إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فهذه ليلة الإثنين، الخامس عشر من شهر صفر، من سنة ألف وأربعمائة وخمس وعشرين للهجرة، ورقم هذا الدرس (مائة واثنان وستون) من أمالي شرح بلوغ المرام.
وننتقل اليوم إلى بقية أحاديث الباب، وهي الأحاديث الثلاثة:
حديث أنس وعائشة في إمامة الأعمى، وحديث ابن عمر : ( صلوا على من قال: لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال: لا إله إلا الله )، وحديث علي رضي الله عنه: ( إذا أتى أحدكم والإمام على حال، فليصنع كما يصنع الإمام ).
أما الحديث الأول ورقمه (أربعمائة وخمسة وعشرون) حديث أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف
والمصنف ذكر هذا الحديث ونسبه إلى أحمد وأبي داود .
ابن أم مكتوم
- شهد القادسية ومعه راية سوداء ).وأما الإمام أبو داود فقد روى هذا الحديث في كتاب الصلاة، باب إمامة الأعمى، وقد روى الحديث أيضاً أصحاب المصنفات، كـابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي والطبراني .. وغيرهم.
وسند الحديث حسن؛ وذلك لأن فيه راوياً اسمه عمران القطان أو عمران بن داور، وهو حسن الحديث أو صدوق، فلذلك ينحط الحديث عن رتبة الصحيح.
ابن أم مكتوم
يصلي بالناس، وهو أعمى ).ومن شواهد الحديث أيضاً: ما رواه الطبراني وسنده حسن، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه بنحو حديث الباب، فهو الشاهد الثاني.
ومن شواهده أيضاً -إن صح- ما روي عن عبد الله ابن بحينة، ولكن في سنده الواقدي، محمد بن عمر الواقدي صاحب السيرة، وما هو حال الواقدي؟
ضعيف أو ضعيف جداً، بعضهم يقول: متروك، لكن الأقرب أنه ضعيف جداً. فهذه بعض شواهد الحديث.
وقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه باباً في جواز إمامة الأعمى، وروى فيه آثاراً عديدة عن جماعة من الصحابة، منها ما ذكرنا، ومنها رواية عن الشعبي: [ أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يؤمون وهم عماة ]. وكذلك ذكر عن الزهري : [ أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الواحد منهم وهو أعمى ]، وذكر الزهري منهم: عبد الله بن أم مكتوم، كما في هذه الرواية، وذكر منهم أيضاً رجل يؤم قومه وهو قد أنكر بصره أو ضعف بصره وهو عتبان بن مالك، وقد جاء حديثه معنا مرات كثيرة، ولعلنا نعرض له بأكثر من هذا، وكذلك معاذ بن عفراء، أما عتبان بن مالك فأخشى أن ننساه فقد جاء حديثه في الصحيحين، في الأصل في البخاري : ( لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني أنكرت بصري، وبيني وبين مسجد قومي واد، فإذا سال لم يستطع أن يذهب، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته مكاناً يتخذه مصلى )، وهو قال: (أنكرت بصري) لكن في بعض الروايات حتى في البخاري قال: ( وكان يؤم قومه وهو أعمى ) فهذا يحمل والله أعلم على فترة متأخرة: أن الراوي أدركه يؤم قومه وهو أعمى، وأما لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن عمي يومئذ، ولكنه أنكر بصره، وتمادى الأمر ببصره حتى فقده بالكلية، وبعضهم قالوا: إن قوله: (وهو أعمى) أنه قريب من العمى لشدة ضعف بصره، ليس هذا مشكلاً، المهم أنه كان يؤم قومه وهو أعمى.
هذان الحديثان: حديث عائشة رضي الله عنها في قصة عبد الله بن أم مكتوم أيضاً، هو مثل الذي قبله، يدلان على مسألة: وهي إمامة الأعمى.
قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم) أي جعله خليفة، لكن هل المقصود الاستخلاف في إمارة المدينة، أو استخلفه على مهمة خاصة وهي الإمامة؟
ظاهر النص أنه استخلفه على الإمامة، وإن كان في بعض الروايات أنه استخلفه على المدينة، لكن قد يكون الغالب أنه يستخلفه على الإمامة في الصلاة، لكثرة ما يتأخر عبد الله بن أم مكتوم ؛ لأنه كان أعمى، كان معذوراً، فإذا خرجوا للجهاد بقي، فكلفه النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة، وقد يكلف غيره بأمر المدينة وإمارتها.
هذا معنى قوله: (استخلفه). وقد ورد في بعض الروايات: (أنه استخلفه مرتين)، كما ذكرت لكم في مسند أحمد، والذي عده أهل السير والتاريخ: أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عبد الله بن أم مكتوم، على الإمامة في الصلاة في المدينة نحو ثلاث عشرة مرة، منها في غزوة الأبواء، ومنها: في غزوة بواط، ومنها في غزوة العشيرة أو العسيرة بالسين أو بالشين، ومنها: في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهينة، في طلب كرز بن جابر، ومنها: في غزوة السويق، وغطفان، وأحد، وحمراء الأسد، وذات الرقاع .. وغيرها من المغازي، التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان آخرها استخلافه حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع.
وقوله: (يؤم الناس) هذا دليل على أن المقصود بالاستخلاف هنا الاستخلاف للصلاة، أنه استخلاف كان يخص الصلاة، لكن: هل الإمامة خاصة بالصلاة، لما نقول: إمام، ماذا تعني؟
تحتمل ثلاثة معان:
المعنى الأول: الإمامة الكبرى، وهي الخلافة أو الولاية.
المعنى الثاني: الإمامة للصلاة.
يوجد معنى ثالث يستعمل أحياناً من باب الفائدة: الإمام بمعنى العالم أو الفقيه، كما نقول مثلاً: الإمام أحمد، الإمام الشافعي، الإمام مالك، الإمام ابن تيمية، ونقصد بالإمامة هنا الفضل والعلم والسابقة والسمعة الحسنة، وأن يكون قدوة لمن بعده.
إذاً: الإمامة تأتي لثلاثة معان: قد يكون المعنى في الإمامة، الإمام الأكبر، الإمام الأعظم، الخليفة الذي يجتمع عليه المسلمون لدينهم ودنياهم، كما في حال الخلفاء الراشدين مثلاً، أو من بعدهم من الأئمة والخلفاء.
وقد يكون معنى الإمام، يعني: إمام المسجد، كما في حديث مثلاً: ( الإمام ضامن ) .
وقد يكون معنى الإمامة: الإمامة في الدين والعلم، كما يقال عن الأئمة الأربعة .. وغيرهم، وليس من شرط وصف الإنسان بالإمامة الكمال أو العصمة؛ لأنه لا كمال ولا عصمة لأحد دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما المقصود أن يكون له فضل وعلم ومزية وأثر في الناس، فإن بعض الناس قد يتشددون مثلاً في أنه لا يطلق على فلان إمام، مثلاً رأيت بعضهم إذا وجدوا أنه والله واحد يقول: الإمام البيهقي، الإمام ابن حجر، الإمام النووي، الإمام الخطابي، فإنهم يشغبون على ذلك ويقولون: لماذا تصفه بأنه إمام وفيه وفيه.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
هؤلاء أئمة يقتدى بهم، وأهل علم ودين وإخلاص وفقه، وأن يكون عليهم ما يؤخذ فهذا يصح في شأنهم، ويصح في شأن غيرهم، فالإمامة لا تعني الكمال المطلق، ولا تعني العصمة، ولا تعني السلامة من الأخطاء.
فينبغي أن يتفطن لهذا المعنى، وهذا يتصل بمعنى ذكرته لكم مرات: وهو أن يعود الإنسان نفسه على الألفاظ الطيبة، في الثناء على أهل الخير وأهل العلم وأهل الفضل، وأن هذا من الدين ومن المروءة والخلق أيضاً، بينما البعض قد يبتلى بأن يكون لسانه سليطاً في الشر، وإذا أراد أن يخرج كلمة خير أو مديح أو ثناء فكأنما يتكلفها تكلفاً.
والمقصود بالإمامة على كل حال في هذا الحديث: الإمامة في الصلاة كما ذكرنا.
أولاً: نقل الكثيرون من الفقهاء والشراح الإجماع على ماذا؟ على جواز إمامة الأعمى، إذاً: لا خلاف في جواز إمامة الأعمى، ومن نقل عنه في ذلك شيء، فليس المقصود أنه يمنع من جوازها، وإنما يكون الخلاف في ماذا؟ في الأفضلية، يكون الخلاف في الأفضلية، وقد يكون نقل عن بعض الصحابة من ذلك شيء، كما سوف يأتي، فهو خلاف في الأفضلية، وإلا فالعلماء والفقهاء والسلف مطبقون على جواز إمامة الأعمى، وأما الأفضلية فقد اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
الخشوع، وأنه لا يوجد ما يصرفه، يعني: البصير ربما يذهب بصره يمنة ويسرة، أما الأعمى فإنه يُظن أنه مقبل على صلاته، وإن كانت حقيقة الخشوع في القلب، وإلا قد يتيه الأعمى في أودية أخرى غير ما يتيه فيه البصير، لكنهم قالوا: إن الأعمى مظنة حضور القلب، لأنه لا يوجد ما يصرف ويخطف بصره عن صلاته.
ولكن بالمقابل فإن البصير له مزية، وهي قالوا: إنه أكثر محافظة على الطهارة وتجنباً للنجاسة، مما قد لا يستطيعه الأعمى، فكأنهم قالوا: هذه بتلك، يعني: للأعمى فضيلة حضور القلب، وللمبصر فضيلة أنه يتجنب النجاسات ويحافظ على الطهارة، وبناءً عليه فإنهما متقابلان، فلا نقول: إن للأعمى فضيلة، ولا نقول: إن للمبصر فضيلة. هذا هو القول الأول.
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وقلبي منهما نور
المهم أن ابن عباس رضي الله عنه كف بصره في آخر عمره، فكانوا يقولون له: (تقدم صل بنا، فيقول: كيف أصلي بكم وأنتم تعدلونني إلى القبلة؟).
إذاً: هؤلاء الذين قالوا: إن البصير أولى بالإمامة، قالوا: لأن البصير أعرف بالقبلة، وهو يدركها باجتهاده، بخلاف الأعمى فهو يقلد غيره في استقبال القبلة.
نحن قلنا: القول الأول: أنهما سواء، القول الثاني: أن البصير أولى.
أما الحجج التي احتجوا بها فكلها قابلة للنقض، مثلاً قولهم: إن الأعمى لا يعرف أو لا يهتدي إلى القبلة، نرد عليهم بأن نقول: وأيضاً كثير من البصراء هم لا يعرفون القبلة إلا بالتقليد، يعني: كلنا لا نعرف القبلة أو أكثرنا إلا إذا دخل الواحد المسجد، خصوصاً إذا كان مسافراً فرأى المحراب إلى جهة معينة.
والأعمى إذا كان إماماً بمبصرين، فمعناه: أنهم يرون اتجاه القبلة فيدلونه عليها، فلا فرق حينئذ بين مبصر وأعمى، وأيضاً لم يقل أحد من الفقهاء فيما أعلم: بأنهم إذا اختلف المبصرون أو وجد مبصرون أن أولاهم بالإمامة هو أعرفهم مثلاً بماذا؟ بالقبلة، ولو كان يدلهم على القبلة، إلا أنه قد يصلي مأموماً لماذا؟ لأنه ليس هو الأقرأ لكتاب الله.
وكذلك من الأدلة على استواء البصير والأعمى حديث الباب، الذي رواه أنس وحديث عائشة . فهذان الحديثان في كون النبي صلى الله عليه وسلم يقدم عبد الله بن أم مكتوم، ولا شك أن المدينة كان فيها كثير من الصحابة المبصرين، وهذا دليل على أنه لا مزية للمبصر، وأيضاً ما ذكرناه في مصنف ابن أبي شيبة عن عتبان بن مالك، وما ذكره الشعبي والزهري .. وغيرهما، فهذا دليل على أنه لا فرق بين المبصر والأعمى، وإنما العبرة بالأقرأ والأجدر والأكثر توفراً لشروط الإمامة فيه.
من المسائل في قوله: (يؤم الناس) ما يتعلق بموضوع فضل الإمامة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى الإمامة بنفسه، وولاها من بعده أبا بكر رضي الله عنه، وقال: ( مروا
كما أنه مر معنا أيضاً فائدة أخرى وهي مما يستفاد في هذا الحديث مسألة: عدم أخذ الأجرة على الإمامة أو على الأذان، ومن ذلك أن عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه لم يذكر أنه كان يأخذ على ذلك أجراً، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له على ذلك جعلاً، وقد بحثنا هذه المسألة أيضاً فيما مضى، وذكرنا فيها كلام أهل العلم وأقوالهم واختلافهم في الأذان، وهل الأجرة التي تعطى للمؤذن والإمام من المصلين أم من بيت المال؟ فإن كانت تعطى له من بيت المال فلا بأس ولا حرج؛ لأنه يترتب على ارتباط الإنسان بالأذان والإقامة، أنه يتوقف عن أسفار، وعن مواعيد، وعن أشياء وأعمال، ويجعل نفسه مستعداً في أوقات الأذان، وفي أوقات الإقامة، فلا بأس بذلك، وإما إن كانت من المأمومين من الناس، فإن كان لها حاجة فلا بأس بذلك أيضاً، وإن لم يكن لها حاجة فالأولى تركها، ولا يجوز أن يصلي الشخص إماماً أو يؤذن من أجل الجعل أو العطاء الذي يجعل له.
أيضاً من فوائد حديث عبد الله بن أم مكتوم : أن في الحديث منقبة وفضيلة للصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم، ما اسم عبد الله بن أم مكتوم؟
فيه خلاف، فكثير من الذين عرفوا بـعبد الله بن أم مكتوم سموه عمراً، وقد يجوز أن يكون له اسمان، فقيل: هو عمرو، وقيل: عبد الله، وهو من المهاجرين الأولين، وهو قرشي رضي الله عنه، بل قيل: إنه من الذين قدموا إلى المدينة مع مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد كف بصره وهو صغير، وجرى له حادثة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرها الله تعالى في القرآن، وهي في سورة (عبس وتولى) حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (علمني مما علمك الله)، وكان هذا في مكة كما هو معروف: أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:2].
قبل أن نغادر موضوع عبد الله بن أم مكتوم ذكرنا أنه كان معه راية في معركة القادسية، كانت راية سوداء، قال: أعطوني الراية فأنا رجل أعمى لا أستطيع الفرار، فأثبت حيث كنت، فحمّلوه راية المسلمين، ورجع إلى المدينة ومات فيها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
من فوائد الحديث أيضاً: جواز وصف الإنسان بمثل الأعمى ونحوها، مما هو وصف ظاهر له، وليس مقصوده التنقص أو الازدراء، وإنما لمجرد الوصف، وهذا كثير معروف.
فيه أيضاً: تولية الأكفاء للأعمال، والنبي صلى الله عليه وسلم ولى عبد الله بن أم مكتوم ؛ لأنه أولاً له سابقة الإسلام، وسابقة الهجرة، كما قلنا: إنه أول من هاجر مع مصعب بن عمير، وحفظ القرآن الكريم، والمكانة والمنزلة، حتى عاتب الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بشأنه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4] وهذا ثناء طيب وكبير عليه، ولذلك كان خليقاً وجديراً بالإمامة.
وكما ذكرنا أن كف البصر لا تعلق له بموضوع الإمامة، ففيه تولية الكفء، وأن الكفء هو من يكون مناسباً للعمل الذي سوف يتولاه. نعم. تفضل.
أيضاً عبد الله بن أم مكتوم كان مؤذناً للنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين، هو وبلال .. وغيرهما، وسعد القرظ أيضاً.
و(كان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت) فكان يتأخر في أذان الفجر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كلوا واشربوا حتى يؤذن
وقد عزا المصنف هذا الحديث للدارقطني وقال: بإسناد ضعيف.
وللحديث نفسه عن ابن عمر خمس طرق كلها شديدة الضعف، فلا يفرح بها، ولا يتعزز بعضها ببعض.
إذاً: الخلاصة: أن الحديث عن ابن عمر بجميع طرقه ضعيف: ( صلوا على من قال: لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال: لا إله إلا الله ).
أما من حيث المعنى فعندنا أحاديث صحيحة، تشهد لصحة معنى الحديث، وهي في الصحيحين وربما مر معنا جزء منها، منها مثلاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يصلون لكم -يعني: الأئمة- فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم ) .
وهذا الحديث قوله: (فإن أصابوا)، (وإن أخطئوا) هو بمعنى: أن يكون براً أو أن يكون فاجراً، وقوله: (يصلون لكم) من المقصود بهم؟ الأئمة، يعني: سواء كان المقصود الأمراء كأمراء بني أمية، مثل ما حصل من الحجاج مثلاً أو غيره، كان الحجاج يصلي بالناس ويصلي خلفه من؟ ابن عمر وأيضاً أنس بن مالك .. وغيرهما، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: لو جاءت كل أمة بخبثائها وأتينا بـأبي محمد لغلبناهم. يعني من؟ الحجاج.
وقد كان من السلف من كان يحكم عليه بالكفر، كما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، نقل عن سبعة أنهم كانوا يكفرونه، وإن كان جمهور السلف لم يكونوا يقعون في مثل هذا، ولا يستعجلون في تكفير الأعيان والأشخاص، لكن هذا دليل على ما بلغه من الفجور، وسفك الدماء، واستحلال الأموال .. وغير ذلك، ومع ذلك كانوا يصلون خلفه، فالمقصود حديث البخاري حديث أبي هريرة : ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم ) .
وأيضاً مثل ذلك في الدلالة على المعنى: حديث أبي ذر وهو في مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف بك إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ وفي بعض الروايات: ويميتونها؟ -يعني: يؤخرونها جداً- فقال: فما تأمرني يا رسول الله؟ -فماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم؟- قال له: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل معهم، فإنها لك نافلة ) فهذا أيضاً دليل على معنى حديث الباب، وهو أنه يصلي خلف أهل الفجور إذا كانوا أئمة، سواء كانوا أئمة بمعنى أمراء، أو كانوا أئمة راتبين في المساجد معينين.
والمقصود أن الباب فيه أحاديث صحيحة، كحديث أبي هريرة الذي ذكرناه في البخاري : ( إن أصابوا فلكم ولهم )، وفي حديث أبي ذر وهو في مسلم.
وإنما نحن نقول: إن النص على الصلاة خلف البر والفاجر، وصلاة الجنازة أيضاً على البر والفاجر، وعلى كل من قال: لا إله إلا الله، هذا هو الذي لا يصح بخصوصه حديث، فعندنا فيه حديث الباب، وقد ذكرنا علته.
ما هي علة حديث الباب؟
عثمان بن عبد الرحمن وهو ضعيف جداً، ورماه بعضهم بالكذب، هذا انتهينا منه الآن.
عندنا أيضاً الحديث الثاني الذي ذكرناه شاهداً له، حديث أبي هريرة، وقد ذكرنا أيضاً أنه معلول بماذا؟ بالانقطاع في السند؛ لأن مكحول تابعي لم يدرك أبا هريرة، لم يرو عن أبي هريرة، فمعنى ذلك أن بينه وبينه راوياً غير معروف.
أيضاً ورد هذا المعنى عن أبي الدرداء، وعلي بن أبي طالب، وواثلة بن الأسقع، وابن مسعود، وكل أحاديثهم واهية فلا نشتغل بها، ولذلك قال غير واحد من الأئمة، كـالدارقطني .. وغيره: إنه لا يصح في الباب حديث.
قوله: ( صلوا على من قال: لا إله إلا الله ) ما المقصود بالصلاة هنا؟ صلاة الجنازة، نعم، الصلاة على الميت. طيب.
وقوله: (من قال: لا إله إلا الله) هل المقصود لا إله إلا الله فقط، أو المقصود أبعد من ذلك؟
قطعاً، ليس المقصود ظاهر الحديث، يعني: لو واحد قال: لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله، يعني: ما شهد أن محمداً رسول الله، هل يصلى عليه؟ لا يصلى عليه، هل في هذا خلاف بين العلماء؟ ليس فيه خلاف.
إذاً: الحديث ليس على ظاهره، وإنما معنى قوله صلى الله عليه وسلم -لو صح- : ( صلوا على من قال: لا إله إلا الله ) صلوا على المسلم، صلوا على من ظاهره الإسلام، إذاً قوله: (من قال: لا إله إلا الله) يعني: وأن محمداً رسول الله، وإن لم تكن هذه منصوصة، فهي بمعنى المنصوص، وهي معلومة بشكل قطعي، فلم يقل أحد قط بظاهر الحديث بالاقتصار على الشهادة، وإنما أقل ما قيل أن ينطق بالشهادتين، عارفاً بمعناهما، ملتزماً بهما، مؤمناً بهما. طيب.
وقوله: ( وصلوا خلف من قال: لا إله إلا الله ) يعني: صلاة الجماعة، أنه يجوز أن يصلى خلفه.
فعندنا أولاً: الصلاة خلف من يخالفك في المذهب.
هذه أحببت أن أقدم بها وإن كانت واضحة، يعني: صلاة الشافعي خلف الحنفي، أو الحنفي خلف الحنبلي، أو الحنبلي خلف المالكي، وفعلاً محزن أن نبحث هذه المسألة، يعني مسلمون وعلماء، وهل تتصور أن الإمام أحمد ما يصلي خلف مالك؟ أو أن مالكاً لا يصلي خلف الشافعي؟ أو الشافعي لا يصلي خلف أحمد؟ ومعروف تقارب الثناء بينهم، أو هؤلاء لا يصلون خلف أبي حنيفة؟ وكلهم أئمة فضلاء ثقات أثبات، جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين، لكن التعصب المذهبي أدى لمثل هذا البحث، ومع الأسف هذا البحث تجده موجوداً في بعض كتب الفقه، حتى إن منهم من منع الصلاة خلف من لا يوافقه في المذهب، وإن كان هذا قليلاً، وربما منهم من أجازها، ولكن بشروط وضوابط، وهذا لا يشتغل به، الصواب أنه يجوز الصلاة خلف المختلفين في المذاهب بغير قيد ولا شرط ولا تردد، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصلي بعضهم خلف بعض، مع اختلافهم في الاجتهاد، واختلافهم في المسائل، واختلافهم في مسائل حتى في الصلاة، واختلافهم في مسائل حتى في الطهارة والوضوء، يعني: لو تقدم للصلاة إنسان لا يتوضأ من لحم الإبل، وأنت حنبلي تتوضأ من لحم الإبل، تصلي خلفه أو ما تصلي؟ تصلي، لماذا؟ لأن صلاته صحيحة.
وهكذا مثلاً لو كان لا يتوضأ من الدم، وأنت ترى الوضوء من الدم .. أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي تتعلق بالطهارة، أو تتعلق بالصلاة، فإننا نقول: يصلي بعضهم خلف بعض، ومن الجميل: [ أن الإمام أحمد سئل عن هذه المسألة بالذات، فقال الإمام أحمد : نحن نرى الوضوء من الدم، أفلا نصلي خلف سعيد بن المسيب سيد التابعين وهو لا يرى الوضوء؟ أفلا نصلي خلف الإمام مالك؟ ].
إذاً: الإمام أحمد كان يستنكر على من سأل هذا السؤال، وكأنه يقول: لو أخذنا بالخلاف الفقهي تركنا الصلاة خلف أئمة أكابر، وبعض الشافعية ألف رسالة في جواز ذلك، وأنه لا حرج فيه، وإنما الحامل على مثل هذا البحث هو التنازع الفقهي، وقد أحببت أن آتيكم بنص مفيد في هذا الباب.
ما دمنا نبحث في موضوع الخلاف الفقهي، هذا كتاب الفروع، لمن؟ لـابن مفلح من الحنابلة، فتقريباً في الإمامة نقل نصاً، وأيضاً نقله في كتاب الطهارة في المجلد الأول، أحببت أن أقرأه؛ لكن لتعتبروا يا أولي الألباب، وأنتم طلبة علم تحتاجون إلى الأدب أكثر مما تحتاجون إلى العلم.
فيقول ابن مفلح رحمه الله: (قال ابن الجوزي في كتابه السر المصون، قال: رأيت جماعة من المنتسبين إلى العلم يعملون عمل العوام، فإذا صلى الحنبلي في مسجد شافعي -يعني: صلى إماماً ولم يجهر- غضبت الشافعية، وإذا صلى الشافعي في مسجد الحنبلي وجهر -لعله يقصد جهر بماذا؟ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)- غضبت الحنابلة، وهذه مسألة اجتهادية، والعصبية فيها مجرد هوى يمنع منه العلم.
قال ابن عقيل : رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز، ولا أقول العوام، بل العلماء، كانت أيدي الحنابلة مبسوطة في أيام ابن يوسف -هذا يبدو أمير- فكانوا يتسلطون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع حتى لا يمكنوهم من الجهر والقنوت، وهي مسألة اجتهادية، فلما جاءت أيام النظام ومات ابن يوسف وزالت شوكة الحنابلة، استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة السلاطين الظلمة، فاستعدوا بالسجن، وآذوا العوام بالسعايات -ما هي السعايات؟ السعايات بين قوسين: (التقارير السرية) تقدم لأجهزة المباحث هذه السعايات- فاستعدوا بالسجن، وآذوا العوام بالسعايات، وآذوا الفقهاء بالنبز بالتجسيم) يعني: كانوا يتهمون الحنابلة بأنهم مجسمة في أسماء الله تعالى وصفاته، مع أن الحنابلة لا يقولون بالتجسيم قطعاً، وإنما يثبتون الأسماء والصفات إثباتاً حقيقياً من غير تشبيه.
قال: (فتدبرت أمر الفريقين -لا يزال الكلام لمن؟ لـابن عقيل - فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم، وهل هذه الأفعال إلا أفعال الأجناد -يقول: هذا شغل الشرطة، وهذا شغل الجنود- يصولون في دولتهم، ويلزمون المساجد في بطالتهم) إذا أحيل للمعاش والتقاعد، صار يتردد على المسجد. انتهى ما ذكره ابن الجوزي .
إذاً: المقصود هنا الإشارة إلى هذا المعنى المهم، وهو فرع عن قضية الصلاة خلف المخالف لك في المذهب، وأنك تصلي خلفه من غير نكير.
فنقول: بعضهم حكوا الإجماع على أنه يعيد الصلاة، ولكن الصواب أنه لا إجماع، وابن قدامة رحمه الله ذكر هذه المسألة بالنص في المغني، وقال: لا تصح الصلاة خلف الكافر وعليه الإعادة، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، ثم قال: وقال أبو ثور والمزني - أبو ثور إمام متبوع له مذهب خاص، والمزني من أصحاب الإمام الشافعي - قالا: لا يعيد الصلاة، وبناءً عليه فإنه ليس في المسألة إجماع، بل فيها خلاف.
ابن تيمية رحمه الله بحث هذه المسألة في الفتاوى -تقريباً نذكر لكم المجلد الثالث والعشرين- وقال: إنهم تنازعوا في صلاة الجمعة خلفه، قال: ومن قال: إنه يكفر أمر بالإعادة، يعني: تصلي خلفه مثلاً لدفع الفتنة وتعيد الصلاة، قال: لأنها صلاة خلف كافر. هذا الآن كلام ينقله ابن تيمية رحمه الله.
ثم قال: لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء، والناس مضطربون في هذه المسألة، وقد حكي عن مالك فيها روايتان وعن الشافعي قولان، وعن الإمام أحمد روايتان أيضاً، وكذلك أهل الكلام حكوا عن الأشعري قولين، يعني في تكفير هؤلاء، وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل.
إذاً: ابن تيمية رحمه الله دخل إلى مدخل لطيف جداً، وهو: أنه وإن كان هذا الشخص يقول ببدعة مكفرة، إلا أنه لا يلزم من ذلك أن يكون هو كافراً؛ لأنه قد يكون جاهلاً أو معذوراً، ولذلك قال رحمه الله في كلام طويل، قال: إن القول قد يكون كفراً، ويقال: من قال كذا فهو كافر، ولكن الشخص المعين لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
ثم ذكر رحمه الله ضعف التفريق في هذه المسألة: مسألة التكفير بالبدعة بين من قالوا: إن هناك مسائل أصول يكفر بها، ومسائل فروع لا يكفر فيها، وقال: إن هذا التفريق من المعتزلة وليس معروفاً عند السلف.
فالخلاصة أن ابن تيمية رحمه الله حتى ذكر مناظرة جرت بين الشافعي وبين حفص الفرد، وأن الشافعي رحمه الله بعد ما ناظر حفصاً قال له: كفرت، ثم قال ابن تيمية رحمه الله: إن الشافعي لم يكن يقصد تكفيره بعينه، قال: لأنه لو كان يرى كفره لسعى به إلى السلطان لإقامة الحد عليه .. أو ما أشبه ذلك، وإنما كان مقصود الإمام الشافعي أن يقول له: أن هذا القول كفر، وكلام ابن تيمية كما ذكرت لكم طويل، وهو في المجلد الثالث والعشرين من الفتاوى، وهو -كما رأيتم نقلت لكم طرفاً منه- كلام فيه عدل، وفيه إنصاف، وفيه اتزان، وفيه تأن، وعدم مؤاخذة الناس بما قد يقع منهم من الجهل والتفريط، خصوصاً في الأزمنة المظلمة التي يكثر فيها الجهل، وتغيب فيها السنة، وينتحل كثير من الناس مذاهب وأقوالاً يظنونها هي الحق وهي السنة. طيب.
إذاً: انتهينا الآن من هذه المقدمات التي ذكرنا فيها الاتفاق على كراهية إمامة المفضول مع وجود الفاضل، والإجماع أيضاً على كراهية الاقتداء بالمبتدع، إذا وجد من هو أفضل منه، أو لم يخش فتنة بترك الصلاة خلفه، وأيضاً ذكرنا فيها مسألة لو كانت بدعته مكفرة، فهل تعاد الصلاة أو لا تعاد؟ وذكرنا في كلام ابن قدامة عن المزني وأبي ثور، وفي كلام ابن تيمية رحمه الله ما يقتضي عدم الإعادة، بل لـابن تيمية رحمه الله قاعدة جميلة: في أن كل من صلى بحسب اجتهاده فليس عليه إعادة، والأمر بأن يصلى في وقت مرتين ليس له أصل.
فإن كان الفاسق هو الإمام الأعظم، فإن هناك ما يشبه الاتفاق والإجماع على الصلاة خلفه، وفي مثل هذا نسوق أدلة: مثل حديث أبي هريرة : ( يصلون لكم ) وهو في البخاري، وأيضاً حديث أبي ذر في أنهم يميتونها أي: يخنقونها إلى شرق الموتى، يؤخرونها عن وقتها، ومع ذلك أمره أن يصلي معهم إن أدرك الصلاة معهم.
فإذا كان الفاسق هو الإمام الأعظم أو نائبه، فقد حكى غير واحد، ومنهم ابن حزم كما في الفصل، ونقل أن هذا مذهب السلف، وكان عليه ابن عمر وأنس وجماعة الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يصلون خلف بني أمية، وخلف أمراء الجور، وخلف الخوارج أيضاً إذا تملكوا في بلد؛ فإنه يصلى خلفه، فنكون انتهينا من الفقرة الأولى المتعلقة بالإمام، إذا كان هو الإمام الأعظم فاسقاً.
وعلى مثل هذا يحمل كلام الأئمة الذين تكلموا في الصلاة خلف البر والفاجر مطلقاً، كما في كلام الإمام أحمد : [ أرى الصلاة خلف كل بر وفاجر ]، وكذلك ابن حزم كما ذكرت لكم، وابن قدامة المقدسي، والأئمة لما يتكلمون في العقائد غالباً يذكرون: نرى الصلاة خلف كل بر وفاجر، والحج والجهاد مع أئمة الجور، فهذه مسألة نفرغ منها، وننتقل لما بعدها.
وهو إذا كان الفاسق، أو كان الإمام الفاسق ليس هو الإمام الأعظم، وإنما هو من سائر الأئمة، فهنا نقول: إن الفسق ينقسم إلى نوعين: الفسق الظاهر، والفسق الباطن. فما هو الفرق بين الفسق الباطن والظاهر؟
الفسق الباطن ما يتعلق بالبدعة، كأن يكون جهمياً مثلاً أو معتزلياً أو رافضياً .. أو ما أشبه ذلك.
والفسق الظاهر هو المعاصي الظاهرة، المعاصي في عمل الإنسان وفي سلوكه.
فهنا نقول: اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال، ربما يوصلها بعضهم إلى ستة أقوال، ونحن من باب الضغط والاختصار نقتصر أو نلخصها في قولين، نقول: اختلف العلماء فيها على قولين.
وأدلة هؤلاء ما ذكرناه في حديث أبي هريرة : ( يصلون لكم )، وما ذكرناه أيضاً عن أبي ذر في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صل معهم ).
وكذلك من الأدلة: (قصة عثمان رضي الله عنه لما حاصروه في الدار، وهي في البخاري أيضاً، فجاءه رجل وسأله: ما أصنع بهؤلاء؟ قال: صل معهم، فإن الصلاة من خير ما يعمل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم).
ومن الطريف هنا أن ابن عمر رضي الله عنه كان يفعل مثل ذلك ويقول: (من قال حي على الصلاة أجبناه، ومن قال: حي على الفلاح أجبناه، ومن قال: حي على قتل أخيك المسلم عصيناه) فهذا من فقهه رضي الله عنه وأرضاه.
وقد نقول في هذه الأدلة التي سقناها الآن: أن الصلاة هنا جائزة، ولو كانت الصلاة لدفع فتنة مثلاً لأمروا بأن تعاد الصلاة خلفهم، فلما لم يكن هناك أمر بإعادة الصلاة، دل على أنها صلاة جائزة وماضية وصحيحة.
كذلك من الأدلة: من النظر أن نقول: من صحت صلاته صحت إمامته، وهذه قاعدة ذكرها غير واحد من أهل العلم والفقه، وهي في الأصل قاعدة صحيحة وجيدة، فمن صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره، فإذا كانت مجزية لنفسه فلغيره كذلك.
إضافة إلى أنه يمكن الاستدلال بأحاديث الباب، كحديث ابن عمر، وأبي هريرة، وواثلة، وعلي .. وغيرها مما ذكرناه، ولكن هذه الأحاديث -كما ذكرنا- غالبها ضعيف.
إذاً القول الأول: هو الجواز، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن مالك وأحمد.
واستدلوا بأدلة، ومن هذه الأدلة:
أولاً: قالوا: أن الفاسق غير مؤتمن على شروط الصلاة وأركانها وواجباتها، وأنك لو كان عندك أمانة من المال ما أمنته عليها، فكيف تأتمنه على أصل من أصول دينك: وهو الصلاة، ولذلك ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن قال: من لا يؤتمن على حبة مال كيف يؤتمن على قنطار دين؟ ولذلك رأى الإعادة لمن صلى خلفه، وهذا اختيار أبي بكر بن العربي.
ومن الأدلة عندهم أيضاً: ما رواه ابن ماجه وهو ضعيف مرسل، وسبق في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تؤمن امرأة رجلاً، ولا أعرابي مهاجراً، ولا فاجر مؤمناً ) وهذا الحديث مرسل ضعيف كما أسلفت، ولو صح لكان دليلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى فيه عن أن يؤم الفاجر رجلاً مؤمناً، إلا أن يقهره بسلطان.
من أدلتهم أيضاً: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن سركم أن تقبل صلاتكم عند ربكم فقدموا خياركم ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث ذكره الخطيب البغدادي في التاريخ، وهو أيضاً حديث غير صحيح.
المهم كل الأحاديث الواردة في هذا الباب أيضاً هي الأخرى لا تصح، وبناءً عليه فإننا نميل إلى ما ذهب إليه الجمهور من أن الصلاة خلفهم صحيحة، وليس على فاعلها إعادة، وذلك للأدلة التي ذكرناها، ولأنه لو قلنا بترك الصلاة خلفهم، لربما تعطلت المساجد والجمع والجماعات، خصوصاً في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن وعم الجهل.
وأيضاً عم عند كثير من الناس عدم القدرة على معرفة السنة من البدعة، حتى هذا المأموم الذي سوف يصلي قد يتجنب الصلاة خلف صاحب سنة؛ لأنه يظنه مبتدعاً، فقد يترك الصلاة خلف من يثبت الأسماء والصفات، فيقول: لا أصلي خلفه، لماذا؟ لأنه حشوي أو مشبه أو مجسم مثلاً، فالتبس الأمر عند كثير من الناس، ولذلك نقول: إن ترك الصلاة مما يزيد الناس تباعداً، وربما تتعطل بسببه إقامة الجمعة والجماعة .. وغيرها.
من الفوائد التي في الحديث: الصلاة على من ظاهره الإسلام، صلاة الجنازة على من ظاهره الإسلام، وهذا هو الصحيح بلا شك، فإنه يصلى على كل مسلم، ولا يسأل عن حاله، حتى لو كان متلبساً ببدعة أو بمعصية، وقد يجهل كثير من الناس حال من يصلون عليهم الجنازة، كما في الحرمين .. وغيرهما.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عن شيخه ابن تيمية : أنه إذا شك في حال من يصلي عليه يشترط ويستثني ويقول: اللهم إن كان عبدك هذا مسلماً فاغفر له وارحمه وأكرم نزله. وماذا ترون في رأي ابن تيمية رحمه الله هذا؟
أنا أرى أنه مرجوح وليس بجيد، لأننا نقول: الأصل في المسلمين الإسلام، ولا داعي للاستثناء، وأنت تدعو ربك تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فتدعو بحسب حال هذا الإنسان وتصلي عليه.
بعض الناس أيضاً ربما يبلغ بهم الحرص أو الغيرة، أنه إذا قدم أحد وهو يعرف أنه مفرط أو مقصر في الصلاة، ربما يتقدم للناس وقال: هذا الإنسان لا يصلي فلا تصلوا عليه، فهل هذا العمل مشروع؟ كلا، بل هذا مخالف للسنة، والناس ليسوا ملزمين بطاعة هذا الذي يقول هذا القول، حتى لو كان أباه، لو قال: هذا ولدي لا يصلي، لا يطيعه الناس؛ لأنه قد يكون بينه وبينه حزازة، فهو يريد أن يشهر به، وقد يكون الأب كاذباً، وقد يكون الولد تاب، وقد يكون يصلي وهو لا يعلم، وأيضاً نحن لسنا متعبدين أن نبحث عن السيرة الذاتية لكل من أردنا الصلاة عليه، بل نصلي عليه بحسب ظاهر حاله أنه مقيم بين أظهر المسلمين، ولم يقتل في ردة، وقدم للصلاة عليه وغسل وكفن، فيصلي عليه المسلمون، وهذا شيء.
وتجنب الصلاة على بعضهم لسبب أو مصلحة شيء آخر، فقد تترك الصلاة خلف إنسان من باب التعزير لغيره، أو التأديب لغيره، أن يرتدعوا عن فعل فعلوه، وهذا وارد، وله أصل في السنة، مثله في ذلك مثل: ترك الدعاء أحياناً، يعني: يجوز أن تدعو لكل مسلم بأن يرحمه الله، لكن قد تترك الدعاء أحياناً لبعضهم من باب التعزير؛ لئلا يأخذ الناس مأخذه، أو يقتدوا به، فهذا شيء، وأصل الصلاة على كل مسلم شيء آخر.
وفيه أيضاً: صحة الصلاة خلف المسلم الموحد.
وفيه: فضل لا إله إلا الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في هذا الحديث: ( صلوا على من قال: لا إله إلا الله ).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر