إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم فقهنا في الدين، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علماً.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فمرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب، وفي هذا الجمع المبارك، وأسأل الله أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتنا أجمعين، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
قد تحدثت قبل ذلك كثيراً عن أهمية دراسة التاريخ الإسلامي، وأشرت قبل ذلك كثيراً إلى أنه لا جديد على الأرض، نعم والله لا جديد على الأرض، والتاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة، فنفس الأحداث نراها رأي العين، ولكن باختلاف في الأسماء والأمكنة.
فمن يدرس التاريخ بعمق يكون كأنه يرى المستقبل ويقرأ ما يجد على وجه الأرض من أمور، ولا يخدع بسهولة مهما تعاظمت المؤامرات ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.
من يدرس التاريخ بعمق يعرف أين يضع قدمه وكيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته، ويكون كالشمس الساطعة تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم تقوم الساعة، كيف لا وقد ذكرنا من قبل أنه لا جديد على الأرض؟ ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، وهذا أمر من الله عز وجل.
ولكن قص القصة أو رواية الرواية لا يغني شيئاً إن لم يتبع بتفكر وتدبر، فدراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية، بل دراسة التاريخ ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية الصحيحة.
وفي دراستنا للتاريخ نعرض لأمور لا تستقيم حياة المسلمين بغيرها، وستجدون أننا في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور من العقيدة وأمور من الفقه وأمور من الأخلاق وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام، ونعرض لفقه الموازنات والأولويات، ونعرض لفقه الواقع.. وغير ذلك من الأمور، وإن شئت فقل: نعرض لكل أمور الدين، فإن الله عز وجل في كتابه الحكيم يقص القصة فيعرض فيها الحجة التي تقنع العقل، ويعرض فيها الرقائق التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمراً عقائدياً، وقد يعرض فيها حكماً فقهياً، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر، فتشعر أن التاريخ حي ينبض ولساناً ينطق.
ولا يحدثنا عن رجال ماتوا ولا عن بلاد طواها التاريخ بين صفحاته العديدة، بل يحدثنا عن أحداثنا وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا.
فالتاريخ ثروة حقيقية، ولكنها مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود وتفريغ وقت وحشد طاقات، وتحتاج إلى عقول وقلوب وجوارح، يعني: لن ينفع جهد رجل أو رجلين أو عشرة أو جهد يوم أو يومين أو سنة، بل تحتاج إلى جهود إلى جهود علماء كثر، وتحتاج إليكم جميعاً يا من ترجون للإسلام قياماً.
التاريخ الإسلامي هو أنقى وأزهى وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، ووالله! إني أشعر أن الدنيا قد سعدت بتدوين التاريخ الإسلامي، فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة، أمة خاتمة، أمة صالحة، أمة تقية نقية، هو تاريخ أمة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل شر.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم، رجال فهموا دينهم ودنياهم فأداروا الدنيا بحكمة، وعيونهم على الآخرة، فتحققت المعادلة العجيبة، عز في الدنيا وعز في الآخرة، ومجد في الدنيا ومجد في الآخرة، وملك في الدنيا وملك في الآخرة، التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية، حضارة جمعت الأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد والمعمار والقضاء والترفيه، جمعت القوة والإعداد والذكاء والتدبير، جمعت كل ذلك جنباً إلى جنب مع سلامة العقيدة وصحة العبادة وصدق التوجه ونبل الغاية، وصدق الله تعالى إذ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
هذا هو التاريخ الإسلامي في أصله وجوهره، ولا يمنع ذلك أنه يحوي أخطاءً بعضها عظيم، ويشمل عيوباً بعضها خطير، وإنه لمن العبث أن ندعي أنه بياض بلا سواد، ونقاء بلا شوائب، لكن أيضاً من الظلم البين أن نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام؛ فالإسلام دين لا ثغرة فيه ولا خطأ ولا عيب، فهو دين محكم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى الحكيم الخبير، ومن خالف دين الإسلام من المسلمين فوباله على نفسه وليس على الإسلام، وكثيراً ما يخالف الناس فتحدث هنات وسقطات، لكنه في تاريخ المسلمين ما تلبث أن تتبع بقيام إذا ثاب المسلمون إلى رشدهم وعادوا إلى دينهم، وإلا استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين الصابرين الطاهرين.
هذا هو التاريخ الإسلامي، ومع كل هذا القدر لهذا التاريخ العظيم هنا وقفة وسؤال:
هذه الثروة الثمينة وهذا الكنز العظيم ثروة التاريخ الإسلامي الطويل من من البشر في زماننا أمناه على هذه الثروة؟
من من البشر أعطيناه مفاتح الكنوز التاريخية لينقب فيها ويستخرج كنوزها؟
من من البشر سلمناه آذاننا وعقولنا وأفئدتنا ليلقي عليها ما استنبطه من أحكام وما عقله من أحداث؟
عجباً لأمتنا لقد أعطت ذلك لحفنة من الأشرار، أعطت ذلك لطائفة من المستشرقين وطائفة من المفتونين بهم من أبناء المسلمين، فهؤلاء تسلموا كنز التاريخ؛ تسلموه لينهبوا أجمل ما فيه، ثم يغيرون ويبدلون ويزورون، فيخرج التاريخ إلينا مسخاً مشوهاً عجيباً، فتقطع حلقة المجد، وينفصل المسلمون في حاضرهم عن ماضيهم كما تنفصل الروح عن الجسد تماماً بتمام.
وقد انتبه بعض شباب المسلمين فوجدوا بين أيديهم سجلاً حافلاً من الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات، وجدوا صفحات سوداء تتلوها صفحات أسود، واحتار الشباب في تاريخهم أيمسكون على هون أم يدسونه في التراب؟ فويل ثم ويل لمن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم، وويل ثم ويل لأبناء المسلمين الذين فتنوا بمناهج العلمانية فصاغوا التاريخ صياغة مشوهة مزورة محرفة، فحرموا المسلمين من أمثلة عملية تطبيقية رائعة لكل أمر من أمور الدين، وويل ثم ويل لمن يقدر على التصحيح والتعديل فلم يفعل، ولمن يقدر على التوضيح والتبيين فلم يفعل، ولمن يقدر على النصح والإرشاد فلم يفعل.
يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
سبحان الله! إلى هذه الدرجة، من سمع طعناً في الصحابة أو في الصالحين من الأمة ثم لم يرد كان كمن كتم ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ نعم، لأنه كيف وصل إلينا ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يصل إلينا إلا عن طريق الصحابة والتابعين وتابعي التابعين؟
فإذا طعن في هؤلاء دون توضيح لحقيقتهم الطاهرة لم يقبل ما يأتي عن طريقهم أبداً، وهذا هدم للدين بالكلية.
إذاً: تزوير التاريخ أمر خطير مروع، يحتاج إلى وقفات ووقفات ووقفات، ولا ينفي هذا أن هناك جهوداً مشكورة ومشكورة جداً قام بها رجال مخلصون وعلماء أجلاء من علماء المسلمين، ونحن في هذه المحاضرات ننقب سوياً عن هذه الجهود، ونحلل ونفسر ونوضح على ضوء ما فعله علماؤنا المخلصون.
ولقد اخترت حدثاً هاماً جليلاً عظيماً من أحداث التاريخ الإسلامي، آثرت أن أفرد له مجموعة من المحاضرات حتى ندرسه ونفقهه ونحلله، ثم نتحرك به خطوات -إن شاء الله- إلى الأمام، هذا الحدث الجليل هو استخلاف الرجل الجبل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاحظوا أنني أقول: استخلاف أبي بكر الصديق فقط، ولا أقول: إني سأتحدث عن خلافة أبي بكر الصديق ؛ فهذا حديث يطول ويتشعب.
لكني فقط في هذه المجموعة أتحدث عن قصة الاستخلاف، وكيف تم اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه خليفة للمسلمين؟ وما هي الخطوات؟ وما هي التبعات؟ وماذا حدث في سقيفة بني ساعدة؟ وماذا أثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟
والحق أني أذكر لكم أن كثيراً من الإخوة المتابعين لهذه المحاضرات قد تعجبوا من إفراد مجموعة كاملة من المحاضرات لهذا الحدث، فهم يعدونه حدثاً قصيراً بسيطاً في التاريخ؛ لأن هذا الحدث تم في أقل من يوم واحد، فيقولون: لماذا نحن سنأخذ عشرة أيام أو عشرين يوماً في شرح حدث تم في يوم واحد أو في ساعة واحدة وتاريخ المسلمين أربعة عشر قرناً من الزمان؟ يعني: على هذا نحن محتاجون إلى حوالي ألف سنة أو ألفي سنة من أجل أن نذكر التاريخ الإسلامي.
والحقيقة أننا لن نفرد مثل هذا الوقت الطويل لكل الأحداث غير هذا الحدث؛ لأن هذا الحدث في غاية الأهمية، ولماذا هذا الحدث بالذات؟ أجيب عن هذا السؤال بنقاط خمس:
النقطة الأولى: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين بصفة عامة -أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين- تعتبر من أهم الأمور التي يحرص عليها المسلمون، ويجب أن نحرص على دراستها دراسة وافية مستفيضة شاملة؛ لأنها فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي، بل هي أهمها على الإطلاق بعد فترة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الفترة تعتبر جزءاً من التشريع الخاص بالمسلمين، فإن قيل: وهل هناك تشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فيقال: إن كثيراً من الأمور استجدت في حياة المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك أمور تحتاج إلى فقه واجتهاد فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار، واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها وسارت معهم الأمة فكانت تشريعاً للمسلمين، فحدثت أمور ما كان لها شبيه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا الحدث الذي نحن بصدده، وهو اختيار خليفة للمسلمين.
ومنها: فتوحات عظام في أراض شاسعة، وما تبع ذلك من أمور، ومنها أمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها.
إنها فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء.
وهنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي رحمه الله وقال عنه: حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً أبو داود رحمه الله عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) وصدقت يا رسول الله!
فنحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير، حيث تشعبت بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج، وتعددت أمامنا الأساليب، فماذا نفعل؟ وفي أي الطرق نسير؟ وأي مناهج نتبع؟ وأي الأساليب نختار؟
استمع إلى نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ -أي: الأضراس؛ لأنها تمسك بشدة- وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
فعند تشعب الطرق عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بالطبع أمر مفهوم، لكن لماذا يضيف صلى الله عليه وسلم: ( وسنة الخلفاء الراشدين المهديين )، ولو كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يقلدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ولا يبقى مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، لكن الواقع أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم وضحت أشياء كثيرة كانت تحتاج إلى عقول ذكية وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما يفعلون ليس مقبولاً فقط، بل وشرع للأمة إلى يوم الدين.
خلاصة هذه النقطة: أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، ولابد أن يعطي له المسلمون اهتماماً خاصاً، وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في عهد الخلفاء الراشدين، ولذلك سنتحدث عنها، ثم -إن شاء الله- يليها بعد ذلك أحاديث كثيرة عن تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين بتفصيل كبير.
النقطة الثانية: التي تهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: أننا سنستخلص أحكاماً وأموراً هامة من هذه الحادثة تفيد جداً في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحاً:
ما هو معنى الشورى؟ وكيف تم تطبيقها في هذا الحدث؟ وكيف التصرف عند الاختلاف؟ وما هي طرق عرض وجهات النظر؟ ولماذا يختار رجل دون آخر لإمارة ما؟ وهناك أمور أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في مكانها إن شاء الله.
النقطة الثالثة: أن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جلل، والأصعب من ذلك غياب الوحي، وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحاً من قصة أم أيمن رضي الله عنها:
روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (قال
فالصحابة كانوا يعايشون الوحي، وتخيل معي هذا الأمر الفريد: كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل منهم: الله يقول لكم كذا، الله ينهاكم عن كذا، الله غفر لفلان، الله يحب فلاناً، الله يبشر فلاناً بالجنة، الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى.
وإذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأياً على رأي، ويعدل المسار، ويصحح الوجهة، وفجأة انقطع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله عز وجل، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا أين غضب الله وأين رضاه؟ وإذا اختلفوا فعليهم أن يختاروا رأياً دون انتظار التعديل الإلهي.
نعم وضع الله ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع الوحي والموقف بعد انقطاع الوحي.
فحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولابد أن في دراستها عبراً لا تحصى وفوائد لا تقدر بثمن.
النقطة الرابعة في أهمية دراسة حادث الاستخلاف: أنه تبعه أحداث جسام في حياة المسلمين، ما كانت لتتم لولا أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليكون خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرجل له طابع يختلف كثيراً عن كثير من الصحابة، وسنتعرف عليه -إن شاء الله- في هذه الحلقات، وستشعر كم كان الله رحيماً بالمؤمنين، ومسدداً لخطاهم لما يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة الثقيلة، مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهما على سبيل المثال: حروب الردة، وسنفرد لها -إن شاء الله- مجموعة خاصة من المحاضرات بعد أن ننتهي من هذه المحاضرات، وسترون فيها أنه لولا أبي بكر الصديق لما ثبت المسلمون في فتنة الردة العظيمة.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: والذي نفس أبي هريرة بيده! لولا الصديق استخلف لما عبد الله في الأرض.
ومنها على سبيل المثال أيضاً: الفتوح الإسلامية العجيبة لدولتي فارس والروم، إنها أحداث من العجب أن تتكرر على هذه الصورة إلا بقيادة مثل قيادة أبي بكر الصديق ، وقد يكون من السهل على من تبعه من خلفائه أن يقوموا بالفتوح من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق، لكن يبقى الأثر أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسن سنة حسنة تبعه فيها الآخرون.
فحادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه الأحداث الجسام، ولابد أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامة على هذه الأحداث العجيبة.
النقطة الخامسة والأخيرة في أهمية دراسة هذا الحدث الخطير: أنه كثر طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذه العملية الهامة، فلم يتركوا أحداً، وطعنوا في كل الرموز الإسلامية العظيمة، وأظهروا الأمر على أسوأ ما يكون، فطعنوا في أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح وعائشة وسعد بن عبادة وزيد بن ثابت وأبي هريرة والسيدة فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، بل طعنوا في علي بن أبي طالب في صورة الثناء، وذموه في صورة المدح، وطعنوا في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في معظم -أو قل: في كل- صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة الأمر: أنهم أخرجوا لنا صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال وخير القرون، فإن كانوا هم كذلك كما يقولون فأي خير يرتجى فيمن جاء من بعدهم؟
وأخطر من ذلك: إن كانوا هم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟ وكيف نقبل باجتهادهم؟
فالمستشرقون بذلك يضربون الدين في عمقه، ويدمرون الإسلام في أصوله، وهذا الكلام ليس تاريخاً قديماً فعله بعض المستشرقين في السابق، والحال الآن غير كذلك، بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في الجامعات المتخصصة التي تدرس التاريخ، سواء في الجامعات المحلية أو في الجامعات الغربية التي تفتح فروعاً في البلاد الإسلامية، وبالطبع يردد أيضاً بكثرة في الجامعات الغربية في خارج الأقطار الإسلامية؛ وذلك لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.
وهنا وجب علينا أن ندفع هذه الشبهات، وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث التي تمت بخصوص قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
لهذه الأسباب مجتمعة فإننا نستعين بالله في شرح هذا الحدث، وسنتبعه بغيره إن شاء الله؛ فتاريخ المسلمين بحق بحر لا ساحل له.
لكي نفهم هذا الحدث الكبير ولكي نستوعب اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين لابد أن ندرس في البداية شخصية هذا الرجل النادر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولابد أن نفرد بعض المحاضرات لنعرض لطرف بسيط في حياته، فنحن لا نستطيع أبداً أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية هذا الرجل العملاق الفذ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإنما نحن فقط كما يقولون: نغلق الباب وننظر على استحياء لنعرف من هذا، وما هي مفاتيح الشخصية عند هذا الرجل العظيم، وما سر هذه الرؤية الواضحة عنده في كل الأمور، وما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وفي آخرته.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصية عجيبة جمعت بين طياتها الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطة والفطنة، شخصية عجيبة جمعت كل ذلك وأضعافه من فضائل الأخلاق والطباع، وهبه الله عز وجل حلاوة المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظرة، وصلابة العزيمة، كل هذا وغيره وليس بنبي، إن هذا لشيء عجاب!
واستمع إلى رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في هذه الشخصية، شخصية أبي بكر الصديق ، فقد دار حوار لطيف بين محمد بن علي بن أبي طالب المشهور بـمحمد ابن الحنفية وبين أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، أخرج هذا الحديث البخاري رحمه الله.
قال محمد بن علي بن أبي طالب يسأل أباه علي بن أبي طالب : قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر ، قلت: ثم من؟ قال: عمر ، وخشيت أن يقول: عثمان .
فهو يعلم قدر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وأن علي بن أبي طالب يتبعه، فقال: وخشيت أن يقول: عثمان ، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
وهذا تواضع كبير من سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورضي عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
ترى كيف تكون شخصية هذا الرجل الذي هو خير الناس في المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله
في هذه المجموعة لا نريد دراسة أكاديمية لحياة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، بمعنى: تاريخ حياته منذ الميلاد إلى أن مات، وإنما سندرس الشخصية بالبحث في مفاتيحها، وأحب أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا الرجل العظيم، وكيف سهل عليه فعل هذا الخير كله؟ وكيف وصل إليه؟ وكيف حافظ عليه؟ ثم هل من سبيل بعد معرفة هذا التاريخ إلى أن نقلده فيما فعل، ونصل إلى ما إليه وصل؟
سنحاول في هذه المجموعة أن نضع أيدينا على هذه النقاط التي جعلت من أبي بكر الصديق أبا بكر الصديق.
بتحليل شخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجدت أنه يتميز عن غيره في جوانب كثيرة لعل من أهمها أربعة أمور، من هذه الأمور الأربعة تنبثق معظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه:
الصفة الأولى: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أردنا أن نصل إلى ما وصل إليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه أو إلى جزء منه فعلينا بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـالصديق أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً خالط لحمه ودمه وعظامه وروحه، حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ من تكوينه، والصحابة جميعاً أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً عظيماً فريداً، ولكن ليس كحب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه أحبه الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعاً.
روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد : (إن
وفي رواية: (إن
إذاً: هذا الرجل كان أشد الناس إيماناً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحب المتناهي له دليل من كل موقف من مواقف السيرة، ولو تتبعت رحلة الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لرأيت حباً قلما يتكرر في التاريخ.
وتعالوا نقلب بعض الصفحات في حادث واحد من أحداث السيرة النبوية، إنه حادث الهجرة إلى المدينة المنورة، ثم سنتبعه بأحداث في مواقع أخرى من هذه المحاضرات.
لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر الصديق في ساعة لم يكن يأت إليهم فيها كان أول ما قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: (فداء له أبي وأمي، والله! ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر) يعني: هناك أمر خطير جاء برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة، فإنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يأتي الصديق في هذا الوقت في الظهيرة.
ولما أخبره صلى الله عليه وسلم بأمر الهجرة قال أبو بكر الصديق بلهفة: (الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، الصحبة).
فماذا كان رد فعل أبي بكر الصديق لما علم أنه سيصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اسمعوا إلى السيدة عائشة تروي هذا الحدث، جاء في صحيح البخاري عنها رضي الله عنها أنها قالت: (فوالله! ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت
وهنا نقطة أخرى من نقاط الهجرة، وهي عند الوصول إلى غار ثور، (ولما انتهيا إلى الغار قال
ونقطة أخرى من نقاط الهجرة الجميلة: روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: (ارتحلنا من مكة فسرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة)، يعني: ظلا ماشيين طول الليل وفترة الصباح حتى جاء الظهر، فـالصديق يريد أن يجد مكاناً ظليلاً يأويه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الصديق : (فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا صخرة أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته بيدي) يعني: كنس تحت الصخرة بيديه، قال: (ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله! فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدًا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا -يعني: يريد الظل- فسألته فقلت له: لمن أنت يا غلام؟! قال: لرجل من قريش سماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: فهل أنت حالب لبناً، قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار) يعني: ينظف الضرع؛ لأن هذا اللبن سيذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيريد أن يكون في أحسن صورة.
قال: (ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال: هكذا -ضرب إحدى كفيه بالأخرى- فحلب لي كثبة من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: وضع اللبن في إداوة وذهب بها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فوجده نائماً، قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه) فاستمر واقفاً رضي الله عنه وأرضاه بجانبه إلى أن استيقظ صلى الله عليه وسلم، قال: (فوافقته استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله)، يعني: صب من الماء حول الإناء الذي فيه اللبن من أجل أن يبرد اللبن، فقلت: (اشرب يا رسول الله! فشرب حتى رضيت) يعني: أن شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضي أبا بكر الصديق ، وارتواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال: (ثم قال: ألم يئن الرحيل؟ قلت: بلى. فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير
نقطة أخيرة من نقاط الهجرة وليست الأخيرة من نقاط الصديق رضي الله عنه وأرضاه:
أخرج الحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ومعه
فهل كان هذا الحب من طرف واحد؟ كلا والله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) فلأن أبا بكر الصديق أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحب الذي فاق كل حب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفع مكانته في قلبه فوق مكانة غيره من الصحابة ومن الناس أجمعين.
روى الشيخان عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل)، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على رئاسة هذا البعث أو هذا الجيش، فـعمرو بن العاص يظن أنه ما دام قد أُمِّر على هذا الجيش فهو أحب الخلق إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟!) وهو يظن أنه سوف يقول له: أنت، قال: (أي الناس أحب إليك؟ فقال:
وهنا سؤال: هل كان يرغم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه نفسه على هذا الحب؟ وهل كان يشعر بألم في صدره عندما يقدم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حب ماله أو ولده أو عشيرته أو تجارته أو بلده؟ ممكن أن يظن بعض الناس أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه متعب بسبب هذا الحب الذي تتبعه تكاليف وتبعات، لكن أبداً والله! فقد انتقل الصديق من مرحلة مجاهدة النفس لفعل الخيرات إلى مرحلة التمتع والتلذذ بفعل الخيرات، انتقل إلى مرحلة حلاوة الإيمان التي ذاقها رضي الله عنه وأرضاه في قلبه وعقله وكل كيانه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي وراه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) وهذه هي حالة الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار).
كل الناس يقولون: نحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أهلنا ومالنا وأنفسنا، وطبعاً الكلام سهل جداً، لكن أين الدليل؟ ما هو الدليل أنك فعلاً تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسك ومالك وأهلك؟
هذا الحب الفريد الذي كان عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاده إلى شيئين عظيمين يفسران كثيراً من أعمال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في التاريخ، وهذه علامات الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذان الشيئان هما:
الشيء الأول: اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقين دون جدال ولا نقاش ولا تنطع.
الشيء الثاني: الاتباع الكامل له صلى الله عليه وسلم في كل ما قاله أو نهى عنه صلى الله عليه وسلم، فما نهاك عنه فانته، وما أمرك به فائت منه ما استطعت، قال عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
تعالوا نرى هذا اليقين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاتباع لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياة الصديق :
أولاً: اليقين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33].
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في هذه الآية كما جاء في القرطبي : الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وطبعاً الآية عامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالصدق وكل من صدق به هو من المتقين، لكن يقول علي بن أبي طالب : إنها نزلت في الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ونحن نجد أن حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه ما هي إلا تصديق مستمر متصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شك لحظة فيما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان بحق الصديق .
ومن المؤكد أنه ليس عفوياً أو اعتباطياً أن الصديق سمي بـالصديق ، إذ نجد هذا التصديق في حياة الصديق من أول يوم عرض عليه فيه الإسلام، وعرض الإسلام على أبي بكر الصديق حدث لابد أن نقف معه وقفات ووقفات، فكيف قبل الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل، وأن يترك دين الآباء والأجداد هكذا بمنتهى السهولة؟ وكيف قبل أن يخالف الناس أجمعين ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنه أمر عجيب! لابد أن يلتفت إليه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا
وسنأتي -إن شاء الله- في محاضرة لاحقة إلى تحليل هذا الإسلام المبكر للصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن هناك حادث يشير فعلاً إلى يقين الصديق بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشير إليه بوضوح، إنه حادث الإسراء.
أخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء المشركون إلى
انظر إلى رد فعل الصديق قال: (أوقال ذلك؟ -أي: هل قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟- قالوا: نعم، قال: لقد صدق) صدقه هكذا حتى دون أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستوثق منه، ثم يعطي التبرير لمن يستمع له، يقول: (إني لأصدقه بأبعد من ذلك؟ بخبر السماء غدوة وروحة) يعني: أصدقه أنه ينزل عليه ملك من السماء ثم يعود في طرفة عين، فانظر إلى المنطق الرائع وانظر إلى توابع تصديق هذا المنطق في حياة المسلمين لو كل المسلمين فعلاً يصدقون بكل ما قاله صلى الله عليه وسلم دون جدال ولا نقاش ولا تنطع.
ويقال: إنه لأجل هذه الحادثة سمي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بـالصديق .
والثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي سمى أبا بكر بـالصديق ، روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً و
بل في رواية الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة رحمه الله أن الذي سماه بذلك هو الله عز وجل.
قال النزال بن سبرة : (قلنا لـ
هذا اليقين بصدق ما قال صلى الله عليه وسلم يفسر لنا أيضاً موقفاً عجيباً من مواقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو موقف إعلان الحرب على الفرس فور الانتهاء من حروب الردة، هذا والله! من أعجب مواقف التاريخ إن لم يكن أعجبها على الإطلاق، وتعالوا كذا نحسبها بحسابات المادة البشرية.
دولة المسلمين دولة ناشئة لا تشتمل إلا على جزيرة العرب فقط، والدولة ليس لها تاريخ في الحروب النظامية، فدولة المسلمين ما هي إلا مجموعة من القبائل جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أعوام قلائل، والدولة خارجة من حروب أهلية طاحنة هي حروب الردة الشديدة، والتي ارتدت فيها كل جزيرة العرب، باستثناء ثلاث مدن وقرية: مكة والطائف والمدينة المنورة وقرية تسمى قرية هجر في البحرين.
والفرس على الجانب الآخر دولة تقتسم العالم مع دولة الروم، أي: أنها إحدى الدول العظمى في العالم في ذلك الوقت، وتاريخ الفرس قديم في الحروب النظامية، وجيوش الفرس تجاوز الملايين، والمسلمون لما كانوا يفتحون بلاد الفرس كان أقل جيش يقابلهم (60.000) عدة مرات، وفي القادسية كانوا (240.000)، والجيش الإسلامي المعد لحرب الفرس لم يكن يتجاوز الـ(10.000) ووصلوا إلى ( 18.000) عند اكتمال العدة، وهو عدد لا يمثل قوة مدينة واحدة من مدن الفرس، كل هذا وغيره ويأخذ الصديق هذا القرار العجيب بالتوجه لفتح هذه البلاد.
ومن أجل أن تفهم هذا القرار ادرس الموقف في ضوء اليقين الذي تحلى به الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
الأمر الأول: رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بغلبة هذا الدين بصفة عامة على كل الأمم، والأحاديث أكثر من أن تذكر في هذا المجال، لكن على سبيل المثال نذكر ما جاء في صحيح مسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض ورأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) وليس فقط الدعوة التي ستبلغ، بل سيبلغ ملك المسلمين، والصديق يعرف ذلك، ويعرف أن ملك المسلمين سيصل إلى فارس وإلى غير فارس.
الأمر الثاني: أن الصديق سمع البشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر تخصيصاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمشركي قريش وكان فيهم أبو جهل : (أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم) والعجم في ذلك الوقت هم الفرس والروم، (فقال
فـأبو بكر كان قد قال كلمة لا إله إلا الله، وسبق بها، وعمل بها، وجيش أبي بكر كذلك، قال الكلمة وصدق بها وعمل بها فلماذا لا ينصر؟ بل العجب كل العجب ألا ينصر؟
الأمر الثالث: أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه قد سمع بشارة أكثر تخصيصاً من تلك التي سبقت، فقد كان مع المسلمين في حفر الخندق في الأحزاب يوم اعترضت المسلمين صخرة كبيرة فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربها وكان مما قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر، أعطيت فارس، والله! إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن) وهذه بشارة في منتهى الوضوح أن أمة المسلمين ستعطى فارس.
الأمر الرابع: أن الصديق رأى بعينه وسمع بإذنه هو دون بقية الصحابة ما حدث في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة من أمر سراقة بن مالك ، ورأى أقدام فرس سراقة تسوخ في الرمال، ثم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـسراقة : (كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟) فالرسول عليه الصلاة والسلام يبشر سراقة وسراقة كان حياً في خلافة الصديق وفي خلافة عمر بن الخطاب بعد ذلك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بشرى فتح فارس ستكون قريبة جداً حتى يلبس سراقة سواري كسرى.
الأمر الخامس: الصديق حضر بنفسه مباحثات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بني شيبان في مكة، وذلك لما رفض بنو شيبان الدعوة الإسلامية لأنهم اشترطوا شرطاً ألا ينصروه إذا حارب الفرس فإنهم ليست لهم طاقة بحرب الفرس قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع ذلك أبو بكر الصديق : (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً) ولبعثوا قليلاً فعلاً، يعني: حوالي (20) سنة، و(20) سنة في عمر الأمم تعتبر قليلة، قال: (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم -يقصد بذلك الفرس- أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقالوا: لك ذلك).
الأمر السادس أكثر من ذلك: حدث من الصديق رضي الله عنه ما يذهب العجب منك عندما تعلمه، فإنه في أوائل الفترة المكية نزل القرآن الكريم بمقدمات سورة الروم وفيها: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:1-4]، وكان هذا إخباراً بما حدث من هزيمة الروم، وبما سيحدث من انتصارهم لاحقاً على الفرس.
فذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يذكر ذلك للمشركين يغيضهم به؛ وقد كان المسلمون يفرحون بنصر الروم؛ لأنهم أهل كتاب، بينما كان يفرح المشركون بنصر الفرس؛ لأنهم وثنيون مثلهم، فقال أبو بكر بيقين: ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا، فصاح به أبي بن خلف الجمحي : كذبت قال الصديق رضي الله عنه: أنت أكذب يا عدو الله! قالوا: هل لك أن نقامرك؟ فقامروه على أربع قلائص إلى سبع سنين، يعني: أربع من الإبل إلى سبع سنين، وطبعاً لم يكن القمار حراماً لما فعل ذلك الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فمضت السبع ولم يكن شيء، يعني: أن الروم ما انتصرت على الفرس، ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بضع سنين عندكم؟ قالوا: دون العشر، قال
إذاً: هل يوقن الصديق بنصر النصارى على الفرس ولا يوقن بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر المسلمين على الفرس وغيرهم؟ أبداً والله! هذا لا يكون، فـالصديق فعلاً كان يوقن يقيناً تاماً كاملاً أن الله سينصره على الفرس وعلى غيرهم، فرضي الله عن الصديق ، ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
كانت هذه بعض المواقف التي دلت على يقين الصديق في صدق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مواقف قليلة من تاريخ طويل للصديق ، ويبقى لنا أن نذكر مواقف تدل على حسن اتباعه لما أمر صلى الله عليه وسلم والبعد عما نهى عنه وزجر، لكن هذا حديث قد يطول، أؤجله إلى اللقاء القادم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر