الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الزكاة].
عندنا في كتاب الزكاة في هذا اليوم تقريباً مسألتان رئيسيتان، وهما الفصل الأول من كتاب الزكاة، بعدما انتهينا من تعريف الزكاة وحكم الزكاة والحكمة من مشروعيتها وحكم تاركها بخلاً أو كسلاً وحكم جاحدها. كل هذا عرضنا له بالأمس، أما اليوم فعندنا مسألتان فحسب.
المسألة الأولى: شروط وجوب الزكاة .. على من تجب الزكاة؟!
وقد حرصت على أن أجمع هذه الشروط من أقوال الفقهاء وأهل العلم وكتب المذاهب، فوجدت أنها لا تخرج عن شروط خمسة.
وأما مسألة كونه مطالباً بها وأنه مخاطب بها خطاب إيجاب فهذا واقع، فالكافر مخاطب خطاب وجوب بالزكاة كما هو مخاطب بغيرها؛ ولذلك يعاقب يوم القيامة على تركها: وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:44]، ولو بذلها وهو كافر لم تقبل منه؛ لأنه مطالب بأن يفعلها، وقبل أن يفعلها مطالب بأن يفعل أسبابها، والتي أهمها وأولها الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال الله عز وجل في سورة البلد: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:14-17]. فلا بد من الإيمان قبل الأعمال.
فالكافر لا تقبل منه الزكاة وكذلك المرتد، ولو أسلم الكافر أو رجع المرتد إلى دينه فإنه لا يطالب بأداء ما عليه من الزكوات السابقة؛ ولذلك قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38]، فهذا هو الشرط الأول.
فالزكاة لا تجب على عبد مملوك ولا تجب على مكاتب؛ أولاً: لأنه لا يملك، ولو فرض أن سيده ملكه شيئاً من المال فهل تجب الزكاة على هذا المال أو لا تجب؟! إن قلنا: بوجوبها فوجوبها حينئذ على السيد وليس على العبد؛ لأن العبد ذمته لا تنشغل بالتملك أولاً؛ لأنه هو نفسه مال مملوك، وثانياً: لأنه لا يتحمل المواساة لغيره بهذا المال.
إذاً: لا تجب على العبد المملوك وهذا هو مذهب جماهير أهل العلم وحكاه بعضهم إجماعاً، والواقع أنه قد خالف في ذلك عطاء وأبو ثور من أئمة التابعين والسلف، وخلافهم في هذه المسألة ضعيف.
وإن كنا نقول: إن المسألة كلها أصبحت في عداد الماضي والتاريخ حيث لا يوجد الآن رقيق، وبالتالي هذه المسألة إنما تبحث من باب استكمال البحث العلمي لا غير.
طيب! هل تجب الزكاة في مال الصبي وفي مال المجنون تبعاً لمسألة الإسلام والحرية؟! هل تجب في مال الصبي والمجنون؟ أو بعبارة أخرى: هل يشترط العقل والبلوغ أو التمييز لوجوب الزكاة؟ كما يشترط ذلك في بعض الواجبات والعبادات الأخرى؟!
المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الزكاة لا تجب في مال الصبي، ولا في مال المجنون مطلقاً، وهذا القول منسوب إلى جماعة من السلف كـأبي جعفر الباقر والشعبي والنخعي .. وغيرهم.
والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله: أن الزكاة لا تجب في مال الصبي والمجنون، إلا الزروع أو الخارج من الأرض، فإنها تجب فيه.
حجة هؤلاء القائلين بعدم الوجوب -وقد أدمجت أدلتهم- أولاً: قالوا: إن الله سبحانه وتعالى يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] والصبي والمجنون ليس أهلاً للطهارة والزكاة بحكم أنه غير مكلف ولا مؤاخذ؛ ولذلك لا تجب عليه الزكاة ولا تؤخذ منه الصدقة.
وهذا الإيراد يشكل عليه أنهم يوجبون على الصبي .. ونحوه صدقة الفطر، وهي مما يتطهر به العبد المسلم.
الدليل الثاني الذي استدلوا به على عدم وجوبها في مال الصبي والمجنون: الحديث المشهور: ( رفع القلم عن ثلاثة، ومنهم: الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق )، والحديث عند أبي داود .. وغيره وله طرق وإن كان في أسانيده شيء من المقال، ولكن احتج به جمع من الفقهاء فقالوا: هذا دليل على أن ذمتهم لا تنشغل بوجوب الزكاة فيها.
وهذا فيه نظر؛ لأن رفع القلم -والله أعلم- قد يكون معناه عدم مؤاخذتهم، أو عدم شغل ذممهم بالعقوبات والآثام .. وغيرها.
أما المال فإن الزكاة واجبة في أصل المال وفي ذات المال، وإن كان لها تعلق بالذمة كما يقول الفقهاء، ومال الصبي والمجنون فيه مجال ومحل للمواساة وفيه مجال لتطهير المال نفسه كما سلف.
كذلك استدلوا بفقدان النية في حق الصبي والمجنون، ونقول: إن النية يمكن أن يقوم بها من يؤدي عنهم الزكاة، كما هو الحال بالنسبة للحج مثلاً، وقد سبق بحث هذه المسألة.
النقطة الرابعة أو الدليل الرابع عندهم: مراعاة مصلحة الصبي والمجنون لعدم وجود من ينمي هذا المال ويثمره، فقالوا: إن الزكاة قد تنقص هذا المال مع عدم وجود من ينميه أو يثمره، هذه أهم أدلتهم.
القول الثالث: أن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون كما هي واجبة في مال غيرهم، وهذا مذهب الجمهور.. مذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد وجمهور السلف، بل وجمهور الصحابة رضي الله عنهم، وهو القول الراجح: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون. ما هي الأدلة على ذلك؟
أولاً: مطلق ومجمل النصوص الواردة في إيجاب الزكاة، كما سبق: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43].
فهذه النصوص المطلقة تدل على وجوب الزكاة على كل مال توافرت فيه الشروط، كما سوف يرد بعد قليل، فهذا العموم يدل على وجوبها في مال الصبي والمجنون.
الدليل الثاني: ما ورد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ابتغوا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصدقة )، أو ما في معنى هذا الحديث بألفاظ متعددة، فهذا اللفظ المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن أموال اليتامى فيها صدقة، ولكن هذا اللفظ لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن أنس بن مالك بإسناد هو أمثل الأسانيد، وإن لم يكن بالقوي.
ورواه الشافعي أيضاً عن يوسف بن ماهك مرسلاً.
وجاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأسانيده كلها لا تخلو من مقال.
والصواب أنه موقوف على الصحابة رضي الله عنهم، فهو جاء بأسانيد صحيحة عن جمع من الصحابة، منهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وهذا هو الدليل المعتمد .
فالحجة بالموقوفات على الصحابة رضي الله عنهم واشتهار ذلك عنهم، حتى قال بعض الفقهاء: ولا يعلم لهم مخالف، يعني: هؤلاء الصحابة الذين قالوا بوجوب الزكاة في أموال اليتامى والمجنون يلحق به، قال بعض الفقهاء: لا يعلم لهم من الصحابة مخالف.
والواقع أن هناك مخالفة ضرورية عن ابن عباس .. وغيره، ولكن لا شك أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم يرون أن أموال اليتامى والصبيان والمجانين فيها الزكاة. كذلك هذا مذهب خلق من التابعين، كـابن سيرين وعطاء ومجاهد .. وغيرهم.
إذاً: المسألة فيها ثلاثة أقوال: إما أنها لا تجب مطلقاً، أو تجب مطلقاً، أو لا تجب إلا في الزروع، والقول الراجح دليلاً ونقلاً وتعليلاً هو أنها تجب في مال الصبي والمجنون مطلقاً؛ وذلك لأن هذه الأموال فيها محل للمواساة، وقد يكون الصبي أو المجنون يملك أموالاً طائلة ضخمة، إما من إرث .. أو من غيره، فإسقاط الزكاة فيها إسقاط لحق الفقير والمحتاج في هذا المال.
إذاً: هذا هو الشرط الثاني: وهو شرط الحرية.
والحول مشترط في أموال الزكاة، إلا الخارج من الأرض فلا يشترط له الحول؛ لقول الله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141].
فهذا دليل على أن الخارج من الأرض يعطى حقه، تؤدى زكاته يوم حصاده وقت إثماره، ولا يشترط فيه تمام أو مرور الحول، والخارج من الأرض هو الزروع والثمار، وأيضاً المعادن، المعادن مثل ما يسمونه: الركاز: ( وفي الركاز الخمس ) فهو من الخارج من الأرض.
طيب! نأتي مثلاً للمعادن الحديثة كالنفط مثلاً، وهو أعظم وأهم المعادن وأكثرها قيمة اقتصادية في هذا العصر، هل نقول: تجب فيه الزكاة أو لا تجب فيه الزكاة؟! نؤجل هذه المسألة ذكرونا فيها بعد قليل.
إذاً: الحول مشروط بوجوب الزكاة فيما عدا الخارج من الأرض، تجب الزكاة إذا حال الحول على الأثمان، على الذهب أو الفضة، على الورق النقدي، على عروض التجارة، على الإبل والبقر والغنم.
طيب! هذا الشرط: مرور الحول هو مذهب أكثر العلماء؛ ولذلك يقول ابن عبد البر : وعليه جماعة الفقهاء قديماً وحديثاً.
ما هو الدليل على اشتراط الحول، جاء لذلك عدة أدلة، منها أولاً: الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )، وهذا الحديث هو الآخر لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجميع طرقه ضعيفة وإنما هو صحيح موقوفاً على جماعة من الصحابة.
فقد رواه ابن ماجه في سننه عن عائشة رضي الله عنها، وسنده ضعيف، حيث فيه حارثة بن محمد وهو ضعيف، والصواب عن عائشة موقوفاً عليها من قولها رضي الله عنها.
ورواه الترمذي أيضاً عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، ولا يصح؛ في سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف أيضاً. والصواب الموقوف كما ذكره الترمذي .
ورواه أبو داود في سننه عن علي رضي الله عنه وفيه الحارث الأعور وهو ضعيف جداً أو متروك.
والصواب عن عائشة وابن عمر وعلي موقوفاً عليهم من قولهم هم، فهو ثابت بأسانيد صحيحة عنهم؛ ولذلك رجح جماعة أهل الحديث رجحوا الموقوف، وممن نص على ذلك الترمذي كما ذكرت قبل قليل، والدارقطني وهو من نقاد الحديث المعروفين والبيهقي والبوصيري والزيلعي وابن حجر .. وسواهم .
وهذه الآثار الثابتة عن الصحابة يعتد بها لضعف المخالف في الأصح، كما سوف أشير إليه بعد قليل. طيب.
الدليل الثاني على اشتراط الحول: أنه ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث من يسمون بالمصدقين، عمال الصدقة الذين يأخذون الصدقة من أهل البادية ومن المزارعين .. وغيرهم، فكم كان يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء المصدقين؟! هل كان يبعثهم كل أسبوع؟ كل شهر؟
قطعاً لا، كان يبعثهم كل حول، فهذا دليل على أن هذا من السنة العملية المطردة المتلقاة بين المسلمين خلفاً عن سلف.
وأيضاً: أن هذا هو من الضرورة التوقيتية التي لابد منها، وهذا محل اتفاق كما سبق، وجوب الزكاة في هذه الأشياء: في الزروع في الثمار في الإبل في البقر في الغنم، فهنا يأتي السؤال: كم وقت لوجوب الزكاة؟ لو قلنا مثلاً بوجوب الزكاة كل أسبوع أو كل شهر لكان في ذلك إجحاف بأصحاب الأموال ونقص من أموال، ولو قلنا بوجوبها في العمر مرة لكان في ذلك إجحاف بحق الفقير والمحتاج والمسكين، فلما كانت السَّنَةُ هي أبعد توقيت يتكرر كانت هي ميقات الزكاة، زد على ذلك أن السَّنَةَ هي توقيت الصيام الذي يتكرر في السنة مرة صوم رمضان، وهي توقيت الحج، فإنه عبادة سنوية، وإن كان لا يجب في الذمة إلا مرة في العمر على المسلم.
إذاً: لابد من التوقيت، وأسلم ما يكون من التوقيت هو السنة، وهو ما أطبقت عليه الأمة، أما الخارج من الأرض فكما ذكرت لكم أن زكاته يوم حصاده.
هاهنا سؤال: ما هو الفرق أو ما سر التفريق بين الخارج من الأرض من الزروع والثمار والمعادن .. وغيرها فنوجب الزكاة فيها بمجرد ما حصلناها؟ وبين بقية الأموال الزكوية فنوجب الزكاة فيها بعد مرور الحول؟
ذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني وغيره من الفقهاء تفريقاً لطيفاً بين هذه الأموال، فقالوا: إن الأموال الزكوية التي يشترط لها الحول هي الأموال النامية، الأموال التي تنمو وتزيد، ويدخرها صاحبها لينميها، والأصل فيها أنها أعدت للنماء والزيادة، ولأن النماء غير منضبط فاعتبر الحول مقياساً للنماء، ووجبت الزكاة فيها كل حول، فالزكاة في مقابل النماء.
بينما الخارج من الأرض لا يعد للنماء، يعني: الزروع والثمار لا تعد للنماء، وإنما هي تؤخذ وهي نفسها نماء بعدما يتم أخذها واستثمارها، إما أن تستهلك وإما أن تئول إلى الفساد، فلا نماء فيها. ولذلك لم يشترط فيها الحول.
طيب! نرجع أيضاً فيما يتعلق بالحول إلى مسألة الربح والنماء المتصل بالمال، يعني: إنسان عنده مبلغ من المال وجبت فيه الزكاة، ثم زاد هذا المبلغ من خلال استثماره في تجارة أو غيرها وتضاعف، فهل نقول بأن الربح له حوله الخاص، أو نقول: إنه تابع لأصل المال؟
الصواب أنه ما دام أن أصل المال قد بلغ نصاباً -كما سوف نذكر النصاب بعد قليل- فإن الربح تابع لأصله، وكذلك النماء.. الزيادة سواءً كانت زيادة متصلة أو زيادة منفصلة، يعني: مثلاً إنسان عنده أربعون من الغنم، كم نصاب الغنم أقل نصاب شاة في كل أربعين، طيب! وإنسان عنده أربعون، عنده رعية من الغنم تقدر بأربعين شاة ففيها شاة، فإذا توالدت وتنامت حتى أصبحت مائتين، هل تجب الزكاة في الأربعين أو تجب في المائتين؛ تجب في المائتين؛ لأن حولها حول أصلها.
كذلك إنسان عنده مثلاً مائة ألف ريال وهذا المبلغ مع الاستثمار والتجارة تحول إلى مائتي ألف ريال، هل نوجب الزكاة عليه في مائة ألف أو مائتي ألف؟ نوجبها في مائتي ألف، باعتبار أن النماء وأن الربح حولها حول أصلها، ولا يستقبل بها حولاً جديداً.
لكن مما ينبغي أن يشار إليه أن الزيادة في الأموال على ثلاثة أقسام كما ذكرها ابن قدامة وتلقاها عنه كثير من الفقهاء وأهل العلم، الزيادة في المال على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما ذكرته الآن: وهو الزيادة من نماء المال نفسه، سواء كانت ربحاً أو نماء، وسواء كانت متصلة أو منفصلة، فهذا الربح وهذا النماء حوله حول أصله كربح التجارة ونتاج الماشية، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. هذا القسم الأول.
القسم الثاني: الزيادة أو النماء من غير الجنس.
مثلاً: إنسان عنده أربعون شاة، بعد مرور جزء من الحول كسب شيئاً من الذهب، وهذا الذهب قد لا يبلغ نصاباً بذاته أو يبلغ نصاباً، فهل نضم الذهب إلى الغنم؟
الجواب: لا، وإنما يعتبر الذهب شيئاً مستقلاً، فإن كان بلغ نصاباً استقبل به حوله، وإن لم يبلغ نصاباً لم يضم إلى الغنم الموجودة عنده.
هذا هو القسم الثاني: أن يكون نماءً من غير جنس المال الذي عنده.
القسم الثالث: أن يكون النماء من جنسه، ولكنه من غير نماء، أن يكون من جنس المال الذي عنده لكن ليس ناتجاً من المال مضارباً، من أوضح أمثلته: الرواتب التي يأخذها الموظفون الآن، فالموظف مثلاً عنده في هذا الشهر عشرة آلاف أو عشرون ألف ريال في رصيده في البنك، في الشهر الثاني ازداد المبلغ إلى أربعة أو خمسة وعشرين ألف ريال، هل هذا المبلغ الجديد هو من نماء المال السابق الذي عنده؟ لا. وإنما هو من مصدر آخر وهو عمله في وظيفته أو تدريسه أو شركته .. أو غير ذلك، فهذا النماء هو من جنس المال، يعني: نقد ولكنه ليس من نماء المال السابق الذي عنده، وهذه المسألة فيها خلاف بين الأحناف .. وغيرهم.
والقول المختار الذي يفتى به: أن الإنسان في مثل هذه الحال يحدد لنفسه شهراً معيناً في السنة يجعله شهر زكاته، ثم ينظر إلى رصيده فيه فيخرج زكاته ما لم يكن النصاب انقطع خلال هذه الفترة، فإن انقطع النصاب استأنف به حولاً جديداً، مثل كون الرصيد يزيد وينقص هذا ما يضر ما دام أن النصاب باق، لكن لو نقص النصاب نقول هنا: انقطع الحول ويستأنف حولاً جديداً منذ استأنف النصاب.
هناك فيما يتعلق بالحول خلاف، أنا قلت: إن هذا مذهب الجمهور، ونقلت عن ابن عبد البر أنه يقول: مذهب جماعة الفقهاء قديماً وحديثاً، نعم. ولكن هناك خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة، فقد وجد من الصحابة ومن بعدهم من يرى أن المال المستفاد يزكى حين استفاده، وقد نُقل هذا القول عن ابن عباس رضي الله عنه، وابن مسعود رضي الله عنه، ومعاوية رضي الله عنه، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد .. وغيره، أنهم يرون أن المال المستفاد يزكيه حين استفاده، وكأنهم قاسوه حينئذ مثلاً بالخارج من الأرض أو بغيره، وسوف يأتي مزيد إيضاح لهذه المسألة بعد قليل.
فالمقصود بالنصاب إذاً هو المبلغ أو المقدار من المال الذي إذا ملكه الإنسان وجبت عليه فيه الزكاة، سواء كان ذلك في الذهب أو في الفضة أو في الإبل أو في البقر أو في الغنم .. أو في غيرها، وهناك ما دونه لا تجب فيه الزكاة، وما وصل إليه فما فوق فإن الزكاة فيه واجبة، واعتبار النصاب في الجملة إجماع عند العلماء، وممن حكى الإجماع عليه الوزير ابن هبيرة والإمام النووي .. وغيرهما من أهل العلم.
والدليل على وجوب النصاب واعتباره ما رواه الستة وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة )، فذكر نصاب الزروع وهو خمسة أوسق، وذكر نصاب الفضة وهي خمس أواق، هذا نصاب ماذا؟ الفضة. وذكر نصاب الإبل وهي خمس ذود. فهذا دليل على اعتبار النصاب، والحديث كما ذكرت في غاية الثبوت.
فالنصاب إذاً هو سبب الوجوب.
إذاً: عندنا أولاً الملك، أن يكون مالكاً للشيء، فمن البدهي أن الذي لا يملك ليس عليه زكاة، وكذلك أن يكون هذا الملك مستقراً.
وما معنى استقرار الملك؟ استقرار الملك قال بعض الفقهاء: هو تمام الملك.. هو ثبوت الملك، الأحناف يعبرون بلفظ الملكية المطلقة، وبعضهم يعبر بالتمكن من الملك.
والمقصود بذلك كله أن يكون الإنسان قادراً على التصرف في المال، كأن يكون المال بيده، أو يكون في حكم اليد، مثل أن يكون بيد وكيله أو يكون سهل الحصول عليه، فيخرج من ذلك أشياء عديدة لا ينطبق عليها تمام الملك.
على سبيل المثال: ما لا يملك، ليس ملكاً لشخص معين وإنما هو ملك عام للأمة.. للمسلمين من أموال بيت المال، مثل الغنيمة أموال الغنيمة أموال الفيء أموال الخمس الأموال العامة، النفط مثل ما ذكرنا قبل قليل، الخيرات الموجودة في الأمة والتي لا يملكها شخص بعينه، هل نقول: هذه الأشياء فيها زكاة؟
الصواب: أنه لا زكاة فيها، لماذا؟ لأنها ليست مملوكة لشخص معين، وإنما هي ملك عام للأمة، فالفقير له فيها حظ أصلاً من غير ما يكون أخرج زكاة، وقد حاول بعض الفقهاء المعاصرين أو المتفقهين أن يجعلوا في هذه الأشياء أن يجعلوها من الركاز، والركاز هو دفن الجاهلية، وفيه الخمس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
فحاولوا أن يجعلوا فيها خمساً وهذا قول ضعيف، والصواب أنه لا زكاة فيها؛ لأنه يفترض أنها هي ملك للأمة، فهي تعود على الأمة، واستثمارها في مصالح الأمة، في شق الطرق.. في بناء الجسور.. في بناء المدارس.. في المصالح العامة.. في إغناء الفقراء .. إلى آخره، وبالتالي ليس فيها زكاة؛ لأنها ليست مملوكة لشخص بعينه.
المثال الثاني مما لا زكاة فيه لأنه غير مملوك على الحقيقة: دين الكتابة يسميه الفقهاء، يعني: العبد الذي كاتبه سيده أن يعطيه خراجاً معلوماً، ثم يتحرر بعد ذلك.
فهذا الدين غير مملوك على الحقيقة لسيده؛ لأن العبد لا يزال قناً، ولأنه يستطيع أن يتراجع عن ذلك حتى لو سدد بعض نجوم الكتابة، ثم طرأ عليه أو ضعف أو عجز، وقال: أنا تراجعت وأريد أن أعود إلى العبودية، فحينئذ نقول: لا زكاة في هذا الدين لأنه غير مملوك على الحقيقة، وبإمكان المكاتب أن يتراجع عن هذا العقد وألا يسدد الدين. فهذا ليس بمملوك ولا زكاة فيه.
مثله أيضاً: المال الموقوف على غير معين، مثل إنسان جعل مالاً وقفاً للفقراء أو للمساكين، أو لطلبة العلوم النافعة، أو لبناء المساجد، أو لأنشطة الدعوة أو لغيرها، المهم أنه أوقف هذا المال إيقافاً عاماً لا على أشخاص معينين، فهذا الوقف ليس فيه زكاة عند جمهور العلماء وهو مذهب الحنابلة والشافعية والمالكية.
وكذلك الوصية، يعني: كون الإنسان يوصي بعد وفاته بشيء من ذلك، فليس فيه زكاة.
أما الوقف أو الوصية على معين فمذهب الحنابلة أن فيها الزكاة، مثل إنسان أوقف المال على فلان وذريته مثلاً، فهذا يقولون: فيه زكاة؛ لأنه أشبه المال المملوك. والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنه حتى هذا المال ينبغي ألا يكون فيه زكاة من حيث هو وقف.
لكن إذا كان الموقوف عليه أخذ شيئاً من هذا المال من غلة الوقف من ريعه، ثم توافرت فيه شروط الزكاة فالزكاة عليه واجبة فيه حينئذ، إذا تملكه فحال عليه الحول وبلغ نصاباً فيجب عليه أن يزكيها.
كذلك من الأموال التي لا زكاة فيها لأنها غير مملوكة: المال المأخوذ من كسب حرام، وأعني بذلك الحرام الواضح الصريح، أما لو كان أخذه وله فيه شبهة، أو هو لا يعتقد تحريمه، فهذا يملكه، لكن إذا كان المال حراماً كالمال المغلول مثلاً، أو مال الربا الصريح، أو المال المسروق أو المنهوب أو المغصوب .. أو نحوها، فإن الإنسان لا يتملك هذا المال في الحقيقة، وإذ لم يتملكه فإنه ليس عليه فيه زكاة.
وقد يقول لنا قائل: أنتم الآن تعطون هذا السارق، أو تعطون هذا الغاصب، أو تعطون هذا المرابي هدية وجائزة بإسقاط الزكاة عنه، فيقال له: كلا. الشرع يطالبه بأن يتخلص من هذا المال كله، وليس فقط من نسبة منه؛ لأن الزكاة تطهر المال، وهذا المال غير قابل للتطهير ما دام دخل من حرام، ولذلك جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، فنقول: هذه الأموال ليس فيها زكاة؛ لأنها غير مملوكة أصلاً لصاحبها.
كذلك من المال غير المملوك الذي لا يكون فيه زكاة ما يسميه الفقهاء بمال الضمار، وقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: (ليس في مال الضمار زكاة) فما هو مال الضمار؟
مال الضمار: هو كل مال لا يضع صاحبه يده عليه، ولا يستطيع أن يصل إليه، مثلاً: لو أن رجلاً ضل بعيره أو ضاعت سيارته مثلاً ولا يدري أين هو، فليس عليه في ذلك زكاة، مثلاً لو فقده لو دفنه في مكان ثم ضيع المكان الذي دفنه فيه، لو أنه غرق أو غاص في البحر، ولو كان مالاً ثميناً بضاعة أو سلع أو ذهب .. أو غيرها ثم غرقت في البحر، وإمكانية الحصول عليه واردة، لكن لا يستطيع أن يعرف متى يكون هذا؟ وهل سيكون أو لا يكون؟ فليس فيه زكاة، مثلاً: لو صودر المال، أو كان له دين عند شخص وجحده، أو غصبه أحد ماله أو سرقه ولا يعرف السارق، فمثل هذه الأموال الشبه ضائعة، وصاحبها لا يضع يده عليها، ولا يستطيع أن يثمرها ولا ينميها ولا يستفيد منها ولا ينفق منها، فهذه الأموال تسمى: أموال الضمار وليس فيها زكاة؛ لأن الملك فيها غير ثابت غير تام غير ظاهر، وإن كان له فيها شوب تملك، بخلاف المال الذي يملكه وهو قد وكل عليه أحداً أو أناب عليه أحداً، مثل: ابن السبيل، ابن السبيل يعطى من الزكاة ولو كان غنياً أو لا؟ طيب لماذا؟ عنده أموال في بلده كثيرة لكنه الآن مغترب وبعيد ولا يستطيع الوصول إلى ماله، هذا في وقت من الأوقات، أما الآن يعني: الحصول على المال سهل من خلال التقنيات المعاصرة.
فابن السبيل في هذه الحالة يأخذ من الزكاة، وماله ليس مال ضمار، بل فيه زكاة؛ لأن وكيله في ذلك البلد أو نائبه أو ولده يقوم مقامه فيما يتعلق بتثمير المال وتنميته.
هنا أيضاً مسألة تتعلق بتمام الملكية وهي الدين، زكاة الدين. وأترك هذه المسألة؛ لأنه سوف نأتي إليها إن شاء الله. فقد وضع المصنف لها باباً أو فصلاً خاصاً، فالدين هنا يصلح السؤال عنه في الوجهين:
الوجه الأول: الديون التي لك على الناس هل تزكيها باعتبار أنها مملوكة لك أو لا تزكيها، باعتبار أنه ليس هناك ملكية تامة فيها، والملكية فيها مشوبة أو ناقصة؟
ولذلك اختلف العلماء في الدين هل تجب فيه الزكاة أو لا تجب؟ على أكثر من خمسة أقوال. سوف أعرض لشيء منها فيما بعد.
ومثله أيضاً: لو كان عندك مال وعليك دين يقابل هذا المال، فهل نقول بوجوب الزكاة في مالك، أو نقول إن الدين يمنع الزكاة، باعتبار أن المال الذي تملكه يفترض أنك سوف تقدمه سداداً للديون؟ هذه أيضاً فيها خلاف، وإن كان الأمر فيها أوضح، فأكثر الفقهاء يرون أن الدين يمنع الزكاة، فلو كان عندك مثلاً مائة ألف ريال وعليك دين مائة ألف ريال، فعند أكثرهم في هذه الحالة ليس عليك زكاة.
على كل حال ندع هذا لحينه، هذه هي المسألة أو النقطة الأولى التي أردنا بحثها هذا اليوم، وهو ما يتعلق بشروط وجوب الزكاة، وباختصار ذكرنا أن الزكاة يشترط لوجوبها خمسة شروط، ساعدوني على استذكارها:
الشرط الأول: الإسلام.
الشرط الثاني: الحرية.
الشرط الثالث: مرور الحول.
الشرط الرابع: النصاب.
الشرط الخامس: استقرار الملك.
إذاً: المال المملوك بطبيعة الحال ذكرنا الملك وتحدثنا عنه قبل قليل بما لا حاجة لإعادته والتذكير به، فلا بد أن يكون المال مملوكاً لشخص أو لأشخاص، فالمال غير المملوك لا زكاة فيه، والمال الذي تملكه ضعيف ليس فيه زكاة أيضاً، فلا بد أن يكون المال مملوكاً.
فالمقصود بالمال النامي أن يكون نامياً بالفعل أو نامياً بالإمكان، وبذلك يخرج المال أو تخرج الممتلكات التي ليس من طبيعتها أن تكون نامية، مثل: الثياب التي تلبسها، هل نقول: في شماغك زكاة، ولو كان غالي الثمن؟ لا، لأنه مما يتموله الإنسان ويستعمله، أو في السيارة مثلاً، ولو كانت من أفخم أنواع السيارات، مثل: السيارات الفخمة يعرفها الشباب، نحن ما نعرفها، مثل: المرسيدس مثلاً أو (لكزز).
إذاً: السيارة ليس فيها زكاة التي تركبها، البيت الذي تسكنه ليس فيه زكاة، المكتبة التي تستخدمها في القراءة والبحث والاطلاع ليس فيها زكاة، الأجهزة التي عندك، يعني: أجهزة للاستخدام، افرض عندك مثلاً جهاز كمبيوتر، افرض عندك آلة تصوير، افرض عندك في البيت مثلاً أجهزة كثيرة من الثلاجات الغسالات أجهزة التنظيف .. وغيرها، كل هذه الأشياء ليس فيها زكاة؛ لأنها أعدت للاستعمال، وكذلك الأثاث لو كان عند الإنسان مثلاً من الأثاث من الكنب من الفرش من الستائر من الألوان.. الأشياء المعدة في البيوت مهما بلغت أثمانها، فهذه الأشياء ليس فيها زكاة؛ لأنها لم تعد للنماء، وإنما أعدت للاستعمال.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الذي رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي وأحمد ومالك .. وغيرهم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ).
فالعبد الذي يقوم على الإنسان في الخدمة، والفرس التي يركبها الإنسان ليس على الإنسان فيها صدقة؛ لأنها أعدت للاستعمال والقنية، ولم تعد للنماء والزيادة والتجارة.
ولذلك يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث، يقول: هذا الحديث أصل في عدم وجوب الزكاة في مال القنية، وهذه المسألة من حيث الإجمال إجماع، فقد ذكر الإجماع عليها ابن رشد والوزير ابن هبيرة الحنبلي وغيرهم من أهل العلم: أن أموال القنية لا زكاة فيها وإن كان للإمام أبي حنيفة خلاف يسير في الخيل.
يقول ابن رشد رحمه الله: لا خلاف في عدم وجوب الزكاة في العبد المتصرف والفرس المعد للركوب.
ويقول الوزير ابن هبيرة : أجمعوا على أنه ليس في دور السكنى وثياب البذلة وأثاث المنزل ودواب الخدمة وعبيد الخدمة وسلاح الاستعمال أنه ليس فيها زكاة.
إذاً: أموال القنية ليس فيها زكاة. لماذا؟
أولاً: لأنها أموال غير نامية كما ذكرنا.
وثانياً: لأنها مشغولة بحاجة الإنسان الأصلية الضرورية.
لو نظرنا في الأموال التي تجب فيها الزكاة لوجدنا مثلاً الأنعام من إبل وبقر وغنم، الجواميس فيها زكاة؛ لأنها بقر، نعم.
فهذه الأموال هل هي نامية أو غير نامية؟ هي نامية، كيف تكون نامية؟ تتوالد، اللبن، السمن .. إلى آخر المشتقات.
إذاً: هي تتوالد وتتكاثر ومن ورائها يكون الدر وغيره فهي نامية.
كذلك الأثمان.
وعروض التجارة أياً كان من سلع من مواد من إبل من بقر من غنم من دور من عقار من سيارات .. من غيرها، هذه العروض نامية، وهو إنما يضارب لزيادة ماله، وكونه أخرق أحياناً ويفشل في تجارته هذا لا دخل لنا فيه، لكن المقصود أن أصل عروض التجارة هي للنماء فهي نامية، كذلك الزروع الخارج من الأرض، فهو أيضاً لا نقول: إنه نام، بل هو نماء في ذاته؛ ولذلك وجب في هذه الأشياء الزكاة.
وأوضح المذاهب في اعتبار النماء -والله أعلم- هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، فإنه من الملاحظ أن المالكية عندهم عناية خاصة بملاحظة النماء؛ ولذلك ذهب الإمام مالك إلى أن عروض التجارة الطويلة لا تجب فيها الزكاة إلا إذا باعها، يعني: لو كان عندك عقار جلس أربع أو خمس سنوات دون أن تبيعه، فهل تزكيه كل سنة؟ عند الجمهور نعم، والإمام مالك رحمه الله يرى أنه لا زكاة فيه إلا إذا بعته، تزكيه مرة واحدة؛ لأنه راعى فيها مسألة النماء.
كذلك الدين عند الإمام مالك رحمه الله، فالديون حتى لو كانت عند مليء، إذا وصل الدين إليك وكان قد جلس عند صاحبه أربع أو خمس سنوات، فإنك إنما تزكيه سنة واحدة. وفي المسألة الخلاف الذي سنعرض له فيما بعد.
إذاً: هذا ما يتعلق بموضوع النماء، ولأن النماء شرط في المال أصلاً لم نقل بوجوب الزكاة في أموال القنية كما سلف، ولم نقل بوجوب الزكاة في أموال الضمار.. الأموال المضمرة؛ لأنها ليست للنماء، فصاحبها لا يملكها، ولا يستطيع التصرف فيها بحال من الأحوال.
بناءً على هذه النقطة: هل تجب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال، حلي المرأة؟ هذه مسألة فقهية وإن كانت فرعية ويسيرة، إلا أن الخلاف فيها شديد، وعشرات الكتب كتبت فيها، والخلاف فيها يحتدم أحياناً، ولا ينبغي أن يكون فيها شدة؛ لأن المسألة يسيرة.
والأقرب والله أعلم أنه لا يجب فيها الزكاة؛ لأنها داخلة في القاعدة التي ذكرناها فهي يقيناً ليست معدة للنماء، وهذا مذهب الجمهور ونقل عن جماعة صح عن جماعة من الصحابة وأئمة والتابعين وأئمة الفتوى، وفي المسألة قول آخر، والأحاديث الواردة في المسألة لا تخلو من مقال.
وإن كنا نقول: إن من أراد أن يحتاط ويزكي فإن هذا خير ونور، ولو لم يأت من ذلك إلا تقليل استخدام هذه الحلي، وأن كثيراً من الأخوات المؤمنات قد يكون عندها أموال ضخمة موضوعة من الذهب أو الفضة .. أو غيرها من المعادن والحلي التي ربما لا تستخدم إلا في السنة مرة أو أقل من ذلك.
إذاً: المال لابد أن يكون مملوكاً. هذا واحد.
وثانياً: لابد أن يكون نامياً.
والجانب الثاني من المراعاة في هذا الشرط: هو الحول، فإن كون الإنسان يملك نصاباً ويدور الحول عليه لم ينقص عنده هذا النصاب، فإن هذا مظنة أن يكون ذلك زائداً عن حاجة الإنسان الأصلية.
هناك شروط أخرى لا داعي لتكرارها؛ لأنها معروفة، مثل أن يكون سالماً مثلاً من المانع، مثل: الدين .. أو غير ذلك.
والحديث الصحيح: ( صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره، حتى يقضى بين الخلائق في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار ).
وأيضاً ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر عند الحاكم في مستدركه وصححه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بلغ أن تؤدى زكاته فأديت زكاته فليس بكنز )، وهذا أيضاً الصواب أنه موقوف من كلام جابر وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن عليه أقوال الأئمة وكثير من السلف، أن ما أديت زكاته من المال فليس بكنز، وبناءً على ذلك ثبت في القرآن الكريم وجوب الزكاة في الذهب والفضة بنص الآية الكريمة.
طيب! هل يدخل في الأثمان غير الذهب والفضة؟ فالآن أكثر الناس ما عندهم ذهب، من هو الذي تجد في بيته سبائك من ذهب أو من فضة؟! الناس الآن إنما يستخدمون الورق النقدي.
إذاً: مما يدخل في الأثمان العملة النقدية أياً كانت، مثلاً العملة المعدنية فيها الزكاة يقيناً؛ لأنها أثمان فهي أولى، أو مثل الذهب والفضة في وجوب الزكاة فيها.
أيضاً العملة الورقية أياً كانت من ريال أو دولار أو جنيه أو دينار .. أو غيرها أو روبية؛ فإن في ذلك كله الزكاة إذا بلغ النصاب.
بل أقول أكثر من ذلك قد يصل الناس أو بعضهم إلى حد الاستغناء عن العملة الورقية، أو هذا لا يمكن؟! ممكن جداً، وخصوصاً مع تقدم التقنية ووسائل الاتصال والإنترنت والكمبيوتر وتطور العقل البشري في هذا المضمار، فقد تصبح مقتنيات الإنسان أو تصبح أرصدته مجرد أرقام، وربما ما يحتاج إلا إلى ورقة صغيرة، وربما لا يحتاج إلى شيء من ذلك أصلاً.
فنقول: الزكاة واجبة في كل هذه الأثمان المملوكة، سواء كانت متداولة بين الناس بالفعل أو كانت قائمة مقام التداول، فهذه فيها الزكاة ولا ينبغي أن يكون في ذلك أي إشكال.
ومثله أيضاً قوله تعالى في الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]، وهذه الآية أعم من الأولى، فإن الأولى فيها حديث عن الزروع والثمار، لكن الآية الأخرى في قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] يدخل فيها الزرع والثمر؛ ولذلك الفقهاء يقولون: زكاة الخارج من الأرض ثم يتكلمون عن زكاة الزروع والثمار، ويدخل فيها الخارج من الأرض من غير ذلك مما هو ملك للشخص كما ذكرنا، كالركاز؛ لو أن إنساناً ظفر بركاز من دفن الجاهلية .. أو غيرها من ذهب أو فضة .. أو نحوهما، فإن فيه الزكاة وزكاته الخمس؛ لأن جهد الإنسان في تحصيله قليل جداً؛ ولذلك رفعت نسبة الواجب فيه.
والجمهور والأئمة الأربعة على وجوب الزكاة في عروض التجارة، بل نقول: إن عروض التجارة فيما يظهر لي والله أعلم من أولى ما يجب فيه الزكاة؛ لأن نموها سريع وضخم، ونحن نجد الآن أن الأموال الهائلة الطائلة والأرصدة الضخمة لا يفرح بها مثلاً الفلَّاح بمجرده أو صاحب الإبل بمجرده، وإنما يستفاد ذلك أكثره من عروض التجارة، حتى الزرع أو الضرع إذا صار عروض تجارة أصبحت الأموال المجنية من ورائه أموالاً طائلة وكثيرة.
فلذلك نقول: إن عروض التجارة فيها الزكاة على القول الراجح وهو مذهب الجمهور، وقد استدل بعضهم بحديث سمرة في ذلك وهو ضعيف.
ويبدو لي -والله أعلم- أن بهيمة الأنعام يمكن أن نستأنس للتدليل على وجوب زكاتها من القرآن الكريم في الأموال، فإن الله سبحانه وتعالى قال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وقال: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].
فنحن نعرف أن غالب أموال العرب في عهد الرسالة كان الإبل والبقر والغنم، فلو كانت مستثناة من هذا العموم، لكان هناك النص عليها والإشارة إلى عدم وجوبها.
يقول الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمع العلماء على أن الزكاة واجبة في تسعة أصناف من المال: الذهب، الفضة، الإبل، البقر، الغنم، البر، الشعير، التمر، الزبيب.
هو يقول: أجمعوا، ابن حزم خالف في الزبيب، وهناك أموال أخرى دل الدليل على وجوب الزكاة فيها لكنه لم يذكرها إنما ذكر ما أجمعوا عليه من هذه الأموال التسعة، وسوف نعرض لأشياء من ذلك إن شاء الله في حينه، إذا مررنا على الأبواب الخاصة بالمال الذي تخرج منه الزكاة.
هذا هو ما يتعلق بمقدمة المؤلف، ولو قرأناه على عجل حتى نلاحظ أننا لم نترك منها شيئاً.
يقول: [وهي واجبة على كل مسلم حر ملك نصاباً ملكاً تاماً، ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول -هذا شرط الحول- إلا في الخارج من الأرض -يوم حصاده-، ونماء النصاب من النتاج والربح فإن حولهما حول أصلهما، ولا تجب الزكاة إلا في أربعة أنواع: السائمة من بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والأثمان، وعروض التجارة، ولا زكاة في شيء من ذلك حتى يبلغ نصاباً -هذا شرط النصاب- وتجب فيما زاد على النصاب بحسابه، إلا السائمة فلا شيء في أوقاصها].
يعني: لو أن عند إنسان مائة ألف ريال ووجبت عليه الزكاة فيها جميعاً بما في ذلك الزائد على النصاب، بخلاف السائمة فإنه لا شيء في أوقاصها، مثلاً عنده أربعون من الغنم ففيها شاة حتى تبلغ مائة وعشرين، فالذي عنده أربعون يخرج شاة والذي عنده مائة وعشرون كذلك، فهذا يسمى وقصاً.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر