إسلام ويب

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - مراجعة في كتاب الجهاد والسيرللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجهاد هو ذروة سنام الدين، وحامي حياض الملة المحمدية، وناشر دعوتها في أقطار المعمورة، وعلى ما في القتال من سفك للدماء، وإزهاق للأرواح، والذي ظاهره العذاب، إلا أنه في شريعة الإسلام باب من أبواب الرحمة؛ لما يحمله بين طياته من أهداف وآداب، أهداف لإنقاذ البشرية من ظلمات الكفر والشرك، وآداب في التعامل مع أعداء الدين من المقاتلين وغيرهم.

    1.   

    باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فقد كنا انقطعنا عن مواصلة السير في كتاب الجهاد والسير بعد أن تعرضنا له في محاضرتين أو ثلاث، فأقول: يحسن بنا أن نراجع مراجعة سريعة كتاب الجهاد من أوله حتى يتصل حبل الفكر، ونتذكر ما كان قد مضى.

    الباب الأول: (باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة).

    لأنهم قد سبقتهم دعوة الإسلام ابتداءً، وهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من جوز الإغارة مطلقاً، ومنهم من منعها مطلقاً، والصواب -وهو الرأي الثالث- أن من بلغتهم دعوة الإسلام فالإغارة عليهم جائزة، ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام فالإغارة عليهم ممنوعة إلا بعد إعلامهم بدعوة الإسلام، في هذا الباب حديث ابن عون أنه قال: [كتبت إلى نافع وهو مولى عبد الله بن عمر أسأله عن الدعاء قبل القتال، أي: عن دعوة الناس قبل قتالهم.

    قال: فكتب إلي: (إنما كان ذلك في أول الإسلام. قد أغار النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون -أي: وهم غارون في بيوتهم لا يعلمون عن قتاله عليه الصلاة والسلام شيئاً- وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث)].

    1.   

    باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث

    والباب الثاني: (باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها).

    أي: باب: وجوب تأمير الإمام العام الأمراء على البعوث والسرايا، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها.

    فيه حديث سليمان بن بريدة عن أبيه [قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل ومن معه من المسلمين خيراً)] أوصاه في نفسه وفيمن معه من المسلمين خيراً وأوصاه بتقوى الله.

    [ثم قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا)] والغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها. أي: بغير إذن الإمام. قال: [(ولا تغدروا ولا تمثلوا)] أي: لا تقطعوا الجثث بعد موتها، فإذا مات انتهى أمره، وليست هناك حاجة ولا ضرورة إلى التمثيل بجثته أو تقطيعها. قال: [(ولا تقتلوا وليداً)] أي: ولا تقتلوا صبياً أو طفلاً صغيراً. قال: [(وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ثم ادعهم إلى الإسلام -ادعهم أن يدخلوا في هذا الدين- فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم -أي: لا تقاتلهم- ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين)] أي: من بلد الكفر إلى المدينة المنورة.

    قال: [(وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين)] لأن الأعراب والبدو لهم أحكام في الشرع تخصهم خاصة في نتاج الجهاد. قال: [(يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء)] وهذا هو حكم البدو الذين لم يشاركوا في القتال.

    قال: [(ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)].

    إذاً: المرحلة الأولى: ادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فاقبل منهم الجزية، فإن أبوا فقاتلهم.

    وهذه المراحل الثلاث مراحل جهاد الطلب؛ لأنه لا يتصور أبداً في جهاد الدفع أن يفرض المسلمون على العدو أن يدخلوا في الإسلام، خاصة وأن العدو قد أتاهم من بلاده ليقاتل المسلمين في بلادهم، وما سمي جهاد الدفع بهذا الاسم إلا لأنك تدفع العدو إذا أغار عليك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام جوز للمسلمين أن يغيروا على بلاد الكفر ويخيروهم بين ثلاث: الإسلام، أو دفع الجزية عن يد وهم صاغرون، أو القتال.

    فقال: [(فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)] أي فإن أبوا أن يدفعوا الجزية فاستعن بالله وقاتلهم.

    قال: [(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم -أي: إن ترجعوا عن هذه الذمة أو تخطئوا فيها- خير لكم وأهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري: أتُصيب حكم الله فيهم أم لا)].

    1.   

    باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير

    والباب الثالث: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، وليعلم العالم أن الجهاد في سبيل الله مبني على التيسير والتبشير، وترك التنفير والتعسير، وهذا باب اعتراضي في أثناء أبواب الجهاد؛ ليدل على أن الجهاد باب عظيم جداً من أبواب رحمة الله تعالى بخلقه.

    1.   

    باب تحريم الغدر

    في الباب الرابع يتكلم عن بيان تحريم الغدر، وفيه: حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود وحديث أنس وحديث أبي سعيد الخدري .

    وهذه الأحاديث كلها بمعنى واحد، فحديث عبد الله بن عمر يقول: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين -أي: يوم القيامة- يُرفع لكل غادر لواء عند استه -أي: عند مؤخرته- ويقال على الملأ وعلى رءوس الأشهاد: هذه غدرة فلان ابن فلان)] وفي رواية بزيادة يقول فيها: (ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة) ليس هناك غدر أعظم من غدر إمام لعامة، وإمام العامة هو صاحب الولاية العامة كرئيس دولة، أو محافظ، أو وزير، أو غير ذلك ممن تولى الإمارة العامة والرئاسة العامة، وكان في يده نوع من أنواع الولاية العامة لا الولاية الخاصة، فإذا غدر هذا فلا شك أنه أعظم غدراً؛ لأنه يغش الأمة بأسرها حينئذ.

    وما ضيع إخواننا المجاهدين في أفغانستان إلا غدر أئمة العامة، فهؤلاء المنافقون يتظاهرون بالإسلام ابتداء وهم يبطنون النفاق ويبطنون اعتقادهم مذهب الشيوعية، كما أن منهم أصحاب مصالح ووجاهة وكراسي، وتصبو أعينهم إلى رئاسات يركنون من أجلها إلى الغرب تارة وإلى الشرق تارة أخرى، فلو أن الجاهل سكت لقل الخلاف، ولو أن الله تعالى نجى المجاهدين المخلصين الموحدين من غدر الغادرين في هذه البلاد لكانت الحرب قد وضعت أوزارها منذ زمن بعيد، ولكن شاء الله عز وجل أن يسلط هؤلاء على أولئك حتى يبتليهم ويختبرهم؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وهذه سنة كونية في الكون، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أول من ابتلي بذلك.

    أنتم تعلمون أن صفوف المنافقين في المدينة كثيرة، وقد نخروا في عظام الإسلام في صدره الأول، والنبي عليه الصلاة والسلام عرفهم، ولكنه تركهم لحكمة عظيمة مخافة أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، وليسوا أصحابه في الحقيقة، وإنما هم كفار منافقون.

    1.   

    باب جواز الخداع في الحرب

    بعد أن تكلم الإمام عن حرمة الغدر بين أن الغدر في الحرب جائز، حتى لا يُعمم هذا الحكم الأول وأن الغدر كله ممنوع، وإنما الخدعة في الحرب نوع من أنواع الغدر وهي جائزة، فقال: (باب: جواز الخداع في الحرب، أما في غير الحرب فلا).

    وقال عليه الصلاة والسلام: (الحرب خدعة).

    وأنتم تعلمون أن الخداع في الحرب ربما يكون نوعاً من الكذب، أو ربما يستلزم الكذب، وحينما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام في إثر أبي الحقيق أو غيره من المشركين والمنافقين لقتلهم قال من تولى المهمة: يا رسول الله! ائذن لي، أي: أن أقول فيك قولاً لا أعتقده، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد ثبت في الحديث أن الكذب حرام إلا في ثلاث مواطن: الكذب على العدو -أي: في الحرب- والكذب على الزوجة، وكذلك الكذب للإصلاح بين المتخاصمين، وقد صحت بذلك الأدلة.

    1.   

    باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء

    الباب السادس: (باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء).

    فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا تمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا)] أي: لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا.

    [وعن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: عبد الله بن أبي أوفى المصري : أنه كتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية وهم شر فرق الخوارج: (يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ينتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم)] أي: أنه ينتظر حتى تزول الشمس أي: بعد الظهيرة [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا)].

    وكثير من الإخوة يتمنى لقاء العدو أياً كان نوع هذا العدو، فإذا لقيه خار ولم يصبر؛ لمخالفته سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فالأصل أن الإنسان يسأل ربه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، فإذا ما اضطر إلى الوجود في أرض البلاء في يوم من الأيام فليطلب من الله تعالى الصبر على هذا البلاء، أما قضية الفتوة فإنها لا تصح في هذا الموقف أبداً، فأنت منهي أن تتمنى لقاء العدو، أما إذا فُرض العداء عليك فالرجولة والشهامة والإيمان أن تصبر في هذا الموقف.

    قال: [(واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)] أي: أن السيوف سبب لدخول الجنة، وهذا يعني: الشهادة في سبيل الله، وأنتم تعلمون أن الشهيد من أهل الجنة.

    قال: [(ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)].

    ولذلك يُسن الدعاء ويستحب استحباباً أكيداً في وقت القتال والمنازلة.

    1.   

    باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب

    الباب الثامن: (باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب).

    أي: باب تحريم قتل نساء الكفار وأطفال الكفار في الحرب، والمقصود: باب: تحريم قصد قتلهم، لكنهم يُقتلون تبعاً، فإذا كان لا يمكن قتل العدو المراد قتله إلا من خلال قتل النساء والصبيان فلا بأس بذلك؛ لأن المسلم لا يقصد قتل الأطفال والنساء ابتداء، وإنما يقصد قتل العدو المعادي المحارب، فلما لم يمكن قتله إلا بقتل من معه من النساء والأطفال فهم منهم، أي: يأخذون أحكامهم.

    فعن عبد الله [: (أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان)].

    وفي رواية: (نهى عن قتل النساء والصبيان).

    1.   

    باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد

    الباب التاسع يبين الاستثناء من الباب الأول باب: النهي عن قتل النساء والصبيان، فيبين جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد.

    في البيات أي: في الإغارة عليهم وهم غارون؛ لأن ذلك لا يمكن أبداً أن يميز السيف أو السهم أو الطائرة أو الدبابة، بينما إذا كان هذا طفلاً وذاك رجلاً محارباً، فالسهم ينطلق فيأخذ كل من كان في طريقه، فأنا ما ضربت السهم لقتل النساء والأطفال، وإنما أطلقته لقتل المحارب الذي يحاربني، فأصاب طفلاً أو امرأة فلا بأس في هذه الحالة، وهذه حالة لا يشملها النهي الأول.

    فعن الصعب بن جثامة قال: [(سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين؟ -أي: عن أطفال المشركين- يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم)].

    أي: يشتركون معهم في الحكم؛ لأنك ما تعمدت قتل هؤلاء وإنما تعمدت قتل الرجال المحاربين. وفي رواية: (هم من آبائهم).

    1.   

    باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها

    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع -أي: حرق بعضاً وقطع بعضاً آخر- وهي البويرة)] بستان عظيم جداً لبني النضير في عوالي المدينة، في قرية على مشارف المدينة، وهي الآن من داخل المدينة، تسمى البويرة.

    وقال الله تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [الحشر:5]

    واللينة: هي أنواع الثمر كلها إلا العجوة. قال تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5].

    وقال حسان بن ثابت عن تقطيعه نخل بني النضير وهذا البستان كان لسراة أو غناة اليهود في ذلك الزمان. قال:

    وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير

    أي: أنه هان عليهم ذلك، وحرق النبي عليه الصلاة والسلام نخل بني النضير، مع أن الأصل المنع، لكن هذا نوع من أنواع الإثخان في العدو بتحريق نخيله وقطع ثماره وغير ذلك.

    1.   

    باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة

    الباب الحادي عشر: (باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة).

    وكانت الغنائم محرمة على كل نبي سبق إلا على نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى أمته كذلك، فهي حلال للنبي عليه الصلاة والسلام ولأمته معه ومن بعده صلى الله عليه وسلم.

    فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [(غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن)] أي: أنه عقد على امرأة، ولم يبن بها؛ لأن هذا الرجل مشغول بامرأته وبيته ونكاحه، ومشغول بيوم لقائه بهذه المرأة، وهذا يبين أن المشغول لا يصلح في الغالب في الجهاد، وإنما الجهاد يحتاج إلى تفريغ وقت وجهد وبذل للنفس والمال، وهذه أحكام تجري مجرى الغالب، وإلا فهناك من يتزوج الثانية والثالثة والرابعة ويترك هؤلاء جميعاً ويذهب للجهاد في سبيل الله، فهذا يُحفظ ولا يقاس عليه، أما الغالب فهو أن من ملك بضع امرأة فإنه لا يتفرغ للجهاد؛ ولذلك حينما روى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام عن الأنبياء السابقين لم يُعقب عليهم بالخطأ، وإنما رواه وسكت عنه.

    قال: [(ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها)] أي: أن واحداً بنى بيتاً ولم يسقفه بعد، فهو مشغول جداً بإتمام هذا البناء ورفعه.

    قال: [(ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات -أي: حوامل- وهو منتظر ولادها)] وهذا عند العرب له قيمة عظيمة جداً، وتتعلق به قلوبهم.

    قال: [(فغزا هذا النبي فأدنى للقرية حين صلاة العصر)] أي: اقترب من القرية التي يريد أن يقاتل أهلها وقت صلاة العصر. قال: [(أو قريباً من ذلك فقال للشمس: أنتِ مأمورة وأنا مأمور. اللهم احبسها علي شيئاً فحُبست عليه حتى فتح الله عليه)] هذه الجزئية في الحديث غصة في حلوق من يزعمون أنهم أصحاب العقول النيرة، ويقولون: الشمس آية من آيات الله، لا تُحبس لأحد قط، ونحن نخالفهم في ذلك، وقد صح الحديث أن النبي طلب من ربه أن يحبس الشمس عليه شيئاً حتى يستطيع مواصلة القتال قبل دخول الليل؛ لأن العرب قبل دخول الليل كانوا يكفون عن القتال ولا يقاتلون في الليل، وإنما يقاتلون في النهار ويستريحون في أول الليل، ويسيرون في آخر الليل، فلما قارب فتح هذه القرية قبيل المغرب طلب هذا النبي من ربه أن يحبس الشمس في مكانها بغير نقصان أو نزول أو غروب حتى يفتح عليه القرية، فحبس الله تعالى له الشمس، وهذه آية وعلامة من علامات نبوة ذاك النبي.

    قال: [(فجمعوا ما غنموا -أي: من هذه القرية- فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه)] وكانت هذه علامة قبول هذا العمل من النبي ومن أمته قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، كانوا إذا غنموا غنيمة معينة جمعوها ولم يستثنوا منها شيئاً، فتنزل من السماء نار فتأكل هذه الغنائم، وأكل النار لهذه الغنائم دليل على قبول الله تعالى لهذا العمل، فجمع هذا النبي تلك الغنائم من هذه القرية، فنزلت النار ولم تأكل وأبت أن تطعم هذه الغنائم، فأدرك النبي العلة: [(فقال: فيكم غلول)] أي: لا بد أن أحدكم غل، وأخذ من الغنائم، ولا نقول قبل توزيعها؛ لأنه لا توزيع لها، إنما التوزيع في شريعتنا.

    فقال: (فيكم غلول) أنتم يا معشر المجاهدين معي قد غل أحدكم، أو غلت إحدى القبائل أو الأقوام المجاهدين معي، ولذلك أبت النار أن تأكل الغنيمة.

    فقال: [(فليبايعني من كل قبيلة رجل)] كل قبيلة تندب رجلاً منها فليبايعني، ويضع يده في يدي.

    قال: [(فبايعوه فلصقت يد رجل بيده)] وهذا علامة على أن الغلول في قومه، ولا يلزم أن يكون هو الذي غل. فقال: [(فيكم الغلول. فلتبايعني قبيلتك)] أي: واحداً واحداً [(فبايعته فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة)] أي: لصقت يد هذا النبي بيد رجلين أو ثلاثة [(فقال: فيكم الغلول. أنتم غللتم)] أي: أنتم الذين أخذتم من الغنيمة.

    قال: [(فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب. قال: فوضعوه في المال وهو بالصعيد -أي: في ناحية من الأرض- فأقبلت النار فأكلته)].

    الشاهد من هذا الحديث: قوله عليه الصلاة والسلام: [(فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا)].

    فالغنائم كانت حراماً على كل أمة سبقت هذه الأمة المباركة، وأحلها الله عز وجل لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام ولأمته، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أُحلت لنا خمس) وذكر من بينها الغنائم.

    1.   

    باب الأنفال

    الباب الثاني عشر: باب الأنفال.

    قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1]، وقال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال:41] إلى آخر الآيات، فمحل النفل قيل: هو أصل الغنيمة. أي: أن كل الغنيمة التي يغنمها المسلمون من حربهم مع الكافرين. أي: كل ما يغنمه المسلمون من الكفار أنفال.

    والرأي الثاني: أن النفل هو أربعة أخماس الغنيمة.

    والرأي الثالث وهو الصواب: أن الأنفال هي خمس الخمس، أو أن الأنفال الخمس الباقية.

    فيُجعل أنصبة المجاهدين من الأربعة أخماس، والخمس الخامس هو الأنفال، ويجعل توزيعه أو تفريقه أو عدم تفريقه للإمام، والتنفيل ثابت بالإجماع، ويكون التنفيل لمن صنع في الحرب صنيعاً غير عادي، أي: أنه بذل مجهوداً خارقاً جداً، فبلا شك أن هذا يحتاج إلى مزيد عناية وعطية أكثر من الجيش، فإن رأى الإمام أن يعطيه أعطاه فضلاً عن سهمه في الأربعة أخماس. أي: أنه يأخذ سهمه الطبيعي أولاً، ثم ينفل من الخمس الخامس، فهذه هي الأنفال، ولا تكون إلا بإذن الإمام، وتكون في كل غنيمة إلى قيام الساعة، فالأنفال هي العطايا من الغنيمة -كما قلنا- غير السهم المستحب.

    عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أخذ أبي من الخمس سيفاً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي هذا، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يهب له السيف، فأنزل الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1]) أي: لا يفرض على الإمام شيء في أن يهب فلاناً أو لا يهب آخر.

    ولذلك قال سعد : (نزلت في أربع آيات: أصبت سيفاً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم) أصبت سيفاً في غزوة من الغزوات، ولكنه أُعجب به جداً فأراد أن يأخذه إما من الغنيمة أو من الأنفال.. إما من أصل الغنيمة أربعة أخماس أو من الأنفال، وإذا كان هذا أو ذاك فلا بد أن يأذن الإمام وإلا صار غلولاً؛ ولذلك أتى ليستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (ضعه -لا تأخذه- ثم قام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته، ثم قام فقال: يا رسول الله! نفلنيه -أعطنيه من باب النافلة- فقال: ضعه، فقام فقال: يا رسول الله! نفلنيه -عدة مرات- أأجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته، فنزلت هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1])].

    [وعن ابن عمر قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قِبل نجد -ونجد الآن هي الرياض وما حولها من المدن- فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيراً أو أحد عشر بعيراً)] أي: أن أسهمهم من أصل الغنيمة لكل واحد اثنا عشر بعيراً أو أحد عشر بعيراً.

    قال: [(ونُفلوا بعيراً بعيراً)] أي: من الخمس الخامس أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم فوق سهمهم -الذي هو اثنا عشر بعيراً- لكل واحد بعيراً بعيراً. إذاً: فهم أخذوا اثني عشر بعيراً وهذا سهم القتال، وأخذوا فوق ذلك بعيراً بعيراً من الأنفال.

    1.   

    باب استحقاق القاتل سلب القتيل

    الباب الثالث عشر: (باب: استحقاق القاتل سلب القتيل).

    هو في الحقيقة ليس من باب الوجوب، وإنما من باب النافلة للتشجيع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قتل قتيلاً فله سلبه)، ولو أن سلب القتيل واجب رده أو دفعه إلى قاتله لما كان هناك غنائم ولما بقي للجيش غنائم، وإنما هذا من باب الاستحباب والنافلة؛ حتى يبذل المجاهدون أقصى ما في وسعهم من إثخان العدو.

    [عن عمر بن كثير عن أبي محمد الأنصاري واقتص الحديث]، والحديث سيأتي معنا وهو: [عن أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه -وهذا كلام أبي قتادة

    - فضربته على حبل عاتقه، وأقبل علي فضمني ضمة شممت منها رائحة الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني -أي: تركني- فلحقت عمر بن الخطاب

    فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله -أي: شيء من الهزيمة قد لحق الناس- ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قتل قتيلاً له عليه بينة
    )] وهذا محل نزاع بين أهل العلم: هل يلزم إقامة البينة على أن فلاناً قتل فلاناً أم لا يلزم؟

    الراجح من أقوال أهل العلم وهو ظاهر النصوص: أن البينة لازمة: (من قتل قتيلاً له عليه بينة) وهذا شرط، وإلا فلو كانت البينة غير لازمة لادعى أناس دماء أناس وأموالهم، أي: لو لم تكن البينة لازمة في مثل هذه الأمور لادعى أقوام أنهم قتلوا وسلبوا. قال: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه).

    والسلب هو: المتاع من خيل أو إبل أو عدة أو عتاد أو ذهب أو غير ذلك أي: كل ما تركه القتيل. هذا يسمى السلب.

    قال: (فقمت فقلت: من يشهد لي؟) أبو قتادة يقول: هل فيكم أحد يشهد لي أني قتلت فلاناً؟

    قال: [(فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك فقال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا قتادة

    ؟! فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله! -هو الذي قتل فلاناً من الكفار- سلب ذلك القتيل عندي)] أي: هذا الذي قتله [أبو قتادة سلبه عندي، وأنا رأيت أبا قتادة يقتله (فأرضه من حقه، وقال أبو بكر الصديق

    : لاها الله
    )] يحلف أبو بكر أنه لا يمكن أحد أن يأخذ شيئاً إلا ببينة. قال: [(إذاً: لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق. فأعطه إياه)] أي: صدق أبو قتادة والشاهد الذي شهد له. فأعطه سلبه، وكان أبو بكر الصديق يريد أن يمنعه ذلك السلب ويقول: يعمد أحدكم إلى أسد من أسد الله فلا يأخذ شيئاً، ثم هو يدعي أنه قتل فلاناً أو فلاناً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الخبر في قتل أبي قتادة لذلك الكافر بوحي السماء.

    قال أبو قتادة : ([فأعطاني -أي: السلب- قال: فبعت الدرع فابتعت به مخرفاً في بني سلمة)] أي: بستاناً عظيماً في بني سلمة. قال: [(وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام)] أي: اغتنمته في الإسلام.

    [وعن عبد الرحمن بن عوف : أنه قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -أي: صغار في السن- تمنيت لو كنت بين أضلع منهما)].

    وكأن عبد الرحمن يقول: تمنيت لو كنت بين اثنين من الكبار، ولكني نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين صغيرين.

    قال: [(فغمزني أحدهما فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل

    ؟ قال: قلت: نعم. وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟! قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم)] هذا طفل يغار على عرض النبي عليه الصلاة والسلام، وأمتنا الآن لا تغار على دين ولا شرع ولا رسالة ولا وحي ولا نبوة ولا أي شيء، أمة جديرة بأن تُسحق لولا أن الله كتب لها البقاء.

    قال: [(أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده -أي: لا أفارقه ولا أفارق شخصه- حتى يموت الأعجل منا)] أي: حتى يُقضى بالموت على من كُتب له أن يموت أولاً.

    قال عبد الرحمن بن عوف : [(فتعجبت لذلك)] أي: من هذا الطفل الصغير الذي عنده هذه الغيرة وهذه الحمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: [(فغمزني الآخر -أي: الذي عن شماله- فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل

    يزول في الناس -أي: يصول ويجول، ويذهب ويأتي- فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه قال: فابتدراه فضرباه بسيفيهما)].

    ابتدراه أي: عاجلاه بالضرب بالسيف، وكل واحد منهما ألقى السيف، ولكن لا بد أن يذهب إلى بدنه أحد السيفين أولاً. قال: [(حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلت. فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله)] أي: أن كلاً منكما اشترك في قتله، ولكن لا بد أن أحدكما أعظم من الآخر قتلاً. فالذي أثخن أبا جهل هو معاذ بن عمرو بن الجموح ، أما معاذ بن عفراء فإنما أتى سيفه بعد سيف ابن الجموح فقضى عليه، ولو تُرك بسيف ابن الجموح الأول لمات، ولكن سيف ابن عفراء دخل في بدن أبي جهل بعد سيف معاذ بن عمرو بن الجموح ؛ ولذلك قضى النبي عليه الصلاة والسلام بسلب أبي جهل لـمعاذ بن عمرو بن الجموح ؛ لأنه السبب الأول المباشر في قتله، وأما قوله: (كلاكما قتله) فهو تطييب وتشجيع لـمعاذ بن عفراء .

    [وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: (قتل رجل من حمير رجلاً من العدو، فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد

    وكان والياً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك

    فأخبره، فقال لـخالد

    : ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته يا رسول الله!
    )] أي: أن هذا السلب كثير جداً، فكيف أعطيه إياه؟ قال: [(استكثرته يا رسول الله! قال: ادفعه إليه -أي: ادفعه لهذا الرجل الحميري الذي قتل العدو- فمر خالد

    بـعوف

    فجر بردائه
    )] أي: أنه يغيظه، وكأنه يقول له: ألم أقل لك من قبل أن تعطيني سلبه؟

    فبلا شك أن هذه إهانة للولاة حتى وإن اجتهد، وأنتم تعلمون أن خالداً منعه متأولاً وليس جاحداً لحقه. قال: استكثرته يا رسول الله! قال: [(فمر خالد

    بـعوف

    فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك؟ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم
    )] أي: سمع النبي صلى الله عليه وسلم عوفاً يعاتب خالداً وما ينبغي لـعوف أن يعاتب أميره. قال: [(فاستغضب صلى الله عليه وسلم)]؛ لأن هذا إهانة للولاة والأمراء وما ينبغي ذلك.

    فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(لا تعطه يا خالد!)] وسيرجع الأمر إلى ما كان عليه أولاً من منع خالد إياه من العطاء.

    قال: [(لا تعطه يا خالد

    ! لا تعطه يا خالد

    ! هل أنتم تاركون لي أمرائي؟
    )] فـخالد لم يفعل ذلك جحوداً، وإنما فعل ذلك متأولاً، فلا يستحق على اجتهاده اللوم والتوبيخ والتقريع. فلِم تفعلون هذا بالأمراء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(إنما مثلكم ومثلهم -أيها الناس- كمثل رجل استرعى إبلاً أو غنماً -أي: كُلف أن يرعى إبلاً أو غنماً- فرعاها، ثم تحين سقيها فأوردها حوضاً فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره)] وكأنه يقول: أنتم من هذه البلايا التي تنزل بالأمة لكم صفوها وعلى الأمراء كدرها، فهم الذين يعانون منها ويفكرون فيها بالليل والنهار، ويتجرعون سمها، فإذا اجتهدوا في يوم من الأيام، وخالف اجتهادهم نصاً فهم مأجورون أجراً واحداً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) فالذي يؤجر أجراً واحداً لا يستحق اللوم والعتاب، فكيف يكون هذا موقفكم؟

    وقد ذكر العلماء: أنه لا مانع أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(لا تعطه يا خالد!] من باب الزجر لا من باب إرادة المنع حقيقة. وقيل: لعل النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه سلبه بعد ذلك.

    [وعن سلمة بن الأكوع قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينما نحن نتضحى -أي: نتغدى ضحى- مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقاً من حقبه فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر)] وهذا شأن اللص السارق، أو الجاسوس المخادع الغاش ينظر ويتلفت كثيراً، وكأنه ينادي على نفسه: أنا جاسوس؛ ولذلك إذا رأيت رجلاً ينظر كثيراً فاعلم أن له مذهباً في الحضور غير مذهبك، وهذا أمر واضح وسنة كونية في البشر إلى قيام الساعة، كأن السارق ينادي على نفسه: أنا سارق خذوني.. أنا متهم، فظل هذا الرجل ينظر.

    قال: [(وفينا ضعفة ورقة في الظهر)] أي: نحن فينا ضعف، وقلة في الإبل والخيل. قال: [(وبعضنا مشاة -يمشي على رجليه- إذ خرج يشتد)] هذا الرجل صاحب الجمل الأحمر حينما رأى ذلك خرج يشتد، أي: يعدو بسرعة. قال: [(فأتى جمله فأطلق قيده، ثم أناخه وقعد عليه؛ فأثاره -أي: غمزه- فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء)].

    قال سلمة : (وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة) أي: تصور أن واحداً يجري بجمل، وسلمة بن الأكوع يجري برجليه في حر الرمضاء.

    قال: [(ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل)] أي: في مؤخرة الجمل.

    قال: [(ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل -أي: استللت سيفي من غمده وضربت به رأس الرجل فندر -أي: فسقط ميتاً- ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه -وهذا جاسوس من الكفار- فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال: من قتل الرجل؟ قالوا: ابن الأكوع

    . قال: له سلبه أجمع)] فالذي قتل هذا الجاسوس له سلبه أجمع، فأخذ ابن الأكوع سلب الرجل.

    قوله: [(من قتل الرجل؟ قالوا: ابن الأكوع

    قال: له سلبه أجمع)] فلا شك أن هذا الكلام فيه سجع لطيف غير متكلف، وإنما ورد النهي عن تكلف السجع في غير فائدة والانشغال به، وهذا ديدن الشعراء، أما إذا خرج الكلام مسجوعاً من غير تكلف وفي ذلك مصلحة شرعية فلا بأس به كما الأمر هنا.

    أما جواز قتل الأسير فإذا كان حربياً فقد أجمع أهل العلم على وجوب قتله متى أمكن المسلمون ذلك، كهذه الحالة التي نحن بصددها، وأما إذا كان معاهداً وبينه وبين المسلمين عهد وميثاق، فهل يُقتل إذا تجسس وغدر؟

    محل نزاع بين أهل العلم.

    منهم من قال: يؤسر ويفدى، أي: نأخذ له الفداء ونطلقه.

    ومنهم من قال: إذا نص في العهد والميثاق على أن العهد يُنقض بالجاسوسية فإذا تجسس نُقض العهد وحل قتله.

    واختلف أهل العلم فيما يتعلق بقتل الجاسوس المسلم. وهذه مفسدة أي مفسدة أن يتجسس على المسلمين مسلم، وأنتم تعلمون أن معظم الناس الآن أشبه بالجواسيس، فهل يُقتلون أو لا يُقتلون؟ محل نزاع بين أهل العلم.

    الجماهير: على أن الجاسوس المسلم يُعزر ويوبخ ويسجن ويُعاقب بالطريقة اللائقة دون القتل.

    أما مالك وهو أعجب الأقوال وأحبه إلى قلبي فإنه يقول: إنما ذلك للإمام يفعل فيه ما يشاء حسب مقتضى الحال. أي: إذا رأى قتله قُتل.

    وأعجب من ذلك عندي: أن يُقتل الجاسوس المسلم، ولا حرمة للإسلام حينئذ؛ لأن المرء لا يتجسس على أهل الإيمان إلا إذا انطوى قلبه على النفاق والبغض لأهل الإيمان، فلا يتجسس على أهل الإيمان إلا من امتلأ قلبه نفاقاً.

    1.   

    باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسرى

    الباب الرابع عشر: (باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسرى).

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب -أبو خيثمة النسائي- حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة وهو ابن سلمة بن الأكوع قال: حدثني أبي قال: (غزونا فزارة وعلينا أبو بكر -أي: كان أمير الجيش أبا بكر - أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فلما كان بيننا وبين الماء ساعة -الساعة في لغة العرب تطلق على بعض الوقت- أمرنا أبو بكر فعرسنا)] والتعريس: هو النزول آخر الليل للراحة، وليس للمبيت ولا للإقامة. قال: (ثم شن الغارة) أي: بعد هذا التعريس شن الغارة، ومعنى شن: فرق الناس. أي فرق أبو بكر الناس هنا وهناك، حتى يهيج العدو ويجعلهم في حيرة من أمرهم من يقاتلون، فإنه إذا تفرق الجيش هنا وهناك فإن العدو يحار: يُقاتل من ويدع من؟ وهذا من باب إشغال العدو، أو من باب فقدانه السيطرة على مواقع القتال والضرب، وهذه خطة عسكرية. نسأل الله أن ينبه إليها إخواننا في أفغانستان وغيرها.

    قال: [(ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه وسبى، وأنظر إلى عنق من الناس -أي: جمع من الناس من فزارة- فيهم الذراري -أي: فيهم الأطفال الصغار- فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا)] وهذه خطة ظريفة: قوم من فزارة من الكفار أرادوا أن يلجئوا إلى الجبل؛ ليحتموا به، وذلك حينما رأوا الجنود تفرقوا هنا وهناك، قال: وخشيت أن أضربهم بسهم فيصيب الذراري، أي: أنه احترز بقدر الإمكان أن يصيب الأطفال وهذا هو الأصل، لكن إذا لم يكن قتل الكبار إلا بقتل الأطفال جاز، وأنتم تعلمون ذلك.

    قال: [(فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم -أمامهم- وقفوا، فجئت بهم جميعاً أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع -أي: نطع: قطعة من الجلد- من أدم. قال: مع ابنة لها من أحسن العرب)] أي: امرأة جميلة.

    وانظر إلى قوله: (معهم ابنة لها من أحسن العرب) وهذا يدل على جواز أسر العرب؛ لأن بعض أهل العلم قال: لا يجوز أسر العرب، وإنما يجوز أسر غير العرب من العجم وغيرهم.

    قال: [(فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلني أبو بكر ابنتها)]، وفي هذا رد على من يزعم أن النفل للرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، فقد نفله أبو بكر هذه المرأة الجميلة.

    قال: [(فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوباً)] أي: وما كشفت لهذه البنت ثوباً، وهذا كناية عما يُستقبح ذكره إذا كان اللفظ يؤدي الغرض، وهكذا ألفاظ القرآن وألفاظ السنة رائعة أيما روعة في طرح هذه المسائل المستقذرة المستقبحة بأسلوب عربي أصيل مبين لا يثير الغرائز، فلو أن واحداً كُلف بكتابة قصة -ولتكن قصة يوسف عليه السلام- لربما كتب قصة أثارت غرائز كل من قرأها أو جُل من قرأها، ولكنك تقرأ بالليل والنهار سورة يوسف عليه السلام فلا تتحرك فيك كوامن الغريزة أبداً؛ لأنه كلام اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، وهذا الرجل سلمة بن الأكوع عبر بهذا. قال: (وما كشفت لها ثوباً) كناية عن أنه لم يجامعها؛ لأنه بمجرد أن ينفله الإمام إياها حل له جماعها.

    فقال: [(فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: يا سلمة ! هب لي المرأة -أي: اعطها لي من باب الهبة- فقلت: يا رسول الله! والله لقد أعجبتني)] أي: أنها أعجبتني جداً، فكيف أعطيها لك؟

    قال: [(وما كشفت لها ثوباً، ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال لي: يا سلمة ! هب لي المرأة لله أبوك)] كأنه يقول: لله درك، وهذا من كلام العرب يُطلق للتدليل والمؤانسة.

    فكأنه يقول له: يغفر الله لأبيك! أعطني هذه المرأة على سبيل الهبة. [(فقلت: هي لك يا رسول الله!)] فانظروا إلى عدم ضن الصحابة رضي الله عنهم بأغلى ما يملكون للنبي عليه الصلاة والسلام، فهذه المرأة من أجمل بنات العرب، ومن يملكها منا لا يفرط فيها، وما ينزل بالمسلمين هو منهم ومن أنفسهم، فنحن نضن على الله تعالى بأموالنا وأنفسنا، والواحد منا يحب الدينار أكثر من حبه لله ورسوله، فإنه عند المحك الطبيعي الذي يحتك بحياتك تأبى أن تتحاكم للإسلام، أما في وقت السلام والإسلام لا يمس حياتك تزعم أنك تقبل الإسلام بكل نواحيه وجوانبه، فإذا ما مس الإسلام شيئاً من حياتك تبرمت وتنكرت وربما جحدت، أما سلمة فقال: [(هي لك يا رسول الله! فوالله ما كشفت لها ثوباً -إكراماً للنبي عليه الصلاة والسلام- فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين)].

    انظروا! فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يريدها لنفسه، فهذه المرأة جميلة لا بد أن يكون لها عند أهلها موقعاً حسناً، فيطلبونها ولو بأغلى ما عندهم.

    وشأن أعداء الإسلام أن يغروا أهل الإسلام وضعاف النفوس والإيمان بالمال والنساء أولاً، فإذا لم يفلحوا في ذلك أظهروا لهم الوجه الآخر، وقلبوا لهم رأس المجن، فقاتلوهم وأثخنوهم واعتدوا عليهم.

    فأنت إذا نظرت إلى هذه الحرب الدائرة في أرض أفغانستان الآن لوجدت أن أساليب الكفار منذ أن خلقهم الله إلى يومنا هذا إنما وقعت على هذه الأرض وفي هذه الأشهر القليلة الماضية بالإغراء بالمال فيقولون: الذي يأتي بفلان له (5) ملايين دولار، ثم يزيدون في ذلك ويقولون: الذي يأتي بفلان له (10) أو (15) مليوناً، فهذا إغراء بالمال، وإغراء بالمناصب والرئاسات والوجاهات، وكل ذلك في سبيل الحصول على شخص، ويعلم الله أن هذا الشخص غير مطلوب من الأصل، وإنهم ليوقنون تمام اليقين أن هذا الشخص لا علاقة له بالأحداث لا من بعيد ولا من قريب، ولكنها العداوة الكامنة للإسلام وأهله؛ ولذلك ظهرت البغضاء من أفواههم فقالوا: إنها حرب صليبية. وهي كذلك، فإن المتتبع لأحداث التاريخ يعلم أن أمة الصليب -أمة الغرب- قد تواطأت وتعاقدت أنه على رأس كل مائة عام لا بد أن تكون حملة صليبية تقودها أكبر دولة صليبية، ويجب على بقية الدول المساعدة، فلما كانت أمريكا الآن أكبر الدول الصليبية وأقواها تعين عليها قتال أهل الإسلام، وإقامة حرب بين الإسلام والصليب، ويجب على بقية الدول الكافرة الصليبية أن تشارك في هذه الحرب بما استطاعت.

    فالمتتبع لأحكام أهل الصليب يعلم ذلك، ويعلم أن هذه حرب طبيعية كان ينبغي أن تُدرس أبعادها منذ زمن طويل وقبل نهاية هذا القرن، ولقد نبه إلى هذا الأمر بعض علماء الصحوة، ولكن أين الذي يسمع، وأين الذي يُعد، وقد غرق الجميع في كراسيهم وأموالهم وخافوا عليها وخافوا على حياتهم؟ وليعلم المرء أن حياته لا بد أن يقدمها لله عز وجل، ولا بد أن يعلم أنه سيموت موتة واحدة لا أكثر من ذلك، فلِم يضن بهذا الموت على الله عز وجل؟ لِم يمنع الإنسان نفسه أن يموت ميتة شريفة يلقى بها ربه ويُغفر له بها ذنبه، ويدخل بها جنة عرضها السماوات والأرض؟ فإنك ميت لا محالة، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، فإذا كانت هذه الآية تقع منك موقعاً حسناً، موقع الاعتقاد الراسخ في القلب، إذاً: فلِم تضن بنفسك؟ فلتقدمها رخيصة في سبيل الله عز وجل!

    قال: (فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين).

    فدى بامرأة جميلة ناساً -أي: جمعاً- من المسلمين؛ وذلك لأنها عندهم غالية، ولو أن هؤلاء الكفار أسروا منا من أسروا خاصة من القادة وطلبوا منا الفداء، فسنفديهم بأنفسنا قبل أموالنا؛ وذلك لثقل وزنهم في الإسلام وفي ساحة الجهاد.

    قال: (ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسروا بمكة).

    هذا الحديث فيه: جواز المفاداة، وجواز فداء الرجال بالنساء الكافرات.

    وفيه: جواز التفريق بين الأم وولدها البالغ؛ لأن هذه بنت كانت أجمل العرب، فلم يظهر جمالها إلا بعد البلوغ، وحينئذ جاز التفريق بينها وبين أمها، ولا خلاف في جوازه عند الشافعية.

    وفي هذا الحديث: جواز استيهاب الإمام أهل جيشه بعض ما غنموه. أي: أن الإمام أو قائد الجيش يقول لصاحب السلب: هب لي هذا. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـسلمة بن الأكوع ليفادي به مسلماً أو يصرفه في مصالح المسلمين، أو يتألف به من في تألفه مصلحة، كما فعل صلى الله عليه وسلم هنا وفي غنائم حنين.

    وفي هذا الحديث: جواز قول الإنسان للآخر: لله أبوك، ولله درك في عبادتك. وقد سبق تفسير ذلك.

    1.   

    باب حكم الفيء

    الباب الخامس عشر: (باب حكم الفيء).

    وفي الحقيقة لا بد أن نفرق بين الفيء والغنيمة.

    أما الغنيمة فهي: ما غنمه الجيش بعد قتال، استمر بينهم وبين المشركين قتال حتى كُتب لأهل الإسلام النصر وأخذ الغنائم.

    هذه الغنائم تُقسم خمسة أخماس، أربعة أخماس هي أسهم المجاهدين رجالاً وركباناً، أما الراجل الذي يمشي على رجليه له سهم، وأما الراكب فله سهمان.

    والخمس الخامس هو الأنفال، ويُقسم على النحو الذي ذكرناه آنفاً.

    أما الفيء فهو: ما أفاء الله تعالى على المسلمين من غير قتال، ويُجعل للإمام، فخمس الأنفال للإمام يجعله حيث شاء، وكذلك الفيء كله للإمام يفرقه حيث يشاء ويمنعه ممن شاء؛ لأن هذا فيء لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، إما أن تُفتح بصلح أو معاهدة أو اتفاق أو غير ذلك، لكن إذا كانت البلد تُفتح عنوة -أي: بالقتال- فيكون أمرها في الغنيمة.

    قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- ومحمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها هذا الحديث وهو: (أيما قرية دخلتموها وأقمتم فيها -أي: فتحت لكم صلحاً- فإنما طعامكم وشرابكم وأسهمكم فيه.

    وأيما قرية عصت الله ورسوله -أي: أبت فقوتلت- فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)].

    أي: باقي هذه الغنائم لكم بعد ذلك، وكأنه يفرق بين قرية فُتحت سلماً وصلحاً وبين قرية فتحت عنوة، أما القرية التي فتحت صلحاً وسلماً بغير قتال فحكم الداخل منها حكم الفيء: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [الحشر:7] ومن بعده الأئمة والولاة والسلاطين، إذا فُتحت لهم قرية صلحاً أو سلماً فهي للإمام يفرقها حيث شاء، كما لو كان يفعل ذلك في باب الأنفال، وأما إذا فُتحت عنوة فإن لله ولرسوله من هذه الغنائم الخمس يفرقها الإمام أنفالاً ينفل به من شاء، ويمنعه ممن شاء، ويستحب أن يُعطي كل قتيل سلبه من الأنفال، أما الأربعة أخماس الباقية فإنها للجند الذين قاتلوا.

    [وحدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـابن راهويه واللفظ لـابن أبي شيبة - قال إسحاق : أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا]. ولا يزال العلماء يفرقون بين اللفظين على اعتبار أن (حدثنا) لا تستخدم إلا في السماع الصريح، أما (أخبرنا) فتستخدم في السماع وفي الإجازة.

    [قال الآخرون: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار المكي عن الزهري عن مالك بن أوس] وهو مالك بن أوس بن الحدثان وبعضهم أسقط الزهري وأخطأ في ذلك.

    [قال مالك بن أوس: عن عمر قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله) وبنو النضير أنتم تعلمون أنهم كانوا يسكنون عوالي المدينة، وبنو النضير هم الذين أرادوا أن يقتلوا النبي عليه الصلاة والسلام بحجر من على السطح.

    قال: [(كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب)].

    الإيجاف: الإسراع. أي: أنه لم يشتد المسلمون لقتال بني النضير، وإنما فتحها الله تعالى سلماً.

    قال: [(فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة)] لم يقل: كان خمسها. وإنما قال: فكانت؛ وذلك لأنها أتت إلى المسلمين عن طريق الفيء وليس عن طريق الغنيمة.

    قال: [(فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُنفق على أهله نفقة سنة)] أي: يحجز لنسائه ومواليه ما يكفيهم لمدة عام، وهذا جائز خاصة في وقت ليس فيه استغلال ولا قحط ولا جدب وإلا فلا يحل ذلك في أوقات الشدة، كمن يذهب إلى السوق فيشتري طعاماً يكفي لمدة سنة أو سنتين أو أقل من ذلك أو أكثر، وهو يعلم أن المسلمين يمرون بجدب وقحط وجوع، فلا يحل له ذلك، بل ينبغي أن يموت مع من يموت وأن يعيش مع من عاشوا. نعم. يشاركهم آلامهم وأحزانهم، أما أن يحرص على نجاته وإن كان في ذلك هلاك الآخرين فلا، ليس هذا من أخلاق الإسلام.

    ولذلك ضرب المثل الرائع في ذلك عمر بن الخطاب ناهيك عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في كل شيء، ولو أنك فتشت في سيرته وحياته لوجدت أنموذجاً حياً نقياً طيباً مباركاً له في كل مجالات الحياة، أما عمر فهو الذي حرم نفسه من أن يأكل حتى يشبع أطفال المسلمين، وأن ينام حتى يشبع أطفال المسلمين، وما كان نومه إلا خفقات فإذا حُدث في ذلك قال: إن نمت بالليل ضيعت حظي مع ربي، وإن نمت بالنهار ضيعت رعيتي.

    هذا الرجل الذي بلغ هذا المبلغ من الورع واليقين في الله عز وجل، إن نام بالليل ضيع حظه مع الله، وإن نام بالنهار ضيع الرعية، فما بالكم بمن يغطون بالليل والنهار، وينامون حيث يشاءون، ويقومون في أي وقت يشاءون؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    قال: [(كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله نفقة سنة)].

    والواقع يقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما احتفظ بهذه النفقة سنة، بل كان ينفق منها، فيده سحاء عليه الصلاة والسلام، فقد كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام، فكان يحجز نفقة سنة وهذا جائز، ولكنه سرعان ما ينفق منها حتى لا يبقى منها شيء.

    ومن سيرته عليه الصلاة والسلام أنه ما شبع ثلاثة أيام قط، وكان يربط الحجر على بطنه عليه الصلاة والسلام من شدة الجوع، وكان يخرج يطلب الطعام من عند أصحابه، ومرة لقي أبا بكر وعمر فقالا: (يا رسول الله! ما أخرجك في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ قال الذي أخرجكما) أي: الجوع، وهو الذي يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) أي: يا رب اجعل رزق محمد وأهل بيته يوماً بيوم، فكان لا يجتمع عنده رزق يومين في يوم واحد. وهذا شأن المتوكل على الله عز وجل، فالواحد منا إذا لم يكن تحت رأسه وتحت مخدته ما يكفيه لأشهر أو لسنوات قادمة فإنه يحمل هم الدنيا ويعقدها سواداً فوق رأسه، ويحمل الأمة ما يمر به من أزمات، ولا يزال المتسول يتسول بالليل والنهار؛ حتى يؤمن حياته وحياة أولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده!

    قال: [(فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح)] والكراع: الخيل. أي: ما بقي من هذا الفيء يجعله في شراء الخيل والسلاح.

    قال: [(عدة في سبيل الله)] أي: يجهز نفسه للقتال في سبيل الله عز وجل، لم يكن يذهب بها إلى البنوك الفلانية ولا العلانية، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يحرص بالليل والنهار على إعداد العدة بقدر المستطاع لملاقاة العدو، ويعلم أن هذا الواجب الذي أوجبه الله تعالى عليه، وعمل بهذا من بعده أصحابه الكرام، خاصة الخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

    [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري بهذا الإسناد]، أي: عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بهذا الحديث.

    يقول الإمام النووي: (وفي هذا الحديث: جواز ادخار قوت سنة، وجواز الادخار للعيال، وأن هذا لا يقدح في التوكل. وأجمع العلماء على جواز الادخار فيما يستغله الإنسان من قريته كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم. وأما إذا أراد أن يشتري من السوق ويدخره لقوت عياله، فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز، بل يشتري ما لا يضيّق على المسلمين كقوت أيام أو شهر، وإن كان في وقت سعة اشترى قوت سنة وأكثر، وقال قوم بإباحة ذلك مطلقاً).

    والرأي الأول هو الصواب.

    أقول قولي هذا. وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم على النبي محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756573370