إسلام ويب

سلسلة الدار الآخرة الجنة وعباد الرحمن [1]للشيخ : عمر عبد الكافي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم الجنة وما يقرب إليها من الأعمال، وذكر النار وما يسبب دخولها من الأعمال، وذكر صفات أهل الجنة للتحلي بها، وصفات أهل النار لترك الاتصاف بها، وإن من صفات أهل الجنة صفات عباد الرحمن التي ذكرت في آخر سورة الفرقان، تلك الصفات العجيبة التي لا يتصف بها إلا أهل الصبر.

    1.   

    الأسباب الحاجبة للسعادة

    نحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثامنة والعشرون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة السادسة في الجنة.

    اللهم اجعل الجنة مآلنا يا رب العالمين، اجعل اللهم جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً.

    لا تجعل لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا رددته لأهله غانماً سالماً.

    اللهم ارزقنا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً، أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، اجعل اللهم الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، تعلم أننا مقهورون فانصرنا، أذلون فأعزنا، تائهون فأرشدنا، مشتتون فاجمعنا، أصحاب شهوات فتب علينا.

    اللهم تب علينا من الذنوب كبيرها وصغيرها، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.

    انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك، اللهم عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك، إن لم نكن أهلاً لرحمتك فرحمتك أهل أن تصل إلينا، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، نسألك يا رب رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، لا تحرمنا من النظر إلى وجهك الكريم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يا رب تسليماً كثيراً.

    هذه هي الحلقة السابعة في الجنة إن شاء الله، وقد عشنا حلقات ست قبل هذه الحلقة، ورأينا كيف أن العبد يحاول أن ينال رحمة الله عز وجل، فرحمة الله ونوالها بأسباب ومسببات، فإن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء سبباً، هذه سنة الله في خلقه، فجعل مثلاً الأكل سبب الشبع، شخص يمرض يذهب للطبيب فيكتب له الدواء، ولكن الشبع والري والشفاء والتيسير كله بيده سبحانه.

    ومن أراد سعادة الدارين فهناك أسباب جعلها الله تجلب لك السعادة في الدنيا والآخرة، ومن أجل أن تبحث عن الأسباب الجالبة لسعادة الدارين فابحث أولاً عن الأسباب الماحقة لسعادة الدارين، اللهم اجعلنا من سعداء الدارين يا رب العالمين!

    هناك أسباب ثلاثة تحجب قلبك عن الله عز وجل، والعياذ بالله، اللهم لا تحجب قلوبنا عنك يا رب!

    أول سبب: الفرح بالموجود، والحزن على المفقود، والسرور بالمدح، هذه الثلاثة التي تجعل بينك وبين الله حجاب، أو تمنع نور الإيمان أن يغشى قلبك، أو أن يتسرب إلى قلبك، أو أن يتشربه قلبك.

    الفرح بالموجود

    أول سبب: الفرح بالموجود، وهو أن تفرح بالشيء الذي في يدك، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص؛ لأن سبب طرد أبينا آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض أنه كان حريصاً، قال الله له: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] فكان حريصاً على أن ينتقل من حال إلى حال، إما أن يكون ملكاً، وإما أن يخلد في الدنيا، وهذا الثاني حرص على الحياة، أما الحرص الأول على أن يكون ملكاً فهو حرص جيد.

    لكن إبليس أقسم لأبينا آدم: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] وقلنا قبل ذلك إن ابن آدم قال لأبيه: يا أبت! كيف تطيع الشيطان وتعصي الرحمن؟ قال: يا بني! والله ما ظننت أن أحداً يقسم بالله كاذباً، وقد ذكر الله الشهوات في آل عمران: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14]، فعدد الشهوات الخمس التي كلنا نريدها ونغرق فيها، هكذا يفرح الإنسان بالموجود.

    الحزن على المفقود

    السبب الثاني الحزن على المفقود:

    ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي

    ولكنا إذا متنا بعثنا لنسأل بعدها عن كل شي

    الكارثة أن الدنيا ليست النهاية، فالإنسان منا يحزن بعد الفرح، فعندما يفقد العافية يحزن، فإذا حزن فهو ضعيف الإيمان؛ لأن الحزن على المفقود دليل ضعف اليقين عند العبد، فلا تحزن إلا إذا رأيت نفسك بعيداً عن الله، ويكون ذلك بأن تعصيك جوارحك فلا تستطيع أن تسيطر عليها، ولا أن تتحكم فيها، فعيناك مثل برج المراقبة، تتطلعان في الذاهب والآتي، والذاهبة والآتية، وأذناك تسمعان الفكاهات والأغاني والموسيقى، والغيبة والنميمة، والكلام السيئ، والخوض في أعراض الناس، ولسانك يخوض في الأعراض، ويسب ويلعن، وقلبك لست قادراً على أن تسيطر عليه من الحسد والكبر والحقد والضغينة، ويدك ليست قادرة على أن تتوب عن الاختلاس والرشوة، والامتداد إلى ما حرم الله، ومصافحة النساء، ورجلك لا تقدر أن تقصرها عن الذهاب إلى أماكن اللهو واللعب وأماكن البعد عن الله سبحانه وتعالى، يعني: تخيل الناس الذين يقعدون في الأستاد ينفعلون مع الكرة، تجده يأتي منفعلاً، ويذهب منفعلاً، ويضرب على دماغه، وربما تأتي له سكتة قلبية، ولو مات في الأستاد فإنه يسمى: شهيد الكرة، فأين يذهب من الله؟! سوف يبعث يوم القيامة يحيي، يحيي من؟! ويهتف لمن؟!

    لذلك عرفنا التقوى في كلمة: وهي ألا يجدك حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، مثاله: روى الترمذي في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل له ثلاثمائة نظرة إلى العبد المؤمن كل يوم، ومن نظر الله إليه نظرة فلن يعذبه يوم القيامة، إلا صاحب الشاة)، وصاحب الشاة هو الذي يلعب الشطرنج، سبحان الله! تخيل رجلاً يظل يلعب: كش ملك.. كش ملك، لمدة ثلاث أو أربع أو خمس ساعات في اليوم، يقول لك: هي تنمي الذكاء، لا إله إلا الله! لا تضيع وقتك في ما لا يرضي الله؛ ولذلك: (لاعب الشطرنج كمن يأكل لحم الخنزير والناظر إليه كالغامس يده في دم الخنزير) هذا كلام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    وهناك مصيبة ثانية وهي لعب النرد، والنرد حرام، فربنا سبحانه وتعالى عندما ينظر إلي نظرة وأنا جالس ألعب شطرنج وألعب النرد وأعصي الله، وجالس أمام التلفاز أخوض في أعراض الناس، وأتحدث عن هذا، وأخوض في عرض هذا، فكيف تكون النظرة؟!

    إن الله عز وجل خبأ رضاه في طاعته، وخبأ سخطه في معصيته، فربما في لحظة من لحظات الطاعة ينظر إليك الله نظرة، فيقول: إني قد رضيت عنه فلن أسخط عليه بعد ذلك، فتحصل لك السعادة في الدارين، اللهم اجعلنا منهم يا رب!

    السرور بالمدح

    السبب الثالث: أن تسر بالمدح: (احثوا في وجوه المداحين التراب)، (ومدح رجل رجلاً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قصمت ظهر أخيك) أي: كسرته؛ لأن العبد منا يريد المدح والثناء، وبعض المسئولين في الدول المتخلفة عندما يلتقي بعضهم مع بعض كل واحد يقول للآخر: أنت ليس أحد مثلك! وبدونك سنضيع! فيقول في نفسه: أنا عمر بن الخطاب أنا علي بن أبي طالب أنا ليس أحد أفضل مني، ويبدأ يمدح نفسه.

    فيقول صلى الله عليه وسلم: (احثوا في وجوه المداحين التراب)، ولذلك إذا أردت أن تمدح أخاك المسلم فقل: أحسبه كذلك، ولا أزكيه على الله، كان سيدنا أبو بكر يمدحه سيدنا عمر نفسه ويقول: يا ليت لي يوم وليلة من أيام وليالي أبي بكر ! قالوا: ما هي الليلة وما هو اليوم؟ قال: أما اليوم فيوم الردة، حيث وقف وحده وقال: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة. والليلة الثانية: يوم أن بات مع الرسول في الغار أيام الهجرة.

    ولذلك عندما كان يصله المدح رضي الله عنه يقول: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون. وهذا تواضع منه، فهذه عظمة الصديق تلميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك عندما نأتي لنذكر مثل هذه القصص وإن كانت معادة لكنها تشرح الصدور، نحن أتينا من بيوتنا ومن شغلنا فمنا من صدره ضيق، ومنا من أغضبته امرأته، ومنا من رفع عليه قضية، نسأل الله أن يجعل شرح صدورنا في بيته، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

    قال عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين: يا معشر صحابة رسول الله! ليتمن كل واحد منكم أمنية، قال أولهم: أما أنا فأتمنى جبلاً مثل جبل أحد من الذهب والفضة كي أنفقه في سبيل الله تعالى!

    وقال الثاني: أتمنى وادياً كوادي عوف مليئاً بالخيل أغزو بها في سبيل الله تعالى.

    وأنت يا أمير المؤمنين ما هي أمنيتك؟ قال: أمنية عزيزة! حيث قال: أتمنى مسجداً مثل هذا المسجد مليئاً برجال من أمثال أبي بكر الصديق . يتمنى أماني عظيمة، يتمنى مسجداً مليئاً رجال أمثال صديق الأمة هذا!

    فالمسلم يستطيع أن يقترب من الله عز وجل بأن يمنع الموانع التي تحجبه عن الله، فتحجب القلوب عن هذه الثلاثة: الفرح بالموجود، والحزن على المفقود، والسرور بالمدح.

    1.   

    أهمية مراقبة الله سبحانه وتعالى

    كذلك مراقبة العبد لله؛ ولذلك ربنا يقول: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] جنة لأنه رجا رحمة الله، وجنة لأنه خاف من عقاب الله: (ولمن خاف مقام ربه)، مقام الله هل هو مثل مقام سيدنا الولي؟ لا، مقام الله: كل ما أقامك الله فيه فإن الله مطلع عليك، فأنت تخاف في كل مقام أن يراك الله على معصية، فهو ناظر إليك في كل وقت وحين، لا يراك على معصية؟ لأن أعمالنا تعرض على الله عرضين في اليوم، وعرض أسبوعي، وعرض سنوي، كيف؟

    سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم وجده الصحابة يكثر من صيام يومي الإثنين والخميس، فقالوا له: لماذا يا رسول الله؟ الدراويش الذين لا يعرفون علم الحديث يقولون لك: يوم الإثنين هذا يوم ولد فيه المصطفى، فالدرويش يقول لك: هذا دليل على أنه كان يحتفل بيوم ميلاده.

    قيل لـعمر بن الخطاب : مالك تلبس ثياباً مقطعة؟ ومالك تأكل العيش والملح؟ قال: لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمه وجلوازه -الجلواز: العسكري- إن شاء أرسلني أرسلني، وإن شاء غمدني غمدني، جاعله مثل السيف، حتى قبض وهو عني راضٍ وأنا بذلك أرضى، ثم جاء من بعده أبو بكر فكنت خادمه وجلوازه إن شاء أرسلني أرسلني، وإن شاء أغمدني أغمدني، حتى قبض وهو عني راضٍ، وأنا بذلك أرضى، وأخاف إن بدلت أو غيرت ألا ألحق بهما في الجنة!

    دخل عمر الشام فلقيه الأمراء وأخبروه بطاعون عمواس، بلد اسمها عمواس والطاعون منتشر فيها، فاستشارهم عمر : هل نمكث أو نخرج؟ فانقسم الصحابة إلى قسمين، فبعضهم قال: توكل على الله، فما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وبعضهم قالوا: لا ندخل، يقول تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين! سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا كان بأرض ولستم بها فلا تدخلوها)، قال: صدق رسول الله، وعاد من فوره استناداً لقول الحبيب صلى الله عليه وسلم.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا فلا داعي للفلسفة يأتي قول: هل الحديث صحيح أم أنه ضعيف؟ يا أخي! العالم هو الذي يقف ويتحمل وزرك ووزر الذين وراءك، يعني: يتحمل الوزر على قنطرة تعبر بها أنت إلى الجنة ويسقط هو في قعر جهنم، العلم أمانة، ويجب أن من تولى أمر العلم وتولى تعليم الناس أن يتقي الله رب العالمين، اللهم اجعلنا من أهل التقوى يا أكرم الأكرمين!

    فلما سئل رسول الله عن صيام يوم الإثنين والخميس قال: (هذان يومان يعرض عملي على الله فيهما، وأنا أحب أن يعرض عملي على الله وأنا صائم)، وهذا هو العرض الأسبوعي.

    وهناك عرضان للأعمال في اليوم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، فملائكة الليل تسلم أعمال النهار وقت صلاة العصر بعد انصراف الإمام ثم يسأل الله الملائكة: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون، وفي صلاة الفجر: كيف تركتم عبادي؟ يقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون، قال: أشهدكم يا ملائكتي أني قبلت عبادتهم، وغفرت ذنوبهم، ورضيت عنهم).

    هذا هو العرض اليومي.

    فلا بد أن تعلم أن هناك عرضين: في اليوم، وفي الأسبوع كذلك يوم الإثنين ويوم الخميس يعرض العمل على الله سبحانه وتعالى وهو العمل الإجمالي، أما التفاصيل فإن الله يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين، يراك نائماً ويقظان، وجالساً ومضطجعاً، ومتحركاً وساكناً، ومحبوساً وطليقاً، وحزيناً وفرحاً، في كل حالة وفي كل حين، لا تخفى عليه خافية.

    كذلك في كل شهر أيام مفضلة عند الله، وهي الأيام البيض: ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، ففي نصف الشهر كذلك عرض للعمل فتصوم هذه الأيام، فيكون هذا عرضاً آخر، كذلك شعبان شهر يغفل عنه الناس -بين رجب ورمضان- تعرض فيه أعمال الأمة، وهذا عرض سنوي!

    إذاً: من أصبح وأمسى ولسانه رطب بذكر الله أصبح وأمسى وليس عليه خطيئة قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]؛ لأنك متقلب في نعم الله الثلاث التي قلنا عليها قبل ذلك، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد.

    فاللهم اشحن قلوبنا بالخير والطاعة يا رب العالمين.

    1.   

    صفات عباد الرحمن

    في يوم الإثنين الماضي قلنا: إننا قمنا بزيارة إلى عباد الرحمن، وقلنا: إن لعباد الرحمن ثلاث عشرة صفة، شرحنا منها خمس صفات.

    من صفات عباد الرحمن التواضع

    أول صفة لهم: التواضع.

    قال تعالى: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] وعرفنا ما معنى كلمة: (هوناً) وأنه المشي بالهداوة:

    سر إن استطعت في الهواء رويداً لا اختيالاً على رفات العباد

    رب قبر قد صار قبراً مراراً ضاحكٍ من تزاحم الأضداد

    فعجباً من الأخوة الذين يرفعون قضية على بعض، ومن الرجل الغاضب من أخيه، كلهم يوضع إلى جنب الآخر، وهذا مثل ما قال الرجل الشعبي لنفسه عندما ذهب يزور المقابر قال:

    ولقد قلت لنفسي وأنا بين الحفائر

    هل رأيت الأمن والراحة إلا في الحفائر؟

    فأشارت فإذا للدود عقد في المحاجر

    ثم قالت: أيها السائل إني لست أدري

    انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان

    وتساوى العبد مع رب الصولجان

    والتقى العاشق والقالي فما يفترقان

    ثم قالت: أيها السائل إني لست أدري!

    ما أعرف الحقيقة لكن يعلمها الله سبحانه وتعالى، كلهم التقوا هنا العاشق والقالي، والكاره والمحب، والفقير والغني، سبحان الله! كلهم يدفنون إلى جوار بعض، حتى الحانوتي الذي يدفن الناس فإنه سيأتي عليه يوم يدفن فيه.

    كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول

    فإذا حملت إلى شفير جثة فاعلم بأنك بعدها محمول

    يبقى الإنسان منا وهو متعظ بالله؛ لأنه سوف يأتي اليوم يحمل فيه، لذلك قال: أنا أمشي خلف الجنازة وأنا ساكت أتأمل، أقول: انظروا الرجل! كان من قبل يقفز يميناً وشمالاً، ويجمع المال من هنا ومن هنا، ويعادي من أجله، على ماذا هذا كله؟! فجأة يموت فيستريح (مستريح ومستراح منه)، انتهى الموضوع، قال تعالى: قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [يوسف:41]، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.

    من صفات عباد الرحمن الصفح عن الجاهلين

    قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].

    قلنا: إن العظمة لله سبحانه وتعالى، ثم العزة لله ولرسوله وللمؤمنين من بعد ذلك بطاعة الله، كيف؟

    إن قضية التقوى والإيمان ليست أن أصلك وتصلني، فهناك أمر أكبر من هذا: أن تقطعني فأصلك، وأن تحرمني فأعطيك، وأن تغضبني فأرضيك، وأن تجازيني فأحبك، فقد قيل للحسن البصري : يا بصري! لو قلت لي كلمة لقلت لك عشراً، والبصري نظر إليه هكذا، فقال: وأنت لو قلت لي مائة كلمة ما قلت لك كلمة!

    فهذه الكلمة كانت مصنوعة من لا إله إلا الله، ومن إيمان وتقوى، وسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم ربى الصحابة على الرمل والحصير فخرجوا رجالاً، الواحد منهم يزن أمة بأسرها، ولذلك قال أهل العلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما علم الصحابة المصحف، فإنما كتبه بمداد من نور على صحائف قلوبهم البيضاء، فكانوا جميعاً كأستاذهم قرآناً يمشي على الأرض، وكانوا كلهم عبارة عن: قال الله.. قال الرسول.. وكان عندهم حب عجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ينظر سيدنا الحبيب إلى واحد من الصحابة حديث عهد بالإسلام في يده خاتم ذهب، قال: أيعمد أحدكم إلى جمرة من نار يسور بها إصبعه؟! فأخذ هذا الصحابي الخاتم ورماه في الأرض، قال له الصحابة: خذه وانتفع به، قال: والله لا آخذ شيئاً ألقيته أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه هي الطاعة الصحيحة، قال الله: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].

    وهذا ليس كلاماً يقال فقط، وإنما سمعنا كلاماً، وأطعنا عملاً، الولد كلما تقول له: يا ولد! ذاكر، يقول لك: حاضر، يا ولد! ذاكر، يقول: حاضر، وأخيراً تغضب فتضربه لأنه لم يترجم (حاضر) إلى واقع عملي، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.

    من صفات عباد الرحمن كثرة السجود والقيام

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64].

    هذه حالة من حالات الصلاة، كان سيدنا الحبيب إذا استيقظ من الليل يذكر الله، لا يضيع ثانية واحدة، الواحد منا عندما يتقلب يقول: آه آه يا ظهري! يا أخي! يا حبيبي! تتألم حتى في الليل، اجعل الليل لله، قل: لا إله إلا الله، بدلاً من أن تقول: آه! قل: الله، أما: آه فقد تأثم بسببها، اصبر يا أخي، دخل رجل على عبد الله بن عباس يريد أن يعزيه في أبيه العباس ، عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقعد الناس يعزون ابن عباس في أبيه، فقال أحدهم:

    اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس

    خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس

    يعني: أنت عندما تصبر تأخذ ثواباً يكون أحسن لك من العباس؛ وقوله: (خير من العباس أجرك بعده، والله خير منك للعباس) يعني: ربنا أرحم العباس منك، أنت سوف تحزن عليه سبحان الله، فهكذا المؤمنون: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64] فلا تضيع وقتك، صل لله، بعض الإخوة أول ما يولد لهم ولد يقولون: نضع له خمسة جنيهات في الشهر حلال بدون فوائد، فيأتي الوقت الذي يتزوج فيه عنده ألفين أو ثلاثة آلاف جنيه على بعض، وهي شيء قليل وضع أولاً بأول سبحان الله! أنت بالله عليك عندما تعمل كل ليلة عشرين حسنة على مدى عشرين سنة، تأتي يوم القيامة ومعك كذا مليون حسنة، لأن الله عز وجل يقول: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] والسيئة بالعكس، قال صلى الله عليه وسلم: (من هم بسيئة وحجزه إيمانه عن فعلها كتبت له حسنة)، بعدما هم امتنع مخافة الله، فكتبت له حسنة، مع أنه هم بالسيئة، لكنه رجع فيها عن قصد وعزيمة.

    لو أن شخصاً ذهب يشتري زجاجة خمر فلما ذهب وجد المحل مقفلاً، أو وجدوه يغش في الخمر، فرجع، كتب عليه سيئة؛ لأن الأعمال بالنيات، لكن من ذهب يشتري فإذا به يعاتب نفسه قائلاً: بعد هذا السن تصلي وتصوم، وتعرف الله، وتحضر دروس العلم، ثم تشرب بيرة؟ لا، لا.. أستغفر الله، فهذا يأخذ حسنة، فإذا هم بالحسنة وما عملها كتبت له حسنة، فإن هم بها فعملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، اللهم ضاعف لنا حسناتنا، وتقبلها منا يا رب العالمين!

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65] وقلنا: إن الدعاء ليس بقول نظري، وإنما لا بد أن نحول هذا الدعاء إلى عمل.

    من صفات عباد الرحمن التوسط في النفقة

    قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67] سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل سيدنا عمر : (يا عمر ! ما نفقتك؟) لو سألت شخصاً سؤالاً: يا محمود! كم نفقتك؟ يا إبراهيم! كم نفقتك؟ يا أحمد! كم نفقتك؟ يقول: كل يوم ثلاثة جنيهات تقريباً.. أما سيدنا عمر فيقول: (يا رسول الله! إنما نفقتي الحسنة بين السيئتين) يعني: إذا عمل سيئة يعمل بعدها حسنة، ثم يأتي بعدها بسيئة فيعمل بعدها حسنة: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] سيدنا عمر ناصح، هذا هو الناصح! ولذلك أبشر سوف تجد في كتاب حسناتك يوم القيامة وستجد حسنات أنت لم تعملها، يقول ملك من قبل العلي الأعلى: يا عبد الله! هذه حسناتك، تقول: يا رب! أنا ما عملت شيئاً، وقد تجد قدر ألف حسنة من غيبة الذين اغتابوك، وظلم الذين ظلموك، وخيانة الذين خانوك: (لو يدري الظالم ما للمظلوم لضن عليه بظلمه) يعني: لو يعرف الظالم ما سيأخذه المظلوم من الحسنات لبخل عليه بالظلم.

    وإذا ظلمت فلا تدع على الظالم؛ لأن ظلمه أسرع إليه من دعائك عليه، وكذلك أنت عندما تدعو عليه تمحو حسناتك بالدعاء عليه؛ لأن الله يستجيب دعاءك وينتقم منه لك فهذا مقابل الحسنات؛ لأن المظلوم يقول الله له: (وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين) النصر آتٍ فما دام أن الله نصره فقد أعطاه حقه: (وأثقل شيء يوضع في الميزان جرعة غيظ يتجرعها المؤمن وهو قادر على إنفاذها).

    انظر الرسول صلى الله عليه وسلم قال (جرعة) كأنها دواء؛ لأنها صعبة ليست سهلة، جرعة غيظ يتجرعها المؤمن وهو قادر أن ينفذها، سبحان الله؛ ولذلك العفو عند المقدرة ممدوح، جاء أعرابي من اليمن، فقعد في خطبة الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سيدنا الحبيب أحياناً يقرأ سورة ق، تخيل أنت عندما تسمع سورة ق من فم الحبيب كيف يكون أثرها؟! فبعدما انتهى النبي من الصلاة وقف الأعرابي وقال: (يا رسول الله! من سوف يحاسبنا يوم القيامة؟ قال له: الله الكريم)، انظر الإجابة! لم يقل له: الله القهار، الله الجبار، الله المنتقم، مع أن هذه صفاته وأسماؤه، قال: (الله الكريم، قال: لقد أرحتني يا رسول الله، إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سامح) الكريم عندما يقدر يعفو، وعندما يحاسب يسامح، لكن انظر إلى المسرف على نفسه، الذي ليس معه ولا حسنة، يقول: تعالوا فاسحبوه إلى النار، وهو ذاهب إلى النار سيدنا جبريل يوقفه ويقول: (يا رب! هذا عبد من عبادك كان يداين الناس فيقول لغلمانه: أيسروا على المعسر) يعني: فتح الله عليه بمال وغنى فجعل يداين الناس ديون، فكان إذا أتى موعد سداد الدين يقول للموظفين: الذي لا يستطيع الدفع فاتركوه قليلاً، قال تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فيقول الله: أرجعوه إلي، فيقول: عبدي! أأنت أكرم منا؟! أدخلوه إلى الجنة.

    فلا أحد أكرم من الله، لا كريم إلا الله، ومن كرمه أنه قال لسيدنا إبراهيم عندما كان عنده ضيف كافر فرفض أن يضيفه: يا إبراهيم! رفضت أن تضيفه في ملكك ساعة، وأنا أضيفه في ملكي رغم كفره بي منذ خمسين عاماً.

    من صفات عباد الرحمن أنهم لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق

    قوله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الفرقان:68] أي: عندهم التوحيد الخالص، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68] قلنا: إن القتل نوعان:

    نوع مادي، ونوع معنوي.

    والقتل العمد لا جزاء له إلا النار: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء:93] والعياذ بالله! والذي يقتل مسلماً خطأ عليه دية، والدية مائة ألف جنيه، كشخص صدم شخصاً بسيارة فمات، يدفع لأهله مائة ألف جنيه، فإذا لم يستطع دفع أهله معه، الذين سوف يرثون منه إلا أن يعفو أهل القتيل، فإذا لم يجد مائة ألف جنيه دية يصوم شهرين متتابعين.

    وهذا الكلام للمرأة التي أجهضت سواء بأمر زوجها أو برأيها أو برأي الطبيب الذي ليس بمسلم لمجرد أنها ذهبت إليه وقالت له: عندي ثلاثة عيال، وعندي غرفة وصالة ومرتب قدر ستين جنيهاً فتأتي بالمقدمة من أجل أن تعمل إجهاضاً، فهذا حرام، وقتل للنفس المحرمة، السادة العلماء الذين علمونا الفقه أفتوا ألا نقدم على هذا الفعل إلا بفتوى من طبيب مسلم ماهر، يعني: يكون معروفاً ومشهوداً له بالكفاءة والأمانة، بأن يكون دكتوراً ناصحاً مسلماً يتقي الله، فتعرض عليه الحالة، فإذا كان فيها ما يسبب هلاكاً على الأم، أو هلاكاً على الجنين، أو خطراً على الاثنين فهذا لا بأس فيه بإسقاط الجنين فنعمل في ساعتها بفتوى الطبيب المسلم.

    قال تعالى: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي [الفرقان:68] فالآيات في السورة أتت أولاً بصفات الإيجاب التي هي: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:63-65]، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].

    ثم قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الفرقان:68] فبدأ بأول النهي وهو: لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الفرقان:68] فأهل العلم يقولون بدأت الآيات أولاً بصفات التحلي، ثم ختمت بصفات التخلي، ما معنى صفات التحلي، وصفات التخلي؟

    أي: التحلي بمكارم الأخلاق، والتخلي عن سيئ الأخلاق، والتحلي يكون بالصفات الطيبة: الأول: (يمشون على الأرض هوناً) .. (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) .. و(يبيتون لربهم سجداً وقياماً) تأتي بعدها صفات التخلي: (لا يدعون مع الله إلهاً آخر) .. (لا يقتلون النفس) .. (لا يزنون) إلى آخر الآيات الباقية.

    فالقتل نوعان: قتل مادي، وقتل معنوي، فأنت عندما تدخل الكآبة والحزن على أخيك المسلم أو على زوجتك أو على عيالك والعياذ بالله فقد قتلتهم، ويحاسبك الله يوم القيامة على أنك قاتل؛ ولذلك الصراعات الموجودة على العمل وعلى المناصب يحصل فيها ذلك، هذا يريد أن يبقى مديراً، والثاني يريد أن يبقى عضو مجلس الإدارة، وهكذا فيطعن هذا في هذا، وهذا ينزل على هذا، فهذا قتل معنوي، والله عز وجل ينهانا أن نقتل أنفسنا، وقتل النفس هنا بإماتتها عن طاعة الله، وبإقبالها على معصية الله والعياذ بالله رب العالمين!

    قوله: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68] ولذلك يجب على المسلم أن يدرس تاريخ الإسلام وأن يدرس الفقه الإسلامي من أجل أن يعرف الصحيح من الخطأ.

    سبعة من أهل اليمن قتلوا شخصاً في زمن سيدنا عمر ؛ فقتل سيدنا عمر السبعة، فقالوا له: لماذا يا أمير المؤمنين تقتل سبعة بواحد؟! قال: لو اجتمع عليه أهل صنعاء لقتلت أهل صنعاء جميعاً، والقانون الوضعي يقول لك: هذا عبارة عن محرض وهذا مساعد.. إلخ، فيكون عقابه خمس سنين، وهذا سبع سنين، وهذا عشر، وهذا سجن تأبيد، وهذا ثلاثة عشر عاماً، مع أن الكل شاركوا في القتل والعياذ بالله رب العالمين؛ ولذلك أين يذهب الذين قتلوا علماء المسلمين من الله يوم القيامة؟! سبحان الله، فمن قتل أهل العلم، ومن يحملون رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قتل الضعفاء والمساكين الذين لا ناصر لهم إلا الله عز وجل، أين سيذهبون يوم القيامة؟ يقول لك: هذا مات منتحراً، وهذا مات فجأة كيف؟! أيعقل أن حافظ القرآن يموت منتحراً؟! هذا ليس ممكناً، أكبر نعمة ينعم الله بها على العبد أن يعرفه كتابه، الذي يحفظ كتاب الله ليس من الممكن أن يتهموه بالانتحار، ولذلك ما عذب إنسان ظالم مسلماً أو عالماً أو ملتزماً فإنه يموت فيرى العذاب أكثر.

    والله الذي لا إله إلا هو لقد كان هناك رجل مدير أحد السجون، وكان يجعل المسلمين الملتزمين والعلماء في الستينات يمشون أمامه منحنين لأظهرهم وواضعين أيديهم وراءهم، مكبلة في الأغلال، وربنا رزقه بولد والله أراه في الشارع فأرى آية الله عز وجل، وقد بلغ عمر الولد هذا ثلاثين سنة اليوم، هذا الولد عنده مرض عصبي لا يتزن إلا إذا انحنى ووضع يديه خلفه، والجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان، مثل ما تعمل بالناس يعمل بك في أي شيء، في النظرة إلى الحرام أو إلى محارم الناس يأتي ربنا بمن ينظر إلى محارمك أنت، الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول:

    عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم

    من يزن في قوم بألفي درهم في أهله يزنى بربع الدرهم

    من يزن يزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم

    إن الزنا دين فإن أقرضته كان القضا من أهل بيتك فاعلم

    من صفات عباد الرحمن ترك الزنا

    قال تعالى: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68] والعياذ بالله!

    فساعة ارتكاب المعصية والزنا يغادرك الإيمان، ويبتعد عنك؛ لأنه (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، فوقت ما يزني العبد ولو كان مؤمناً ما كان ليعمل هكذا؛ ولذلك الجوارح تأتي بالمقدمات: (إن العين لتزني وزناها النظر، وإن الأذن لتزني وزناها السمع، وإن اللسان ليزني وزناه السلام، وإن اليد لتزني وزناها اللمس، وإن الرجل لتزني وزناها المشي إلى ما حرم الله، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فيا مرتكب الفاحشة إلى أين ستذهب من الله؟

    مما أعجب له مسائل الاغتصاب التي انتشرت في السنوات الأخيرة في مصر، وكانت جديدة على مجتمع المسلمين المصري؛ لأننا أولاً صعبنا أمر الحلال، فصار أمر الحرام ميسوراً.

    والسبب الآخر: أنه خرجت بناتنا ونساؤنا عرايا إلى الشوارع، فكان هذا المنظر مدعاة للشباب المستهتر والمنحرف، والرجال الفسقة أن يعتدوا عليهن، والذئب يأكل من الغنم الشاردة؛ لذلك أنا ثائر وغضبان جداً من أولياء الأمور الذين يخرجون بناتهم وأولادهم بالليل، لا ينبغي أن تخرج حتى ولو إلى المسجد إلا أن تكون مع محرم، قلت لكم يوم الجمعة: ذهاب البنت إلى الجامعة ليس بحرام، ولكن اذهب بها محتجبة، وعندما تطلع بالليل انتظرها على الباب، وإلا فأنت راع ومسئول عن رعيتك، وإن حدث لابنتك سوء فأنت السبب، فهي معلقة في رقبتك يوم القيامة، اتق الله يا عبد الله، ربنا يحفظ بناتنا ونساءنا وأهلينا وذوينا من كل سوء، ويطرد عن هذا المجتمع كل شر وفسق وفجور، ويجعله مجتمعاً آمناً مطمئناً بكتابه سبحانه وبسنة حبيبه!

    قوله: (ولا يزنون) ولذلك لما كانت الحدود تقام كانت المسألة مريحة؛ لأنه عندما يقام عليه الحد يغفر له ما قد سلف، فالمحصن يرجم، وغير المحصن يجلد مائة جلدة، وبعدها ربنا يقول: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، لماذا نحفر حفرة ونوقع الزاني أو الزانية فيها ثم نرجم؟ لأنه لا يضرب الله بالحجارة إلا أسوأ الناس عند الله وأعدى أعداء الله يموتون بالحجارة، وذلك مثل أصحاب الفيل، والزاني عنده نفس القضية يرجم بكومة حجارة ويأتي إمام المنطقة أو الحاكم فيقول: ابدءوا الرجم، فيرجمونه حتى يموت، ولو هرب الزاني من ميدان الرجم لا يعاد إلى الميدان مرة أخرى، لأن الأمر انتهى: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، ولذلك سيدنا خالد لما جيء بـالغامدية مع ماعز ليرجما وضعوهما في الحفرة وبقوا يرمونهما بالحجارة، فطارت قطرة دم من الغامدية إلى فم سيدنا خالد فتأفف، فقال: (يا خالد ! لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم)، والرواية الثانية: (لو وزعت على أهل الأرض لوسعتهم)، والرواية الثالثة: (لو تابها صاحب مكس لغفر له)، صاحب مكس: هم أصحاب الضرائب.

    وأريد أن أقول: لحد واحد يقام في الأرض خير من مطر أربعين سنة، فالمسلم يتقي الله، فمن واجب الناس أن يتوبوا، ولكن ترك الذنوب أوجب.

    فنحن نحجب نساءنا وبناتنا وأخواتنا من أجل العيون الشاردة، والذئاب الجائعة، والنفوس المريضة الضعيفة التي تفعل ما حرم الله سبحانه وتعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ظهرت الفاحشة في قوم وأعلنوا بها)، في الجامعة، البنت والولد اللذان يقعدان داخل السيارة أليست هذه خلوة؟ هذه خلوة مؤكدة، وحتى ولو كانت مخطوبة له فلا يجوز أن يقعد معها، ولا أن يسلم عليها، ولا أن يوصلها البيت؛ لأنه ما زال أجنبياً عنها، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما ظهرت الفاحشة في قوم وأعلنوا بها إلا أصابهم الله بأمراض لم تكن في أسلافهم).

    اليوم أتى للمجتمعات: مرض الإيدز، وفقد المناعة، والفشل الكلوي، وتصلب الشرايين، وأمراض ما أنزل الله بها من سلطان، كان آباؤنا وأجدادنا يعيشون بالرضا وبالتقوى، وكان الواحد منهم يأخذ كوب شاي مع الليمون ثم يدلك في ظهره فيقوم وهو نشيط من فضل الله سبحانه وتعالى، كانوا يقولون: اقرءوا الفاتحة، فيقوم ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لكن لكثرة معاصينا كثرت الأمراض، والشفاء صار صعباً، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفي أمراضنا الظاهرة والباطنة، إن ربنا على ما يشاء قدير.

    قال تعالى: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]، (أثاماً): واد في جهنم فيه حيات وعقارب، تلدغه الحية يسري سمها في عروقه سبعين سنة، نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، المعذرة نحن في الجنة ونتكلم عن هذا الكلام، لكن المسألة مسألة أمر ونهي، والقرآن مثاني رحمة وعذاب، نسأل الله أن يرحمنا وإياكم.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (في كل حية أو عقرب سبعون قلة من قلال هجر) قلة هجر: هذه عبارة عن آنية مثل الصوامع، القلال والصاع والمد والمكاييل القديمة، وترجمتها إلى المكاييل الحديثة، لقيت أن كل عقرب أو كل حية والعياذ بالله فيها كمية من السم مقدار ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلو، يعني: قدر ثلاثة طن ونصف في الحية الواحدة، تسلط على الذي يدعو مع الله إلهاً آخر، والذي يقتل النفس بغير حق، والذي يرتكب الفواحش، والذي لا يصلي، هذا هو الوادي الذي يستقبل هؤلاء.

    قال تعالى: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم:59-60].

    أي: إلا من تاب عن كل الذي فات، (وآمن) أي: بكل ما أنزل الله، (وعمل عملاً صالحاً)، فهم يتوبون إلى الله متاباً، ربنا تاب عليهم فكفر عنهم الذنوب التي ارتكبوها.

    من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور

    قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72].

    وشهادة الزور ليست هي الشهادة في المحكمة أمام القاضي فقط، فلا تشهد إلا بالحق ولو على نفسك، تقول: أنا مخطئ، ابني مخطئ، امرأتي مخطئة، أخي مخطئ، فتقول الحق ولا تخاف في الله لومة لائم.

    دخل يهودي على شريح القاضي في زمن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، فقال: يا قاضي المسلمين! هذا سيف ورثته عن آبائي وأجدادي، ويدعيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويقول: إنه له، قال: ائتوني بـعلي ، فدعي سيدنا علي فأتى وقال: السلام عليكم، وهو أمير المؤمنين، ثم جلس سيدنا علي بجوار شريح ؛ فقال له: قم يا أبا الحسن ! واجلس بجوار خصمك، فقعد سيدنا علي رضي الله عنه بجواره، ثم قال له شريح : أهذا السيف سيفك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، هذا السيف سيفي، فقال اليهودي: إنه سيفي، فـشريح نظر إلى السيف وإذا بالسيف سيف سيدنا رسول الله، ما الذي أتى به لليهودي؟! فقال شريح : أمعك شهود يا أمير المؤمنين؟ قال له: نعم، فذهب وأتى بـالحسن والحسين، فقال له: لا تصلح شهادتهما، أنتم علمتمونا أن الفرع لا يشهد لأصله، ولا الأصل لفرعه، ثم قال: معك شهود أخر؟ قال له: لا، قال له: السيف سيف اليهودي، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، قال له: فلما وصل علي إلى الباب دعاه اليهودي: يا أمير المؤمنين! تعال، وقال: هكذا يقام الأمان، وهكذا تعيش الدول، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، السيف سيف علي . ثم قال شريح : يا أمير المؤمنين! أغضبت؟ رأيت وجهك قد اكفهر عندما أمرتك أن تجلس بجوار خصمك، قال: لا، ما اكفهر وجهي من هذا، وإنما لأنك كنيتني وقلت: يا أبا الحسن ! فقد فضلتني في مجلس الصلح.

    قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] يقولون الحق في أي وقت، انظر إلى سيدنا عمر وانظر أيضاً إلى تلاميذ الحبيب، كان هناك شخص يشهد مع آخر، فقال له سيدنا عمر: أأنت تعرفه؟ قال: لا، قال له: أأنت جاره الأدنى؟ قال له: لا، قال له: أرافقته في سفر؟ قال له: لا، قال له: أعاملته بالدرهم والدينار؟ وسمي المال مالاً لأنه يميل بالناس عن الحق، ويقول الشاعر:

    رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال

    ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا

    رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب

    ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا

    رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة

    ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة

    انظروا إلى هذا الكلام الجميل من أين أتى به هؤلاء الرجال؟! هذا يدل على أن عندهم صلة بالله حتى تجري الحكمة على ألسنتهم، اللهم ألحقنا بهم يا رب.

    قال له: هل أنت جاره؟ أو عاملته بالدرهم والدينار؟ هل سافرت معه؟ هل رأيته في الركوع والسجود في المسجد ونظرت إليه يصلي؟ قال له: نعم، قال له: إذاً إنك لا تعرفه، ائتني بمن يعرفه، لا تكفي الصلاة والصوم هذا بينك وبين ربنا، لكن المحك هو التعامل، انظر الحديث: (إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر، ورفقاؤه في السفر، ومعاملوه في الأسواق، فقل له: إنه من أهل الجنة)، هؤلاء ثلاثة: جارك في البلد الذي تعيش معه، ورفيقك في السفر، والمتعاملون معك في السوق.

    قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] أي: يقولون الحق، النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إليه رجل يشهد، قال له: أتشهد؟ قال له: نعم يا رسول الله أشهد، قال له: انظر إلى الشمس أتراها؟ قال: نعم، قال له: على مثلها فاشهد، فقال له: اعفني يا رسول الله!

    من صفات عباد الرحمن الإعراض عن اللغو

    قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]؛ لأن المسلم كبير له قيمة واحترام، فالإنسان الذي يتقي الله الناس يعملون له حساباً حتى عندما يذهب إلى المسجد يلاقي الذين يسلكون وراء الشيطان، أول ما ينظر إليه أحدهم يخبئ يده التي فيها خاتم الذهب وراءه فتقول له: كيفك؟ وكيف صحتك؟ تجده أبداً مكسوف منه، فنقول له: لا تخجل منه واخجل من الله سبحانه!

    من صفات عباد الرحمن الدعوة للذرية والأزواج بالصلاح

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].

    فهذه دعوة عظيمة! (ربنا هب لنا من أزواجنا) أي: الزوجات أو الأزواج، (وذرياتنا) أي: الأولاد (قرة أعين) يعني: ما تقر به عيني في طاعة زوجتي، وتقر به عين زوجتي بأدبي معها، فزوجتك تكون راضية عنك، وأنت راضٍ عنها، سبحان الله، وأريد أن أقول نقطة مهمة: الزوجة تستطيع أن تجامل زوجها، والزوج يستطيع أن يجامل زوجته، ولنفرض جدلاً أنك تريد أن ترتاح، لكن لو أنك أوصلت حماتك وأخت امرأتك وأخا امرأتك إلى بيوتهم مثلاً، فإن امرأتك تحبك كثيراً، فيا أخي جاملهم، تحبب إلى امرأتك في هذه النقطة، والمثل يقول: (حب يد حماتك ولا تحب يد امرأتك)؛ لأنه إذا أرضيت حماتك أطاعتك امرأتك، وإذا عاديت فإنك تعادي حلف شمال الأطلنطي فتدخل في دوامة!

    طرق رجل الباب على معاوية رضي الله عنه، فخرج الحاجب وقال له: من أنت؟ قال له: أنا أخو أمير المؤمنين، فدخل وقال لـمعاوية : معك أخ لا أعرفه يا أمير المؤمنين! قال له: ائذن له بالدخول، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: أنا أخوك، نظر فيه معاوية فلم يعرفه، قال له: من لدن من؟ قال له: من لدن آدم، قال: هاه رحم مقطوعة يكون أول من يصلها إن شاء الله أنا، وإنما المؤمنون إخوة فبالعكس، الأخوة في الدين أقوى من أخوة النسب والدم.

    قال تعالى: هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، تقول: يا رب! اجعلني إماماً في الخير، واجعل امرأتي قدوة في الخير، واجعل أولادي قدوة في الخير، وكما قال لسيدنا موسى وسيدنا هارون: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87]، أي: قبلة ليأتم الناس بها ويقتدون بها، فيكون البيت كله بركة ونعمة: (إن الله إذا أحب قوماً) أي: أهل بيت، (أنزل عليهم الرفق واللين، وإذا غضب الله على أهل بيت نزع منهم الرفق واللين)، تسمع ضجة وصياحاً طوال اليوم فالرجل يشتم، والمرأة تسب، والعيال يصيحون، وبجوارهم بيوت تقول: هؤلاء الجيران ما عندهم أولاد، فتنظر وإذا عندهم أربعة أو خمسة، لكن عندهم أدب وأخلاق، اللهم اهدنا وذرياتنا يا رب العالمين.

    قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [الفرقان:75] أي: الذين اتصفوا بصفات عباد الرحمن من قوله: (يمشون على الأرض هوناً) إلى آخره، فهم في الغرفات آمنون. يعوضهم الله جزاء ما صبروا في الدنيا واتقوا الله عز وجل.

    قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا [الفرقان:75] تحية من الله وسلاماً من الله والملائكة، ومن الحور العين ومن الغلمان الذين: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا [الإنسان:19].

    خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:76] الله عز وجل جعل هذا هو المستقر وهو المقام في هذا المكان العظيم.

    أنت في الدنيا أحياناً تحث على عمل المعروف، فتقول: كيف نعمل معروفاً والناس يردون علينا بالغلط، نقول لك: لا، لماذا؟ لأن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، يعني: الذين يعملون المعروف في الدنيا ربنا يعمل فيهم معروفاً يوم القيامة، وهل يوجد معروف أكثر من الذي يدخلك الجنة؟ قعد أبو بكر وعمر والعباس على عتبة باب رسول الله فخرج عليهم رسول الله فقال: (فيم تتحدثون؟ قال أبو بكر : نتحدث في المعروف يا رسول الله، فقال رسول الله: وماذا قلتم؟ أبو بكر قال: أنا قلت: خير المعروف ستره) يعني: لا أقوم أفضح في الجرائد وأقول: عملت كذا.. ثم قال: (وأنت يا عمر ؟ قال: وأنا قلت: خير المعروف تصغيره، ثم قال: وأنت يا عباس ؟ فقال: أنا قلت: خير المعروف تعجيله) يعني: الذي يريد أن يعمل خيراً يعمله دون تأخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المعروف فيه الثلاثة: إن سترته جملته، وإن صغرته عظمته، وإن عجلته هنأته)، عندما تستر المعروف تجمله، هذا جميل، وعندما تصغر المعروف تكون أنت عظمته، وعندما تعجل بالمعروف تكون أنت تشعر بالهناءة لمن صنعت فيه معروفاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل المعروف فقال: قد غفرت لكم على ما كان منكم، وصانعت عنكم عبادي، فهبوه اليوم لمن شئتم لتكونوا أهل المعروف في الدنيا وأهل المعروف في الآخرة)، أي: فالذي تريدون أن تدخلوه الجنة فأدخلوه، فيكون المعروف هو الذي بقي هنا حتى إن صاحب المعروف يقول له: أنا عملت فيك معروفاً مرة، أتيت إلي فسقيتك! لذلك قال سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: (من أطعم أخاه قطعة حلوى صرف الله عنه مرارة يوم القيامة)، ليس هناك شيء يضيع عند الله، والدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله: (ومن سره أن تنفس كربته، وأن تستجاب دعوته، فلييسر على المعسر أو ليدعو له؛ فإن الله يحب إغاثة اللهفان).

    وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755951082