إسلام ويب

شرح العقيدة التدمرية [18]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إثبات الصفات لله عز وجل إثباتاً يليق بجلاله من غير تمثيل ولا تعطيل لا يستلزم التجسيم؛ لأننا نثبتها وفق قواعد شرعية صحيحة: منها: أن الله سبحانه وتعالى أثبتها لنفسه، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم أثبتها له، وثالثاً: أننا نثبتها على ما يليق بجلاله سبحانه، بحيث ننفي كل ما يشعر بالنقص أو الاستنقاص أو المماثلة. وبهذه القواعد نسلم مما وقع فيه أهل البدع من التشبيه والتمثيل أو التأويل والتعطيل.

    1.   

    تكملة بيان ما ورد في القاعدة السادسة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فلا زلنا في القاعدة السادسة، وقد بدأ الشيخ يرد على شبهات المعطلة والمؤولة، وتذرعهم بالتجسيم في نفيهم للصفات أو تأويل الصفات، وقد بدأ هذا الأمر بقواعد واضحة نوعاً ما، وقد قمنا بدراستها، لكن بعد ذلك دخل في نقاش عميق، وفيه أحياناً استعمال للأصول والمصطلحات الفلسفية والعقلية، والتي هي أشبه بالمحارات والأسلوب العسر، ولذلك سنستغني عن القراءة الآن في هذا المقطع الذي أمامنا حتى نصل إلى القاعدة السابعة.

    لذا سألخص لكم مقاصد الشيخ في رده على أولئك القوم الذين نفوا الصفات أو أولوها، بدعوى أنها تقتضي التجسيم أو التشبيه.

    فبعد أن تكلم الشيخ عن دعواهم بأن إثبات بعض الصفات -حتى العلو- يقتضي التشبيه، وأن هذا ليس بحق، وأن مسألة تماثل الأجسام لا تعني أن هذه القاعدة مطردة من كل وجه، وأن التماثل غير التشبيه، وأنه قد ينفى التمثيل ولا ينفى التشبيه أيضاً؛ لأن المماثلة غالباً تعني المطابقة من كل وجه، أو من أغلب الوجوه، وهذا لا يليق في حق الله عز وجل، أما المشابهة فهي معنى عام، فقد يعني التشابه اللفظي، أو التشابه المعنوي العام دون التشابه الحقيقي الذاتي، ولذلك فرق الشيخ بين التشبيه والتمثيل، وقال: إن أي مماثلة الله لخلقه، أو مماثلة الخلق لله عز وجل أمر لا يجوز بإطلاق جزئي ولا كلي، وأما المشابهة فهذه كلمة لابد أن نفصل فيها، فمثلاً: المشابهة اللفظية موجودة من غير مماثلة الله عز وجل، فقد وصف نفسه بأنه عليم، وأنه خبير، وأنه حكيم، بل وصفه جميع العقلاء بذلك، ومع ذلك العلم والحكمة موجودة في الخلق، فهذا تشابه لفظي، وقد يوجد فيه -كما سيقول الشيخ- اشتراك معنوي جزئي أيضاً، لكنه في المخلوق ناقص، وفي الخالق كامل، ومن ذلك أيضاً: العلم، فالله عز وجل بكل شيء عليم، وعلمه لا يحيط به شيء، وعلمه لا حد له سبحانه، فهو صاحب العلم الكامل المطلق، لكن ومع ذلك فالله عز وجل وهب لبعض خلقه علماً، وهذا العلم هو من علم الله، وهنا يوجد شيء من التشابه النسبي الضئيل، لكنه بالنسبة للمخلوق علم ناقص ومحدود، ويعتريه جميع عوارض النقص والضعف، بينما العلم في حق الله عز وجل كامل لا محدود له، ولذا فهذا التشابه الجزئي لا يعني المشابهة المنفية، ولا يعني المماثلة التي نفاها الله عز وجل في قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وهذا ما سيدور عليه الكلام التالي، يقول الشيخ: (وأصل كلام هؤلاء كلهم) أي: سواء يقصد بذلك المعطلة، أو الصفاتية الذين منهم المعتزلة الذين نفوا الصفات، أو الأشاعرة الذين أولوا الصفات، إذ إن الصفاتية تشمل كل من أثبت الصفات بما فيهم أهل السنة والجماعة، لكن هو الآن لا يرد على أهل السنة والجماعة، بل هو الآن يثبت مذهب أهل السنة والجماعة، ويرد -على قواعدهم- على الصفاتية الذين وافقوا الجهمية في بعض الأمور، يقول رحمه الله تعالى: (وأصل كلام هؤلاء -الجهمية أولاً، ثم يتبعهم المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية، أي: أن قاعدتهم التي انطلقوا منها في النفي أو التأويل- على أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم) أي: عندما نثبت صفة فكأننا جسمنا الله عز وجل، فهذه قاعدة باطلة؛ لأن إثبات الصفات لا يستلزم التجسيم، ولأننا عندما نثبت الصفات لله عز وجل فإننا نثبتها بالقواعد التالية؛ لأن الله أثبتها لنفسه، وهل يثبت الله لنفسه المماثلة والتجسيم؟ لا، وهذا أولاً.

    ثانياً: أننا نثبت الصفات لله عز وجل على ما يليق بجلاله، ونحتاط بأن ننفي كلما يشعر بالنقص أو الاستنقاص أو المماثلة لله عز وجل.

    ثم بنوا على هذه القاعدة حكماً نهائياً هو في غاية البطلان، فقالوا: إذا لزم من إثبات الصفة الجسمية، فمعنى هذا: أن الأجسام لابد أن تكون متماثلة، وكأننا إذا أثبتنا لله عز وجل صفة اليد أثبتنا التجسيم، وإذا أثبتنا التجسيم فالأجسام متماثلة بين الخالق والمخلوق، وعند ذلك نكون قد مثلنا الله بخلقه.

    وهذا كله باطل، ولذلك هذا التقعيد الباطل يخفى على بعض الناس الذين لا يعرفون موازين الحق؛ لأنهم يسلمون بذلك دون أن يشعروا، حتى وإن كان القائل من أهل الاستقامة والخير، فإذا لم تكن عند المسلم موازين تحصنه من مثل هذه المفاهيم فإنها تدخل مخه، وإذا لم تكن عنده قدرة على التمييز سيظن أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، وأن الأجسام متماثلة، وعلى هذا من أثبت الصفة فقد أثبت المماثلة بين الله وبين خلقه، فهذا هو ملخص هذه النقطة.

    ثم قال رحمه الله: (ولهذا يقول هؤلاء -أي: الذين قرروا التشبيه والمماثلة بزعمهم، أو الذين نفوا الصفات أو أثبتوها-: إن التشابه لا يمكن أن يكون من وجه، أو أن يقع من وجه ويختلف من وجه، فالشيئان لا يشتبهان من وجه، ويختلفان من وجه) يعني إما أن يشتبهان تماماً، وإما أن يختلفان تماماً، وهذه مكابرة أيضاً للعقول.

    وكل كلامه هذا هو في معرض الصفات، فهم يقولون: أي شيئين -ما يسمى بشيء من الموجودات، من وجود عالم الشهادة ووجود الغيب بما فيه وجود الله عز وجل، تعالى الله عما يزعمون- لابد إما أن يكون بينهما اشتباه كامل أو اختلاف كامل، فالشيخ يقول: ليس صحيحاً، فقد يكون هناك اشتباه، أو تشابه من وجوه، ولا يلزم من هذا التشابه التشابه الكامل؛ لأنه يقول: هم أوتوا من هذه القواعد التي لا دليل عليها.

    إذاً: الاختلاف كامل بين الله وبين خلقه، لكن التشابه اللفظي أو التشابه الجزئي لا يضر بالكمال لله، فهو قال: ليس هذه قاعدة صحيحة، بل أكثر العقلاء على خلاف ذلك، إذ إنه قد يوجد التشابه الجزئي والاختلاف الجزئي، ثم قال: (وأيضاً فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل)؛ وذلك أنه إذا ثبت تماثل الأجسام فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم. وهذا خطأ؛ لأن كلمة (جسم) مجملة ليس لها معنى محدد، مع أنهم أنفسهم أيضاً اختلفوا في تعريف الجسم، فأحياناً يقصدون بالجسم الوجود الذاتي، حتى الغيبي الذي لا يعرفونه، يقولون: إذا أثبتنا وجوده أثبتنا جسميته، وهذا لا يلزم، فهناك مخلوقات نعلم أنها موجودة ولا نجزم بالكيفية الجسمية؛ لأن هذه الكلمة تنبني على انطباع الناس في عالم الشهادة، والغيب لا يقاس على الشهادة، فحينما يعرّفون الجسمية يعرّفونها بما يفهمونه هم من حواسهم، وأمور الغيب ليست خاضعة للحواس إطلاقاً، فلذلك تحكمهم في الغيب باسم ما يتحكمون به في عالم الشهادة يدل على ضعف عقولهم وقلة تبصّرهم، وأنهم هم الخرّاصون الذين قال الله فيهم: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10-11]، غارقون في غمرة هذه الأفكار، فلا يعرفون عن الحقائق شيئاً، بل يحوّلون الحقائق إلى أوهام، ويحولون الأوهام إلى حقائق، وهذا هو الحاصل بالفعل في منهج الفلاسفة، إذ يحوّلون الحقائق إلى أوهام، بل وصل الآن عند كثير من الفلاسفة إلى التشكيك في الموجود، حتى إن بعضهم يشكك في وجوده هو؛ لأنه سرّح خياله، ثم جزموا بوجود خيالاتهم، وهي في الحقيقة مجرد أوهام، فعلى هذا أسقط الشيخ هذه الاعتبارات عندهم، بأنه ما عندهم إلا هذا المسلك، أي: مسلك التوهم، فيتوهمون ثم يصدقون أوهامهم، يتوهمون النفي فينفون، ويتوهمون الإثبات فيثبتون، ونحن نقول لهم: لم تدركوا كيفيات حقائق علم الشهادة، فكيف تتكلمون في الغيب؟ بل الكيفيات الغيبية والتي يقترن فيها عالم الشهادة بعالم الغيب لا تعرفونها، وأيضاً نقول لهم: إنكم لم تعرفوا حقيقة أرواحكم، أو عقولكم أو عواطفكم ومشاعركم، بل ما عرفتم ما في أجسادكم وما في رءوسكم حتى تتجاوزوا عالم الشهادة الآخر، ثم تتجاوزون عالم ملكوت السماوات والأرض، بل تتجاوزون الغيب البحت وتتخرّصون فيه بغير علم، ثم تتجرءون على أسماء الله وصفاته وأفعاله، فتحكمونها بمقاييس المخلوقات، إن هذا هو التشبيه بعينه، وإن وصل بكم إلى التعطيل، لكنكم ما عطّلتم إلا حينما تخيّلتم، ثم جعلتم خيالاتكم حقائق، وشبّهتم فنفرتم من التشبيه، وكل ذلك أوهام لا حقيقة لها، ومقدمات ونتائج وهمية.

    الطريق الصحيح في النفي

    بعد ذلك تكلم الشيخ عن الطريق الصحيح فقال: (وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما يُنفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد) أي: أن الطريق الصحيح هو نفي النقص، فإن كان اللفظ الذي يقولونه تشبيهاً يقتضي النقص فنحن ننفي النقص عن الله عز وجل، وإن كان لا يقتضي النقص فنحن نثبته ولا نسميه تشبيهاً، بل هم الذين يتوهمون التشبيه، فالله عز وجل تُنفى عنه النقائص، ويُثبت له ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يُثبت له الكمال المطلق بلا قيود، وما يُشعر بنقص فيُنفى عنه، فننفي عنه النقص والعيب، ومن الأمور المنفية المماثلة، إلا أن المماثلة مطابقة من كل وجه، وأما المشابهة ففيها تفصيل؛ لأن المشابهة لا تعني المطابقة من كل وجه.

    التشابه الجزئي لا يعني المشابهة الكلية التي تسوغ نفي الصفات

    بعد ذلك تكلم عما يسمى بالتشابه الجزئي، وهو في الحقيقة قاعدة شرعية، فإذا وجد تشابه جزئي فلا يعني المشابهة الكلية التي يُبنى عليها نفي الصفات، إذ إن التشابه الجزئي هو أننا نجد في معاني صفات الله -التي هي كمال مطلق- معاني توجد في المخلوقات، لكنها ناقصة ومحدودة، فالعلم المطلق لله عز وجل، يوجد منه علم عند بعض المخلوقات، لكنه ناقص، والقدرة التي هي كمال لله عز وجل توجد عند بعض المخلوقات، لكنها قدرة محدودة وناقصة، وهكذا في بقية كثير من الصفات التي جعل الله منها في الخلق جزءاً يسيراً، فهذا التشابه الجزئي لا يعني المشابهة من كل وجه، ولا يعني المماثلة من باب أولى، ولذلك بسبب التشابه الجزئي نفوا الصفات؛ لأنهم ما أدركوا أن التشابه الجزئي ليس استنقاصاً لله؛ لأنه كله موهبة من الله عز وجل، فالصفات التي جعل الله منها في خلقه هي موهبة من الله عز وجل.

    حقيقة القدر المشترك الذي اشترك فيه الخالق والمخلوق

    بعد ذلك تكلم عن القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال، فيقول: (فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال -يعني: لله عز وجل-: كالوجود والحياة والعلم والقدرة) أي: أن كل صفات الله عز وجل صفات كمال، فإذا أُطلقت على الله عز وجل لا يدل ذلك على شيء من خصائص المخلوقين، بل ليس هناك عاقل يقترن في ذهنه أن هناك وجوه تقارب بين الخالق والمخلوق، فإذا تكلمنا عن وجود الله عز وجل، وأنه موجود، أو عن حياة الله عز وجل، وأنه الحي القيوم، وعن علمه أو قدرته، فلا يعني ذلك أن ما يوجد عند المخلوقين يكون كما هو للخالق، والعكس كذلك، فليس ما يوجد عند الخالق يكون كما هو عند المخلوق، فإن هذا بقدر محدد، وهذا بكمال مطلق.

    نفي الاشتراك اللفظي يقتضي نفي جميع الأسماء والصفات لله عز وجل

    ذكر مسألة مهمة، فقال: (ولهذا لما اطّلع الأئمة على أن هذا هو حقيقة قول الجهمية سمّوهم معطّلة) أي: حقيقة دعواهم بأن أي إثبات لأي صفة لله يقتضي المشابهة، حتى صفة الوجود، فلذلك نفى هؤلاء الغلاة جميع الأسماء والصفات، وقالوا: لأنها تشعر بالمشابهة، وهذا ربما يكون من باب الإلزام، أي: أنهم أُلزموا بذلك؛ لأنهم وضعوا قاعدة قد يكونون فصّلوا أو لم يفصلوا، فالله أعلم، لكن السلف لم ينقلوا عنهم تفصيل، وإنما نقلوا عنهم هذا المبدأ الهدّام، أعني: مبدأ نفي الاشتراك، حتى اللفظي، إذ إن نفي الاشتراك يقتضي نفي جميع الأسماء والصفات لله عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يخلو الأمر من اشتراك لفظي.

    يقول: إن السلف عندما عرفوا هذه القاعدة عند الجهمية -قاعدة: نفي أي مشاركة بين الخالق والمخلوق، حتى وإن كانت لفظية- أدركوا أنهم معطّلة، وسمّوهم بذلك، ولذلك قال: (وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئاً)؛ لأن هذا يلزمه بإثبات الوجود، والوجود لا بد أن يتضمن الصفات، فما من موجود إلا ويكون موصوفاً، ولذلك فهو يرى الحلول كما أُثر عنه، فقد خرج من خلوته التي خلا به الشيطان إلى الإلحاد الكامل، يقولون: إنه خرج من خلوته وقال: هو ذا في الهواء، هو ذا في كل شيء، يعني: الله عز وجل، تعالى الله عما يقول.

    يقول: (وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء) نعم قد يكون هذا حقاً من وجه، وباطلاً من وجه، فهو شيء لا كالأشياء، لكن قوله: (لا كالأشياء) بمعنى: أنه لا يوصف ولا يسمى! وهذا باطل، ثم قال: (فإذا نفى القدر المشترك مطلقاً لزم التعطيل التام).

    حقيقة القدر المشترك الكلي

    بعد ذلك تكلم المصنف عن القدر المشترك الكلي، وهذه مسألة كثيراً ما ينخدع بها المتأثرون بمناهج الفلاسفة، وقد أشكلت على كثير من المتكلمين، وهي من المعضلات التي جعلتهم يخوضون فيما لا يعلمون، وهي: أن الاشتراك يقتضي نفي أي علاقة مشاركة، الاشتراك الذي هو الاشتباه، ولذلك منهم من نفى كل الأسماء والصفات، ومنهم من نفى الصفات فقط، ومنهم من أوّل الصفات.

    هذا الاشتراك الكلي المطلق الذي علّقوا به أحكاماً واقعية وهو ليس بواقع، هذا الاشتراك الذي في الأذهان هو اشتراك خيالي، فإذا طبّقته في الواقع لم يعد اشتراكاً، ولنأخذ مثلاً صفة: (الوجود)، إذ هي كلمة كلية لم نخصص بها أي وجود، يقول الشيخ: هذه الكلمة في الأذهان لم تخرج إلى الواقع، لكن عندما نقول: الوجود وجود الكون، فقد خصصنا الصفة، فخصصنا الوجود بالكون، وعرفنا أنها قُيدت بشيء، أو نقول: الوجود وجود الإنسان، فقد خصصنا الوجود بالوجود الإنساني، لذا لما خُصصت صارت واقعاً، أما قبل أن تخصص فهي في الذهن فقط، وما دامت في الذهن فيقول: لماذا تبنون عليها أحكاماً؟ لماذا تعتبرون الوجود قاسماً مشتركاً وهو في الذهن؟ مع أننا إذا خصصناه لم يعد قاسماً مشتركاً، فإذا خصصنا الوجود صرفناه إلى الخالق عز وجل، فهو وجود يخصه، وهو الكمال، وكذلك إذا أضفنا وجود المخلوق فهو وجود يخصه، وهو النقص، فالشيخ يحاكمهم إلى خيالات بنوا عليها أحكاماً، وهذا في جميع أصولهم التي نقضوا بها الوحي، سواء بتعطيل أو بتأويل أو بنفي بعض الشيء وإثبات بعض، فكل هذا مبني على خيالات وهمية هي في أذهانهم ليست في الواقع، وهذا القدر يسمى: القدر المشترك الكلي، ولا يوجد في الواقع، ولا يوجد في خارج الأذهان، وليس في خارج الكون، وإنما خارج الأذهان، فالخيالات في الأذهان ليست واقعاً حتى تكون هذه الخيالات منطبقة على الواقع، وكذلك الأوصاف ليست واقعاً حتى ننسبها إلى موصوف، فصفة (الوجود) كلمة مطلقة ليست واقعية، فإذا نسبناها إلى موصوف أصبحت واقعية، فإذا قلنا: الإنسان موجود. إذاً نسبنا هذا الوجود للإنسان، فأصبح واقعاً، وإذا قلنا: الله عز وجل موجود، فهذا وجود خصصناه بالخالق عز وجل، فهو الوجود المطلق الكامل، لا مطلق الوجود.

    إذاً: هذه من الأشياء التي استطاع بها الشيخ رحمه الله درء التعارض، وبيان تلبيس الجهمية، إذ أوصلهم إلى طريق مسدودة، فلم يستطيعوا أن يتجاوزوا هذا الأمر، ولذلك ما رد عليه أحد من أهل الكلام إلى يومنا هذا في هذه القضايا، أي: في مسألة تحكيمهم أو الحكم عليهم من قواعدهم ومن أصولهم التي يقولون بها، يقول: حتى أصولكم تتناقض! فمنها: مسألة الوجود الكلي، أو الوجود الذهني، أو الوجود العام، أو الوجود المطلق، أو الوصف المطلق، فيقول: أنتم الآن تحكمون على أشياء ليس لها واقع، فإذا صارت واقعاً عند ذلك حكمنا بالخصائص، وخصائص الله عز وجل غير خصائص المخلوق.

    يقول رحمه الله: (وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا -أي: أن المعنى العام إذا خصصناه أُطلق على هذا وعلى هذا- لأن الموجودات في الخارج -أي: خارج الذهن- يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله. لأن الموجودات في الخارج يشارك أحدها -ويجوز النفي أيضاً، لكن جاء لها عن طريق الإثبات- الآخر في شيء موجود فيه) بمعنى: إذا قلنا: إن كلمة (الوجود) كلمة في الذهن، فإذا خصصناها صارت في الواقع، فإن الموجودات في الواقع بينها اشتراك جزئي، هذا الاشتراك الجزئي لا يعني المماثلة من كل وجه، بل يعني المشابهة من بعض الوجوه، وهذه المشابهة لا تقتضي نقصاً في أحد الطرفين.

    فأما الوجود المطلق فهو الوجود الذي لا ينتهي ولا يبتدي، مثل: وجود الله، وأما مطلق الوجود فهو الذي في الأذهان، كأن نقول: كلمة (الوجود) فهذه مطلق الوجود، لكن وجود الله هو الوجود المطلق الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فهذا هو الوجود المطلق، وأما مطلق الوجود فهو المتخيل والمتصور، وهذا ينطبق على الوجود وعلى الحياة وعلى كثير من الصفات العامة، فإذا قلنا: الحياة، لا ندري أي حياة حتى تقيد، وحتى تتعلق بمتعلقها، فالحياة لله عز وجل هي القيومية التي لا نهاية لها، والحياة بالنسبة للمخلوق هي حياة موقوتة يعتريها الضعف والنقصان والفناء وجميع عوارض الخلل.

    إذاً كما قرر الشيخ: أن عدم فهم هذا المعنى هو الذي تسبب في غلط منهجي أدى إلى التعطيل للأسماء والصفات، أو للصفات فقط، ثم إلى التأويل، وهو أخطر من التعطيل من أغلب الوجوه على الخلق، يعني: على المسلمين بالذات، مع أن التعطيل كفر، فلماذا يكون التأويل أخطر؟ لأنه بيّن البطلان، ولا يُعقل أيضاً، ولأن فيه تلبيساً على الإنسان، فإذا جاء شخص وقال لك: أنا أنفي لله الاستواء على العرش، فقد تستنكر لأول وهلة، لكن لو يلبِّس عليك ويقول: أنا أنفي أن يكون الله عز وجل يحتاج إلى العرش، ويجلس عليه، وهذا هو الاستواء، ففي هذه الحالة يلتبس على الجاهل، فيقول لك: أنا لا أنفي، ولكني أؤول، وأقول: استوى بمعنى: استولى؛ لأن الاستواء غير لائق بالله، ويقتضي المشابهة، فهذا تلبيس، لكن لو قال: أنفي الاستواء نفياً مطلقاً. فإنه لا عاقل يقر النفي المطلق في حق الله عز وجل، حتى المشرك والكافر لا تستطيع أن تقنعه في النفي المطلق الذي يقتضي النقص المطلق في حق الله عز وجل، لكن التأويل لا؛ لأن فيه تلبيساً، ولذلك يعتبر التأويل هو أخطر على الأمة؛ لأنه ما من أحد من الأمة وقع بشكل خطير مثلما وقع المؤولة في الخطر، أعني: أتباع المؤولة هم الأكثرية الآن من المسلمين، بينما التعطيل نجده في قلة من البشر، يعني: حالات شاذة من بعض الناس، أما التأويل فهو سائر بين الناس، ويلبس به على العوام، بل وعلى صغار طلبة العلم الذين ما نشئوا في بيئة سنية، فيلبس عليهم تماماً وكأنه هو الحق.

    1.   

    الأسئلة

    الحذر من الخوض في محارات ومتاهات الفلاسفة

    السؤال: أهل السنة يقولون: إن الجمع بين الضدّين مستحيل لذاته، ثم قال: مثل خلق مثله، وتحريك وسكون الشيء في وقت واحد، ويقول من يخالفهم: يلزمكم على هذه القاعدة أن تنفوا علو الله على خلقه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون فوقه شيء من خلقه ولا محيط به شيء من مخلوقاته؛ لأن هذا جمع بين الضدّين، فهل هذا الإلزام صحيح؟ وكيف الرد عليه؟

    الجواب: إن مثل هذه الأمور لا ينبغي الخوض فيها؛ لأنها محارات ومتاهات، ولأن هذه المصطلحات مما يكثر فيها الغلط والوهم، ويكثر عليها الاختلاف، نعم قد تكون العبارة في بعض الأمور صحيحة من حيث إنها من بدهيات العقل، لكن لوازمها وتطبيق هذه القواعد على أمور الغيب هو الذي يكون زلّة، ويدخل في محارات وأوهام، فالجمع بين الضدين لا شك أنه مستحيل، لكن كثيراً من الفلاسفة والمتكلمين ومن دونهم قد يدخلون في الأضداد ما ليس منها، وقد يفرّعون عن هذه القواعد ما لا يدخل فيها، وقد يضعون مقدمات بعضها غير صحيح، فتكون نتائجها غير صحيحة، وقد يضعون مقدمات صحيحة، لكن نتائجها ليست مطابقة لأصل مقدماتهم، وكونهم جعلوا الاستواء والنزول يدخل في المتضادات فهذا توهم منهم؛ لأننا نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه، وينزل تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله، كما ورد ذلك في النصوص الشرعية، ورد على وجوه كثيرة في الزمان وفي الأحوال، وهذا النزول ثابت قطعاً بقطعيات النصوص، ويلزم إثباته، لكن اللوازم التي قالوا بها في النزول لوازم وهمية، فأهل السنة لا يزيدون عن إثبات ما جاء في النصوص القطعية من أن الله عز وجل مستو على العرش، وأنه سبحانه ينزل نزولاً كما يليق به تبارك وتعالى، وقد وردت في ذلك النصوص القطعية.

    وعليه فاللوازم هذه غير لازمة، فلا يعني أنه يلزم من النزول إخلاء العرش؛ لأن ذلك لا يمكن أن يكون داخلاً في الأضداد، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أنه لا يمكن التحكم في تصوره، فالله عز وجل ينزل نزولاً يليق بجلاله، فلا يجوز لنا أن نتعدى ذلك، وما ورد عن بعض السلف، أو ما أُثر عن بعض السلف من ذكر بعض اللوازم، كمسألة الإخلاء وعدم الإخلاء، فكلها اجتهادات ليست بقطعية، ولا تلزم جمهور السلف، إذ إنها اجتهادات من آحاد السلف قد يقول بها من باب رد باطل على وجه آخر، فيبالغ أو يقول بما يتوهم ويتصور، وليست عقيدته ملزمة للسلف الصالح، وإن كان من أفراد السلف ومن علماء الأمة؛ لأنه قد يجتهد فيخطئ، فلا يكون اجتهاده موافقاً للقاعدة الشرعية، ولذا فأهل السنة والجماعة لا يلتزمون بهذه اللوازم، أعني: ضرورة القول بإخلاء العرش إذا حصل النزول؛ لأن هذا أمر غيبي خالص، وحتى لو كان في أمر المخلوق لكان من الغيب الذي نتورع أن نخوض فيه، فكيف وهو في حق الله عز وجل الذي ليس كمثله شيء؟!

    إذاً: كل هذه التصورات والاعتراضات أوهام على أوهام، فمقدماتها أوهام، ونتائجها أوهام، وما علينا إلا أن نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وما نثبته في حق الله عز وجل أمور لا يحيلها العقل، واللوازم التي ألزموا بها باطلة، فإن كانت اللوازم تستلزم النقص فهي باطلة، وإن كانت لا تستلزم النقص فقد ترد، فإن جاء ما يدل على هذه اللوازم أثبتناه، مثل: أن نقول: من لوازم قوله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]: أن الله كريم، وأنه سبحانه غني، وأنه قادر، وأنه هو الرزاق، فهذه لوازم نلتزمها، لأنها حق وكمال، لكن اللوازم الأخرى من التشبيه والتجسيم والإخلاء .. وغير ذلك مما قالوه لوازم باطلة، ولا يستطيعون أن يحاجونا بها، حتى ولو قلنا بقاعدة الجمع بين الضدين؛ لأن استواء الله عز وجل على عرشه ونزوله كما يليق بجلاله ليس من باب الأضداد على أي وجه من الوجوه، إنما هم توهموا أوهاماً فألزمونا بأوهامهم، وأوهامهم لا تلزمنا قطعاً.

    معنى قول شيخ الإسلام: هل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو المتواطئ أو التشكيك؟

    السؤال: ما معنى العبارة التالية التي أوردها المصنف في معرض رده على الذين ينفون الصفات: ولكثرة الاشتباه في هذا المقام -يعني: مقام الغلط والتناقض في استعمال الاصطلاحات والعبارات والقواعد- وقعت الشبهة في أن وجود الرب عز وجل هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ (الوجود) مقول بالاشتراك اللفظي، أو المتواطئ، أو التشكيك؟

    الجواب: الاشتراك اللفظي: هو العبارات التي يتحد لفظها وتتعدد معانيها، فاللفظ واحد، لكن يُطلق أحياناً على معان مختلفة ومتفاوتة، مثل: العين، فقد تُطلق على ذات الإنسان، أو على ذات الحيوان، فيُقال: هذا الإنسان بعينه، وهذا الحيوان بعينه، وقد تُطلق على العين الباصرة، وقد تُطلق على العين الجارية، أو الماء الجاري، وهذا يسمى: اشتراك لفظي، فاللفظ واحد والمعاني متعددة، وعليه فهذا أقرب للاشتراك اللفظي منه إلى الاشتراك الحقيقي.

    والاشتراك اللفظي في مثل هذه الألفاظ لا يعني التماثل، فإذا وجد الاشتراك اللفظي بين بعض أسماء الله وأسماء الخلق، أو بين بعض صفات الله وصفات الخلق، فلا يعني وجود التشابه ولا التماثل، فلماذا ينفون أسماء الله بمجرد وجود الاشتراك اللفظي؟ هذا هو قصد الشيخ.

    أما التواطؤ فهو أقرب أو أخص، وهو: أن تتفق اللفظة مع كثير من معانيها، أو يجمع اللفظة جنس واحد متقاربة، كالإنسان، فقد يُطلق على جنس، لكن هذا الإنسان قد يكون ذكراً وقد يكون أنثى، وقد يكون صغيراً وقد يكون كبيراً، وقد يكون عاقلاً وقد يكون مجنوناً، لكن ومع ذلك فاللفظة متقاربة معانيها، وليس هناك بعد، مثل: العين، أو الأسد إذا أُطلق على إنسان سماه أبوه وأمه أسد، وبين (أسد) الحيوان المعروف، أو إطلاق الذهب، فقد يُطلق الذهب على المعدن، وقد يُطلق على الشيء العزيز الثمين، وقد يقال: ما شاء الله فلان كلامه من ذهب، فهل معناه أنه يتلفظ ذهباً يوزن؟ لا، ولذا فالتواطؤ هو أن يوجد شيء من التقارب في المعاني مع اتحاد اللفظ، كالإنسان، أو الحيوان، والحيوان هو كل حي سمي حيواناً، لكن لا يُسمى الجدار حيواناً، فهو جنس وإن اختلفت بعض معانيه، فالإنسان -مثلاً- جنس واحد وإن اختلفت بعض معانيه.

    إذاً: الاشتراك اللفظي هو وجود لفظ متطابق في الحروف، لكن تختلف معانيه اختلافاً كبيراً، أما التواطؤ فهو أن يوجد لفظ يطلق على جنس، وهذا الجنس تتنوع مفرداته تنوعاً غير بعيد عن الأصل.

    وأما التشكيك فهو الذي يجمع بين هذا وذاك، يعني: كونه لفظاً مشككاً فيه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756193216