إسلام ويب

كتاب التوحيد [3]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد جاءت نصوص الوحيين بإرساء قواعد التوحيد وإبطال الشرك بأدلة متنوعة تفيد القطع ببطلان عبادة ما عبد من دون الله تعالى، وتأكيد لإبطال الشرك جاءت النصوص بمنع كل الأسباب والوسائل الموصلة إليه، كالغلو في الصالحين، وفي قبورهم، وكالتطير والتشاؤم، ونحو ذلك، في جملة من المسائل الخطيرة التي ينبغي للمسلم أن يكون على بينة فيها.

    1.   

    إثبات التوحيد وإبطال الشرك

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الشرك قد أبطله الله عز وجل في القرآن، وأثبت الله سبحانه وتعالى توحيد الألوهية بالطرق المقنعة التي تخاطب العقل وتخاطب فطرة الإنسان.

    ويمكن أن نحصر الأدلة التي جاءت لإثبات توحيد الألوهية وإبطال الشرك في نوعين:

    النوع الأول: أدلة جاءت بإثبات التوحيد بذكر استحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة.

    والنوع الثاني: إثبات التوحيد عن طريق إبطال الشرك.

    فتوحيد الألوهية -وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة- بينه الله سبحانه وتعالى في القرآن بياناً كافياً وشافياً وواضحاً.

    وقد استدل بالأدلة العقلية على إثبات توحيد الألوهية وعلى إبطال الشرك، فإذا سئلت: ما هو الدليل على توحيد الألوهية وإفراد الله عز وجل بالعبادة؟ فإنه يمكنك أن تجعل الدليل على إفراد الله عز وجل بالعبادة وتوحيد الألوهية على نوعين:

    النوع الأول: إثبات التفرد باستحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة، فأنت تثبت في هذه الزاوية أن الله سبحانه وتعالى متفرد في كونه هو المستحق وحده للعبادة دون غيره، وقد استخدم في هذا النوع صور متعددة في إثبات هذا المطلب المهم من مطالب توحيد الألوهية.

    النوع الثاني: في إثبات توحيد الألوهية: إبطال الشرك، فإبطال الشرك يستلزم إثبات التوحيد ولا بد؛ لأنه إذا أبطل الله عز وجل معبودات المشركين مثل الأصنام أو الأولياء أو الأنبياء أو الملائكة أو الجن أو غيرهم، إذا أبطل الله عز وجل عبادة هؤلاء؛ فإن هذا يدل بالتضمن على إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة؛ لأنه هو وحده سبحانه وتعالى المستحق للعبادة.

    ولهذا سنذكر مجموعة من الأبواب التي ذكرها الشيخ في مجال إبطال شرك المشركين، فهو لم يتعرض -رحمه الله- بالتفصيل لإثبات إفراد الله عز وجل بالعبادة، أو لإثبات إفراد استحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة، لم يتعرض لهذه القضية بالتفصيل، لكنه تعرض لقضية بالغة الأهمية، وهي إبطال الشرك، وإبطال الشرك يستلزم إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة.

    وسنلحظ أن الأدلة التي ذكرها الشيخ مما جاء في القرآن أدلة تخاطب العقل، وهذا يدل على أن القرآن مليء بالأدلة العقلية.

    وهذه قضية مهمة جداً ينبغي أن نتنبه لها وأن نعتني بها، وهي أن القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل هو الذي خلق الإنسان، وهو العليم به، كما قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] فهو سبحانه وتعالى أعلم بحال العبد وبطبيعة العبد وبما يصلح العبد، ولذا أورد الأدلة المقنعة على أن الله سبحانه وتعالى واحد في ربوبيته، وعلى أنه واحد في ألوهيته، وعلى أنه واحد في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.

    وجاء بالأدلة العقلية -أيضاً- في القرآن على النبوات، وجاء بالأدلة العقلية على البعث والنشور.

    فالقرآن مليء بالأدلة العقلية التي تدل على هذه المحاور المهمة في العقائد، فالأدلة العقلية القرآنية الموجودة في القرآن تدل على التوحيد، وتدل على النبوات، وتدل على المعاد، وهذه الأمور الثلاثة هي أصول العقائد.

    إثبات توحيد الألوهية بالأدلة العقلية

    أما مسألة إثبات توحيد الألوهية بالأدلة العقلية وأن الله عز وجل هو وحده المتفرد باستحقاق العبادة فقد جاء ذلك من خلال دلالتين:

    الدلالة الأولى: دلالة الربوبية على الألوهية.

    والدلالة الثانية: دلالة الكمال والأسماء الحسنى والصفات العليا على توحيد الألوهية.

    أما النوع الأول -وهو الاستدلال بتوحيد الربوبية على كونه إلهاً- فهو واضح جداً، وهو أن الله عز وجل هو الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت وحده، وأنه سبحانه وتعالى مالك لكل شيء، وأنه المدبر لكل شيء، فهذا هو المستحق أن يعبد.

    ولو عرضت على عقلك قولك: هل المستحق للعبادة والتعظيم هو الذي يدبر ويخلق ويرزق والذي بيده كل شيء، أم الفقير المسكين الذي ليس بيده شيء؟ فإنك ستقول حالاً: المستحق للعبادة هو هذا الموصوف بهذه الصفات العظيمة، والذي له الربوبية، ولهذا يقول الله عز وجل: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فاستدل بكونه الخالق على كونه هو المعبود سبحانه وتعالى، ولهذا أدلة نماذج كثيرة غير هذه الأدلة.

    النوع الثاني: دلالة الكمال، فكونه كونه سبحانه وتعالى هو المتفرد بالكمال يدل على أنه هو المستحق وحده للعبادة دون شريك، وأوضح ما يدل على ذلك آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] فهو سبحانه يذكر صفاته، وأنه هو وحده المستحق للعبادة، ولهذا كانت أعظم آية في كتاب الله.

    إبطال الشرك

    أما إبطال الشرك فجاء من طريقين:

    الطريقة الأولى: تجريد الشركاء والآلهة المعبودة من دون الله من صفات الربوبية، وهذا الإبطال عكس لذاك الإثبات، فعندنا موضوع إثبات استحقاق الله عز وجل للعبادة، وهذا الموضوع الاستدلال بتوحيد الربوبية على أن الله هو المستحق للعبادة.

    وأما في موضوع الإبطال فإننا نجد الشركاء ليسوا أرباباً، فهذا يدل على بطلان كونهم آلهة.

    والاستدلال الثاني هو الاستدلال بكون الله عز وجل هو الكامل كمالاً مطلقاً، والاستدلال بتوحيد الأسماء والصفات على كونه منفرداً بالألوهية والعبودية، فيستدل بعكسه على إبطال الشرك، فنقول: كون الآلهة ناقصة وعاجزة وليس لها صفات الكمال يدل على أن عبادتها باطلة.

    قال المؤلف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:191-192]].

    وجعلها عنواناً للباب ليبين أن الآلهة التي تعبد من دون الله آلهة باطلة لا تستحق العبادة.

    والدليل على أنها لا تستحق العبادة هو قوله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا [الأعراف:191] فهم -أولاً- لا يخلقون شيئاً.

    ثانياً: وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191] فكيف يُعبد المخلوق والمخلوق لا يُعَبد؟!

    ثالثاً: وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا [الأعراف:192] فهذه الآلهة لا تستطيع أن تنصر من يعبدها إذا نزل به البلاد.

    رابعاً: وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:192]، فهذه الآلهة لا تنصر نفسها، فهي لا تملك أسس استحقاق العبادة، وهي الملك المطلق، والتدبير المطلق، فهذه الآلهة ليست آلهة مستحقة للعبادة بل هي آلهة باطلة، ودليل البطلان في قوله تعالى: أَيُشْرِكُونَ [الأعراف:191] فهذا استفهام إنكاري يتضمن النفي، يعني: لا يصح أن يشركوا.

    وقوله تعالى: وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:192] يعني: لو أنها دمرت فإنها لا تستطيع أن تواجه من يدمرها، ولهذا كسرها إبراهيم عليه السلام وعلق الفاسق على الصنم الكبير، فلما جاءوا إليه قالوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال: بل فعله كبيرهم هذا. ثم قال لهم: اسألوهم إن كانوا ينطقون. يعني: كيف تكون آلهة وهي لا تستطيع أن تدفع الضر عن نفسها، وإذا كانت لا تستطيع أن تدفع الضر عن نفسها فمن باب أولى ألا تستطيع أن تجلبه لغيرها.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14]].

    هذه الآية تدل على بطلان الشرك بنفس الطريقة السابقة التي ذكرناها، حيث يخاطب الله عز وجل المشركين بقوله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13] فنفى عنهم الملك، والقطمير: اللفافة التي تكون على النواة، وليس المقصود بالملك المنفي هنا ملك اليد، بل المقصود أنهم لا يستطيعون خلقها وتدبيرها وملكها الدائم، وإنما هو ملك ناقص غير تام، وجاء بكلمة (قطمير) ليبين أقل أنواع الملك.

    ثم قال تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [فاطر:14]، وهذا هو الوصف الثاني الذي يدل على نقصان هذه الآلهة، وهي أنها لا تسمع الدعاء، ولهذا يخبر الله عز وجل عن إبراهيم في قوله لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42] يعني: كيف تعبد ما لا يسمع؟! إله لا يسمع، وإله لا يبصر، وإله لا يغني عنك شيئاً، كيف تعبده؟! وهذا يدل على أن الإله إذا كان موصوفاً بالنقص فإنه لا يكون إلهاً حقيقياً صحيحاً.

    وكل من يعبد غير الله عز وجل فهو في ضلال، فالذين يأتون إلى أصحاب القبور ويدعونهم من دون الله تستطيع بكل يسر بطريق عقلي صحيح أن تبطل عبادتهم، فتقول: يا فلان! هذا الإنسان لو كان ينفع ويضر لأغنى عن نفسه شيئاً، ولم يمت، فكيف تعبده وقد مات؟!

    ولهذا كان أغبى أنواع العبادات عبادة الموتى، وعبادة الأحياء الذين لديهم سلطان ولديهم قدرات قد تكون أقرب إلى العقل مع كونها فاسدة، ولكن صاحبها أخف شأناً من الذي يعبد ميتاً لا يغني عن نفسه، ولو كان يغني شيئاً لدفع الموت عن نفسه، ولهذا قال تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14].

    وهذا يسمونه التنزل في الخطاب، فهم لن يسمعوا، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14] والهدف منه إثبات عدم استجابتهم.

    قال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14] يعني: إذا اجتمعتم عند الله عز وجل يوم القيامة فإن كل معبود يكفر بعابده يوم القيامة.

    فمن كان يعبد الأصنام أو الصالحين أو الجن أو الملائكة فإن معبوده به يوم القيامة ويتبرأ منه، قال تعالى: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].

    فهاتان الآيتان تدلان على أن الشرك باطل؛ لأن الآلهة لا تمتلك أسس الألوهية، ولأنها من جهة ثانية ناقصة، والناقص لا يستحق العبادة، وإنما يستحق العبادة الكامل.

    وفي هذه الآية -آية سورة فاطر- مسألة كبيرة يناقشها العلماء، وهي مسألة سماع الأموات، فهل الأموات يسمعون في قبورهم أم لا يسمعون؟

    في هذه المسألة خلاف بين العلماء على قولين:

    القول الأول: أنهم لا يسمعون مطلقاً، واستدلوا على ذلك بنفي السماع عنهم في قوله تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [فاطر:14]، فهم لا يسمعون شيئاً مطلقاً.

    وبعض العلماء يرى أنهم يسمعون سماعاً مطلقاً.

    والصحيح هو أن الأصل عدم سماع الأموات، يقول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، فالميت لا يمكن أن يسمع، إلا ما ورد في الشرع من سماعهم، مثل سماع الميت لخفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه، ومثل سماع النبي صلى الله عليه وسلم لسلام من يسلم عليه، فإن الله يرد إليه روحه ثم يرد السلام.

    وفي مسألة سلام المسلم على الميت المسلم اختلاف في إرجاع هل الله عز وجل إلى العبد روحه حتى يرد عليه بسبب الخلاف في صحة الحديث الوارد في هذا الشأن، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الميت إذا سلم عليه رد الله عز وجل إليه روحه فيرد السلام، وأنه يعرف من يسلم عليه.

    فمن يصحح هذا الحديث يقول بهذا السماع المعين، ومن لم يصحح الحديث ينفي هذا السماع.

    ومن السماع الوارد سماع أهل القليب للنبي صلى الله عليه وسلم عندما وقف عليهم وكلمهم، وحديث القليب من الأحاديث التي اختلف أهل العلم في فهمها اختلافاً كبيراً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر ونادى صناديد قريش بأسمائهم، وقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟! فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً فقال عمر : كيف تخاطبهم وقد أرموا -أي: ماتوا وهلكوا-؟! فقال: ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب).

    فسماع هؤلاء كان سماعاً محدداً لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح القياس في الغيبيات؛ لأن القياس في الغيبيات من الخطأ.

    بطلان الشرك بالنبي ومن دونه

    قال المؤلف رحمه الله: [وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: (شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128])].

    قوله: [وفي الصحيح] يعني: في صحيح البخاري.

    وقوله: [شج النبي صلى الله عليه وسلم] الشجة: هي الضربة في الوجه.

    [وكسرت رباعيته] هما السنان اللذان يكونان في بداية الفم بعد الثنايا. فقال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]) والأمر: الخلق والثواب والعقاب، فليس للنبي صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك.

    ووجه الدلالة من هذا الحديث في بطلان الشرك: أن النبي صلى الله عليه وسلم مع فضله ومكانته عند ربه ليس له من أمر العبودية والخلق والتدبير وشئون الإلهية شيء، فإذا كان عليه الصلاة والسلام هذا شأنه، وهو من أفضل الخلق فغيره من باب أولى.

    فهذا يدل على بطلان عبادة من عبد النبي صلى الله عليه وسلم، أو من عبد غيره وهو أنقص من النبي صلى الله عليه وسلم قدراً، وليس له من الأمر شيء من باب أولى.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلاناً وفلاناً بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]).

    وفي رواية: (يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ، فنزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128])].

    ووجه الدلالة من هذا الحديث هو نفسه وجه الدلالة السابقة، وهي قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، فالنبي صلى الله عليه وسلم مع فضله ومكانته عند ربه ليس له من أمر الألوهية والثواب والعقاب والتدبير والخلق والربوبية شيء، ولهذا سيأتي معنا من أسباب الشرك الغلو، وهو رفع الإنسان فوق مرتبته، أو محاولة إيصاله إلى درجة الألوهية، ولهذا يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، فليس له من شأن التدبير أي شيء.

    فإن قيل: أيهما سبب النزول الأول أو الثاني؟

    فالجواب: أن بعض الآيات قد يرد في سبب نزولها سببان، بحيث تنزل الآية بعد السببين جميعاً، فتحكى على أنها سبب للأول وعلى أنها سبب للثاني، ولا مانع من ذلك.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] قال: يا معشر قريش -أو كلمة نحوها-! اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب ! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا أغني عنكِ من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنكِ من الله شيئاً)].

    هذا الحديث وجه الدلالة منه بيان إبطال الشرك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غلا فيه بعض الناس حتى أوصلوه إلى درجة الألوهية فعبدوه من دون الله.

    وهذا الحديث يدل على بطلان عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على بطلان عبادة غيره من باب أولى، حيث قال عليه الصلاة والسلام: يا فلان، يا عباس ، ويا صفية ، (يا فاطمة ! سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنكِ من الله شيئاً) وهذا يدل على بطلان من يطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم الآن، وسيأتي معنا في شبهات القبوريين أنهم يقولون: نحن نطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فنحن نعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يخلق ولا يرزق، ولكن نطلب منه الشفاعة، ونحن نقول لهؤلاء: إن الشفاعة لا يملكها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشفاعة لله: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44].

    فهي ملك لله سبحانه وتعالى، ولا يملكها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ولا في فترة البرزخ، وإنما يعطيه الله عز وجل إياها يوم القيامة، بعد أن يأتي ويسجد بين يدي ربه، ويدعو الله عز وجل فيقال له: سل تعطه، واشفع تشفع.

    فإذا قال له الله عز وجل: (سل تعطه واشفع تشفع) فحينئذ يكون الله عز وجل قد أذن له فيها، أما الآن فلا يصح أن تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم، فهي داخلة في قوله: (لا أغني عنك من الله شيئاً) فهو لا يملك شيئاً، ولا ينفع أحداً ولا يضره، ولا يدخل أحداً الجنة، ولا يخرج أحداً من النار في هذه الدنيا وبعد موته، إلا الشفاعة التي يأذن الله عز وجل له فيها عندما يقول له: (ارفع رأسك، وسل تعطه واشفع تشفع).

    فهذا يدل على بطلان عمل الذين يشركون النبي صلى الله عليه وسلم مع الله في الدعاء مثلاً، أو في طلب الشفاعة، أو في الاستغاثة به، ويستدلون بأن له جاهاً عند الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    بطلان الشرك بالملائكة ومن دونهم

    قال المؤلف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]].

    هذه الآية تدل -أيضاً- على بطلان الشرك، ووجه الدلالة منها قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23] فالضمير هنا يرجع إلى الملائكة، ومن فسر الآية بأنها في عموم الناس فهو مخطئ؛ لأن الحديث الذي سيأتي بعده يدل على ذلك دلالة قاطعة.

    فقوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23] يعني: إذا ذهب عنهم الفزع.

    قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ [سبأ:23] يعني: عندما يتكلم الله سبحانه وتعالى - كما سيأتي معنا في الحديث - يفزع الملائكة ويخافون، فإذا ذهب عنهم الفزع قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].

    ففي الآية إبطال عبادة الملائكة، فالملائكة مع فضلهم ومكانتهم ومع كونهم يعبدون الله عز وجل لا يفترون، ومع كونهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، مع هذه الخصائص جميعاً لا يستحقون العبادة؛ لأنهم يخافون، والإله لا يخاف.

    ونلحظ منذ أن بدأنا في الباب الأول إبطال عبادة الأصنام، وإبطال عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، وإبطال عبادة الملائكة، وهكذا بهذه الطريقة.

    وإذا بطلت عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم فالأولياء من باب أولى ألا يعبدوا من دون الله، وإذا بطلت عبادة الملائكة فالجن وغيرهم من الناس من باب أولى.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض -وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟! فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)].

    هذا الحديث يدل على نفس المعنى الذي سبق أن أشرنا إليه، فهو يدل على أن الملائكة لا تستحق العبادة؛ لأنها تخاف، كما ورد في هذا الحديث، والإله لا يخاف، وبناءً على هذا لا تستحق أن تعبد من دون الله سبحانه وتعالى.

    وقوله: (كأنه سلسلة على صفوان) الصفوان: هو الحجر الصلب، والسلسلة معروفة، والتشبيه في قوله: (كأنه) المقصود به أن الخوف الذي لحقهم من سماعهم لكلام الله كالخوف الذي سيلحقهم عندما يسمعون السلسلة تجر على صفوان لقوة الصوت الذي يخرج منها، وليس المقصود تشبيه صفة الكلام بصوت السلسلة التي تجر على الحجر.

    قال المؤلف رحمه الله: [وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة - أو قال: رعدة- شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل)].

    هذا الحديث فيه ضعف من ناحية إسناده، رواه ابن أبي عاصم في السنة والآجري في الشريعة، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، وفي إسناده نعيم بن حماد وهو ضعيف، وكذلك في إسناده الوليد بن مسلم ، وهو مدلس، لكن هذا الحديث يشهد له الحديث السابق الذي في صحيح البخاري ، ومعناهما واحد.

    ووجه الدلالة منهما في إبطال الشرك هو أن الملائكة مع فضلها لا تستحق العبادة من دون الله سبحانه وتعالى أو مع الله؛ لأنها موصوفة بالنقص في مقابل كمال الألوهية، فهي تخاف كما هو ظاهر في هذا الحديث والآية، والإله لا يمكن أن يخاف أبداً.

    1.   

    باب قول الله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) ودلالته على بطلان الشرك

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].

    وفي الصحيح عن أبي المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال له: يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:113].

    وأنزل الله في أبي طالب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56])].

    هذا الباب عقده المصنف رحمه الله تعالى لبيان بطلان الشرك أيضاً، فهو يريد أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحق العبادة مع الله سبحانه وتعالى، أو من دون الله، والسبب في كونه لا يستحق ذلك أنه مع شدة محبته لعمه وعظم منزلة عمه عنده لم يستطع هدايته، أي: هداية التوفيق والإلهام.

    فهداية تصريف القلوب بيد الله، وليست بيد الخلق، والذي يستطيعه النبي صلى الله عليه وسلم من الهداية هو هداية الدلالة والإرشاد، فالهداية تنقسم إلى قسمين:

    هداية الدلالة والإرشاد، وهذا أمر يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أثبته الله عز وجل له بقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

    وأما النوع الثاني من الهداية فهو هداية التوفيق والإلهام، وهذه تتعلق بتصريف قلوب العباد، ولا يقدر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المعنية بقوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].

    فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يملك تصريف قلوب العباد، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع فضله ومكانته ومنزلته لم يستطع أن يهدي عمه أبا طالب مع حرصه على هدايته ومع اجتهاده في ذلك ومع محبته لهدايته، فإن هذا يدل على أنه ليس إلهاً ولا يستحق أن يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن مقام الألوهية لا يصح أن يرفع إليه أي أحد مهما بلغ عندنا من المحبة والتعظيم والمكانة والمنزلة.

    وهنا مشكلة أحب أن أنبه عليها، وهي أن كثيراً من الناس عندما يسمع منا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحق العبادة من دون الله، أو عندما يسمع أننا نقول -مثلاً-: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعبد من دون الله، أو لا يملك تصريف قلوب العباد، يظن أن في هذا قدحاً في النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ كبير جداً، فهذا ليس فيه قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا إنزاله منزلته التي أنزله الله عز وجل إياها، بل إن رفعه إلى درجة الألوهية هو القدح في الرب سبحانه وتعالى الذي هو أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم.

    وكثير من الناس لا يضبط موضوع محبة النبي ومحبة الولي ومحبة الصالح، فإذا رآك تقد جعل المخلوق -سواء أكان ولياً أم نبياً أم صالحاً- في مصاف الألوهية يظن أنك تبغضه، وهذا فهم فاسد ليس بصحيح، فلا يعني كون الإنسان لم يوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة الألوهية أنه مبغض أو أنه محتقر أو أنه منتقص للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هذه أمور يشغب بها أهل البدع ويشغب بها القبوريون على أهل التوحيد، ويظنون أن ذلك مسوغ لعبادة الأولياء وعبادة الصالحين، أعاذنا الله وإياكم من الشرك.

    فهدف الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- عندما عقد هذا الباب هو بيان بطلان عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عبد النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الناس اليوم، فكثير من الناس يستغيثون به ويطلبون منه مغفرة الذنوب وكشف الكروب، ولهذا يقول البوصيري :

    يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم

    وهناك قصائد كثيرة جداً لكثير من شعراء الصوفية يستغيثون فيها به ويطلبون منه مغفرة الذنوب وكشف الكروب التي لا تطلب إلا من الله سبحانه وتعالى.

    فأراد الشيخ أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يملك هداية عمه أبي طالب ، فكيف يعبد من دون الله؟!

    وهناك مسائل كثيرة تتعلق بشرح هذا الحديث، لكن ليست هي موضوعنا، وليست على شرطنا في شرحنا لهذا الكتاب.

    الحكم على الكافر أنه في النار إذا مات على كفره

    هنا مسألة، وهي: هل يجوز أن يحكم على الكافر إذا مات على الكفر بأنه في النار، كأن يقال: إن أبا طالب في النار؟ هذه المسألة مسألة عقدية، ولكنها ليست مرتبطة بتوحيد الألوهية بشكل مباشر، والصحيح أن الكافر إذا مات على الكفر وتيقن الإنسان موته على الكفر؛ فإنه يحكم له بأنه في النار، وعليه فإن أبا طالب في النار قطعاً، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، أعاذنا الله وإياكم من النار.

    1.   

    أسباب موصلة إلى الشرك

    هناك جملة أسباب توصل إلى الشرك، ومنها:

    أولاً: الغلو.

    ثانياً: التطير.

    ثالثاً: التصوير.

    فهذه كلها من الأسباب التي توصل إلى الشرك، ولكن هل يعني كونها أسباباً أنها ليست شركاً؟

    والجواب: لا، بل هي من الشرك الأصغر، ولهذا سبق أن ضبطنا الشرك الأصغر بأن منه الأسباب والوسائل والطرق والذرائع الموصلة إلى الشرك الأكبر، فكل سبب موصل إلى الشرك الأكبر يعتبر من الشرك الأصغر، إلا أنه في بعض الأحيان قد يتطور الحال بالأمر الذي هو شرك أصغر فيصبح شركاً أكبر، مثل الغلو.

    الغلو كلمة عامة، وكثير من حالات الغلو قد يُصنف في الشرك الأصغر، مثل التعظيم غير المنضبط، أو الصلاة في أماكن قبور الصالحين، فهذا من الغلو، لكنه من الشرك الأصغر.

    وأحياناً قد يوصل الغلو إلى الشرك الأكبر، فقد يدفعه الغلو إلى صرف العبادة للمخلوق من دون الله، فيكون شركاً أكبر مع أنه من الغلو أيضاً.

    الغلو في الصالحين

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين.

    وقول الله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]].

    هذه الآية تدل على أن الغلو سبب من أسباب الشرك، ولهذا نهى الله عز وجل أهل الكتاب عن الغلو في الدين؛ لأن الغلو في الدين عندهم هو الذي جعل النصارى يعبدون المسيح ويقولون: إنه ابن الله، وهو الذي جعل اليهود يعتبرون عزيراً ابن الله أيضاً.

    والغلو: هو مجاوزة الحد والمبالغة في الإطراء والمدح والثناء، وقد يكون الغلو قولاً، وقد يكون الغلو فعلاً، وقد يكون الغلو اعتقاداً.

    فمن الغلو القولي إطراء النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين إلى درجة التعظيم، وإلى درجة تقرب من مقام الألوهية، كالذي يقول مثلاً: إن الصلاة بجوار قبر الولي مثل الصلاة في الحرم، أو مثل الصلاة في المسجد الأقصى، أو مثل الصلاة في المسجد النبوي، وهذا كلام باطل، وهو من الغلو، وهو من الشرك الأصغر؛ لأنه ليس فيه صرف للعبادة لغير الله عز وجل.

    ومن الغلو: طلب الدعاء من الأموات، وهناك فرق بين طلب الأموات، وطلب الدعاء من الأموات، فطلب الأموات هو أن يأتي شخص إلى الميت ويقول: اغفر لي ذنبي أيها الميت، ويدعوه من دون الله، وهذا شرك أكبر؛ لأنه صرف العبادة لغير الله، والعبادة التي صرفها لغير الله هي الدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، وهكذا.

    أما طلب الدعاء من الأموات فهو أن يأتي إلى الميت ويقول: يا فلان! ادع الله أن يغفر ذنبي، فيطلب من الميت أن يدعو الله له، وهذا ليس من الشرك الأكبر؛ لأنه ليس فيه عبادة مصروفة لغير الله، بل هو من الشرك الأصغر، وهو من الذرائع الموصلة إلى الشرك الأكبر.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23] قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن: انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت].

    هذه الآية تدل على أن الغلو في الصالحين سبب من الأسباب التي توصل إلى الشرك، فهؤلاء الذين عبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً في البداية لم يقعوا هؤلاء في الشرك الأكبر المخرج عن الإسلام.

    لكن الأمر الذي وقعوا فيه هو الغلو، وهو أنهم صوروا على أشكالهم تماثيل ووضعوها في الأماكن العامة، وقالوا: إنكم إذا رأيتم هذه الصور تذكرتم هؤلاء الصالحين وكيفية عبادتهم لله، فتدفعكم للعبادة، وهذا غلو؛ لأن الإنسان لا يصح له أن يتذكر بهذه الطريقة المبتدعة، وهو أن يتخذ صوراً يعلقها وأصناماً يصنعها لتذكره، وإنما يتذكر من كتاب الله، ويتذكر من أخبار الأنبياء، ويتذكر عظمة الله عز وجل، وينظر في ملكوت السماوات والأرض، كل ذلك من وسائل الذكرى، وليس من وسائل الذكرى هذا العمل الذي قاموا به.

    ولم تعبد في بداية الأمر، بل حين إذا هلك ذلك الجيل وجاء جيل آخر ونُسِيَ العلم، وفي لفظ: (نُسِخُ) بمعنى: محُيَ وقَلَّ وتناقص قليلاً قليلاً حتى زال بالكلية.

    فجاءهم الشيطان مرة أخرى -وهذه خطوات الشيطان- وقال لهم: انصبوا على أشكالهم صوراً حتى تذكركم بالعبادة، فلما نُسِيَ العلم جاء إلى الجيل الذي بعد وقال: إن آباءكم كانوا يأتون إليها فيسترزقون بها فترزقهم، ويستنصرون بها فتنصرهم، ويستسقون بها فتسقيهم، فعبدوها من دون الله سبحانه وتعالى.

    والأمران غلو، فحال الأوائل الذين وضعوا هذه الأصنام حتى تذكرهم غلو، ولكنه غلو لا يصل إلى الكفر الأكبر.

    والجيل الذي جاء بعد نسيان العلم كانت عبادتهم لهم من دون الله غلواً أيضاً، لكنه من الشرك الأكبر، وهذه قضية مهمة تدل على أن الشيء أحياناً قد يبدأ صغيراً ثم يتطور حتى يصبح أمراً كبيراً وخطيراً.

    كإنسان -مثلاً- رأى امرأة من بعيد، ثم اقترب منها وحاول أن يقنع نفسه بأنه يريد أن يدلها على طريق، فهذه درجة ربما تلحقها درجة أخرى، كأن يتكلم معها فيما لا داعي إليه، وربما تلحقها درجة أخرى، وهي أن يتعرف عليها، وربما تلحقها درجة أخرى، وهي أن يقع في الفاحشة معها، والعياذ بالله.

    وهكذا تبدأ الأمور بهذه الطريقة، وهذه هي القاعدة التي سبق أن بينت، وهي قاعدة سد الذرائع، ولهذا لا يجوز الاختلاط، ولا يجوز أن تكون مدارس البنات قريبة من مدارس الأولاد مثلاً؛ لأن هذا ذريعة ووسيلة إلى الزنا والعياذ بالله، ولأنه عندما تخرج الفتاة من هذا الباب ويخرج الشاب من هذا الباب يراها وتراه، وقد لا يكون في اليوم الأول مشكلة، وفي اليوم الثاني يأتي الشيطان إلى كل واحد منهما، وفي اليوم الثالث يحصل شيء آخر، ويترقى الأمر مع الأيام حتى يصل إلى درجة لا تحمد عقباها.

    ولهذا ينهى أهل العلم دائماً عن الذرائع التي توصل إلى الأخطاء، والتي توصل إلى المشكلات، سواءٌ أكان ذلك في باب التوحيد، أم في باب الأخلاق والآداب، أم في باب الأعمال ونحو ذلك.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن القيم : قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم].

    يعني: بدأ الأمر متدرجاً، وأي أمر من الأمور يبدأ متدرجاً، ولا يبدأ دفعة واحدة، فهؤلاء عكفوا على قبورهم ثم صوروهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوا، الصور، فأصحاب الجيل الأول الذين عكفوا على القبور لم يخطر ببالهم أن يأتي جيل يعبدهم من دون الله عز وجل.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)].

    قوله: (لا تطروني) الإطراء: هو المبالغة في المدح.

    وقوله: (كما أطرت النصارى ابن مريم) وذلك لأنهم غلوا فيه حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه ثالث ثلاثة.

    وقوله: (إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) مر معنا في باب حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد من الشرك أنه نهى عن ألفاظ جائزة شرعاً، مثل (سيدنا وخيرنا وابن خيرنا) فخشي أن يبالغوا في هذا الأمر حتى يصلوا إلى ما هو أبعد من ذلك، ولهذا قال: (لا يستهوينكم الشيطان).

    ولهذا تجد أن الإنسان الصالح يبتعد عن مواطن الشبه دائماً، ويبتعد عن المواطن التي ربما يقع من خلالها في الحرام.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـمسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)].

    الغلو -كما سبق- هو مجاوزة الحد في تعظيم متبوع أو مطاع أو تنزيله فوق منزلته، ولهذا ينبغي أن نستخدم المصطلحات الشرعية في التعبير الذي نعبر به.

    وبعض الناس يعبرون اليوم بالتطرف، وكلمة التطرف ليست شرعية، أي: ليست مصطلحاً شرعياً، بل يمكن أن يفهمها شخص بفهم، ويفهمها شخص آخر بفهم آخر، وربما يظن بعض الناس أن الجهاد في سبيل الله تطرف مع أنه من صلب الدين، وربما يفهم بعض الجهال أن الولاء والبراء تطرف.

    وربما يفهم البعض أن منع الاختلاط ومنع التبرج والسفور ومنع المرأة من المحرمات تشدد وتطرف، مع أن هذا قضية شرعية مهمة، ولا بد من الاهتمام بها.

    إذاً: لا بد من استخدام المصطلحات الشرعية.

    وقد يقول قائل: كيف تعتبر الذي يكفر الناس بكبائر الذنوب من الغلاة ولا تعتبر الذي يقتل ويهريق الدماء من الغلاة؟

    فنقول: المقياس الذي نجعله أساساً في اعتبار هذا الأمر أو ذاك من الغلو هو القرآن والسنة، فأي أمر من الأمور نريد أن نعرف هل هو غلو أو ليس بغلو ننظر إلى حكمه في القرآن والسنة، فإن كان جائزاً فليس من الغلو، وإن كان مستحباً فهو أبعد، وإن كان واجباً فهو أبعد من الجميع، فكيف إذا كان قضية أصلية من قضايا الدين الأساسية؟

    ولهذا -مع الأسف- صار كثير من الناس يتأثر بلغة الإعلام الذي أفسد عند الناس المصطلحات إفساداً كبير جداً.

    ومثال ذلك: الإرهاب، فالإرهاب مصطلح مائع كل يفسره بالطريقة التي يشاؤها، فالإرهاب عند أمريكا هو الجهاد في سبيل الله والبحث عن الحرية من رق المشركين الكافرين، والإرهاب عند غيرها هو تخويف الآمنين، فالآمن يقاله لغيره: لا تخوفه، وإن كان يخوف الناس، وإن كان يؤذي الناس، وإن كان يقتل الناس، وهذا غير معقول.

    ولهذا فإن المشكلة الأساسية ليست في تعريف الإرهاب، بل المشكلة في استخدام هذا المصطلح الضبابي العائم والغامض، فلا بد من أن يكون مصطلحاً مكشوفاً واضحاً، وأن توضع عناصره بشكل دقيق حتى يفهم الناس ما تعني وما تقول.

    ولهذا -مع الأسف- انجر كثير من أهل العلم وراء هذه الدعايات الإعلامية، فتجد بعض أهل العلم يقول: يجب أن نشارك في محاربة الإرهاب، وماذا تعني بالإرهاب الذي يجب أن تشارك في محاربته؟ قد يكون له مفهوم في ذهنك، لكن الشخص الذي يقرؤه أو يسمعه له في ذهنه مفهوم آخر، وصاحب المصطلح الأساسي الذي نطق به في البداية له مفهوم غير مفهومك وغير مفهوم الآخر، ولهذا ينبغي أن يستخدم الإنسان المصطلحات الشرعية المنضبطة، ويمكن الرجوع إلى معانيها من خلال القرآن والسنة.

    أما المصطلحات العامة غير المنضبطة فلا يصح استخدامها، ولا ينبغي استخدامها.

    وبعض الناس يتكلم بهذه الطريقة، ويقول: في هذه الأيام انتشر عند الشباب الغلو بشكل كبير، وحين تستفسر عن هذا الغلو الذي عند الشباب يقول لك: هو التزام السنة، فلا يأخذ أحدهم من لحيته مع أن هذا ليس غلواً، بل هو من السنة.

    أو يقول: إنه يقصر ثوبه إلى مع أن نصف الساق.

    مع أن هذا من السنة، يقول لك: فيه غلو شديد جداً.

    فكثير من الناس يستخدم هذه المصطلحات استخداماً غير صحيح، ولهذا ينبغي تصحيح مثل هذه المصطلحات ومعرفة عناصرها الأساسية للتعامل بناءً عليها.

    قال المؤلف رحمه الله: [ولـمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً)].

    المتنطعون: هم المتعمقون المتكلفون، ومثال التنطع: قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر. يعني: أصوم كل يوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام. وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم.

    فهذا هو التنطع، وليس التنطع هو الالتزام بالسنة، بل الالتزام بالسنة محمدة للإنسان ومنقبة وليس تنطعاً.

    ونلحظ هنا أن الشيخ يربط الغلو بموضوع الغلو في الصالحين، والسبب في هذا هو أن أساس أول الشرك الذي دب في الناس منذ الزمن الأول هو الغلو في الصالحين وتعظيمهم، وإعطاؤهم أكبر من منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل إياها.

    فأول شرك وقع في البشرية هو شرك قوم نوح كما نعلم، وهو الذي سبق أن أشرنا إليه، وهو الغلو في الصالحين وتعظيمهم حتى عُبدوا من دون الله.

    الغلو في قبور الصالحين

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله.

    روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعلي قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)].

    اتخاذ القبور مساجد سبق أن أشرنا إليه، وهو الصلاة عندها واتخاذها مكاناً للتعبد، أو دفن الصالحين أو العظماء في المساجد، بحيث تصبح المساجد مثل المقابر، وكل هذا لا يصح، وهو من الغلو في الصالحين الذي يوصل إلى عبادتهم.

    وصحيح أنه ليس عبادة للصالحين، ولكنه يوصل إلى عبادتهم، وهو وسيلة وذريعة من ذرائع الشرك.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19] قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره].

    اللات هو رجل كان يَلُتُّ السويق للحُجَّاج، فمات فعظموه وعكفوا على قبره، ثم عبدوه في آخر الأمر من دون الله كما حصل في قوم نوح.

    ومن أمثلة الغلو: البناء على المقابر واتخاذ القباب عليها، وهذا مما ابتلي به كثير من بلاد المسلمين مع الأسف، بحيث تمر أحياناً بمقبرة في بلد من بلاد المسلمين فتظن أنك في حي فيه بيوت كاملة، وإذا هي مقبرة لها باب، ويجتمعون عند القبر، وقد يدعون الله عز وجل عند صاحب القبر حتى يكون هذا أدعى في الإجابة، وكل ذلك من وسائل الشرك، وهو من اتخاذ القبور مساجد.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس : كان يلت السويق للحاج.

    وعن ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)].

    المراد بالمتخذين عليها المساجد أن يأتي شخص إلى قبر رجل صالح ويبني عليه مسجداً للعبادة، وقد سبق أن أشرنا إلى أن هذا من وسائل الشرك.

    والسرج إنارة القبور، وما زال الناس -مع الأسف- يخترعون أنواعاً متعددة من المبالغات الغريبة عند قبور الصالحين، مثل بناء القباب عليها، ومثل وضع صناديق للنذور عندها، بل وصل الحال في بعض البلاد إلى أن جُعِل لها نظام خاص تابع للأوقاف، فالأوقاف تشرف على المساجد وتشرف على المقابر أيضاً، بحيث إن زوار المقابر يكون لهم طريقة معينة في زيارتها، وإذا كان عندهم صدقات تأخذها وزارة الأوقاف وتعتني بها عناية غير عادية، مع أن المقابر لم يكن يُعَملُ لها هكذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

    وسيأتي معنا أن علي بن أبي طالب أرسل أبا الهياج الأسدي على ما أرسله عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن وظائف هذا الإرسال ألا يجد قبراً مشرفاً إلا سواه. أي: لا يكون القبر مرتفعاً، فكيف ببناء والمساجد والقباب عليها؟!

    فهذا الباب كله يتعلق بموضوع الغلو في الصالحين، والغلو في الصالحين وسيلة من وسائل الشرك، وهو مثل الباب الذي قبله.

    التطير والتشاؤم

    التطير معناه: التشاؤم بالطير، وقد كانت هذه عادة من عادات الجاهليين؛ أي: أنهم يتشاءمون بالطير، فإذا أراد أحدهم السفر فاعترض له نوع من أنواع الطير فإنه يرجع من سفره؛ لأنه يظن أن وجود هذا الطير في هذا الطريق علامة على أنه سيقع له في سفره مكروه، وقد يتفاءلون بالطير.

    وموضوع التطير يدخل في موضوع التشاؤم بما ليس عليه دليل، فهو من الوهم، ليس له حقيقة، وسمي تطيراً لأن أكثر أنواع التشاؤم عند العرب كان بالطيور، وبعض الناس اليوم قد يتشاءم بالرؤى والأحلام، وبعض الناس قد يتشاءم بالأشخاص، كأن يرى -مثلاً- رجلاً أعور، ففي الحال تنقلب الدنيا في وجهه، ويحصل له تعب نفسي، وربما يترك العمل، وربما يترتب على ذلك أمور كبيرة.

    وبعض الناس يتشاءم بالألوان، فيتشاءم من اللون الأسود، أو يتشاءم من اللون الأحمر، وبعض النساء تتشاءم من بعض الصفات أو الأشكال.

    إذاً: التشاؤم كله وسيلة من وسائل الشرك؛ لأن التشاؤم ضعف في التوكل واعتماد على الوهم، وقد يتطور إلى اتخاذ أسباب ليست بأسباب حقيقة شرعاً ولا قدراً، فتشبه حالته حالة أصحاب التمائم والرقى الشركية والتبرك ونحو ذلك.

    فالمتشائم عندما يتشاءم من اللون الأحمر قد يسبب له هذا ردة فعل في بعض التصرفات، فبعض النساء تدخل مدرسة من المدارس فترى -مثلاً- في الفصل لوناً معيناً فإذا بها تترك المدرسة وتنتقل إلى مدرسة أخرى مثلاً.

    وأنواع التشاؤم لا يمكن حصرها، فكلٌ عنده خرافة معينة، فقد يتشاءم بشكل معين أو بوضع معين.

    وأساسها - كما قلت - هو ضعف التوكل وعدم الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وعدم وضع الأسباب الشرعية والطبيعية في أماكنها الصحيحة، واتخاذ سبب وهو ليس بسبب، مثل أصحاب الخيوط، حيث يضع أحدهم خيطاً في يده ويظن أن هذا الخيط سيرفع عنه الحمى التي يشعر بها، وهذا يدل على ضعف التوكل عنده؛ لأنه اعتمد على هذا الخيط، مثل التشاؤم الذي يرد الإنسان عن مطلوبه بسبب من الأسباب، وهذا السبب ليس سبباً حقيقياً، بل هو سبب وهمي.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في التطير.

    وقول الله تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:131]].

    وجه الدلالة من هذه الآية هو أن الله عز وجل ذم التطير، فأخبر أن طائرهم عند الله، أن أسبابهم وحوائجهم عند الله ليست معلقة بالطيور ولا معلقة بالأشجار ولا معلقة بالألوان، فهذا فيه ذم للتطير الذي كان عند الجاهليين.

    ووجه الدلالة الثاني أن التطير خصلة من خصال الكافرين، ولهذا كانوا يتشاءمون بالطيور وغيرها.

    قال المؤلف رحمه الله: [وقوله تعالى: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس:19]].

    هذه الآية قبلها قوله تعالى: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ [يس:18] يعني أن المشركين يقولون للأنبياء: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ [يس:18] أي: تشاءمنا بكم، وأصبحتم شؤماً علينا لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18].

    فقال لهم الرسل: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس:19] يعني: تشاؤمكم لكم وفيكم، وأنتم سبب الشؤم؛ لأن سبب الشؤم هو المعصية، أما وجود الرسل فليس شؤماً، فالمعصية شؤم حقيقي دل عليه القرآن والسنة.

    قال تعالى: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ [يس:19] يعني: أبسبب أننا ذكرناكم تطيرتم بالوهم؟! بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [يس:19].

    فهذا يدل على ذم التطير أولاً، ويدل على أنه من خصال المشركين ثانياً، ويدل على ضعف التوكل عندهم ثالثاً.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)].

    قوله: (لا عدوى) هي انتقال المرض من جسد إلى جسد آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا عدوى) يعني: العدوى لا تنتقل بنفسها وبذاتها، وإنما إذا أراد الله عز وجل انتقالها نقلها، وإن لم يرد فإنها بيد الله سبحانه وتعالى، وقد كانوا يرون أن العدوى نتيجة حتمية لانتقال المرض من شخص إلى شخص آخر، ولهذا فإن العرب في الجاهلية قد يرتبون القتال في بعض الأحيان على مثل هذه الأمور، فقد يكون لأحدهم إبل كثيرة جداً، وآخر عنده بعير أجرب مثلاً، فيقاتلونه إذا جاء ببعيره الأجرب فأرسله في الجمال، وهذا لظنهم أن انتقال العدوى حتمي ولا بد.

    ولا يصح أن يورد المريض على الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك قال: (لا يردن ممرض على مصح) فلا يصح أن يرد المريض على المصح؛ لأنه ربما يتحقق السبب، لكن الاعتقاد الفاسد الذي كان عند الجاهليين هو أن هذا السبب منتقل حتماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا عدوى) يعني: لا عدوى تنتقل بنفسها (ولا طيرة) يعني: ولا تشاؤم؛ لأن الطير لم يعلق الشرع به شؤماً ولا فألاً أيضاً، فالطير له ارتباط بالأسباب.

    قال: (ولا هامة) والهامة قيل فيها: إنها نوع من أنواع الطيور كانوا يتشاءمون به، وقيل: إن الإنسان إذا مات فإنه يقف على قبره طير، فهم كانوا يتشاءمون به، فيرون أنه سبب من أسباب الهلاك والموت.

    قال: (ولا صفر)، وهو الشهر المعروف، كانوا يتشاءمون به؛ لأن المشركين كانوا يعترفون بالأشهر الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، فكانوا إذا أرادوا القتال في محرم عظموا القتال فيه وقالوا: كيف نقاتل في محرم؟! ولاسيما أنه بعد الحج، وقد كانوا يجتمعون في الحج، فربما تكون هناك ثارات، فيكون الاجتماع فرصة مناسبة للانتقام من أصحاب الثأر مثلاً، فيؤخرون التحريم إلى صفر، ويتقاتلون في محرم، وهذا هو الذي قال الله عز وجل عنه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] يعني: تأخير الأشهر الحرم والحكم والتشريع بغير ما أنزل الله زيادة في الكفر.

    فكانوا يتشاءمون بصفر لهذا الغرض؛ لأنه كان شهر قتال، وربما انتظر بعضهم إلى أن ينتهي شهر المحرم، فيقتتلون في صفر، فيكون صفر شؤماً على كثير من القبائل حيث يحصل فيه والهرج والمرج.

    وزاد مسلم : (ولا نوء ولا غول) والنوء: منازل القمر. والغول: نوع من أنواع الجن كانوا يعظمونه، وجمعه غيلان، حتى إنهم كانوا يرون أن ثلاثة ليس لها وجود ولا حقيقة، وهي الغول والعنقاء والخل الوفي، فيقولون: ثلاثة ليس لها وجود: العنقاء، ويقولون: إنه طائر كبير جداً، ويصفون من حجمه ما لا يتخيله الإنسان.

    والغول: الجن، أو يعتبرونه شيئاً مهولاً مخيفاً بأشكال مزعجة.

    والخل الوفي: الصديق الذي يكون وفياً لك؛ لأن كثيراً من الناس يسعى لمصالحه ولا يتعامل بالوفاء في الخلة.

    1.   

    حسن الفأل

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: يا رسول الله! وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة)].

    الفأل عكس الطيرة، فالطيرة تشاؤم، والفأل أمر يدعو الإنسان إلى الإقبال على العمل.

    فكأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الفأل بدلاً من الطيرة، فإذا كان ولا بد فليكن الفأل، لأنه يدفعك إلى العمل، وهو الكلمة الطيبة.

    فلو جاء اثنان عند مريض فبدأ بدأ يقول: فلان أصابه هذا المرض وهلك، وفلان من الناس أصابه هذا المرض وعمي، ويأتي بالأمور التي تخيف المريض، وقال كلمة طيبة حسنة خففت عن هذا المريض، فأيهما أفضل؟ لا شك في أن الكلمة الطيبة هي الأفضل، وهي التي تدفع الإنسان لبناء حياته بناء صحيحاً؛ لأن طبيعة النفس الاتجاه نحو التشاؤم أو التفاؤل.

    فالتفاؤل أعظم من التشاؤم وأحسن منه وأفضل منه ولا بد، والتشاؤم يكون بحسب الحال، فقد يكون الشيء شؤماً قدراً أو شؤماً شرعاً، والتفاؤل يبني النفس، والتشاؤم يحطم النفس، ومثال ذلك السرطان، فهو -في الغالب- مرض مميت، وهذا بقدر الله، وهو سبب من الأسباب، فهناك أمراض مميتة، وهناك أمراض غير مميتة، وأمراض يرجى برؤها، وأمراض لا يرجى برؤها.

    فلو أن إنساناً جاء عند مريض بالسرطان، وبدأ يعد له أسماء الذين ماتوا من السرطان، فإن هذا يدفعه إلى الانزعاج، وهو من التشاؤم، والتشاؤم بالسرطان معناه الانزعاج منه، وهو أمر ليس فيه إثم؛ لأن السرطان مرض مميت، وهو سبب من الأسباب القدرية، وليس وهماً، وليس مثل الطير، فالطير ليس له أي أثر، فعندما يأتي طير فيقف هنا أو يقف هناك، فإن بعضهم إذا رآه وقف عن يمينه أخذ منه أنه سينجح في عمله، وإذا رآه وقف عن يساره قال: سأخفق في عملي، وهذا خطأ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يعجبني الفأل)؛ لأن الفأل يدفع الإنسان إلى العمل.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر قال: (ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)].

    إذاً: يمكن أن نقسم التشاؤم إلى قسمين:

    تشاؤم بأسباب طبيعية حقيقية.

    وتشاؤم بأوهام.

    فالذي يوصل إلى الشرك -أو هو سبب في الشرك- هو التشاؤم بالأوهام، وأما التشاؤم بالأسباب الطبيعية فهو موضوع هذا الحديث، يقول عقبة بن عامر : (ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: التشاؤم بأسباب حقيقية فقال: (أحسنها الفأل) يعني أن التفاؤل وبناء الإنسان لنفسه أفضل من التشاؤم.

    (ولا ترد مسلماً) يعني: لا ترد مسلماً عن أمر من الأمور التي يريدها مهما كان هذا التطير.

    قال: (فإذا رأى أحدكم ما يكره) يعني: إذا رأى أمراً يكرهه فليقل هذا الدعاء.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود مرفوعاً: (الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)].

    قوله: (الطيرة شرك) هذا نص صريح على أن التطير بالأوهام من الشرك، ويكون شركاً أكبر إذا ظن أن هذه الأوهام السببية حسب تصوره تفعل بذاتها، فهذا شرك أكبر.

    وإذا اعتقد أنها لا تفعل بذاتها، بل هي من الأسباب وليست في حقيقتها أسباباً شرعية ولا قدرية؛ فهذا من الشرك الأصغر.

    وإذا وقع في نفس الإنسان شيء من التطير فإنه ينبغي أن يجتهد في تربية نفسه على التوكل.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـأحمد من حديث ابن عمرو : (ومن ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)].

    هذا ذكر آخر في التعوذ من الطيرة، وهي من الكفارات التي تكون للطيرة إذا خالطت النفس، وخطرت في البال.

    ولهذا يقسم العلماء التشاؤم والطيرة إلى قسمين:

    قسم يرد الإنسان عن عمله، فهذا لا شك في أنه من الشرك.

    وقسم هو حديث نفسي فقط، فهذا يذهبه الله عز وجل بالتوكل وبالأذكار.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755953392