إسلام ويب

كشف مؤامرة تحريم النقاب [2]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من المتفق عليه بين الصحابة أجمعين، وبين جميع علماء الدين، أن النقاب مشروع بأمر رب العالمين، ولم يؤثر عن أحد من علماء الدين -لا من الفقهاء ولا من المحدثين- أنه صرح بكراهته فضلاً عن القول بتحريمه. ومن قال بالتحريم فقد أسقط نفسه من منزلة التكريم، واتبع الظن والتوهم؛ إذ إنه جاء الأمة الإسلامية بما لم تعهده ولم تسمع به، فظن أنه قد أتى بما لم تستطعه الأوائل، ولم يعلم بأنه من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

    1.   

    مؤامرة تحريم النقاب والرد عليها

    عدوان إسماعيل منصور في جريدة النور وجراءته على القول على الله بغير علم

    في أول شعبان سنة 1409من الهجرة نظم الحمزة دعبس -صاحب جريدة النور- تظاهرة إعلامية، وفجر هذه القنبلة في ساحة الفكر، وبدأها بقوله: وددت لو أن العاملين في الحقل الإسلامي لا يُقدِمون على عمل من الأعمال في الحياة العامة -في مصر وغيرها- قبل أن يبحثوا عن هذا العمل في الكتاب والسنة، ولا يجوز لواحد منهم أن يتقدم خطوة واحدة في تنفيذه قبل ذلك، فإن وجد هذه الخطوة في كتاب الله أو في السنة المشرفة أو فيهما معاً خَطَاها، وإن لم يجد هذه الخطوة فيهما فلا يخطوها، وفوق ذلك فإن القرآن والسنة ليسا من الكلأ المباح يبيحه لنفسه كل واحد من الناس، ولكن ذلك مقصور على أهل العلم والفقه؛ لأنهم يملكون وسائل المعرفة فيقدمون، وأما غيرهم فلا يملكونها، ولا يجوز لهم من ثَمّ أن يقتحموها، ومن يفعل ذلك وهو لا يملك هذه الوسائل فقد ظلم نفسه، وعرّض نفسه ومن يتبعه للهلكة. ثم أخذ يتكلم على مشكلة النقاب، وأنها أخذت حجماً متزايداً في الحقل الإسلامي في الآونة الأخيرة، حتى بلغ أمرها ساحات المحاكم، وأدت إلى كثير من الاضطرابات، واختلف الناس في حكم النقاب، ثم ذكر في خلاصة الكلام أنه طول عمره يعلم أن النقاب إما واجب أو مستحب، ثم قال: وقد زارني أخي في الله الذي أحبه في الله -وكان الأَولى أن يبغضه في الله لبدعته وضلاله- الدكتور إسماعيل منصور رئيس تخصصات الطب الشرعي والسموم. كأنه ظن أن كلمة طب شرعي تعني أنه درس علماً شرعياً، فما هي مؤهلاته التي بهرته وجعلته -ما بين طرفة عين وانتباهتها- ينقلب رأساً على عقب، فيرى الواجب حراماً! لمجرد أنه عَلِمَ أنه يرأس تخصصات الطب الشرعي والسموم؟! نعم! يحق له أن يباهي بهذه الشهادة ويتيه بها على أقرانه في كليات الطب البيطري، وإن كانت الشهادة الأخرى التي هي ليسانس الآداب في الفلسفة فليفتخر بها في كلية الآداب في قسم الفلسفة، ثم الشهادة الأخرى -وهي شهادة مجروحة في الحقيقة- دراسات في القانون، حيث إنه حاصل على رسالة الحقوق من جامعة القاهرة، وله دراسة في قسم الدكتوراة في هيئة القانون العام، وهذه ليفتخر بها في ساحات المحاكم التي تحكم بغير ما أنزل الله أو في كليات الحقوق. لكن حتى الآن ليس هناك أي شيء يشهد له بأن له أن يتكلم في العلم الشرعي بهذه الطريقة الجريئة، مع أننا لسنا نقول: لا يتكلم في الشرع إلا من كان معه شهادات، فإن تكلم بحق فأهلاً به ومرحباً، ولكن -وحتى الآن- كل هذا لا يفيدنا بشيء. ثم قال: ولم يكتف بذلك -يعني: لم يكتفِ بالطب الشرعي البيطري، والطب الشرعي والسموم، والحقوق، والآداب (الفلسفة)- حتى حصل على إجازة في تجويد القرآن، ثم راح ينفق علمه هذا بلا مقابل في الدعوة الإسلامية -وظل يمدحه في نشاطه في الدعوة، ثم يقول: وأنا لا أزكيه على الله!

    تحريم إسماعيل منصور للنقاب واختيار عنوان البحث

    ثم قال: وقد سعدت بزيارته سعادة بالغة؛ إذ لا يتحدث في أي مسألة من مسائل الدنيا والآخرة إلا رد أقواله رداً أصولياً إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    مع أن الكتاب لا توجد فيه صفحة واحدة فيها عزو لأحد من أهل العلم، ولو فتحت أي صفحة لا تجد فيها أي عزو في الهوامش إلى أي مصدر من المصادر التي ينقل منها، وبهذا يتبين أن الرجل لا يعرف شيئاً اسمه التأصيل العلمي.

    ثم قال: ويحدثك عن صحة الحديث أو حسنه أو ضعفه، ويملك عليك شوارد حسك، فإذا استفهمت أجاب ودلل على كل كلمة في إجابته، وذلك هو النمط الذي يجب أن يكون في مجال العمل الإسلامي، لا يركن إلى سقاطيف من كتب، ويدعي بها علماً.

    ثم يقول: زارني الدكتور إسماعيل منصور ، وتبادلنا أطراف الحديث، وفوجئت بحكم جديد علي في النقاب إذ قال لي: إن حكم النقاب (حرام!!) وقد دهشت لهذا الحكم؛ فإني لم أسمعه من قبل، بل سمعت ما يناقضه، وقال لي: إنه اهتم بهذا الأمر اهتماماً بالغاً، وأعدّ حوله بحثاً، ورجوته رجاء حاراً أن يوافيني بهذا البحث، وفي الأسبوع الماضي أنجز وعده، وأحضر بحثاً مستفيضاً، وقعد يعرض البحث باختصار، وأعلن الدكتور إسماعيل منصور أن توجيه الأحكام الشرعية بدعوى الحماس أمر خطير في الدين؛ لأنه يفضي إلى القضاء على شرف هذه الأمة التي ما قامت إلا على الدليل والبرهان.

    ويظل يسرد ويبدئ ويعيد كلاماً في الأدلة والبرهان، واتباع الكتاب والسنة، ونقض من يحيد عنهما، وعادته في ذلك التهويش والتهويل؛ ليطلق هذه النصوص كستار من دخان يختبئ الزحف من ورائه.

    يقول: وانتهى إلى أن وجه المرأة ليس بعورة بأدلة من القرآن كأننا نسمعها لأول مرة.

    هذا ذنبك أنت أيها الصحفي؛ كونك في مثل هذا الموقع الحساس -مسئول عن جريدة- إذ كان ينبغي أن تعرض مثل هذا البحث على أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم، فإذا كان صالحاً نشرته، وإلا فلا تفعل.

    يقول: فقلت للدكتور إسماعيل منصور : وإلامَ انتهيت في هذا البحث؟ قال: إنه ليس واجباً ولا مندوباً ولا مباحاً وإنما هو تكلف وحرام!! فقلت له: إن نشر هذا البحث على أجزاء يقتضي وقتاً طويلاً.

    وفتح له باباً من أبواب الجريدة فوراً، وفي طرفة عين تحول الواجب الذي يعتقده واجباً أو مستحباً إلى حرام، وسمح له بالنشر فوراً! لو أتاك رجل لبس الحق بالباطل، وبحث وفق الأدلة -كما يزعمون- وأفتى بوجوب شرب الخمر، ووضع بحثاً له عنوان، بحيث يكون العنوان جميل ومسجوع مثل (إيضاح الأمر في وجوب شرب الخمر) هل تقول له: أنا أول مرة أسمع هذه الفتوى. ثم تنشر له البحث فوراً، وتجعله باباً ثابتاً تفرضه على القراء لمدة تسعة أو عشرة أشهر؟!! ما أسوأ ظن هذا الصحفي بعقول القراء!! هل كل الناس مغفلين هكذا؟! قد تستطيع خداع كل الناس بعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، لكن أن تخدع كل الناس كل الوقت فلن يستطيع أن يفعل هذا أحد.

    فإذاً: هذه المسألة ما هي إلا قنبلة إعلامية فجّرت حتى تنفق الجريدة أكثر، أو حتى تلهي الناس عن واقعهم الأليم، وإلا فماذا؟!!

    يقول: فقلت له: ويحسن أن نختار له عنواناً.

    ليست المشكلة في الصحف الآن أن تبحث كيف صار الواجب حراماً؟! لكن المشكلة عندهم الآن: ما هو أنسب عنوان لهذا البحث القيم؟!

    يقول: واقترحتُ أن نطلق على هذا الباب اسم: تأثيم وعقاب من تتكلف النقاب.

    انظر إلى صحبة السوء التي كانت تجتمع في هذا الوقت وتتآمر لاختيار عنوان للبحث، وهؤلاء هم الأُمناء جداً!! وجعلوا عنواناً بخط عريض في الجريدة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب!!) ولأن مستوى البحث في بعض الأشياء يصعب على عوام الناس هضمه، فيكفي أنك تظل لمدة عشرة أشهر تنشر عنواناً عريضاً في الجريدة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) وهذا التكرار أسلوب من أساليب الصحافة المغرضة، وهي قاعدة: (ما تكرر تقرر) فكثرة التكرار يحفّظ الجماهير والعوام هذه العناوين.

    تمشي الآن الأخوات المنقبات في بعض الأماكن، فيراهن العوام الجهلة -لأنهم بيد من يقودهم- فإذا بهم يعيّرون الأخوات وينكرون عليهن، ويقولون: النقاب هذا حرام!! الآن العوام يُفتون في الشوارع؛ بسبب هذا المبتدع، وبعض الخطباء الجهلة انبهر أيضاً بالكلام، وخصص خطب الجمعة لمهاجمة النقاب! سبحان الله ما أشد غربة الإسلام في أهله!!

    وأول عنوان كانوا قد اختاروه لهذا البحث: (تأثيم وعقاب من تتكلف النقاب) فاعترض أحدهم قائلاً: حتى من ارتدته بغير تكلف فهي آثمة! فاختار صديق أن يكون اسمه: (النقاب تكلف معاب يستوجب الإثم والعقاب!!) فقلت -أي: الصحفي-: إن كلمة معاب فيها تكلف واصطناع، فذكر ثالث عنوان: (القول بتعميم النقاب تكلف يستوجب العقاب) فقال الدكتور إسماعيل منصور : هذا تأثيم لمن يقول بذلك، وهو حق! غير أن البحث متوجه لاتخاذ النقاب رداءً. فهتف الأخير: وجدتها! وانتبهنا إليه، فقال: (القول في النقاب أن من تركه يثاب) فقلت: إن هذا يصح في الحرام والمكروه، وقد انتهى الدكتور إسماعيل منصور إلى أنه حرام.

    قلتُ: إذاً نسميه: (حكم النقاب في الإسلام أن ارتداءه حرام) قال: نقترح غيرها ونوازن بينها. فقال صديقنا: (فصل الخطاب بتحريم النقاب) فقال الدكتور إسماعيل منصور : أنا رأيي صحيح! ولكنه يحتمل الخطأ -مع أنه يرى أن رأيه لا يحتمل الخطأ كما سيأتي- ولذا فلا أسميه فصل الخطاب.

    كأنه يريد هنا أن يتشبه بالأئمة في تورعهم عن الفتيا بغير علم.

    فقال: لو أطلقنا عليه: (إرشاد الأصحاب إلى تحريم النقاب) أو: (تبصير الأصحاب في تحريم النقاب) ثم رجع إلى نفسه وقال: ولكن الإرشاد والتبصير قد يكون فيه نوع من الاستعلاء، وأعوذ بالله منه!! ثم قال: لو أطلقنا عليه: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) لكان أجدر؛ لأننا أُمرنا بالتذكير في قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:10] وانشرحت صدورنا لهذا التعبير، واتخذناه عنواناً لهذه السلسلة من المقالات الشيقة التي فيها من العلم الكثير، وفيها من الفائدة ما هو غزير، وأمتع ما في هذه السلسلة هو طريقة البحث، والمثابرة على الحق! والوقوف في وجه الموجة وإن كانت عالية، وفي مقابلة القوة وإن كانت عاتية، وعدم الخوف من الاتهام بالخروج على المألوف، ومن بعض الأشخاص الذين رفعوا أنفسهم أو رفعهم الناس إلى مرتبة التخويف، واعتبار كلامهم بمنزلة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    خيانة صاحب الجريدة وعبثه بالرسائل التي ردت على إسماعيل منصور

    يقول الحمزة دعبس : فقلت له: أنا سأنشر الردود التي تردّ عليك كلها. فقال لي: هذا حق مصون، وأنا أرحّب بها كل الترحيب، ولكن أجّلها إلى نهاية المقالات.

    ومن المعلوم أن أي جريدة -غالباً- حينما تنقل بعض المقالات تقول: المقالات أو الآراء المنشورة في هذه المجلة على مسئولية أصحابها، والجريدة غير مسئولة عنها. حتى لو كانت حقاً واضحاً، فكيف بمثل هذه الفرية وهذه البدعة والضلالة؟! وأنت أيها الصحفي انحزت بكل قوة إلى هذا الرأي الذي لم يسبق لك دراسته، ثم لم تعرضه على أهل العلم قبل أن تنشره، ثم فرضته بالقوة أيضاً خلال عشرة أشهر أو ما يقارب ذلك فرضاً، وحجبت كل الردود التي وصلت إليك، هل هذا السلوك فيه تجرد وفيه إنصاف أم لأنك أنت في يدك المحبس تتحكم كما تشاء وكما تهوى؟! أهذه هي الأمانة؟!

    ومن العدل أن كل ما تنشره من مقالات، فعليك أن تنشر الردود عليها أو تعرضها على العلماء ليقولوا قولتهم، أما أنك تنشر خلال هذه المدة الطويلة، وتحفّظ الناس: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) لتتخذ من أساليب الصحافة المغرضة وسيلة لزعزعة هذا الحكم الشرعي فحسبنا الله ونعم الوكيل.

    ثم بعد أن انتهت المقالات، لم ينشر الرجل رداً واحداً من الردود التي وصلت، وأخفى الردود، وإذا بأحداث العراق والكويت تفجر القضية من جديد، وحوار مع الأصحاب حول موضوع تحريم النقاب، ومن جديد يفجّر القضية، وينشر صورة قبيحة لامرأة محجبة لتشويه الحجاب، وهذا المسلك السيئ لا يسلكه المنصفون أو أهل العلم والفضل، إنما يسلكه الصحفيون في وسائلهم للتشنيع على الأخوات أو على المسلمين عموماً في طريقة النشر لتلك الصور التي تثير الاستفزاز، حيث إن فيها نوعاً من التنفير من صورة المنقبات، وهذا من أساليب الصحافة المغرضة.

    وهذا الحمزة دعبس كان قد أخذ على نفسه العهد بعد العهد أنه سينشر الردود حتى يسكت الأصوات المعارضة، فإذا به فجأة يحيل جميع الردود التي وصلته إلى الخصم ليكون هو القاضي! ويقول له: نريد أن ترد على هذا الكلام الذي وصلنا.

    انظر إلى هذا التمادي في الظلم والتجنيّ، فبعد كل هذا العدوان يعطيه في الأخير جميع الردود ويعرضها من وجهة نظره هو، ثم يقوم الدكتور بالبتر والتحريف للكلام، ويخفي ما يمكن أن يدينه أو يهز صورته.

    كانت أول مقالة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) في أول شعبان عام (1409) هجرية كما ذكرنا، وفي الأسبوع المقبل بعدها مباشرة كتب الحمزة يقول: اعتذار: قدمنا في العدد الماضي سلسلة من المقالات للدكتور: إسماعيل منصور في التذكير بتحريم النقاب، وقد اتصل بي العديد من الزملاء والأصدقاء، وأسدوا إلي نصيحة بعدم نشر هذه السلسلة؛ لأن النقاب في مصر من الندرة الشديدة بمكان، فلا تكاد المنقبات يمثّلن شيئاً يُذكر، أو نسبة يُعتّد بها في المجتمع المصري.

    وهذا كلام تشم منه رائحة الازدراء والاحتقار. ثم يقول: هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: فإن العمل الإسلامي يعاني من الفض على بعض أعضائه الذين يتعرضون للتعذيب، وهم في صدام مع الشرطة وغيرها، ولسنا بحاجة إلى أن نحملهم هموم جديدة، تتوالى عليهم من الأصحاب، وتكفيهم شرور السلطة، وتسلط الشرطة، وهجوم الكُتّاب العلمانين من النصارى والشيوعيين.

    فكأن هذا منه رحمة ورأفة بالعمل الإسلامي؛ لأنه يعلم أن العمل الإسلامي القائم على العلم، والأصالة، واتباع الدليل، واحترام الشرع، هم الذين يلتزمون بهذا الحكم، فهذا لا يجهله، فيقول: لا نريد أن نزيد همومهم، ويكفيهم ما لاقوا من المعاناة، ومن المحن، فلا ننضم نحن أيضاً عليهم!!

    يقول: وقد استمعت إلى النصيحة، وذهبت أوازن بين مزايا النشر وعيوبه، واستشرت من حولي، فأيدوا وجهة نظر الناصحين، وتدبرت حالي مليّاً، فوجدت أن حكم الإسلام واجب التبيان! وأن السكوت عنه مع العلم به قد يكون فيه عصيان!

    سبحان الله!

    يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ

    ولكني سمعت أصواتاً عديدة تهتف: الخلاف شر. فاكتفيت بإثبات رأي الدكتور إسماعيل منصور الذي أكنّ له كل تقدير واحترام، والذي انتهى فيه بالدليل والبرهان إلى أن النقاب تكلّف وحرام، وأذعنت للنصيحة عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينوا لإخوانكم) وأنا مقدّر كل التقدير لأدلة الدكتور إسماعيل منصور وله أقدم الاعتذار.

    إذاً: الاعتذار موجّه إلى إسماعيل منصور !!

    ولم يعتذر أنه انحاز مسبقاً بكل قوة إلى هذا الرأي الباطل، ولم يعتذر عن هذه الديباجة المثيرة التي زيّن بها هذا الباطل وزخرفه، ولم يعتذر للأخوات، بل يزدري المنقبات ويحتقرهن، ويقول: هن ندرة! ولا يشكلن أي ثقل في المجتمع!

    إذاً: ما الذي جعلك تعدل عن هذه الحكمة وهذا التعقل؟! وما الذي جعلك تعدل عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينوا لإخوانكم) ؟! فهذا عذر أقبح من ذنب.

    وكان ينبغي ألا يوجه الاعتذار إلى ذلك المبتدع، كان ينبغي أن يعتذر إلى ملايين المسلمين الغيورين على دينهم، والذين آذاهم بما فعل، وإلى آلاف النساء المنقبات اللاتي هَمَزهن ولَمَزهن.

    فالشاهد: أنه هنا أبرم أمر رشد لم يلبث أن نقضه في العدد الثاني الصادر في الأسبوع الذي بعده، بحجة هي أوهن من بيت العنكبوت! ما هي الحجة؟ هي أنه قبل أن يعمل بهذه النصيحة نسي صلاة الاستخارة، فعاد وصلاها فانشرح صدره أن ينشر المقالات من جديد.

    هذه هي الحجة التي جعلته يبطل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لينوا لإخوانكم)! يقول: نسيت أن أستخير. فلما تذكر الاستخارة استخار، ورأى أنه انشرح صدره لنشر هذا النور في الآفاق!!

    وأنا مضطر إلى أن أتكلم عن الرد الذي أرسلتُ إليه بعد أن نشر هذا الاعتذار، باعتبار أني كنت ممن أرسلوا ردوداً، وكنت أحد ضحاياه أيضاً! فأتحدث عن ما لامسته بنفسي، ولعله إذا انضم إلى الكلام من أرسل مثلي، فقد تكون هناك طامات أكبر لم نطّلع عليها في الخيانة وعدم الأمانة في نقل كلام الآخرين، فهذه الرسالة قبل أن أتلوها عليكم قد جاءت رداً على هذا الاعتذار، قبل أن يكون إسماعيل منصور نشر حرفاً واحداً من مقالاته، بل خبأ هذه الرسالة، وفي الشهر الماضي في أواخر الشهر الماضي بدأ ينشر من جديد ويقول: إنه وصلتنا رسالة من فلان، وسوف نرد عليها. فأوهم القراء أنه ليس هناك رد إلا رسالتي هذه فقط، فأقول:

    أولاً: هذه الرسالة لم تكن رداً على إسماعيل منصور ؛ لأنه لم يكن نشر شيئاً، بل هي رد على صاحب الجريدة، وقد كان المفروض أن ينشرها، لكنه كتمها وخبأها كما فعل مع آخرين، ثم إنني قبل موسم الحج أرسلت إليه الجزء الثالث من كتابي: (الحجاب) مع خطاب صغير، وقلت له: من صفحة كذا إلى صفحة كذا يتضمن الرد على إسماعيل منصور ، فإن كنت ترى أن تنشره كما هو فلك ذلك، وإن كان طويلاً فكلِّفْني بالأمر وأنا أختصر الرد وأرسله إليك.

    فإذا كلفني فيكون فيه التزام ضمني بأنه لا يحرّف الكلام؛ لأنه هو الذي قال لي: اكتب، فانتظرت فلم ينشر أي شيء، ثم إنه بعد ذلك قال إسماعيل منصور في الأسابيع الأخيرة: وصَلَنا خطاب صغير من فلان، يشير فيه إلى أنه أرسل مع الرسالة مطبوعات عن الحجاب.

    فكأنني صوّرت له صفحات معدودة من عدة كتب، ولم يبين أن هذا ردّي الذي أرد به عليه، لكنه قال: مطبوعات عن الحجاب -حتى يوهم أنها مطبوعات قليلة- وفيه أدلة لوجوب النقاب، وتتضمن ردوداً عن المقالات السابقة بالتحريم. ثم قال بعد ذلك معلقاً على الرد الذي أرسلته إليه: ولم يأتِ رد علمي ولا غيره في نفس المقالة. وهذا لأنه قال: بعث مطبوعات. ولم يقل: بعث رداً، فقال: لم يأت رد علمي ولا غيره، وإنما أوصل رسالة ليس فيها رد علمي على الإطلاق، بل هي مليئة بالاتهام وسوء الظن.

    فكأن هذا هو المنهج السلفي في نقد الآراء المخالفة له، فأوهم الناس أن الذي رد عليه هو هذه الرسالة، والصحيح أن هذه الرسالة ليست رداً على إسماعيل منصور ، بل كانت رداً على الحمزة دعبس ، فكتمها إلى قبل أسابيع قليلة، ثم نشرها من خلال عيّنة أعطاها لـ إسماعيل منصور ، حيث قال له: رُدّ على هذه الرسائل.

    فالمفروض إن دعبس يجعل كل طرف يمثل وجهة نظره الخاصة به إذا كان هذا مبطلاً والآخرون على حق، لكنه أوهم أن هذا هو الرد على إسماعيل منصور ، وهو رد على الحمزة دعبس قبل أن ينشر إسماعيل منصور حرفاً واحداً.

    1.   

    نص الرسالة التي فيها الرد على إسماعيل منصور وتلاعب الصحافة بها

    هذه نص الرسالة التي كانت رداً على الاعتذار، وهذه الفقرة التي سأذكرها حُذفت من الرسالة بكاملها:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (فتيا شاذة واعتذار يحتاج إلى اعتذار).

    كنت أتلهف شوقاً للحصول على نسخة من العدد الأخير من جريدة النور؛ لأطالع ما وعد به الأستاذ الحمزة دعبس -وفقه الله- من نشر سلسلة مقالات بعنوان (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) والذي مهّد لها بديباجة مثيرة للمشاعر، وقبل أن ينشر دليلاً أو حتى شبهة دليل على دعواه تحريم النقاب وتأثيم المنقبة، وإذا به -عفا الله عنه- يصدّر الصفحة الرابعة من الجريدة باعتذار موجّه -فقط- إلى صاحب المقالات، مع أنه كان ينبغي له أن يعتذر عن إعلانه المسبق بالتحيز الكامل لهذا الرأي الجريء، فضلاً عن أن اعتذاره يحتاج إلى اعتذار؛ لما ينبعث منه من روح الاحتقار والازدراء للمنقبات، فجاء اعتذاره أشد على النفوس من الذنب نفسه، لهذا نناشد الأستاذ حمزة دعبس أن يبادر بالاعتذار عما نشره من دعاية مسبقة توهم أن صاحب المقالات أتى بما لم تستطعه الأوائل! أو أن يواصل المسيرة وينشر البحث كاملاً، ويضرب عرض الحائط بالأصوات المتعقلة التي نصحته بالكف عن هذه الحملة على المنقبات؛ حتى لا يقف في خندق واحد -وحاشاه- مع أعداء الصحوة الإسلامية، ولا أدري كيف استطاع الأستاذ حمزة -حفظه الله- أن يقنع ضميره بأنه برأ ساحته بهذا الانسحاب السريع، كيف وقد أشعل الفتيل بالفعل ثم انسحب وهو لا يدري ما ترتب على ما قدمه من آثار.

    فحذفت هذه الفقرة بكاملها، ولم ينشروا منها حرفاً واحداً سوى كلمة (وقال: إن اعتذاره يحتاج إلى اعتذار) فأتى بالمقالة في الأسبوع الثاني وسماها (اعتذار عن الاعتذار).

    ثم إن الفقرة الآتية حُذف السطر الأول والثاني منها، حيث كنت تكلمت فيها عما حدث من منصب الإفتاء الذي جلس عليه رجل من كلية الآداب، وشتم الأخوات المنقبات، وتطاول على الإخوة بألفاظ لا تليق حكايتها، وحرّض مسئولي الجامعة على أن يمنعوا المنقبات من دخول الجامعة.

    فالفقرة الثانية من الرسالة:

    ولقد كنا بالأمس القريب نستنكر فتوى بعض الذين يوظفون الإسلام خادماً لأهواء الساسة، غافلين عن أن دين الله يُخدم ولا يَخدم، أعني تلك الفتيا المفزعة المحلولة العقال، المبنية على التجّري لا التحرّي، المؤسسة على الظن وهو أكذب الحديث، أو الهوى وهو معبود باطل خبيث، التي أصدرها طائفة تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجاً، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً، حيث تمخضت عبقريتهم عن اكتشاف مذهل هو أن النقاب ليس فرضاً ولا سنة!

    إذاً: الكلام في الرد على من افترى منصب الإفتاء، وليس على إسماعيل منصور الذي زعم أن هذا الكلام رد عليه، بدليل سياق الكلام، بعد ذلك قلت: فكيف بتلك الفتيا الجريئة التي زادت الطين بلة، والتي لا ندري من أي آبار الضلال استقاها صاحبها وانتشلها .

    وهذه الفقرة التي سأذكرها الآن حذفت أيضاً، وهي:

    لأنه ليس في كتاب ولا سنة صحيحة أو سقيمة، ولا في مذاهب من سبق، ولا في اجتهاد أئمة الاجتهاد صوابه وخطئه ما يمتّ إليه هذا الزعم بصلة، فإذا كان الحال كذلك فأي رجل له مسكة من فقه يتجاسر على أن يسجل على نفسه هذه المقولة المحدثة؟!

    ثم قلت: (إن هذا البحث يجوز الحكم على بطلانه بمجرد مطالعة عنوانه، وذلك للأمور التالية).

    فماذا قال الحمزة ؟ قال -حتى يشنع علي-: المعروف عند الناس أنه لا يحكم على الكتاب من عنوانه!

    وليس الأمر كما قال، بل كم من كتاب يحكم عليه من عنوانه مهما زين العنوان ورصعه بالسجع والتكلف، فهو باطل قطعاً يحكم عليه من عنوانه، كما لو ألف أحد كتاباً سماه (توضيح الأمر بوجوب شرب الخمر في ضوء القواعد الأصولية والحديثية والفقهية) فهذا العنوان لا يحتاج إلى نظر في هذا البحث، فالعنوان يعطيك نتيجة البحث المقطوع ببطلانه، فيجوز الحكم عليه ابتداء، وكما لو ألف مؤلف كتاباً أسماه (الرمي بالبلاط على من حرم الاختلاط) أو ألف كتاباً أسماه (الاجتهاد بفرضية الزواج من ثمان عشرة امرأة) أو (ضوء القمر في تحريم غض البصر) فهذا كلام مسجوع وعنوان جميل، ولكن هل ينظر في مثل هذا البحث حتى يحكم عليه أنه حق أم باطل؟! فإذا حرم الإنسان المباح فذلك جريمة، فكيف بمنً يحرم الواجب؟!

    وحذف الأسباب الأربعة لأنه لو نشرها من البداية لاهتز موقفه كثيراً، لكنه حذف هذه الأسباب الأربعة التي عللت بها جواز الحكم على هذا البحث من عنوانه، فخبأ هذه الأسباب، وكانت الأمانة تقتضي أن يذكر ما هي هذه الأسباب، لكنه قال: وذكر أسباباً أربعة. وانتهى الكلام!

    فهل هذه أمانة؟ فما هي الأسباب؟

    قلت: إن هذا البحث يجوز الحكم على بطلانه بمجرد مطالعة عنوانه، وذلك للأمور التالية:

    أولاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا - يعني ديننا- هذا ما ليس منه فهو رد) وهذه الدعوى محدثة لم يقل بها أحد من السلف، ولم ينص أحد من أئمة الهدى في العصور التي يعتد بالخلاف فيها على أن النقاب حرام وأن المنقبة آثمة سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].

    فقال إسماعيل منصور عنا: إننا نحن الذين يقال في حقنا: (سبحانك هذا بهتان عظيم).

    هذا ويؤيد الحكم على البحث بالبطلان من عنوانه أن العلماء يشترطون في المجتهد أن يكون عارفاً بمواضع الإجماع؛ لأن المسألة إذا ثبت فيها إجماع فلا يجوز النظر فيها، فمن نظر فيها فهو مخطئ قطعاً.

    واشترطوا أن يكون المجتهد عارفاً بالناسخ والمنسوخ؛ حتى لا ينظر في الحكم المنسوخ، فيأخذ بآية منسوخة -مثلاً- ويستنبط منها الأحكام.

    ثانياً: أن خلاف العلماء في هذه المسألة يدور بين القول بالوجوب وبين القول بالاستحباب، فأصل المشروعية موضع اتفاق بين جميع علماء الأمة، وقد نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) عن الإمام ابن المنذر رحمه الله إجماع العلماء على مشروعية أن تسدل المحرمة الثوب على وجهها لتستتر به عن نظر الأجانب.

    1.   

    مخالفة إسماعيل منصور لجميع العلماء في تفسير آية الحجاب

    يقول إسماعيل منصور : أجمعت الأمة على أن آية الحجاب خاصة بأمهات المؤمنين. والعكس هو الصحيح، فإذا رجعنا إلى كلام العلماء فلا نكاد نجد مفسراً واحداً من المفسرين يقول: إن آية الحجاب خاصة بأمهات المؤمنين. بل إن عامة العلماء ابتداءً من شيخ المفسرين ابن جرير الطبري ، ثم القرطبي ، ثم ابن كثير ، وجميع المفسرين على مرّ العصور ينصّون بقولهم: وهذه الآية وإن كانت نزلت في أمهات المؤمنين فحكمها عام لسائر نساء الأمة.

    وليس هذا مجال التفصيل في الكلام، لكن هل يحل له أن يدّعي الإجماع بدون أن يسند كلامه إلى أي مرجع؟! وإلا فمن أين حكى هذا الإجماع؟!

    ثم يأتي إلى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59] فيقول: لو كان في هذه الآية هذا الحكم للزم أن يتحقق فيها الإجماع، لكن الذي حدث هو العكس تماماً، وهو أن جلّ العلماء الثقات والمفسرين على أنها لا تدل على تغطية الوجه على الإطلاق، وغاية ما فيها تغطية الجسم بالجلباب الذي لا يتضمن الوجه كما هو معروف!

    ثم يعتبر العلماء الذين قالوا بخلاف ذلك قلة نادرة، وهذا مخالف تماماً لأقوال جميع المفسرين في جميع الأعصار في هذه الآية، كما سنبين إن شاء الله تعالى.

    ونحن نتحداه أن يأتي باسم عالم واحد فقط خلال أربعة عشر قرناً قال: إن النقاب حرام! والكتاب الذي ألفه يحتوي على مائتين وخمسين صفحة تقريباً ليس فيه دليل واحد على تحريمه، ولا يستقيم له دليل واحد، بل كلها عمومات ومغالطات وتمويه، وليس هناك تأصيل ولا عزو لأي عالم من علماء الأمة على الإطلاق.

    1.   

    مخالفته لجميع العلماء في انتقاب الصحابيات

    يقول: اذكروا لنا واحدة من الصحابيات -فقط- تنقّبت؟!

    سبحان الله! كل الصحابيات في الأصل أنهنّ منقبات، وهذا لا يحتاج إلى دليل كما سيأتي إن شاء الله، بل ذلك -في الحقيقة- فضيحة، وإنها لمأساة أن ينسب مثل هذا إلى العلم، وأن يجترئ هذه الجرأة على شرع الله تبارك وتعالى، وسوف نأتي بالمزيد.

    ولو كان كلام الرجل صحيحاً -فرضاً- فمعنى ذلك أن الأمة كانت غارقة في الضلال لمدة أربعة عشر قرناً تنتظر ولادته السعيدة حتى يخرجها من الظلمات إلى النور!

    ولم يوجد عالم قال ببدعته وضلالته، ويا ليته كان أهلاً للاجتهاد وعنده كفاءة في الاجتهاد حتى يكون ما قاله قائماً على قول الظاهرية وبعض الحنفية أنه يجوز إحداث قول آخر زيادة على الخلافات المذكورة من قبل، وإن كان جمهور العلماء يمنعون إحداث أقوال أخرى.

    ثالثاً: إذا رجعنا إلى تصريح العلماء الثقات وجدنا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرة تحتجب والأمة تتبرج. ونقل الإمام ابن رسلان عن إمام الحرمين اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وما زال علماء الأمة عبر العصور يتناقلون هذه الكلمة عن إمام الحرمين بالتسليم والقبول.

    وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات.

    وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال.

    هذه الفقرة بترها تماماً، وأنا أسميه الهروب الكبير؛ لأن الرجل عرف تماماً أن هذه النصوص لو أثبتها لشكّ الناس في كلامه، لكنه قال:

    ثالثاً: نعم، فإذا رجعنا إلى تصريح العلماء الثقات وجدنا (ويأتي هنا برأي شيخ الإسلام ابن تيمية وإمام الحرمين والغزالي ويكرر رأي ابن حجر السابق) فأخفى كلام العلماء حتى لا يفتضح، فأقول:

    أولاً: هذا ليس رأياً، بل هذا نقل عن المسلمين في كافة العصور، فليس من الأمانة أنك تقول: رأي ابن تيمية . فهو ليس رأي ابن تيمية ، بل هو نقله، ونقل ابن حجر ، ونقل الجويني ، ونقل الغزالي ، فليس من الأمانة أن تسميه رأياً لهؤلاء الأئمة.

    1.   

    تجاهله لأقوال أهل العلم وعدم التأدب معهم

    ثم يغالط ويقول: وأقول لسيادته -أي: يقول لي-: إنك -يا أخي- تفعل مثلما يفعل أحد المتخاصمين -لا أقول الخصمين- الذي يختلف مع أخ له في أمر ويريد أن يدلل على صدق موقفه أمام القضاء، فيسرد أسماء أشخاص قالوا بصدقه وأنه على حق، دون أن يدخل في لب القضية فيعرضها ويبينها، ولو أن كل أتباع رأي أتوا بأسماء العلماء المؤيدين لهم لبقي الخلاف في كل الأمور قائماً، لكن الأصح هو أن نأخذ الرأي بدليله دون أن نعجب بالأسماء أو نستكثر منها.

    وأقول: هذا لو كان في المسألة خلاف، لكن كل العلماء ضدك، وأنت يتيم خارج عن الجماعة، فكيف تدلس وتوهم أن هناك خلافاً في القضية، وتقول: ولو أن كل واحد جاء بأسماء العلماء.. إلخ؟!

    بل كل العلماء لم يقل منهم أحد بقولك، فائت بعالم واحد خلال أربعة عشر قرناً قال ببدعتك وضلالتك!

    ثم يفتخر ويقول: هل رأيتني -يا أخي- في كلامي عن النقاب أذكر أسماء أو أعرض أدلة، إن الذي قرأ الكتاب يعرف ذلك جيداً، ولهذا فما زلت أقول لك: المشكلة أنك لا تعرف حقيقة المنهج العلمي أصلاً، فلا يعقل أن أزعم أنني وحدي على الحق دون سائر العلماء الأفاضل، معاذ الله!

    يقول هذا وهو يشتم العلماء الأفاضل كلهم، ويقول: إنهم تأخذهم العزة بالجهل! ويصفهم بالجهل والسفه وأقبح الصفات، وهو هنا يدعي أنه يحترم رأي الآخرين.

    يقول: معاذ الله! إنما قدمت رأيي الذي اقتنعت به، ولم أقتنع بآراء علماء أفاضل. وكان ينبغي أن يقول: لم أقتنع بآراء كل العلماء الأفاضل لأنه خالفهم كلهم، فهو يوهم أن هناك علماء معه يؤيدونه.

    يقول: ولم أقتنع بآراء علماء أفاضل على الرغم من ذيوع شهرتهم وعلو منزلتهم؛ لأن كلامهم لم يكن قوياً من الناحية العلمية مع تقديري لمكانتهم العالية! ولا أكتمك هذا؛ فإني لو كنت أرى أن الناس يحتملون نقد كلام هؤلاء الكبار وبيان عدم قوة الدليل العلمي لبينت لهم ذلك، ولكن الناس لا يحتملونه الآن.

    إذاً: ما زال هناك أشياء ستأتي، ولعلي -بفضل الله- أقدم ذلك فيما بعد إذا استطاع الناس أن يحتملوه بمشيئة الله تعالى وفضله ورحمته.

    أقول: وإنما ذكرت اتفاق المسلمين على مشروعية النقاب بهذه النقول المختصرة لبيان فساد هذه المقولة المبتدعة، وأنها مخالفة لسبيل المؤمنين، ولست بصدد الكلام على أدلة وجوب النقاب -وما أكثرها- لأن لكل مقام مقالاً، ومع أنني قلت له: ليس هذا مقام التفصيل. فأوهم أن هذا كل الرد الذي أرسلته، وخبأ الجزء الثالث الذي فيه الأدلة، ثم بتر الفقرة التالية بكاملها وأخفاها؛ لأنها تفضح جهله أيضاً، ولم يذكر منها إلا هذين السطرين:

    السبب الرابع: أن هذا الرأي الكاسد والقول الفاسد لا يدخل في الخلاف السائغ.

    وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر

    وبتر الكلام ووقف هنا، ثم أخذ يرد عليه، وقال:

    ثم يقول صاحب الرسالة بعد ذلك: رابعاً: أن هذا الرأي الكاسد والقول الفاسد لا يدخل في الخلاف السائغ.

    وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر

    وهنا -أيضاً- نردف بتعليقنا على ذلك فنقول: هل وجدتني -يا أخي- استندت في قولي بالتحريم إلى أن القول في النقاب قول فيه خلاف!

    فالمصيبة أنه لا يعتبر أن المسألة فيها خلاف، وأنا أقول له: إن هذا خلاف لا يجوز؛ لأن الخلاف فيه تناقض في أقصى الطرفين.. إلى آخر ما أذكره، فيرد بقوله: من قال لك: إن فيها خلافاً؟

    فهو -أيضاً- يهمل أقوال جميع العلماء الذين يقولون بالوجوب أو الاستحباب، أو حتى لو قال أحدهم بالإباحة فكلامه مهدر عنده ليس له قيمة، وكأنه يقول: كل عالم يقرر رأيي الذي أميل إليه، ومعاذ الله أن أقول: إن هذا باحث عن الحق.

    يقول: هل وجدتني -يا أخي- استندت في قولي بالتحريم إلى أن القول في النقاب قول فيه خلاف، ثم أصدرت بناء على ذلك رأيي بالتحريم؟! لو أني فعلت ذلك لحق لك أن تنظر في قولي من حيث إنه يتعلق بالاختلاف من عدمه، لكنني درست موضوع النقاب دراسة تأصيلية بعيدة عن أقوال العلماء!

    وهذه أعظم وثيقة إدانة لهذا الجاهل؛ إذ كيف يتعلم بدون العلماء؟! وهذه تكفي في إبطال كل ما يمكن أن يخرف ويهرف به، ومع ذلك فهو يفتخر في موضع آخر ويعيرني بأني أعتمد على كلام العلماء، حيث يقول: لأنك لا تستطيع أن تنظر في الأدلة بنفسك!

    وهذا قطع لأعظم أسباب التوفيق، ألا تسأل أهل الذكر؟! فقد قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    فيقول: لكني درست الموضوع -موضوع النقاب- دراسة تأصيلية بعيدة عن أقوال العلماء، سواء من أيّد أو من عارض.

    وأقول: كلهم عارضوك، ولا أحد منهم أيدك.

    ثم يقول: إنني درست النصوص بالحياد العلمي، وحققت ما استطعت من النصوص النبوية الشريفة، وكنت أقرأ الرأي فأدرسه، ولا أقول: قال فلان لتأييد وجهة نظري، كما لم أذكر بعض هذه الأقوال إلا نادراً لإثبات حق العلماء في ذلك.

    1.   

    مراوغة إسماعيل منصور والحمزة دعبس في الرد على الرسالة

    بعد هذه العبارة التي رد عليها هرب من مواجهة الحقيقة، ولم ينشر -أيضاً- هذه العبارة المهمة جداً في القضية، وهي:

    وإنما ينظر في الخلاف إذا كان بين أمرين كلاهما مطلوب الترك: إما على وجه الحتم واللزوم فهو الحرام، أو غيره فهو المكروه، أو بين أمرين كلاهما مطلوب فعله: إما على وجه الحتم واللزوم فهذا الواجب، أو غيره فهو المستحب، أما الخلاف غير المعتبر ابتداء فهو ما يصفه فضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى في كتابه (ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين) بأنه أخطر أنواع الخلاف، وهذا ما لا يصح نسبته إلى الشريعة المنزهة عن التناقض، قال الله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].

    فليت شعري -أي: ياليتني أعلم- ماذا تفعل المسلمة التي تريد أن تحتاط لدينها في عمل إن هي عملته عوقبت في نظر البعض، وإن لم تعمل نفس العمل تكون آثمة معرضة للعقاب في نظر البعض الآخر، لا ريب أن الحق هنا في أحد القولين ولا يتعدد، والحاصل أن الخلاف الذي ينتصر له الأستاذ حمزة لا يُعتدّ به، ولا يجوز النظر فيه أصلاً بهذا الاعتبار.

    فقال في رده على كلامي السابق:

    ثم يقول في نفس الموضع: فليت شعري ماذا تفعل المسلمة... إلى قوله: في نظر البعض الآخر. وأقول تعقيباً على ذلك: إنني سأدلك يا أخي على ما يجب أن تفعله المسلمة في هذه المسألة دون أدنى حيرة: إن عليها أن لا تزيد شيئاً على هدي نبيها صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة الأفاضل رضوان الله عليهم!

    وهكذا يظل يأتي بالعمومات، ويستدل بنفس الدعوى على أن النقاب حرام.

    ثم في موضع آخر يقول: إن النقاب حرام؛ لأن النقاب من الخبائث، والرسول أتى ليحرم علينا الخبائث!

    ونقول له: اثبت -أولاً- أنه من الخبائث؟ وهو غريب جداً في فهمه للآيات والأحاديث ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونقول له أيضاً: عليك باتباع الصحابة واتباع الكتاب والسنة. لكنه يأتي بالكلام العام ويهرب من الأدلة العلمية.

    ففي آخر الجواب يقول: إن كان عندك علم في ذلك فأخرجه لنا، فإن لم تجد فأحب أن تلتزم بهذا الحديث كما التزمنا به، فلا تخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بأية اختراعات!

    وأقول: فمن الذي يخترع ويبتدع؟! ما رأيت باطلاً أشبه بحق من كلامك.

    بعد ذلك قلت له في الجواب: وأخيراً: لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم دواء داء الفرقة بقوله: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، فالسنة تجمع المتفرقين، وتوحد المختلفين، ولقد جعل الله عز وجل إجماع العلماء حجة معصومة من الضلال، فلا يصح أن نجعل ما يضاده -وهو الاختلاف- حجة أيضاً، بل علينا أن نردد مع ابن مسعود رضي الله عنه قوله: الخلاف شر. وما أحسن قول حافظ المغرب الإمام أبي عمر ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله): الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله.

    أذكر هذا مع أن دائرة الخلاف في المسألة التي نحن بصددها قد ضاقت إلى حد كبير في هذا الزمان، حيث يكاد يتفق علماء المذاهب المتبوعة على وجوب الحجاب الكامل لجميع بدن المرأة عن الأجانب، حتى الذين يرون أن الوجه والكفين غير عورة أصلاً، وذلك نظراً لفساد أكثر الناس في هذا الزمان، وعدم تورعهم عن النظر المحرم إلى وجه المرأة الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زنا العين)، ولولا خشية الإطالة لأفضت في ذكر النقول عنهم، وأكتفي بهذا القدر.

    ثم قلت في نهاية الخطاب: وكلّي ثقة إن شاء الله أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب، أُسوة بما فعلته مع عزيز أحمد سكرتير سفارة أفغانستان الشيوعية، وممثل الدولة التي فتكت بالمسلمين، دون أن ترى الجريدة في ذلك ازدواجاً في المواقف المبدئية، والله تعالى من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.

    وفي الأسبوع الماضي الذي بعده مباشرة كتب الحمزة اعتذاراً عن الاعتذار، ثم في نهاية الكلام نشر سطوراً قليلة جداً من الرسالة، ثم قال: إن هذا البحث لا يجوز الحكم ببطلانه بمجرد مطالعة عنوانه، وذلك للأمور الآتية...

    وقدم أسبابه الأربعة، وانتهى الكلام على هذا بأن هذا الخلاف لا يعتد به، ولا يجوز النظر فيه أصلاً بهذا الاعتبار، وقال: إنه كله ثقة بمشيئة الله تعالى أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب، وبتر بقية الكلام.

    وأقول له: كيف تقول: الرأي والرأي الآخر، وحرية الرأي!

    إنها رهبانية ابتدعوها وما رعوها حق رعايتها، فحرية الرأي أصلاً بدعة ضلالة، ثم تُعطى حرية الرأي لإنسان مضل مبطل يناقض كلام الله وكلام رسوله، فهذه ليست حرية رأي، ومع ذلك يا ليتكم احترمتم حرية الرأي، لكنها الخيانة كما ترون.

    فأنا أريد أن أبكته بطريقة غير مباشرة؛ لأنه ينشر مقالة لـعزيز أحمد سكرتير دولة أفغانستان الشيوعية، ويقول: من باب حرية الرأي والرأي الآخر جاءنا هذا الرد من عزيز أحمد سكرتير دولة أفغانستان. وهي مقالة طويلة بطول الصفحة كلها، يهاجم فيها الإخوة الأفغان المجاهدين، ويطعن فيهم، ويدافع عن الحكومة الشيوعية العميلة، فأنا أقول له: ساو بيني وبين عزيز أحمد هذا، وعاملني مثلما تعامل هذا الشيوعي الملحد، وانشر كلامي بأمانة كما نشرت الرأي الآخر للرجل الشيوعي.

    لكنه بتر الكلام وقطعه عند قولي: (وكلي ثقة إن شاء الله أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب) وقطع الكلام على هذا، وحذف العبارة التي قلت فيها: أُسوة بما فعلته مع عزيز أحمد سكرتير سفارة أفغانستان، وممثل الدولة التي فتكت بالمسلمين، دون أن ترى الجريدة في ذلك ازدواجية في المواقف المبدئية.

    فبتر هذا الكلام وأظهر أني حريص على أن ينشر الرد في الجريدة وينشر اسمي!

    فقال: وقال: وكلي ثقة في أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب. ولا شك أننا بإذن الله تعالى سوف ننشره وكافة التعقيبات الأخرى بعد نشر مقالات الدكتور إسماعيل منصور في تحريم النقاب؛ لتكون مواجهة الدليل بالدليل والبرهان بالبرهان؛ إذ لا يكفي في هذا الصدد الرد على العنوان!

    ثم يقول في اعتذاره: عندما كتبت مقدمة من البحث القيم للدكتور إسماعيل منصور لم أكن أحسب أن هذا الموضوع سوف يثير هذه الانفعالات المتباينة، وكنت قد أكدت أنني استشرت من حولي ممن أثق بعلمهم فأشاروا بعدم نشره، ولكنني لم أكن قد استخرت!

    وأقول: في أي شيء تستخير؟! إن صلاة الاستخارة تكون في شيء مباح أو حق، لكن أن تستخير في أن تعصي الله وتنشر الباطل فلا تجوز الاستخارة أصلاً في هذا الباطل.

    يقول: لم أكن قد استخرت عندما اعتذرت عن نشر هذه السلسلة، واتفقت في ذلك مع الدكتور إسماعيل منصور على الاستخارة!

    إلى آخر الكلام في (الاعتذار عن الاعتذار) ثم أخرج الرسالة إسماعيل منصور أخيراً من الدرج إبان غزو العراق للكويت مباشرة، وفجّر هذه القنبلة، وظل ينتقد ويرد على رسالتي بعد سنة ونصف تقريباً أو أكثر من إخفاء الرسالة، ثم يوهم أن ردي على كتابه هو هذه الرسالة، والصحيح أن الرسالة كُتبت قبل أن ينشر شيئاً من مقالات إسماعيل منصور ، بدليل أن تاريخ الرسالة هو (11/3/1989م).

    ثم يقول: وهذه الرسالة تقوم في موضوعها الأساسي على الاتهام الذي لا يتوافق مع أي منهاج من مناهج العلوم قديماً أو حديثاً، فلم يتطوع بالرد على واحد منها بآية كريمة.

    فيقول: لم يتطوع بالرد على واحد منها -أي: من أدلته- بآية كريمة، أو حديث شريف، أو قاعدة فقهية، أو حجة اصطلاحية، وإنما اكتفى باتخاذ مقام الواعظ المعرض عن الموضوع كله ابتداء، مقرراً من أول وهلة أن الصواب الكامل والحق الصراح هو في الحكم على كل هذه المقالات بالبطلان دون انتظار لقراءة ما فيها، بل من مجرد قراءة عنوانها هكذا، ولا ندري كيف رضي صاحب الرسالة بهذا القول الذي لو طبق في مجال البحث العلمي لأغلقت الجامعات أبوابها، ولطفقت ساحات العلم خاوية، فلا تجد من تؤويه، ولطمست أمجاد علماء الإسلام الجهابذة وآثارهم العظيمة، سواء أفذاذ الصحابة الأفاضل رضوان الله عليهم أو أعلام التابعين الأوائل رضي الله عنهم، الذين انتظموا جميعاً في طريق بيضاء نقية، لا تعرف في مناقشة الأمور العلمية سوى تقديم الحجج، وسوق البراهين، واستخراج الأدلة، ولم يلجئوا في إقامة علومهم إلى المصادرة على الأقوال، ولا اتهام نيات أصحابها أو التسرع في الحكم دون دراسة أو تمحيص.

    وأقول: كأنه ظن نفسه في معمل الطب الشرعي (معمل السموم) حيث تكون التجربة، ثم المشاهدة، ثم الاستنتاج، ولم يعلم أنه مع مسألة شرعية تحكمه قواعد من الكتاب والسنة، فليس لنا أن نُخضع العلوم الشرعية لأهواء الناس، وكل يقول بحجة البحث العلمي فيخترع ما شاء، لا، فهناك ضوابط وموازين وأصول وقواعد ثابتة، والرجل يريد أن يسبح في الفضاء، ولا يريد أن يتقيد بضوابط أو بقواعد أو بأصول، ثم يلجأ إلى المغالطة، حيث انتقل مباشرة إلى الكلام عن المنهج العلمي، وإغلاق الجامعات و..، فهل هذا هو الأسلوب العلمي؟! الله المستعان!

    ثم يقول: يا أخانا المسلم الفاضل! قدم لنا علماً ودليلاً وبرهاناً.

    يَتَمَسْكنُ بهذه العبارة حتى يظهر للناس أنه مسكين ومغلوب على أمره، مع أنني أرسلت له الكتاب في مائتين وخمسين صفحة مملوءة بالأدلة الكافية.

    ثم يقول: فلعلنا نتعلم من علمك هذا، وإلا كنا نحن المخطئين، ولصرنا بذلك عن حدود الأدب خارجين، ومن يدري! ربما حكم علينا بأشد من ذلك وأعظم، أليست هذه مأساة؟! أليست هذه كارثة؟! بل إن صاحب الرسالة يحكم علي بسبب هذه المقالات التي فيها الرد على تحريم النقاب بأني ليست لي مسكة من فقه؛ لأني تجاسرت على هذا القول، بينما أستطيع أنا الآن أن أحكم له بأنه أخ فاضل، يبدو أنه محب لدينه القويم، غيور على حدوده وأحكامه، وأُحسن الظن به، لكن أرى أنه لا يعرف حقيقة المنهج العلمي الإسلامي، وربما احتاج إلى سنين وسنين ليقف على بداية ذلك بالمعنى الصحيح، وتلك هي بؤرة الكارثة وأساس البلوى!!

    وأقول: لعله يكون مُحقاً في هذا معي، لكن ما باله يرد على العلماء؟! فإنه لا يرد علي فقط، فأنا طالب علم لا غير، وأنا واقع في كل هذا وأكثر، ومن حقه أن يقول هذا لي، لكن ماذا يصنع مع العلماء والأئمة؟!

    ثم يقول: وربما احتاج إلى سنين وسنين ليقف على بداية ذلك بالمعنى الصحيح، وتلك هي بؤرة الكارثة وأساس البلوى، أن يتصدى للكلام في العلم الوعاظ والمتحمسون والفتيان، ثم يتقدم صاحب الرسالة خطوة جديدة بعد ذلك، فيعطي القارئ انطباعاً بأنه يناقش بأسلوب علمي .. إلى آخر كلامه.

    وأقول: على كل حال هل من الإنصاف أن تنشر الرد -يا حمزة دعبس - من خلال نظارة الخصم؟!

    إنَّ المفروض -كما وعدت من البداية- أن تعطي كل واحد فرصة الكلام، فأنت الذي تصادر الآراء، وأنت الذي خبأت هذا الكلام، وأنت الذي بترت النص، فأنتما اشتركتما في نفس هذه الجريمة.

    هذه وقفة كان لا بد منها في استعراض التاريخ الابتدائي لهذه القضية، وأنا حريص على أن نتكلم بعلم، ولا نلقي بالاتهامات جزافاً.

    1.   

    خذلان الله سبحانه وتعالى لإسماعيل منصور في بداية بحثه

    إن الله سبحانه وتعالى خذله في بداية البحث وفي خاتمته، وأما ما بين الدفتين فإن شاء الله سنتكلم عنه فيما بعد ذلك.

    فأول الأمر هو أنه تعالى قطع عنه أعظم أسباب التوفيق، وهو سؤال العلماء، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وقال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].

    فلو أن الحمزة عرض البحث على أهل العلم قبل أن ينشره لكان قد جنب الأمة شراً عظيماً؛ إذ كيف يمكن أن ينشر مثل هذا البحث بهذه الطريقة؟! أين المسئولية أمام الله؟! فأول شيء كان يجب أن يفعله هو أن يعرضه على أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم.

    ثم ختم الكتاب -أيضاً- بما سنذكره، فأعرض تماماً عن كلام العلماء، ولا يوجد عزو واحد فقط إلى أي مصدر علمي، لا تفسير ولا فقه ولا أصول ولا ذكر لاسم عالم واحد فقط، بل ويفتخر بذلك، ويعتقد أن هذا من أعظم محاسنه!

    وأقول: إن اتباع نظر من لا نظر له، واجتهاد من لا اجتهاد له هو محض ضلالة، ورمي في عماية، فهذا هو مقتضى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا).

    إعراض كامل عن سؤال أهل الذكر مع ادعاء الاجتهاد والتجديد، حيث يدعي أنه يجدد للناس أمر دينهم، وأنه مجتهد بلغ مرتبة الاجتهاد! فماذا تكون النتيجة؟

    النتيجة هي هذه الثمرات المريرة، وهذه الجرأة على الله والقول على الله بغير علم، فإن التعالم دائماً هو عتبة الدخول على جريمة القول على الله بلا علم المحرمة لِذَاتها تحريماً أبدياً في جميع الشرائع والملل، وهذا مما عُلم من الإسلام بالضرورة.

    فنقول: هل الصحابة عرفوا أن النقاب حرام؟! فإن عرفوا أن النقاب حرام فهل وسعهم أن يعلنوا أن النقاب حرام أم سكتوا عن هذا؟

    فإن ادعى أنهم أعلنوا فأين الدليل؟! وإن علموا أنه حرام ولم يظهروا ذلك فنقول له: أفلا وسعك ما وسعهم؟! وإنا لندعو عليه كما دعا عبد الرحمن الأذرمي على بعض أهل البدع في مناظرة حكاها ابن قدامة في لمعة الاعتقاد، فنقول لـإسماعيل منصور : هل وسع الصحابة والسلف أن يسكتوا عن تحريم النقاب أم لم يسعهم؟

    فإن قال: وسعهم أن يسكتوا عن تحريمه فنقول: لا وسّع الله على من لم يسعه ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالحين والخلف من بعدهم.

    ولا يسعني في هذا المقام أن أتكلم بالتفصيل، وإن كنت في شوق شديد إلى أن نفضح هذه الجريمة، ونكشف عدوانه بالأدلة، فإنه يتكلم في العلماء الذين خالفوه فيقول: أم ماذا أصاب عقولهم على وجه التحديد؟!

    كأن العلماء ناقصو العقل!

    ثم يختم البحث فيقول: لقد فتح لنا العلم الموضوعي في هذا البحث المحايد آفاقاً عظيمة في الإسلام تقوي العقيدة، ونحن نفاخر بذلك، ونعتقد أنها تكون في ميزان حسناتنا، وأننا سوف ننال بها -إن شاء الله- الفردوس الأعلى من الجنة... إلى آخره.

    فهو يعتقد عقيدة إيمانية يقينية راسخة -وسبحان الله!- أن بحثه فتح آفاقاً عظيمة في الإسلام تقوي العقيدة، وتثبت الأحكام، وتدفع إلى مزيد من الالتزام!

    وأقول: إنما هو التزام بهدي هدى شعراوي ، ومزيد من الالتزام بهدي قاسم أمين ، لكن لا مزيد من الالتزام بهدي عائشة أم المؤمنين، أو حفصة ، أو أسماء .

    1.   

    طغيان إسماعيل منصور في بدعته

    المؤلف لا يبيح في هذا الكتاب للمرأة كشف الوجه فقط، بل أن تظهر الزينة الملحقة بالوجه والكفين، وتلبس ما شاءت من الزينة في كفيها، وتضع ما شاءت من الأصباغ على وجهها، ويبيح ذلك بسوء فهمه للأدلة، أهذا هو مزيد من الالتزام الذي يدفع إليه هذا البحث؟!

    وقد قيل: (من ثمارهم تعرفونهم) ونقول: دعوى الاجتهاد والتجديد مع الاستغناء عن أهل العلم ينتج ثمرات مثل هذا البحث، فما هي ثمراته؟!

    الجواب:

    يقول: ومن ثمرات ذلك أننا صرنا ننظر إلى أمر المرأة المتبرجة في مقارنة مع المرأة المنقّبة، ونحن نشفق على الثانية -أي: المنقبة- أكثر من إشفاقنا على الأولى -أي: المتبرجة-؛ لأن الأولى -المتبرجة- عاصية تعلم أنها عاصية، بينما الثانية عاصية تعلم أنها فاضلة، كما أن الأولى ليست عرضة للكبر والعجب المانعين من دخول الجنة، بينما الثانية أكثر عرضة لذلك!

    وأقول: من التي هي أقرب للكبر: التي تتزين بالملابس الباهية والذهب والحلي وتضع المكياج على وجهها وغير ذلك من أدوات الزينة، أم التي تستر نفسها؟! فهو يعتقد أن المنقبة عرضة للكبر أكثر من المتبرجة!

    ثم يقول: فأيهما أحق بالإشفاق؟! وأيهما أقرب للتوبة؟! وأيهما أولى بالاستغفار لها؟!

    إن المنقبة تحتاج إلى أن نستغفر لها مرتين، بينما المتبرجة مرة واحدة؛ لأنها أقل ابتلاء وأقرب إلى سواء السبيل! وإن كانتا كلتاهما منحرفتين عن الهدي النبوي، دون أن يكون المنحرف يميناً أفضل من المنحرف إلى ناحية الشمال، الكل في العدول عن الحق سواء.

    يقول: وهكذا تمضي المنقبة في الطريق قد رفعت شعار مخالفة الهدي النبوي الأمثل، ومعاداة سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ومخالفة فعل الصحابيات الفاضلات جميعاً!

    يقول: وتشبهت ببعض طوائف أهل الكتاب، وألقت بنفسها في فتنة الكبر والعجب الذي لا يدخل أحد الجنة وفي قلبه مثقال ذرة منه، وصدت من رآها عن سبيل الله!

    يقول: وصورت للناس الإسلام على أنه ضيق وعنت، وأنه يأخذ أتباعه بهذه الشدة ولا يرحم، فعسّرت ولم تيسّر، ونفّرت ولم تبشر، وعرقلت مصلحتها في السعي في هذه الحياة السريعة الحركة!

    وهذه النزعة الغزالية إنما هي (شنشنة نعرفها من أخزم) وإلا فمن التي تتشبه بأهل الكتاب: المتبرجة أم المنقبة؟! وهذا الكلام يدل على نفس ممتلئة غيظاً، فهو ينفث هذه السموم لأنه متخصص في السموم!

    وكأنه بهذا الكلام يرى أنه لا بد من تلطيف الجو للناس، وتخفيف كثافة نور الإسلام حتى لا يعشو أبصار الكافرين، فإن أعين الكفار لا تحتمله.

    يقول: وأضرت ببصرها بهذا التضييق غير المشروع! وربما اصطدمت بالناس أو بوسائل المواصلات بسبب الإبصار بعين واحدة، فلا تحدد المسافة على الإطلاق، وحرمت نفسها من أحكام شرعية عظيمة وسنن ثابتة!

    أقول: إن من النماذج المهولة في بحثه أن عادته في الكتاب أنه يكذب الكذبة ثم يصدّقها، وخياله واسع جداً، حيث يتوهم ويتوهم، ثم يتعارك مع صدى الصوت حينما يرجع إليه وكأنه إنسان آخر يرد عليه!

    انظر كيف أنه يتخيل ثم يتعارك مع نفسه، لذلك أسمي ما قاله: (العراك مع صدى الصوت) إذ يقول: قد يذهب البعض ممن يحبون الجدل العقيم إلى القول بأن حجب العين اليمنى وإبراز اليسرى هو من قبيل تكريم العين اليمنى، وبذلك يحدث التوافق مع معنى التيامن الوارد في الحديث السابق، ونحن نقول: إن هذا كلام واه سقيم؛ لأنه -ببساطة شديدة- يقلب الحديث الشريف رأساً على عقب، إذ يجعل نظر المرأة من باب التشامل لا التيامن، وهذا يمثل خروجاً على قاعدة التيامن الواردة، ولو كان استثناء منها للزم النص عليه شرعاً، لا أن يلتقط من هنا وهناك، كما ثبت في السنة الحث على تقديم اليد اليسرى دون اليمنى عند الاستنجاء، فهذا مما هو معلوم بطريق الشرع بالنص عليه، وهو ثابت في بابه، وليس هاهنا مجال للتوسع فيه، فتأمل.

    أقول: نعم تأمل!

    ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان

    لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني

    ثم يقول: كما أن الزعم بأن الحجب في الجوارح تكريم هكذا وفق الهوى ودون نص ثابت يؤدي إلى إمكان القول بأن من تكريم اليد اليمنى حجبها عند الطعام وتقديم اليسرى بدلاً منها، وهذا مخالف للسنة النبوية الشريفة، فإن قيل: كلا، إن تقديم اليد اليمنى لتناول الطعام والشراب والنهي عن تقديم اليسرى لذلك ثابت نصاً فلا تصح المخالفة.

    قلنا: إن ذلك مسلّم به، فهل ثبت لديكم نص بإبراز العين اليسرى للنساء عند الإبصار وتأخير أو حجب اليمنى؟ إن كان لديكم هذا النص فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

    وأقول: انظر كيف خرج هكذا عن الموضوع الأصلي الذي نتناوله بالنقاش! فهل نحن نتكلم عن تكريم الأعضاء أو عن قاعدة التيامن في كل شيء؟! سبحان الله! هكذا تكون المراوغة عند الإفلاس عن وجود الدليل.

    الرجل يتعارك مع نفسه، فصوته يعود إليه ويتعارك مع صدى الصوت؛ إذ لا يوجد أحد افترض هذا الكلام التافه، وهذه التلبيسات كثيرة في كتابه من أول الكتاب إلى آخره، فانظر إلى العلم والاجتهاد والتجديد! ثم بعد هذا تفتح له الجريدة بهذه الطريقة المريبة!

    الخاتمة السيئة لكتاب إسماعيل

    يقول في خاتمة الكتاب: أضرت المنقّبة ببصرها بهذا التضييق غير المشروع، وربما اصطدمت بالناس أو بوسائل المواصلات بسبب الإبصار بعين واحدة، فلا تحدد المسافة على الإطلاق، وحرمت نفسها -وانظر إلى العبقرية- من أحكام شرعية عظيمة وسنن ثابتة، مثل:

    1- بشاشتها في وجه أختها المسلمة التي هي صدقة.

    2- حرصها على الشهادة لله فيما يجد من أمور مفاجئة أو تبايعات أو حوادث في الطريق؛ ليحق الحق ويبطل الباطل، بأن يعرفها من يريد شهادتها فيما شهدت فيدعوها إلى الشهادة بعد ذلك.

    3- معرفتها لأختها أو جارتها المسلمة حتى تتعاون معها على البر والتقوى.

    أقول: لا تستغرب هذا؛ لأنه فهم من آية الحجاب أن النقاب يكون داخل البيت وخارج البيت، وسيأتي النص على ذلك.

    ثم تأمل قمة العدوان والبهتان والظلم المبين، وهي خاتمة السوء لكتابه والعياذ بالله.

    إذ يقول: وفَتَحَتْ -أي: المنقبة- أبواباً خبيثة تستجلب الضرر للمسلمين؛ إذ يمكن أن يؤوي هذا الغطاء بعض المجرمين والهاربين من القصاص الذين يستترون به حتى يتموا أغراضهم في غفلة من رأي العامة!

    وأقول: وهل المجرمون محتاجون إلى أن يختفوا الآن؟! وهل الفاسقات يحتجن إلى الاختفاء في هذا الزمان وفي هذا المجتمع الذي نعيشه؟! هذه واحدة.

    والله لو كان هناك سلطان شرعي لعّزره ولأدبه على هذا الكذب والبهتان، فالله المستعان!

    قال: ويئوي كذلك رجالاً يدخلون بيوتاً على أنهم من النساء لمظهرهم، فيؤمن من جانبهم، بينما هم يأتون الفاحشة في هذه البيوت!

    ويئوي بعض غير المسلمين الذين يدخلون إلى مساجدهم واجتماعاتهم الدينية والعلمية للتجسس عليهم والكيد لهم.

    ويئوي بعض اللصوص في المواصلات العامة، فتكثر الجريمة، ويزيد الإفساد في الأرض!

    ويمكن للنساء المنحرفات أن يسرن مع غير أزواجهن، ويسافرن معهم دون خوف كشف أمرهن، فتزيد إمكانات الراغبات في الانحراف، وغيره كثير، كل ذلك وهي تحسب أنها تحسن صنعاً بما أتت من مخالفتها لأحكام الكتاب والسنة عموماً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (من دعا إلى هدى كان له من الأجور مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) نعوذ بوجه ربنا الكريم من مخالفة الكتاب والسنة، ومعاندة الهدي النبوي الأمثل، ومعارضة الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة الأفاضل أجمعين، والتشبه بأهل الكتاب، والصد عن سبيل الله! انتهى كلامه.

    فنقول له ما علمناه ربنا سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16] وزور جسيم من مثل هذا الأفاك الأثيم، فهو يعلم تماماً أن الحقيقة على النقيض من ذلك، وهذه الشبهة قديمة قدم الكائدين للإسلام والمنافقين الذين في قلوبهم مرض.

    ونقول له: فض الله فاك لهذا الافتراء الذي يصل إلى هذا الحد من الاتهام وإثارة الريبة في فتيات هن أعز نساء هذه الأمة.

    إن المنافقين في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا أفقه من هذا؛ لأنهم علموا أن المرأة الحرة تبالغ في الستر؛ لأن المرأة التي تبالغ في ستر نفسها تكون قد أعلنت عن عفتها وتصونها، وأنها لا يمكن أن تقارب الفاحشة وقد غطت وجهها أو كفيها، فالمنافقون فقهوا ذلك، فكانوا يتعرضون للإماء بالليل ويعرفونهن لأنهن كاشفات لوجوههن، فإذا رأوا المرأة الحرة كاشفة وجهها يظنونها أَمَة، مع أنه يحرم التعرض للإماء والحرائر، لكن الحرائر كن مشهورات بالعفة، والإماء قد يوجد فيهن شيء غير ذلك، فكانوا يعرفون أن الستر علامة العفة، ويقولون: حسبناها أمة؛ لأنها كشفت وجهها. أفيكون الآن الستر علامة السوء والعياذ بالله؟!

    فالمنافقون في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام أفقه من منافقي زماننا.

    1.   

    حرص العلماء على حفظ السنة وإتقانها

    نختم الكلام بذكر قصة تعيننا على أن نكمل الحوار إن شاء الله فيما بعد، وهي تتعلق بشأن الشخص المتعالم، حين يأتي أحد الناس مثل الحمزة دعبس ويقول: عثرت على كتاب كله أدلة وعلم وكذا وكذا... وينخدع بالعبارات الرنانة التي يمتدح بها الكاتب بحثه، وأن كلامه مليء بالأدلة واتباع القرآن والسنة واحترام السلف واحترام العلماء.

    وكم من فقيه خابط في ضلالته وحجته فيها الكتاب المنزلُ

    فالاستدلال بالعمومات يستطيعه كل أحد، وليس هذا هو المحك؛ لأن هذا لا يعجز عنه أحد، فنجد كثيراً من الناس لا علم عندهم يفتنون بمثل هذا الباطل.

    يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله: المتعالم محل إعجاب من العامة، فالعامي يغتر إذا سمع المتعالم يجيش بتعالمه الكذاب المحروم من الصدق، وقوفاً عند حدود الشرع. وترى العامي يضرب بيمينه على شماله تعجباً من علمه وطرباً، بينما العالمون يضربون بأيمانهم على شمائلهم حزناً وأسفاً من انفتاح باب الفتنة والتغرير بعدة المستقبل بله العوام، فأضحى لزاماً أن نقابل مجاهرتهم هذه بالمجاهرة -لكن بالحق- لكشف باطلهم، وإسقاط تنمرهم، والعمل على هدايتهم واستصلاحهم.

    والقصة التي نختم بها الكلام هي قصة الإمام البخاري رحمه الله حين امتحنه أهل بغداد؛ لأن لها مناسبة، حيث إن الكاتب في بداية البحث زعم أنه يتشبه بالإمام البخاري ، حيث يقول: أنا حرصت على أن أقتدي بالإمام البخاري ، فقبل أن أثبت أي شيء في الكتاب أصلي ركعتي الاستخارة، وحافظت على الوضوء في كل الفترة التي كتبت فيها البحث!

    فإن كان يدعي التشبه بـالبخاري فنريد أن نعرفه بعلم البخاري ، ونذكر هذه القصة بمناسبة الكلام السابق للشيخ بكر حفظه الله

    فالإمام البخاري حينما أتى إلى بغداد أراد أهل بغداد أن يمتحنوه؛ لأنهم كانوا يسمعون عن الإمام البخاري أنه من الحفاظ، فاجتمع حشد هائل من العوام ومن العلماء في هذا الامتحان المفاجئ للإمام البخاري رحمه الله تعالى، فوقف العلماء في جهة والعوام في جهة، واختار العلماء عشرة منهم، وكل واحد من العشرة أعدّ عشرة أحاديث بالسند والمتن فأصبحت مائة حديث، وأخذوا يركبون سند حديث على متن حديث آخر، ويقدمون ويؤخرون بين رجال السند، وهكذا، بحيث أصبح اختباراً دقيقاً جداً لا يمكن أبداً لأي إنسان عادي أن يكتشفه.

    فجلس الإمام البخاري رحمه الله لهذا الامتحان، فوقف العالم الأول، وسرد للبخاري العشرة الأحاديث، فكان كلما قرأ عليه حديثاً يقول له البخاري: لا أعرفه. ثم الثاني فيقول: لا أعرفه. ثم الثالث فيقول: لا أعرفه. وهكذا حتى أتموا المائة حديث.

    وكان العوام كلما قال الإمام البخاري : لا أعرفه يقولون: البخاري هذا جاهل وليس بعالم، فإنه لا يعرف شيئاً؛ إذ كلما يقرأ عليه حديث يقول: لا أعرفه!

    فكان يزداد انتقاصاً في نظر العوام ويزداد ارتفاعاً في عيون العلماء، ولم يتكلم أحد من الفريقين، بل كلاهما متعجب. العوام يتعجبون -في نظرهم- من جهل البخاري -وحاشاه رحمه الله- والعلماء يتعجبون من علمه وقوة حفظه.

    فلما فرغ العلماء العشرة من سرد الأحاديث المائة-حيث سرد كل واحد منهم عشرة أحاديث- رجع البخاري فوراً إلى الأول وقال له: أما أنت فقد قلت كذا وكذا. وسرد له العشرة الأحاديث بأخطائها ثم قال: وصوابها كذا وأعاد العشرة الأحاديث مرتبة بالتصويبات، ثم الثاني والثالث حتى أتم المائة يذكر فيها البخاري الخطأ ثم الصواب حديثاً حديثاً، فانبهر العلماء من قوة حفظه وإتقانه للحديث.

    1.   

    الترهيب من التعالم وادعاء العلم

    في هذا الواقع الذي نعيشه الآن نجد أن بعض العوام فرحين جداً بـإسماعيل منصور -في نظرهم- الذي اكتشف بعبقريته المذهلة أن النقاب حرام، بينما العلماء يبكون أسفاً وحسرة على هذا الدين، وعلى غربة الإسلام بين أهله وفي وطنه، ويصدق ذلك قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرءون القرآن يقولون: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ثم قال لأصحابه: هل في أولئك من خير؟! قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أولئك منكم من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار.

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قام ليلة بمكة من الليل فقال: اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وكان نائماً- وسمعه وهو يقول هذا إشفاقاً -عليه الصلاة والسلام- وكان عمر أواهاً- أي: كثير البكاء والتضرع والدعاء -فقال: اللهم نعم، وحرضت وجاهدت ونصحت. فقال صلى الله عليه وسلم: ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، ولتخاضن البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن ويقرءونه ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير؟! قالوا: يا رسول الله! من أولئك؟ قال: أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار.

    فهذه هي الفتنة المعاصرة، يخب فيها كل خب، وإن تركنوا إليهم مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة:47].

    فما أحوجنا إلى الصدق، وإنا لنشهد ونقيم الشهادة لله تبارك وتعالى على أن كتاب هذا الإنسان لا يصنف أبداً في قوائم البحوث العلمية، ولا مكان له في درجاتها، ولا حتى في أحط دركاتها، كيف وقد قام على التمويه والكذب مما يأسى عليه الإنسان الكريم؟!

    وإذا عري الكتاب عن زخرف القول واللعب بالألفاظ فلن يكشف ذلك إلا عن ضحالة فكر وضلالة قلب، فليتق الله المسلم فيما يقول ويكتب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم .

    وقال صلى الله عليه وسلم: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده .

    فيا طالب الأخرى ويا مبتغي الهدى ليسعد عند الله في يوم يسأل

    لعمري لهذا الحق يعلو مناره عليك به إن الأباطيل تسفل

    وأستعير هنا عبارة ختم بها الشيخ أبو بكر جابر الجزائري حفظه الله كتابه (القول الكريم الغالي في الدفاع عن الداعية محمد الغزالي) حيث يقول في آخر كتابه: آه وآه ثم آه، وهل ينفع أهل آه ألف آه، إلى هنا كل القلم من شدة الألم، وضاقت النفس من قوة الرفس، فأرجو أن أكون أزحت الستار، وبينت العوار، ومن لم يستره الليل لا يستره النهار، ومن لم ير بالتوبة الجنة فسيرى بالأبصار النار، والأمر لله الواحد القهار.

    نسأل الله أن يرزقنا هدياً قاصداً، وأن يجنبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء.

    سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755934605