء الكثير الغزير.
وبعضهم نطقها بالصاد: (تبص) وهذه ما هو معناها؟ هذه معروفة، يعني: قال: بص، يعني: انظر، يعني: أن فيها وميضاً من الماء.
وقوله: (مثل الشراك) ما هو الشراك؟ الشراك هو شراك النعل، وكأن المقصود: أنه لا يوجد فيها إلا شيء قريب منها، يعني: مثل قرب النعل من الأرض، يعني: ليس فيها ماء كثير.
(فأخذوا من هذا الماء قليلاً ثم وضعوه في شيء فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده فيه وبرك عليه ثم صبوه فيها فجاشت وفاضت وأخذ الناس بأوانيهم وتوضئوا وشربوا من عند آخرهم).
وفي آخر الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ، وهذا دليل على أن معاذاً رضي الله عنه كان قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة والغزوة؛ ولذلك خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم خطاباً خاصاً، فقال: ( يوشك يا
فهذا فيه: قوة إيمان معاذ رضي الله عنه حيث أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن ضعفاء الإيمان لو أخبروا بخلاف المحسوس الذي يستبعدونه لربما ضعف يقينهم وإيمانهم به، لكن لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من صدق إيمان معاذ فإنه أخبره بهذا الخبر، وكانت هذه معجزة، فإننا نحن نجد -وربما هذا حصل مرات وليس الآن فقط- لكن نحن نجد الآن أن كثيراً من هذه المناطق في تبوك وما حولها قد ملئت جناناً وأنهاراً، وهناك شركات زراعية في معظم المناطق التي كانت مناطق نائية كـالجوف وتبوك والمدينة وغيرها، وفيها من ألوان الأشجار والمشاريع والخيرات ما يوزع على أنحاء البلاد، بل وإلى بلاد أخرى مجاورة، ولعل في المستقبل أيضاً -والله أعلم- من مثل هذا أو ما هو أجلى وأوضح منه ما يصدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وبشارته لـمعاذ رضي الله عنه.
هذا ما يتعلق بموضوع حديث معاذ رضي الله عنه.
وأما ما يتعلق بفوائد الحديث، ففيه فوائد كثيرة جداً منها -بل من أهمها-:
جواز جمع الصلاتين في وقت إحداهما للمسافر وإن لم يكن جد به السفر، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، خلافاً للمشهور من مذهب الإمام مالك .
ومن فوائد الحديث أيضاً: بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون في تلك البلاد.
ومنها: فضيلة لـمعاذ رضي الله عنه وأرضاه.
وفيه: وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأن الأصل فيه الوجوب؛ ولذلك سب النبي صلى الله عليه وسلم هذين الرجلين.
وفيه بركة النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك بآثاره الحسية كالتبرك بثيابه وشعره وعرقه صلى الله عليه وسلم وريقه .. وما أشبه ذلك من الأشياء الثابتة عنه، وإن كان معظم هذه الأشياء أو كلها قد اندرس ولم يعد موجوداً، وربما تجد في بعض المتاحف في تركيا أو غيرها آثاراً بسيطة يقولون: هذه آثار -مثلاً- شعرات النبي صلى الله عليه وسلم، أو هذا شيء من ثيابه عليه الصلاة والسلام أو بردته، وتحقيق مثل هذا الأمر شيء عزيز، فالله تعالى أعلم به، يحتمل أن يكون الأمر كذلك، أو أن تكون هذه الأشياء قد ذهبت واندرست .
وقد كان عند أم سليم رضي الله عنها شعرات من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم في جلجل، فكان إذا مرض أحد صبت عليه من الماء وأعطته المريض فيشفى بإذن الله تعالى، لكن نقول: كأنه لم يعد بقي شيء من هذه الآثار النبوية التي يتبرك بها .
فإن المصنف -رحمه الله- قال: رواه الدارقطني، والدارقطني قد خرَّج هذا الحديث في سننه في كتاب الصلاة -مطبوع- باب قدر المسافة التي تقصر في مثلها الصلاة، وخرجه البيهقي أيضاً في السنن الكبرى في أبواب صلاة المسافر، وخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وذكره مالك في الموطأ بلاغاً، قال: بلغني عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الشافعي كما في ترتيب مسنده، وابن المنذر وعبد الرزاق ..وغيرهم.
وفي سنده أيضاً: إسماعيل بن عياش وهو وإن كان ثقة في حديثه عن الشاميين إلا أنه ضعيف في حديثه عن أهل الحجاز وأهل العراق، وهذا منها، فالحديث بكل حال مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح بل هو ضعيف جداً من حيث كونه مرفوعاً.
كما أن مما يدل على ضعفه مع ضعف السند ضعف المتن، فإن ابن تيمية -رحمه الله- يقول: كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكث بـالمدينة سنوات طويلة لا يقول للناس شيئاً ولا يبين لهم مسافة القصر؟! ثم يأتي إلى أهل مكة أياماً معدودة ويبين لهم مقدار ما يقصرون فيه أن لا يقصروا في أقل من أربعة برد، فهذا فيه بعد ونكارة، ولذلك الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل هو شديد الضعف، والصحيح أنه موقوف.
كما يقول المصنف، يعني: أنه من كلام ابن عباس رضي الله عنه، فهو من كلام ابن عباس وقد ذكره البخاري تعليقاً عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق عطاء ..وغيره، وذكره عبد الرزاق والبيهقي ومالك في الموطأ، وابن المنذر وغيرهم، بأسانيد وطرق عديدة وكثيرة إلى ابن عباس رضي الله عنه.
فنقول: أما إلى ابن عباس موقوفاً عليه فهو ثابت من طرق كثيرة وصحيحة، وأما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح، هذا ما يتعلق بتخريج حديث ابن عباس رضي الله عنه.
قوله: (أربعة برد) هذه جمع بريد، البرد جمع بريد، والبريد سبق معنا، البريد كم فرسخاً؟
أربعة، يعني: (4 × 4) تصير ستة عشر فرسخاً، يعني: أربعة برد.
والفرسخ ثلاثة أميال، (16 × 3) تصبح ثمانية وأربعين، طيب. هذه ثمانية وأربعون ميلاً، الميل كم هو بالكيلو متر؟
يقولون: الميل ثمانية أخماس الكيلو، يعني: واحد وثلاثة على خمسة، طيب. اضرب ثمانية وأربعين في ثمانية أخماس، تطلع تقريباً سبعة وسبعين كيلو متر بالمسافة المعاصرة.
إذاً: أربعة برد، ستة عشر فرسخاً، ثمانية وأربعون ميلاً، سبعة وسبعون كيلو.
طيب. هذا ما يتعلق بقوله: (أربعة برد).
ثم قال: (من مكة إلى عسفان )، وابن عباس رضي الله عنه في بعض الروايات التي ذكرت أنها صحيحة عنه بالأسانيد وذكرناها سابقاً أنه [ سأله واحد: هل أقصر إلى عرفة ؟ قال: لا، ولكن إلى عسفان وإلى الطائف وإلى جدة ]، فدل على أن ابن عباس رضي الله عنه قصد أنه ذكر عسفان على سبيل التمثيل، وعسفان قرية إلى الشمال من مكة، وهي بضم العين مثل عُثمان، وبينها وبين مكة تقريباً ثمانون كيلو متر، وهي الآن على الطريق السريع من مكة إلى المدينة، بل على ملتقى طرق عديدة، وهي بلدة عامرة اليوم، فهذه هي عسفان، وعسفان تختلف عن الطائف وتختلف عن جدة، يعني: هناك تفاوت في المسافة كما سوف أشير إليه.
إذاً هذه معاني الحديث.
الطريقة الأولى: تحديد المسافة بالمسافة المكانية، يعني: بالفرسخ أو بالبريد أو بالميل أو بالكيلو.
تحديده بالمسافة المكانية، وهذه تقريباً طريقة جمهور الفقهاء كالشافعية والحنابلة، والمالكية ..وغيرهم: أنهم يحددون المسافة بالأميال أو غيرها، فهم يحددونها بالمسافة الزمانية، يقولون -مثلاً-: من قطع ثمانية وأربعين ميلاً قصر، هذه الطريقة الأولى.
الطريقة الثانية: تحديد المسافة بالزمان، كأن يقولون: مسيرة يوم وليلة، أو من قضى يوماً تاماً، أو يومين -مثلاً- أو ثلاثة أيام على اختلافهم، وهذه طريقة الأحناف: أنهم يحددون المسافة بالزمن وليس بالمسافة المكانية، ويحددونها بالزمن، ولا يقصدون أن الإنسان يمشي هذا الزمن كله من الفجر إلى الفجر أو إلى أن يسقط رأسه من التعب، وإنما يقصدون السير، القاصد العادي، مثلاً: يمشي من الفجر إلى الزوال ثم يرتاح، أو يمشي أول النهار ويمشي آخره وأول الليل، هذه هي الطريقة الثانية: التحديد بالزمان.
الطريقة الثالثة: التحديد بهما معاً، يعني: بالزمان والمكان معاً، وهذه أيضاً عند بعض الأحناف يقولون: مسيرة ثلاثة أيام يمشي في كل يوم خمسة فراسخ -مثلاً- فيحددونها بالمسافة الزمانية والمسافة المكانية.
الطريقة الرابعة: هي طريقة من يحددون بالعرف من غير اعتبار لا للزمان ولا للمكان، وهذه طريقة ابن قدامة في المغني، وأخذها عنه ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وأنضجها وطورها وأشهرها حتى أصبحت من أشهر الأقوال في هذا الباب، ولا يبعد من هذا مذهب الظاهرية؛ لأنهم لا يحددون بمسافة كما هو قول الجمهور.
إذاً: التحديد هنا ليس تحديداً حاسماً وإنما هو تحديد تقريبي، وقد وسع الله تعالى علينا في هذه الأمور فلا ينبغي أن نضيق على أنفسنا.
ولذلك ينبغي أن يكون في المسألة نوع من السعة والتعاذر وأن لا تكون سبباً في الإشكال، بل أن يتطاوع الناس فيها ولا يختلفوا، وأن لا ينحي بعضهم باللائمة على بعض بسبب الاختلاف، وعلى سبيل المثال هذه المسألة بالذات، ابن حزم له فيها رأي -رحمه الله-: أنه يرى القصر في مسافة ميل واحد، يعني: تذهب إلى بعض القرى أو بعض الأحياء التي خارج البلد فتقصر، أو سكان بعض المزارع المتباعدة بعض الشيء إذا ذهب أحدهم يشرب القهوة عند الآخر كأنه أصبح مسافراً وصار له القصر؛ لأن المسافة ميل، يعني: أقل من كيلوين، وهذا القول لاشك أنه قول ضعيف، لكن مع ذلك هو قول مؤداه الاجتهاد، ولذلك ابن العربي -رحمه الله- لما بحث هذه المسألة قال: وقد ذهبت الظاهرية، وأيضاً الظاهرية غير ابن حزم يرون ثلاثة أميال أخذاً بحديث أنس : ( كان إذا سافر مسيرة ثلاثة أيام أو فراسخ قصر الصلاة )، فيأخذون من المسيرة ثلاثة أميال.
فيقول ابن العربي -رحمه الله-: وقد قال الظاهري في هذه المسألة قولاً لا يستحق أن أنظر إليه بطرف عيني، فهذا وإن كان القول غريباً، لكن ينبغي للعلماء أن يحرصوا على اللغة العلمية التي لا يكون فيها تحقير ولا ازدراء، وكذلك ابن حزم رحمه الله فإن من المعروف أنه سليط على من يخالفونه، حتى من الأكابر وربما شتمهم أو تنقصهم أو ازدراهم أو أحرجهم بقياسات لا يمكن أن يعجز الإنسان عن الجواب عليها .
وإنما أقول هذا؛ لأن الطالب قد يقرأ مثل هذه الألفاظ فيتأثر بشخصية الشيخ أو العالم كما نجد من المعاصرين -مثلاً- الشيخ الألباني رحمه الله على جلالة قدره وسعة علمه، إلا أن عنده قوة في عبارته وشدة على من يخالفه، وهذا قد يرجع أولاً: إلى الغيرة، ويرجع ثانياً: إلى الطبيعة، وميراث من الوالدين ومن الأسرة ومن العائلة ومن الظروف التي عاش فيها الإنسان، فتولد أن هذا الإنسان حاد، كما يقول العوام أحياناً عن الشخص: فلان لو عسرته يده لقطعها، فهذا نجده في الناس، فأنت لا تقتبس من هؤلاء الأئمة إلا جوانب الحدة فيهم والتي قد يعذرون هم فيها بسنهم وعلمهم وقدرهم، لكن أنت ما تعذر لشبابك ولأنك ما زلت في بداية الطلب، وأيضاً لا تأخذ من الناس أسوأ ما فيهم، خذ من هؤلاء العلماء أفضل ما فيهم، وتذكر قول الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ [الأحقاف:16]، ولو أن الإنسان أخذ من كل عالم ما زل فيه أو خالف فيه لاجتمع فيه الشر كله كما يقول بعض السلف.
إذاً: هي مسألة اجتهادية والخلاف فيها سائغ، وفي غيرها مما تناقل الأئمة والعلماء الخلاف فيه، ولا ينبغي أن يكون فيها إزراء ولا تنقص، وإن كنت بصراحة أحذر الشباب من أخذ الأقوال الغريبة، ولو قال بها من قال من أهل العلم، ففرق بين أن تعذر العالم وتستغفر له وتترك قوله، وبين أن تعجب به وبقوة عارضته، ولغته، ثم تأخذ بهذا القول، وقد يكون القول فيه غرابة؛ لأن بعض الأقوال بعيدة عن القوة، لكن في قوة شخصية من يقررها يبدو كما لو كان مصيباً، فإذا لم يكن عند الطالب علم تأثر بهذا العالم وتابعه، فلو أن شاباً في مقتبل التعلم وتتلمذ على المحلى لـابن حزم وأخذ غرائبه وأفراده وأصبح يعمل بها ويفتي بها، هذا سيكون فيه نوع من الإشكال.
والذي رأيته من خلال ملاحظتي العلمية: أن غالب المسائل مذهب الجمهور فيها أقوى وأمتن من غيره، ولا نقول هذا مطلقاً، ولا يعني ذلك: أن الصواب محصور في مذهب الجمهور، وأيضاً ينبغي أن نراعي كلمة الجمهور؛ لأنه أحياناً قد يطلق قول الجمهور على بعض الأقوال التي ليست هي مذهب الجمهور، وقد رأيت أن العالم إذا انتحل قولاً وتحمس له أصبح يقول: إن هذا قول الجمهور، ولو تحريت لوجدت أن هذا القول ليس هو مذهب الجمهور، بل هناك مذهب أكثر منه شهرة وقائلاً.
والمسألة هي: مسافة السفر التي يجوز للإنسان أن يترخص فيها:
ذكرنا أن ابن المنذر وابن حجر .. وغيرهم ذكروا فيها ما يزيد على واحد وعشرين قولاً في المسألة، ونحن سوف نختار منها تقريباً أهم الأقوال.
فهناك أولاً: قول الأحناف: وهم يرون مسيرة ثلاثة أيام -وهم يحددون بالزمن- يرون أن مسافة القصر مسيرة ثلاثة أيام.
ويحتجون بمثل حديث علي بن أبي طالب في المسح على الخفين ثلاثة أيام للمسافر ويوماً وليلة للمقيم، وهو في مسلم.
ويحتجون بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد وابن عمر : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم ) .. وما أشبه ذلك من النصوص.
ونقول: هذه النصوص لم ترد في تحديد السفر وإنما وردت في حكم خاص، وقد ورد ما هو دونها، مثل قصة سفر المرأة، ورد فيه التحديد بيوم وليلة كما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فلا يكون للتحديد بثلاثة أيام معنى، هذا هو القول الأول.
القول الثاني: وهو مذهب الجمهور، وأقول: جمهور؛ لأنه مذهب مالك وأحمد والشافعي : أنهم يحددونه بيوم وليلة، أو يحددونه بالمسافة، بمرحلتين أو بأربعة برد، والبريد: أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فيكون تحديد الجمهور تقريباً بثمانية وأربعين ميلاً كما ذكرناه في معنى الميل على حديث ابن عباس هنا.
وهذا القول الذي هو قول الجمهور هو مذهب ابن عباس ومذهب ابن عمر، وقد ثبت عنهم بالأحاديث الصحاح، فابن عمر -مثلاً- روى عنه مالك في الموطأ من طرق عديدة وصحيحة ثابتة أنه قصر -مثلاً- من المدينة مسيرة يوم تام، وثبت عنه أنه مضى إلى ذات النصب -هذا في الموطأ - فقصر، وذات النصب هي أربعة برد، وثبت عنه أنه ذهب إلى ريم وهي أيضاً منطقة قريبة من المدينة، قال العلماء: إنها منطقة واسعة، بعدها ثلاثون ميلاً وأقصاها ثمانية وأربعون ميلاً، فقد ذكر عبد الرزاق والزهري أنها ثلاثون ميلاً من المدينة، لكن ذكر ابن عبد البر وغيره أنها ثمانية وأربعون ميلاً، وأن هذه المدينة واسعة، واستشهدوا بأبيات شعر الذي يقول:
فكم من حرة بين المنقى إلى أحد إلى جنبات ريم
يعني: معناه أن ريم ليست فقط مكاناً صغيراً وإنما هي منطقة واسعة.
إلى الروحاء من طرف خفي .... ومن كشح هضيم
فالمقصود: أن المكان هذا مكان مترامي الأطراف، نهايته ثمانية وأربعون ميلاً من المدينة، وقد تكون بدايته ثلاثين ميلاً، وبذلك تجتمع الأقوال، وقد (سأل رجل ابن عمر عن القصر؟ فقال: اقصر إلى السويداء)، والسويداء قد تزيد على هذا القدر ولكن لا يعني الأمر فيها التحديد كما ذكرنا.
وابن عباس رضي الله عنه نقل عنه مثل هذا، ومنه أنه كان يأمر أهل مكة أن يقصروا إلى عسفان وإلى الطائف وإلى المدينة، والبخاري في صحيحه روى بسند صحيح معلقاً عن عطاء إلى ابن عباس وابن عمر أنهم قالوا: (يقصر أهل مكة إلى الطائف وإلى عسفان وإلى جدة)، إذاً: عندنا فتوى يا أهل الطائف من ابن عباس وابن عمر صريحة صحيحة بالقصر ما بين الطائف ومكة، وما بين مكة وجدة، وما بين مكة وعسفان، وهذه المسافات ليست منضبطة لكنها متقاربة، ونحن قلنا: إن هذا المذهب الذي هو مذهب الجمهور ومذهب جماعة وكثير من الصحابة والتابعين والأئمة: أنه يحدد بالمسافة أربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، فهذه ستة عشر فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، فهذه ثمان وأربعون ميلاً، والميل ثمانية أخماس الكيلو متر، يعني: كيلو متر وثلاثة أخماس، فتكون تقريباً ستاً وسبعين أو سبعاً وسبعين كيلو متر بالمسافة المعاصرة، هذا كما قلنا على سبيل التقريب، وإن كان العلماء المتأخرون والمعاصرون منهم يختلفون ما بين خمس وسبعين إلى تسعين، يعني: يعطون خمسة عشر كيلو مجالاً للاختلاف في الحسبة والتقدير، ولا يضر الاختلاف فيها إن شاء الله تعالى.
إذاً: هذا هو القول الثاني وهو قول الجمهور: أن المسافة هي ثمان وأربعون ميلاً -كما ذكرنا-.
القول الثالث: هو للظاهرية المتقدمين كـداود .. وغيره: أنهم يرون المسافة ثلاثة أميال؛ أخذاً بحديث أنس السابق: ( إذا سافر مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ قصر ).
الرابع: هو مذهب ابن حزم : ميل، وقد نص عليه في المحلى واستدل بأثر في هذا الباب لا يغني.
الخامس: مذهب ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم : أن الاعتبار بالعرف، وهذا ليس معروفاً عند المتقدمين، ولعل من أول من أشهره وذكره ابن قدامة ثم طوره ابن تيمية وأصبح مذهباً قوياً، وهذا دليل على أن العالم قد يأتي إلى أقوال ربما تكون مهجورة ولها وجاهة فيستدل لها ويظهرها حتى أصبح هذا القول مشهوراً جداً، وأصبحت المدرسة التي تستفيد من تراث ابن تيمية، في مصر كـمحمد عبده ورشيد رضا، وفي الشام كـالقاسمي ثم الألباني، وفي الهند كـصديق حسن خان .. وغيرها من المدارس السلفية، وفي العراق أيضاً، وفي اليمن كـالشوكاني، وفي الخليج والجزيرة والسعودية، فالشيخ ابن سعدي -رحمه الله- وأئمة الدعوة الوهابية والشيخ ابن باز وابن عثيمين، يستفيدون من هذه المدرسة عموماً وإن كان منهم من لا يأخذ بهذا القول، والشيخ ابن باز خصوصاً لا يرى هذا القول فيما يتعلق بالسفر، لا يرى مسألة العرف لا في المسافة ولا في مدة الإقامة، لكن المقصود إشهار هذا القول ونشره على يد ابن تيمية -رحمه الله-.
فتقريباً هذه خمسة أقوال، والذي اخترناه منها ورجحناه في ذلك البحث هو القول الثاني، قول الجمهور: أن المسافة محددة بالكيلو مترات أو بالأميال، وهي ما بين خمسة وسبعين إلى تسعين، فهذه كلها يمكن فيها الاختلاف، وهي مسافة القصر.
فمن أراد أن يسافر مسيرة خمسة وسبعين كيلو، فإن له أن يتمتع برخصة السفر، وأخذنا هذا القول أولاً، وهذا التحديد بالمسافة هو مذهب الجمهور يقيناً؛ لأنه على الأقل مذهب الأئمة الأربعة، صحيح أن أبا حنيفة يطول المسافة عنهم أطول منهم لكن يرجع إلى أنه يحدد بالمسافة، وهذا ثابت بأسانيد لا إشكال فيها عن ابن عباس وابن عمر وجمع من الصحابة، ولا يوجد ما يعارضه في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذلك أنه أضبط؛ لأن كثيراً من الناس لا يدرون ما العرف، هل هو عرفي أنا أم عرف الناس أم عرف الصحابة، أم هذا العرف يتغير أم لا يتغير، ففي ذلك لبس كثير وهذه من المسائل التي تمس الحاجة إليها، فأن يرجع الناس فيها إلى أمر سهل واضح؛ فهو أفضل.
الأمر الثاني: أن التحديد هنا بالمسافة لا يوجد ما يعارضه في السنة، بخلاف ما يتعلق بالمدة -مدة الإقامة- فإنه من قال: إن التحديد بثلاثة أيام أو أربعة أيام احتج بأمر اتفاقي عارض ويوجد ما يعارضه ممن مكث تسعة عشر يوماً أو عشرين يوماً يقصر الصلاة، ومن احتج بعشرين أو تسعة عشر يوماً نجد ما يعارضه أيضاً من أفعال الصحابة الذي منهم من قد يكون مكث شهوراً يقصر.
وأيضاً: ما نقوله فيمن مكث أربعة أيام، نقول في تسعة عشر يوماً أن الأمر اتفاقي، وما يدريك أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مكث بـمكة تسعة عشر يوماً في الفتح إلا أنه لم يأمر من جاءوا قبله أو بقوا بعده أن يتموا، وهكذا في تبوك مما يشكل على الاستدلال بهذه القضية.
النقطة الثالثة في موضوع تسويغ التفريق بين المسألتين: أن مسألة المسافة تحدد بخمس وسبعين كيلو متر أو ما زاد عليها أن هذه المسألة هي لتحديد ما يعد سفراً وما لا يعد سفراً، فلابد من ضبطها بحيث يعرف الإنسان إن كان مسافراً أو غير مسافر، مترخصاً أم غير مترخص.
أما المسألة الأخرى: فقد اتفقنا على أصل السفر، لكن اختلفنا في هذه الإقامة ضمن السفر، هل تقطعه أو لا تقطعه؟ وهذا ليس له ضابط، فأن يرجع فيه إلى العرف الذي يراه الإنسان من نفسه أو يعرفه الناس منه فلا بأس بذلك.
تقريباً هذه معظم المسائل الموجودة في هذا البحث.
وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر : ( خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا وأفطروا )، وقال المصنف رحمه الله: أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف. قال: وهو في مرسل سعيد بن المسيب عند البيهقي مختصراً.
هذا الحديث المصنف -رحمه الله- عزاه إلى الطبراني، وهو موجود في الطبراني، موجود أولاً في المعجم الأوسط، وموجود أيضاً في كتاب الدعاء للطبراني وهو كتاب مطبوع، باب ما جاء في الاستغفار.
وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه بلفظ أطول مما ساقه المصنف، ورواه أبو نعيم في الحلية، والشافعي وغيرهم.
وحقيقة تتبعت طرق هذا الحديث فوجدت أن جميع طرقه معلولة، وهو أيضاً مضطرب، فهو أحياناً مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً موقوف، وأحياناً متصل، وأحياناً مرسل، ولا يذكر فيه جابر رضي الله عنه؛ ولهذا أعله أكثر أهل العلم، وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية، وفي رواته من كذَّبه، كذبهم أهل العلم، وذكره أيضاً ابن أبي حاتم في كتاب العلل، فهذا الحديث لا يصح، سنده ضعيف .
قوله: (الذين إذا أساءوا استغفروا) وفي المصادر التي أشرت إليها زيادة، (وإذا أحسنوا استبشروا)، المعنى: (أساءوا) يعني: ظلموا أنفسهم أو عصوا استغفروا، وهذا المعنى بحد ذاته ثابت وصحيح، كما في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135].
(وإذا أحسنوا استبشروا) هذا المعنى أيضاً صحيح، أن الإنسان إذا أحسن -يعني: فعل الحسنة- فعل الطاعة، استبشر وسر بذلك، ويكفينا في ذلك الحديث الصحيح: ( إذا ساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فأنت مؤمن ) .
قال: (وإذا سافروا قصروا وأفطروا) وهذا المعنى جديد، يعني: هؤلاء هم الخيار الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا، وقد سبق أن بينا الفرق بين القصر وبين الفطر، وأن القصر للمسافر سنة.
لكن الفطر فيه تفصيل، وفيه اختلاف، وقد يكون الفطر والصوم سواء، وقد يكون الصوم أفضل، وقد يكون الفطر أفضل، وفي المسألة تفصيل ذكر في موضعه، ولعله يأتي أيضاً في كتاب الصيام.
فهذا هو الإشكال في الحديث، قوله: (وإذا سافروا قصروا وأفطروا) وقد يستدل بمثل هذا اللفظ من يرى وجوب القصر ووجوب الفطر وهو قول معروف عند بعض السلف كما ذكرناه سابقاً، وليس في الحديث كبير شيء أكثر من هذا.
الجواب: طبيعي، كل الناس يبدءون بالطهارة؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة.
الجواب: شيء جميل جداً، طبعاً هل أنت مسافر أم لا؟! هذا السؤال، فإذا كنت مسافراً ومحتاجاً إلى ذلك فلا بأس، وأما إذا كنت مقيماً فالصلاة: كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
الجواب: بالنسبة للجمع ينبغي أن يكونا متواليين وأن لا يفصل بينهما بفاصل طويل عرفاً.
الجواب: والله نحن نقول: القادر عليه أن يشتري الجهاز الخاص؛ لأنه أضبط، ولدعم أيضاً هذه المؤسسة الإعلامية المحتاجة إلى الدعم، أما من لا يستطيع فليس عليه بأس.
الجواب: لا.. كيف تقصر الصلاة لأنك مريض؟ القصر هو خاص بالمسافر، وهذا من بديهيات المسائل.
الجواب: ذكرنا أنهم يردون أنه دخل إلى خارج الطريق.
الجواب: قد يحتجون ويقولون بالجمع الصوري، ولكنه ضعيف.
الجواب: صبغ الشعر للرجل والمرأة جائز، وأما الصبغ بالسواد ففيه ثلاثة أقوال:
منهم من قال بالكراهة.
ومنهم قال بالتحريم.
ومنهم من قال بالجواز.
وأنا أميل إلى الثالث؛ لأن زيادة: (وجنبوه السواد) لا تخلو من شذوذ.
الجواب: تتم من بعد سلامه، نعم.
الجواب: يجمعها إذا كان مسافراً أو معذوراً كما ذكرنا للأسباب التي يجوز فيها الجمع.
الجواب: العرف هو الأمر المتعارف عليه عند الناس، الاصطلاح المتعارف عليه عندهم.
الجواب: إن وجدتهم يصلون فالسنة أن تصلي معهم، وإلا فصلّ قصراً ولو جمعت جاز.
الجواب: ليس كثيراً، الفرق يسير.
الجواب: إذا كان ذلك مع وجود النية، أنت ناوٍ أن تذهب لتصيد في منطقة على مسافة مائة كيلو -مثلاً- نعم.
الجواب: طبعاً الزنا، العين تزني، والأذن تزني، واليد تزني، والزنا التام هو أن يفعل الرجل مع المرأة مثلما يفعل الزوج مع زوجته بالإيلاج الموجب للاغتسال، فهذا هو الزنا، وإذا تابت الزانية أو الزاني تاب الله تعالى عليهم كما في قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ [مريم:60]، وهكذا قوله سبحانه: وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]، يعني: لا يقبل نكاحها ما دامت مقيمة على زناها، وأما إن تابت فإن الله تعالى يتوب عليها.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر