إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [33]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد ضل أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم حين أصلوا لأنفسهم أصولاً فاسدة وقدموها على النص الشرعي، ومن ذلك تقديم العقل على النقل عند التعارض، هذا الأصل الذي ردوا به كثيراً من النصوص الشرعية بحجة معارضتها للعقل، والذي أصل لهم هذا الأصل هو الفخر الرازي، وقد رد عليه شيخ الإسلام في درء التعارض وغيره، مبيناً أنه لا تعارض أصلاً بين العقل الصريح والنقل الصحيح إلا في عقول هؤلاء المتكلمة الذين لم يسلموا للنصوص الشرعية التسليم الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    أهمية التسليم لله ولرسوله وفساد معارضة النقل بالعقل

    قال رحمه الله تعالى: [(فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه):

    أي: سلم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو بقوله: العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل، والعقل أصل النقل، فإذا عارضه قدمنا العقل! وهذا لا يكون قط.

    لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك؛ فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً. ويُعارَض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه.

    وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل؛ لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل].

    هذا الكلام الذي أورده الشارح ينقسم إلى نوعين: نوع في تقرير الشبهة أي: شبهة المتكلمين الذين قدموا العقل على الشرع، ونوع آخر هو رد هذه الشبهة، وكل ذلك لخصه الشارح من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية : درء التعارض.

    وهذه القاعدة هي الفارق بين نهج السلف ونهج المتكلمين من متأخرة الأشاعرة والماتريدية في القرن السادس وما بعده، حينما استقر عندهم علم الكلام بأصول عقلانية مقعدة جعلتهم يأخذون بأصول الجهمية والمعتزلة، وأصول الفلاسفة في الموقف من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، أما في الأحكام فقد لا يختلفون كثيراً مع السلف.

    ولعله من المناسب أن نأخذ هذه القضايا التي أشار إليها الشارح قضية قضية حتى لو استغرقت أكثر من درس، فهذا المقطع مهم في نظري وخطير؛ نظراً لأنه يتعلق بأصول مذاهب موجودة، وبقواعد يمكن أن يسلكها كثير من العقلانيين، بل سلكها كثير من العقلانيين المعاصرين، ثم إنها بدأت الآن تخرج أعناقها حينما اهتم خلف هؤلاء المتكلمين من المعاصرين بكتبهم وأخرجوها.

    وأرى في السنتين الأخيرتين بالذات حشداً هائلاً من كتب المتكلمين التي خرجت مطبوعة بعناية وبدعاية تفوق دعاية كتب السلف.

    وقد انبرى لهذا الاتجاه طائفة من المتكلمين المعاصرين صغاراً وكباراً، فأصبحوا يدافعون عن هذا التوجه العقلاني ويدعون إليه من جديد، وبدأ يتجذر في عقول كثير من شباب الأمة في الآونة الأخيرة.

    فمن هنا لعلنا نخرج عن القاعدة التي درجنا عليها، وهي أن الأمور الفلسفية لا نتعمق فيها، فنستثني مثل هذه الأمور للضرورة.

    1.   

    قاعدة الرازي العقلية التي اعتمدها المتكلمون

    الشبهة العقلية هي قاعدة المتكلمين الأوائل التي استقرت عند الرازي قبل أن يرجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، فهو رجع وسلم لمذهب السلف، لكن بعد فوات الأوان؛ إذ ما استطاع أن يلغي ما قاله، ولا أن يقنع الناس بأن يعدلوا عما كتب، وإن كان نصح أصحابه، لكنهم لم يأخذوا بنصيحة الناصحين.

    وشأن الرازي وأمثاله ممن وضعوا هذه القواعد ثم تابوا منها أن مثلهم ومثل أتباعهم اليوم كمثل رائد قوم صار في طريق وفجأة رأى أمامه هوة سحيقة، فأدرك الخطر هو فرجع، وأنذر أصحابه، لكن الذين تبعوه أبوا إلا أن يسقطوا في الهوة، وهذا هو شأن المتكلمين الذين يتبعون هؤلاء الكبار الذين رجعوا عن علم الكلام.

    والعجيب: أن أغلب كبار المتكلمين رجعوا عن علم الكلام، الأمر الذي يقيم الحجة على أتباعهم إلى اليوم، فيقال لهم: كيف تسلكون مسالك تاب أصحابها منها، وتبرءوا إلى الله منها في حياتهم بحرية كاملة، فلم يكرهوا على ذلك، ونهوا عنها بإشفاق ونصيحة.

    وهذه مسألة عارضة، لكن أحببت التنبيه حتى يتبين عوار هذه القواعد من مؤسسيها، وإن كان لها أتباع، فمسألة الأتباع ليست دليلاً، بل الشيطان له من يعبده الآن.

    وقاعدة الرازي ذكرها شيخ الإسلام وأجاب عليها في كتب مطولة كما سأشير إليه بعد قليل، وذكرها الرازي في كتابه: (تأسيس التقديس)، وهو مطبوع الآن ومنشور بعناية.

    في هذا الكتاب أراد الرازي أن يقرر مسألة مجرد تصورها يصادم الفطرة والعقل السليم، وملخصها أنه يقول: إن دلالة العقل قطعية، ودلالة الشرع ظنية، كذا بإطلاقه! فإذا تعارض النقل مع العقل أخذنا بالقطعي وهو العقل.

    وظاهر هذه العبارة ينطلي على من لم يفقه في الدين، وهذا ملخص القاعدة الذي انتهت إليه، وإلا فقد صاغها بأكثر من هذا، ثم أيدها من خلال كتابه: تأسيس التقديس.

    والعجيب أنه لما أراد أن يثبت أن دلالة الشرع ظنية أوقع الأمة في شبهات خطيرة، فصارت قاعدته مذهباً أوجد تشكيكاً عند كثير من مفكري الأمة من وقته إلى يومنا هذا، حتى إنهم وقعوا في الشكوك ولم يخرجوا منها، حتى الرازي نفسه اعترف نظراً لمجاراته لهذه القاعدة بأنه كثيراً ما يثير الشبهة ولا يستطيع أن يجيب عليها.

    القوادح التي اعتبرها الرازي لامتناع قطعية دلالة الشرع

    فالمهم: أنه لما أراد أن يثبت أن دلالة الشرع ظنية زعم أن الشرع يتعرض لقوادح تمنع من أن يكون قطعياً، وهو يعترف في الأصل بأن الشرع مقدس، وأن الشرع دين الله، وهذا القدر من الاعتراف يوجد حتى عند طائفة من الكفار الخلص، لكن بعد الاعتراف يأتي بالاعتراض، وهذا منهج المنافقين، ومنهج الكفار، وإن لم يكن الرازي كافراً، لكنّه وقع في منهج الكافرين، ومنهجه منهج الفلاسفة، وإلا فلا نستطيع بمجرد هذه الشبهات تكفيره، إنما نقول: إنه ضل بهذه القواعد.

    فالخلاصة: أنه أورد على الشرع قوادح، لعلي أذكر شيئاً منها من أجل أن نتصور القواعد التي سأقولها بعد قليل، فمن هذه القوادح زعمه أن دلالة الشرع متوقفة على الجزم بفهم ألفاظه، ولا سبيل إلى الجزم. وهذه مغالطة ترد على الرازي نفسه، فيقال له: إذا كنا لا نجزم بصحة ألفاظ الشرع؛ فكيف تجزم بصحة ألفاظك أنت، وصحة ألفاظ الفلاسفة والمتكلمين؟ وكيف تقول: إن العقل قطعي مع أن العقل لا يعبر عن مراده ونتائجه إلا بلسان العاقل، وهل يكون لسان العاقل أصدق من كلام الله عز وجل؟!

    ثم قال بعد ذلك: إن نصوص الشرع نقلت إلينا -ويقصد بذلك الأحاديث- عبر الرجال، والرجال يعتريهم السهو والخطأ والنسيان.. إلى آخره، ثم أورد شبهة خاصة بأحاديث الصفات، فقال: إن أحاديث الصفات أغلبها ما رواه الصحابة إلا بعد سنين من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ألمح إلى أن الصحابة رووها بسبب أهواء الفرق، فكأنه يشير إلى أن الصحابة تكلفوا في وضعها، أو فهموها من النبي صلى الله عليه وسلم فهماً ولم ينقلوها نقلاً.

    فجعل من القوادح أن أكثر الدين جاء عن طريق الآحاد، والآحاد كله ظني.. إلى آخره.

    سيأتي إن شاء الله الكلام على القوادح في الجملة.

    ذكر ما كتبه شيخ الإسلام في الرد على قاعدة الرازي

    وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه القاعدة وما يشبهها بكتابين عظيمين من قرأهما سيتصور فعلاً عظمة منهج أهل السنة في رد شبهات المتكلمين، وسيقتنع فعلاً أن هذه الشبهات لا تعدو أن تكون من وساوس الشيطان.

    الكتاب الأول: درء التعارض، ويقع الآن في أحد عشر مجلداً.

    وكتاب آخر اسمه: بيان تلبيس الجهمية، هذا طبع منه جزء قليل، جمعه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله وابنه محمد الموجود وفقنا الله وإياه، لكنه لا يشمل إلا جزءاً قليلاً من كتاب بيان تلبيس الجهمية الذي هو رد على هذه القاعدة وأمثالها من قواعد المتكلمين، حقق في جامعة الإمام .. قسم العقيدة، ويقع في ستة عشر مجلداً.

    ونرجو -إن شاء الله- أن يطبع في وقت قريب في ستة عشر مجلداً في الرد على تأسيس التقديس الذي هو في قرابة مائة وثمانين صفحة أو مائتي صفحة، بل ما رد عليه كله، إنما رد على ثلثيه، والثلث الأخير لا يدرى هل هو مفقود، أم أن الشيخ اكتفى بالرد على ثلثي الكتاب تقريباً.

    1.   

    القواعد التي تضمنها كلام الشارح في التسليم لله ولرسوله وعدم معارضة النصوص بالعقول

    والكلام الذي ذكره الشارح يحتاج إلى أن نحوله إلى قواعد من أجل أن نخرج بنتيجة من خلال ذكر قواعد السلف وبيان قواعد المتكلمين بإزائها، ثم الخروج بنتيجة في مقابلة قاعدة السلف بقاعدة المتكلمين.

    قيام صحة الإسلام على كمال التسليم

    القاعدة السلفية الأولى: قوله: [ فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ].

    هذه قاعدة الإسلام الأولى التي ينبني عليها صحة الإسلام من المسلم، أو كمال الإسلام من المسلم، وذلك أنه لا يسلم أي إنسان حتى يسلم لله عز وجل بالعبودية والتصديق والإذعان للخبر والنهي والأمر، وحتى يسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالحب والاتباع والتصديق من كل وجه.

    رد ما أشكل من أخبار الغيب إلى العليم بها جل جلاله

    ويتفرع عن هذه القاعدة الثانية التي تعتبر من لوازم القاعدة الأولى، وهي: أنه إذا اشتبه على المسلم شيء مما جاء عن الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم -سواءٌ كان من باب الأخبار كالعقيدة، أو من باب الأوامر كالشريعة- فإنه يرده إلى عالمه، يرده إلى الله عز وجل.

    وبالنسبة لما يتعلق بنصوص العقيدة هذه القاعدة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل، فبمجرد أن يشتبه عليه الأمر ولا يجد جواباً، أو لا يجد في ذهنه ولا عند أهل العلم ما يجيب على إشكاله؛ فليسلم بأن خبر الله صدق وحق، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صدق وحق، ثم يقف عند هذا الحد ويقول: آمنا بالله.

    وإذا كان الإشكال يتعلق بالأوامر والنواهي فعلى المسلم أن يرجع إلى أهل العلم، فإن أجابوه وإلا فليبق أيضاً على نفس القاعدة، فيسلم بالأمر، وبأنه حق من الله عز وجل، سواءٌ فقهه أو لم يفقهه.

    تحريم إثارة الشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة في أمور الدين

    القاعدة الثالثة: أنه يحرم -بل يتنافى مع الدين- إثارة الشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة لأي أمر من أمور الدين.

    فالأصل في الدين: التسليم والقناعة التامة والتصديق، وهذا هو معنى الإيمان، ومن سلم بأمر فلا يجوز له أن يثير الشك فيه حتى بمجرد الترف العلمي، فهذا أمر محرم، خاصة في قضايا العقيدة، فلا يجوز للمسلم أن يستبيح أن يثير الإشكال أو التساؤل في أمر عقدي، إلا إذا كان الإشكال ينبني عليه فهم أصل من أصول العقيدة، وليس مجرد الإثارة أو الترف العلمي، بمعنى: أن إثارة الشكوك أحياناً تأتي للإنسان من قبل وساوس ترد إليه في ذهنه، فإذا استطاع أن يدفع هذه الوساوس بأن يسلم لله عز وجل ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فهذا هو المطلوب شرعاً، ولا يعرضه هذه الوساوس والشكوك لمجرد انقداحها في الذهن، بل يحاول دفعها بكل وسيلة من الوسائل الشرعية، فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويستغفر الله ويتوب إليه ويتلو القرآن، ويكثر من ذكر الله، ويشغل ذهنه عن هذا الشك أو الشبهة، فإذا استقرت الشبهة ولم يستطع دفعها فلا مانع من أن يثيرها بشرط ألا يثير الشك عند عامة الناس، بل يفضي بسره إلى أحد أهل العلم الذين يثق بهم.

    أما إثارة الشكوك والشبه بمجرد الترف العلمي، أو لمجرد الاستعراض الذهني، أو لمجرد إثبات القدرة العقلية كما يفعل بعض الناس، أو لمجرد أن يسمع الشبهة، ويتكلف في هذا؛ فهذا أمر محرم قطعاً، بل ربما يؤدي بالإنسان إلى الكفر وهو لا يشعر، ومثل الشكوك والشبه: التأويلات الفاسدة التي عليها أهل التأويل.

    1.   

    الأسئلة

    بيان حقيقة تأويل أهل السنة لنصوص المعية

    السؤال: جرى مرة كلام بين الصابوني المعاصر وبين بعض طلاب العلم، فقال له طالب العلم: إن الصفات تمر كما جاءت، والقول في السبع الصفات كالقول في سائر الصفات، فرد عليه: أنتم تؤولون المعية ولا تمرونها كما جاءت، بل تفسرونها وتؤولونها، فمن الذي يحل لكم تأويل هذه الصفة ويحرم عليكم تأويل السبع الصفات؟! فحار الشاب ولم يجد جواباً، فما الرد عليه؟

    الجواب: هذه مشكلة إذا كان الشباب من طلبة العلم تصدوا للحوار، ثم يحارون في هذه المسألة اليسيرة، فمعنى هذا: أنهم أخطئوا حينما دخلوا في حوار يعرفون أنهم قد يصلون فيه إلى طريق مسدود، وهذه الشبهة تذكرني بشبه ظاهرة الآن بدأت تكثر في الحوار، خاصة مع الرافضة، فترى شاباً يأخذه الحماس فيدخل في الحوار مع صاحب هوى بدون استعداد علمي، أو بدون رجوع إلى أهل الاختصاص، وهذا خطأ، فهذا سيترتب عليه إضرار بالسنة وأهلها.

    فلا ينبغي لأحد أن يحاور أحداً من أهل الأهواء إلا بعد الاستعداد العلمي الكامل، أو يحيل على المتخصصين، أو يترك، أو يشير إلى الأمور إجمالاً بدون دخول في التفاصيل، أما الدخول في التفاصيل فهو خطر.

    أما هذه المسألة فالرد عليها واضح، وقد أثيرت الشبهة من قديم الزمان، وليس الصابوني هو الذي أثارها، وهذا دليل على أن هؤلاء لم يقفوا على أقوال أهل العلم، فأهل العلم قالوا: إن مسألة المعية لا تقاس بالصفات؛ لأمور كثيرة نلخصها في أمرين:

    الأمر الأول: أننا حينما قلنا بأن معية الله لخلقه معية بعلمه، وهي المعية العامة، أو معية برعايته وحفظه، وهي المعية الخاصة؛ فهذا لا يعني أننا عدلنا عن ظاهر اللفظ إلى معنى آخر لمجرد عقولنا أو بقرائن، بل عدلنا عن ظاهر اللفظ بمقتضى نصوص أخرى، وهي نصوص الفوقية، كقوله عز وجل: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وقوله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وغير ذلك من نصوص الفوقية والعلو والاستواء.

    فهذه النصوص تدل على أن الله عز وجل ليس مخالطاً لعباده، ولا مماساً لهم، فكان تفسير النص بناءً على نص آخر، أما الذين أولوا فما أولوا نصاً بنص، بل أولوا النص بعقولهم.

    الأمر الثاني: أن المعية ليست صفة مستقلة بذاتها، فالمعية لا تتعلق بذات الله عز وجل مباشرة، وإنما تتعلق بما يمكن أن نسميه الحال بين الخالق والمخلوق، فمعنى أن الله عز وجل مع خلقه أنه معهم بتدبيره وعلمه، وليس هذا من باب التكلف في تفسير النص كما يفعلون هم، إنما من باب تفسير النص بالنص؛ لأنه لو تركت نصوص المعية بدون ردها إلى نصوص أخرى لأدت إلى القول بالحلول والممازجة، وأدت إلى ما يقول به الصوفية من أنهم يجلسون مع الله عز وجل، أو يجالسونه، أو أنهم يكلمونه! أو ما يقوله اليهود من أنهم يعاملون ربهم كما يُعامَل الواحد منهم!

    فهذا خطأ ينبني عليه انحراف -بل كفر- في الاعتقاد.

    ثم إن نصوص المعية عندما فسرها السلف لم يخرجوا عن مقتضى ظاهر النص في إثبات المعية؛ لأن قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:5] ونحوه من ألفاظ المعية فسروها بما لا يؤدي إلى المعنى الذي أدى إلى القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود.

    ثم إن مسألة إثبات معية الله عز وجل لخلقه لولا أن الناس تكلموا فيها وجاءوا بمعانٍ باطلة في معنى المعية فقالوا بالممازجة والمخالطة؛ لما تكلم أهل السنة بردها إلى نصوص العلو على النحو الذي صار الآن؛ لأن الناس كانوا مسلمين بمعنى المعية على ما يليق بجلال الله عز وجل، وأنها معية حقيقية.

    فأهل السنة ما قالوا في المعية على نحو ما قالوا وردوها إلى نصوص العلو إلا عندما ظهرت شبهات أهل الأهواء، وإلا فالأصل أن تبقى على ظاهرها دون ردها إلى النصوص الأخرى، وذلك أن المعية ما دامت متعلقة بذات الله عز وجل وبعلمه وإحاطته وتدبيره؛ فلابد من أن يفهم العاقل أنها معية حقيقية على ما يليق بجلال الله، وأن الله مع خلقه حقيقة ولو لم يكن بذاته.

    وذلك أن عظمة الله عز وجل لا تقاس بالمخلوقات حتى يتصور بعض المتوهمين مسألة المسافات أو القرب الزمني أو القرب المكاني في المعية بين الله وخلقه، فالله عز وجل أعظم من كل شيء، والمخلوقات أمام عظمة الله عز وجل لا تكاد تساوي شيئاً، فالحقير أمام العظيم لا يمكن أن يقارن بالمسافات ولا بتقديرات المخلوقين.

    ولكي نقرب مفهوم السلف القديم للمعية نضرب مثلاً بالمخلوقات، ولله المثل الأعلى، وليس كمثله شيء، فالمخلوقات نفسها تتفاوت المعية بينها تفاوتاً عظيماً، فلو تصورنا أصغر الشيء من المخلوقات التي يشاهدها المخلوق، كذرات من التراب جعل الإنسان أمامه ذرة منها في أقصى طاولة من جهة، وذرة أخرى في أقصى الطاولة من الجهة الأخرى؛ فنجد أن بينهما بعداً شاسعاً، لكن بالنسبة لك أنت لا يعتبر البعد شاسعاً؛ فبإمكانك أن تمد يدك إلى هذه وهذه وتجمع بينهما.

    فمسألة المعية بين العظيم والحقير لا يتكلم فيها، ولا ينبغي للناس أن يخوضوا فيها، ولذلك ينبغي أن نقول: معية الله عز وجل لخلقه معية حقيقية على ما يليق بجلال الله عز وجل، وما قال أهل السنة ما قالوه للجمع بينها وبين نصوص الفوقية والعلو إلا عندما خاض الخائضون وتكلم المتكلمون في الله عز وجل بما لا يليق، وكنت أرغب في ألا أتكلم بمثل هذا الكلام لولا أن المسألة أثيرت، فكان لابد في مثل هذا الدرس المتخصص من أن أشير بإشارة، وأرجو أن يعفو الله عنا فيما نقول وأن يسامحنا، ولعل في هذا الاجتهاد خيراً إن شاء الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755991906