إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
ففيه النهي عن تسمية المغرب بالعشاء، ولكن هذا النهي ليس صريحاً، ولذلك البخاري رحمه الله بوب عليه في صحيحه (باب: من كره أن يقال للمغرب: العشاء)، ما قال: باب كراهية؛ وذلك لأن الحديث قال: ( لا تغلبنكم الأعراب )، فكأنه نهى عن غلبة اسم العشاء على المغرب، بمعنى أنه الأكثر استعمالاً، وليس نهياً عن أصل الاستعمال.
فلذلك فالأولى أن يسميها الإنسان المغرب، إلا أن يكون ذلك على سبيل التغليب فلا بأس، مثل: أن يقول: صليت العشائين يعني: المغرب والعشاء، فهذا لا بأس به، لا بأس أن يقول: العشاءان ويقصد المغرب والعشاء.
أما سبب المنع من تسمية المغرب بالعشاء فيعود إلى أحد أمور:
قيل: إن السبب في ذلك لأنها قد تلتبس بصلاة العشاء الآخرة، ولذلك قال بعضهم: لا بأس أن يسميها العشاء الأولى؛ لأنه حينئذ الوصف يزيل اللبس.
وهناك احتمال آخر لسبب النهي، وهو أن يكون نهى عنها لأن هذا خلاف الواقع؛ فإن الواقع أن العشاء -يقول العلماء- هو شدة ظلام الليل، وهذا إنما يكون بغياب الشفق، قال بعضهم: وغياب الشفق -كما هو معروف- لا يكون إلا بعد خروج وقت المغرب، فعلى هذا نهى عن تسميتها بالعشاء؛ لأن هذا خلاف الواقع؛ فإنها ليست عشاء وإنما هي قبل العشاء.
وهناك احتمال ثالث -وهو الأقوى في نظري-: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ لأن في ذلك تشبهاً بالأعراب، والأعراب يغلب على حالهم الجفاء والجهل، ولذلك ورد النهي عن التشبه بهم، كما ورد النهي عن التشبه بالأعاجم وغيرهم في أفعالهم وأقوالهم، فيكون نهيه صلى الله عليه وسلم عن تسمية المغرب بالعشاء؛ لأن في ذلك تشبهاً بالأعراب، ولا شك أن النهي ليس للتحريم بلا إشكال؛ لأنه لو كان محرماً لكان محرماً على الأعراب، وغير الأعراب، فهذه قرينة صريحة في أن النهي ليس للتحريم، هذا فيما يتعلق بتسميتها العشاء.
وكذلك روى ابن ماجه بسند جيد عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم )، هذا وقت دخول صلاة المغرب.
أما وقت خروجها فاختلف فيه: فالجمهور على أن وقت خروجها هو غياب الشفق، فإذا غاب الشفق خرج وقت المغرب.
وقبل أن ندخل في خروج الوقت نذكر الأدلة فيما يتعلق بدخول الوقت، الأدلة على أن وقتها يدخل بغروب الشمس كثيرة جداً: من قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن فعله، منها قوله عليه الصلاة والسلام: ( وأول وقت المغرب إذا غابت الشمس )، ومنها حديث بريدة : ( أنه صلى المغرب حين غابت الشمس )، وحديث أبي موسى : ( صلى المغرب حين وجبت الشمس )، وحديث ابن عباس وجابر في إمامة جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى المغرب حين غربت الشمس)، ومثله حديث أبي هريرة: (إن للوقت أولاً وآخراً: فأول وقت المغرب حين تغيب الشمس)، كل هذه الأدلة تدل على ما صح بالإجماع.
واستدل هؤلاء بأدلة كثيرة:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو : ( ووقت المغرب إلى أن يغيب الشفق )، وفي لفظ: ( إلى أن يسقط فور الشفق ) بالفاء، أو: ( ثور الشفق ) بالثاء، يعني: إلى أن يغيب.
ومنها فعله صلى الله عليه وسلم: فإنه ( صلى المغرب قبل أن يغيب الشفق )، كما في حديث أبي موسى وبريدة رضي الله عنهما.
ومن الأدلة حديث زيد بن ثابت : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بطولى الطوليين )، والحديث رواه البخاري، وما هي طولى الطوليين؟
الأعراف المص [الأعراف:1]، ولذلك جاء هذا مصرّحاً به عند النسائي بسند صحيح أنه قال: ( قرأ في المغرب بطولى الطوليين ثم قرأ: المص )، فدل على أنها هي بلا إشكال، ولا شك أن قراءة سورة الأعراف.. كم سورة الأعراف؟
جزء وربع تقريباً، أو أقل من ذلك، فعلى كل حال لا شك أن سورة الأعراف لا يمكن أن تقرأ إلا في وقت طويل.
ومن الأدلة على أن وقت المغرب يمتد إلى مغيب الشفق أيضاً ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حضر العشاء والصلاة فابدءوا بالعشاء )، ولو كان وقتها ليس متسعاً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم العشاء.
ولهم أدلة أخرى غير هذه، هذا هو القول الأول، ويمكن أن ينسب إلى الجمهور، مذهب الجمهور وهو القول الراجح؛ لقوة أدلته وسلامتها من المعارضة.
وبالمناسبة أيضاً: القول الأول نسب إلى الإمام الشافعي، وممن نقله عن الإمام الشافعي أبو ثور، وقال النووي في المجموع : وهو إمام ثقة. فوجب قبول روايته، وإن كان لم يروها أحد غيره عن الشافعي ولم توجد في كتب الشافعي المشهورة القديمة ولا الجديدة. هذا فيما يتعلق بالقول الأول، يعني: رواية تعتبر عن الشافعي كرواية الجمهور.
وحجة الشافعي ومن وافقه على ذلك حديث جبريل كما سبق، وفيه: ( أنه صلى المغرب في اليوم الثاني لوقتها الأول )، وهذا الحديث لا حجة فيه كما سبق بيانه، يجاب عنه بعدة أجوبة:
أولاً: أنه متقدم؛ لأنه كان بـمكة، والأحاديث التي استدل بها الأولون متأخرة، فيقال بأنها ناسخة، هذا مذهب بعض أهل العلم.
الجواب الثاني: أن يقال: إن حديث جبريل بيّن وقت الاختيار، يعني: بيّن وقت الفضيلة ولم يبين وقت الجواز، وهذا هو الجواب المعتمد في ظني.
الجواب الثالث: أن يقال بالترجيح، فيقال: إن هذه الأحاديث الدالة على امتداد وقت المغرب إلى غياب الشفق أصح من حديث جبريل؛ لأنها أكثر رواة، وهي مخرجة في الصحيحين، فهي أكثر رواة وأصح أسانيد.
فإما أن يقال بالنسخ أو بالترجيح أو بالجمع، والجمع بينهما ممكن كما ذكرت، أن يقال: إن حديث جبريل محمول على بيان وقت الفضيلة ووقت الاختيار، لا على بيان وقت الجواز.
واستدل هؤلاء أيضاً ببعض الآثار: كما روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ما صلاة أخشى عندي بفوات من هذه الصلاة)، يعني: المغرب.
ورويا أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (صلوا هذه الصلاة والأرض مسفرة).
وكذلك روى ابن المنذر في كتاب الأوسط عن عمر رضي الله عنه: (أنه أخر صلاة المغرب حتى ظهر نجمان فأعتق عبدين)، ولا شك أن هذه الآثار عن عمر وابن عمر ليس فيها دلالة لما ذهبوا إليه من ضيق وقت المغرب، بل غاية ما فيها الدلالة على أن صلاة المغرب في أول وقتها أفضل.
فهذا هو المشهور من مذهب الشافعي : أن وقت صلاة المغرب وقت واحد بعد غروب الشمس، وهو أيضاً إحدى الروايتين عن الإمام مالك رحمه الله، ونقله بعضهم عن الأوزاعي، هو في الواقع إحدى ثلاث روايات عن مالك ونقل عن الأوزاعي.
القول الثاني: بأن المغرب ليس له إلا وقت واحد.
وأعتقد -والله أعلم- أن مقصود عطاء وطاوس حال الاحتياج إلى ذلك، كما إذا كان مسافراً أو ما أشبه ذلك ممن يجوز له الجمع بين المغرب والعشاء، أما أن يكون قولهم على جواز تأخير المغرب لغير حاجة إلى ما قبل طلوع الفجر فلا أظن أحداً يقول بهذا قط.
فهذه ثلاثة أقوال القول الأول منها هو القول الراجح: أن وقت المغرب يمتد إلى مغيب الشفق.
وما هو الشفق؟
قيل: هو الحمرة، وقيل: هو البياض، والراجح أن الشفق: هو الحمرة، وقد سبق تفصيل ذلك وذكر الأقوال عند شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وسيأتي مزيد حديث عنه أيضاً فيما يستقبل.
فعلى كل حال: المقصود بالشفق: الحمرة، وهذا مذهب الجمهور خلافاً لـأبي حنيفة.
يعني: لو افترضنا أن الليل اثنتا عشرة ساعة فكم نصف سدسه على البديهة؟ ساعة. يعني: واحد إلى اثني عشر، فالسدس ساعتان ونصف الساعتين ساعة، وهذا عندهم هو ما بين المغرب والعشاء، فإذا عرفنا أن الشافعية يعتبرون أن وقت المغرب ينتهي بخمس ركعات بعد غروب الشمس فمعنى ذلك أن ما بعد انتهاء وقت المغرب عندهم إلى دخول وقت العشاء هو قدر نصف سدس الليل، يعني: واحد إلى اثني عشر من الليل، وهذا دليل على أن ما بين المغرب والعشاء عندهم يطول، وهو يقارب ما ذكره بعض علمائنا المعاصرين، قالوا: وقت صلاة المغرب يتراوح ما بين ساعة وربع إلى ساعة ونصف بحسب طول النهار وقصره، فأقل ما يكون وقت المغرب ساعة وربع من غروب الشمس، وأكثر وأطول ما يكون ساعة ونصف.
وكذلك تسمى: العشاء الآخرة كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما امرأة مست طيباً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة )، فيجوز تسمية العشاء الآخرة، وهذا يفهم منه أنه يجوز تسمية المغرب بالعشاء الأولى كما سبق بيانه قبل قليل.
والأعراب تسميها: العتمة، فهل يجوز أن تسمى العتمة أو لا يجوز؟
يجوز أن تسمى العتمة، فقد ثبت ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول جماعة من الصحابة:
أما من قول النبي صلى الله عليه وسلم ففي حديث أبي هريرة في صحيح البخاري : أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المعروف: ( أثقل الصلاة على المنافقين.. )، في بعض ألفاظه: ( ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً )، ( ولو يعلمون ما في العتمة )، ما هي العتمة؟ هي صلاة العشاء.
وجاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ليله بالعشاء، ثم قال للناس: إن الناس قد ناموا، ولا يصلي أحد في هذه الساعة غيركم )، وحديث عائشة متفق عليه: ( أعتم ليلة بالعشاء ) .
ومثله حديث أبي موسى في البخاري قال: ( أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ليله بصلاة العشاء ).
ومثله حديث ابن عباس أيضاً في صحيح البخاري : ( أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء )، فهذا دليل على أنه يجوز أن تسمى العشاء: العتمة.
ولكن من السلف من قال بأن ذلك مكروه، كـابن عمر رضي الله عنه، حتى إن ابن عمر : [ كان إذا سمع من يسمي العشاء بالعتمة صاح وغضب ]، ذكره عنه الشافعي .
ولما [ سأل ميمون بن مهران ابن عمر رضي الله عنه: من أول من سماها العتمة؟ قال: الشيطان ]، يعني: تنفيراً من هذا الاسم، فكان يكره ذلك.
ومن السلف من لا يقول بالكراهة، ولكن يقول: هو خلاف الأولى، وهو الذي نقله ابن المنذر عن مالك والشافعي وغيرهما، يقولون: ليس مكروهاً لكن الأولى خلافه، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنهم يسمونها العتمة وإنهم يعتمون بحلاب الإبل )، يعني: يؤخرون حلب الإبل.
و جاء عند ابن ماجه عن أبي هريرة ونحوه بسند حسن، وكذلك جاء عن عبد الرحمن بن عوف عند أبي يعلى والبيهقي مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ففيه النهي عن تسمية العشاء بالعتمة.
إما لأن الأعراب يسمونها العتمة؛ لأنهم يعتمون بحلاب الإبل، فنسبوا هذا الأمر الديني -وهو الصلاة- لهذا الأمر الدنيوي وهو يتعلق بحلب الإبل، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لهذا.
وإما لأن الأعراب كانوا يفعلون ذلك -يعني تأخير حلب الإبل- في وقت المجاعة والشدة؛ وذلك تهرباً من إعطاء الصعاليك والمساكين المحتاجين، فنهى عن ذلك لهذا.
والاحتمال الثالث -وهو الأقوى في نظري-: أن ذلك لأجل عدم التشبه بالأعراب كما سبق في صلاة المغرب وعدم تسميتها بالعشاء.
وأعتقد أن الوقت لا يتسع لذكر أول وقت العشاء وآخره، فنترك ذلك للدرس القادم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر