إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [44]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأدلة على زيادة الإيمان أكثر من أن تحصى من القرآن والسنة، وقد استدل المخالفون لهذه العقيدة بأدلة متشابهة، وقد بين العلماء فساد استدلالهم بها.

    1.   

    خلاف أهل السنة والحنفية في زيادة الإيمان ونقصانه

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

    [والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً؛ منها: قوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] ، وقال تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76] ، وقال تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31] ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] ، وقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] .

    وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس: (قد جمعوا لكم فاخشوهم) زيادة مشروع؟! وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟! وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] .

    وقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]].

    الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وهذه الجملة (يزيد وينقص) محل خلاف بين أهل السنة وبين الحنفية وكذلك غيرهم من المبتدعة، فإنهم كالمرجئة والجهمية لا يرون الأعمال من مسمى الإيمان، ولا يرون زيادة الإيمان ولا نقصه، ويعتقدون أن أهله في أصله سواء، وأن تفاضلهم إنما هو بالدرجات في الآخرة، أو بالأعمال، وإلا فالأعمال عندهم زائدة عن الإيمان، ويرون أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، هكذا قالوا.

    وأهل السنة يرون أن الإيمان يزيد وينقص، وقد ذكرنا فيما سبق أن على الإنسان أن يحرص على زيادة إيمانه، وأن الكلمة الطيبة تزيد إيمانه، والكلمة الخبيثة تنقص إيمانه، والدرهم الذي ينفقه في سبيل الله وفي وجوه الخير يزيد به إيمانه، وإذا أنفقه في المعاصي نقص إيمانه، والخطوات التي يسيرها إلى الخير وإلى أماكن الخير كالمساجد ونحوها تزيد إيمانه، وإذا خطا إلى اللهو وإلى اللعب وإلى الباطل نقص بذلك إيمانه.. وهكذا بقية الأعمال.

    توضيح أدلة زيادة الإيمان ونقصه

    الآيات التي ذكر المؤلف فيها دلالة واضحة على أن الإيمان يزيد وينقص، حيث أثبت الله فيها الزيادة، وكل شيء يقبل الزيادة فهو يقبل النقصان، ففي سورة آل عمران قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173] ، لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه بعد وقعة أحد يريد اللحاق بالمشركين، جاءهم نعيم بن مسعود أو رجل من خزاعة وقال: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. يعني: أن المشركين قد جمعوا لكم، ويريدون أن يرجعوا إليكم ويقتلوا من بقي منكم، فاخشوهم، وهذه المقالة ليس فيها زيادة أعمال، ولا فيها زيادة تشريع، ولا فيها زيادة حكم، فكيف زادتهم إيماناً؟

    قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] وقوي إيمانهم بها، وكثر عملهم، وصمدوا فيما جاءوا له، وتوجهوا في طلب المشركين، جادين في اللحاق بهم، مع ما أصابهم من القرح كما قال الله تعالى بعد أن ذكر الشهداء: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:171-172] أي: المصيبة التي نزلت بهم وأصيبوا بها في أحد لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:172-173].

    كذلك الآيات التي في آخر سورة التوبة: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:124-125]، كيف زادتهم إيماناً؟

    عملوا بما فيها، هذه السورة أو هذه الآيات طبقوها وعملوا بما فيها، وكذلك اعتقدوا مدلولها؛ فزاد إيمانهم، فهذا دليل واضح على أن الإيمان يزيد وينقص.

    كذلك قوله تعالى في سورة محمد: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17] ، والهدى لا شك أنه زيادة إيمان وطمأنينة.

    كذلك قوله تعالى في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح:4]، لما رجعوا من غزوة الحديبية أنزل الله عليهم الطمأنينة، وأنزل في قلوبهم السكينة، فزاد إيمانهم، وكثرت أعمالهم، فهذه أدلة واضحة على أن الإيمان يزيد، ولا شك أنه إذا كان يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان؛ فلذلك قال أهل السنة: إنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

    وإذا عرف المسلم ذلك حرص على ما يزيد إيمانه ويقويه ويثبته ويرسخه، وهو إيمانه بما أخبر الله به، وكذلك تتبعه لآيات الله، ونظره في مخلوقاته، مما يرسخ الإيمان في قلبه ويقويه، كذلك يكثر عمله وتطبيقه لما جاءه في هذه الشريعة، وذلك كله مما يزيد به إيمانه.

    وإذا عرفت ما يزيد فإن ضد ذلك ما ينقص، فاعرف الأشياء التي يزيد بها إيمانك فاعمل بها، واعرف ضدها من المعاصي التي تنقص إيمانك، فابتعد عنها.

    ضعف الأحاديث التي تدل على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص

    قال الشارح رحمه الله: [وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية فقال: حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الساباذي قالا: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد قال: حدثنا يحيى بن عيسى قال: حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال: (جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا؛ الإيمان مكمل في القلب، زيادته كفر، ونقصانه شرك)؛ فقد سئل شيخنا عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث فأجاب: بأن الإسناد من أبي ليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة.

    وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ، ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعمرو بن علي الفلاس والبخاري وأبو داود والنسائي وأبو حاتم الرازي وأبو حاتم محمد بن حبان البستي والعقيلي وابن عدي والدار قطني وغيرهم.

    وأما أبو المهزم -الراوي عن أبي هريرة - فقد تصحف على الكتاب، واسمه: يزيد بن سفيان ، فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً!].

    هذا الحديث باطل، وضعه بعض الوضاعين، ورجال إسناده كلهم إما مجهول، وإما كذاب، وإما ضعيف، فلا يلتفت إليه، وليس بدليل.

    ثم هو مصادم للنصوص، فإذا كان الآيات تدل على الزيادة فكيف يأتي الحديث بأنه لا زيادة؟! إذا كان الله يقول: فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124] ، لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح:4] ، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76] ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173] ، كيف مع ذلك يأتي هذا الحديث ويكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم؟!

    الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف كتاب ربه، ولا يأتي إلا بما أوحي إليه، وقد أوحي إليه أن الشريعة فيها أعمال، وأن أعمالها إذا عمل بها العباد زاد بذلك إيمانهم، فلا يقول قائل: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، معتمداً على هذا الحديث الضعيف أو المكذوب.

    أدلة أخرى من الحديث وكلام الصحابة تدل على نقص الإيمان

    قال الشارح رحمه الله: [وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) . والمراد: نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الإيمان؟!

    وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً:

    منه قول أبي الدرداء رضي الله عنه: (من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص).

    وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: (هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله تعالى عز وجل).

    وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً).

    وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة).

    ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه.

    وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: (ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم)، ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه.

    وفي هذا المقدار كفاية، وبالله التوفيق].

    هذه أدلة واضحة تدل على تفاوت أهل الإيمان في إيمانهم، لا كما يقول المبتدعة: إن الناس سواء في الإيمان، وإنهم لا يتفاوتون إلا بمعان أخرى.

    والنبي صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عمن فعل بعض المعاصي، ويفسره العلماء بأن المراد: نفي كماله، إذا قال مثلاً: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) هل يقال: إن من لم يأمن جاره بوائقه كَفَر؟

    لا؛ بل نقول: إيمانه ناقص.

    إذا قال مثلاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) هل نقول: إذا لم يحب لأخيه ما يحبه لنفسه فهو كافر؟

    لا؛ ولكن نقول: إنه لم يؤمن الإيمان الكامل؛ وذلك لأن الإيمان يتفاوت أهله فيه، فيكون منهم من هو كامل الإيمان، ومنهم من هو ناقص الإيمان، فهذا كمال، وهو استيفاء هذه الخصال ونحوها.

    وكذلك الأحاديث التي فيها حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يفعل خصالاً، كقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، المعنى: أن هذه من خصال المؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، فيدل على أن من لم يفعلها فإنه ناقص إيمانه بالله وباليوم الآخر.

    وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم) معلوم أنها تؤمن، ولكن سفرها يكون نقصاً في إيمانها، لا أنه نفي للإيمان كله. وقوله: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج) ، معلوم أنه لا يخاطب إلا من هي مؤمنة، ولكن إذا أحدت على أبيها -مثلاً- أكثر من ثلاث، لم تخرج بذلك عن الإيمان بالله واليوم الآخر، ولكن يكون هذا نقصاً في الإيمان.

    ويقال كذلك في الخصال التي ذكر فيها الإيمان.

    ولا شك أن هذا دليل على أنه أهله يتفاوتون، فمن استكمل هذه الخصال وابتعد عن الآثام فهو كامل الإيمان، وإلا فهو ناقص بحسب الأعمال التي أخل بها، أو المعاصي التي ارتكبها.

    تفاوت الإيمان في القلب

    أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان الذي في القلب يتفاوت في حق من يدخل النار في قوله: (إن الله يقول لملائكته ولرسله: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، ومن كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال درهم، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال برة، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال أدنى أدنى ذرة من إيمان).

    وأخبر في حديث آخر أن الإيمان في قلوب أصحابه أثقل من الجبال يعني: أرسى من الجبال.

    أليس كل هذا يدل على أن الإيمان الذي في القلب يتفاوت؟!

    لا شك أنه كلما كان الإيمان أقوى كانت آثاره أكبر، وكانت الأعمال التي تنتج منه أكثر نتيجة وأكثر عملاً، فإن الإيمان إذا كان مثل الجبل كثرت الأعمال، ودفع البدن إلى الأعمال، وإذا كان ضعيفاً قلت الأعمال الخيرية، وتكثر السيئات أو تقل بحسب قوة الإيمان الذي في القلب، وبحسب ضعفه، وتكون هذه الأعمال علامة على ما في القلب، فتكون إيماناً.

    كذلك -أيضاً- ثبت أن السلف رحمهم الله كانوا يسمون الأعمال إيماناً، كما في هذه الآثار عن بعض الصحابة، ومنها: أن عمر ومعاذاً وابن رواحة كانوا يقولون: اجلس بنا نؤمن ساعة أو يقولون: نزدد إيماناً أو: هلم فلنزد إيماننا أو: هلم فلنعمل أعمالاً يقوى بها إيماننا ويزيد إيماننا، كيف يزيد؟

    يقولون مثلاً: إذا ذكرنا الله، وحمدناه وشكرناه، وأطعناه وعبدناه، زاد بذلك إيماننا، كلما عملنا عمل بر وعملاً صالحاً زاد بذلك نصيبنا من الإيمان، وكثر الإيمان الذي عملناه، فكثرته يحصل بها ثقل الموازين، ويحصل بها خفة الحساب في الآخرة، ويحصل بها السعادة، ويحصل بها إعطاء الكتاب باليمين، ويحصل بها -أيضاً- التمكين من الورود على الحوض، وسرعة المسير على الصراط عندما ينصب، ثم دخول الجنة بسلام كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام.

    وذكر البخاري عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كتب إلى بعض عماله: (أن للإيمان شرائط ومكملات وأموراً من فعلها فقد استكمل الإيمان، ومن تركها فقد أخل أو نقص إيمانه، يقول عمر بن عبد العزيز : فإن أعش فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص)، ولا شك أنه لا يخبر بأن للإيمان مكملات، وله شرائط، وله نتائج، وله ثمرات؛ إلا وقد أخذ ذلك عن الصحابة، فإنه تلميذ الصحابة، والصحابة أخذوا ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وعن كتاب ربهم، فعرفنا بذلك أن الإيمان لابد أن يستكمل حتى يزيد في أصحابه، وحتى تكون نتيجته السعادة الأبدية.

    وجه اقتران الإيمان بالعمل الصالح

    قال الشارح رحمه الله: [وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة، فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] ، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، وقال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81].

    وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث، (لا تؤمنوا حتى تحابوا) ، (من غشنا فليس منا) ، (من حمل علينا السلاح فليس منا) ، وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: (فليس منا) أي: فليس مثلنا! فليت شعري فمن لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه!.

    أما إذا عطف عليه العمل الصالح، فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب:

    أعلاها: أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزءاً منه، ولا بينهما تلازم، كقوله تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] ، وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [آل عمران:3] ، وهذا هو الغالب.

    ويليه: أن يكون بينهما تلازم، كقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42] ، وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92].

    الثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] ، وكقوله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98] ، وكقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ [الأحزاب:7].

    وفي مثل هذا وجهان: أحدهما: أن يكون داخلاً في الأول، فيكون مذكوراً مرتين. والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا، وإن كان داخلاً فيه منفرداً، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوهما، تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران.

    الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر:3] وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط، كقوله:

    فألفى قولها كذباً وميناً.

    ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، والكلام على ذلك معروف في موضعه].

    الجواب عن استدلال الحنفية بعطف العمل على الإيمان في قولهم بأن العمل ليس من الإيمان

    هذا جواب عما استدل به الحنفية من عطف العمل على الإيمان، فيقولون في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227]: لو كانت الأعمال من الإيمان ما عطفت عليه، فعطفها عليه يقتضي أنها ليست من الإيمان، بل هي غيره، فالإيمان عندهم هو ما في القلب، والأعمال شيء زائد على الإيمان. هكذا قرروا هذا الدليل.

    ومر بنا جواب الشارح، وكذلك أجاب غيره، حيث ذكر أن الإيمان تارة يكون مستقلاً، يعني غير معطوف عليه بشيء، وتارة يعطف عليه، فمثلاً قوله تعالى في سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، هذا تفسير للمؤمنين بأنهم أهل هذه الخصال، ومثله قوله تعالى في سورة السجدة: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [السجدة:15]، فهذا دليل على أن هؤلاء هم المؤمنون، ويكون من إيمانهم هذا السجود والتسبيح ونحوه.

    وكذلك قال في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، فهذا تفسير الإيمان، وأشباه ذلك كثير، يذكر الله فيها الإيمان، ويذكر أن الأعمال داخلة فيه، فمثل هذا يبين الإيمان الحقيقي، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) .. إلخ، أي: هؤلاء هم المؤمنون، ويقول بعدها: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4].

    إذاً: هذا معنى من المعاني يكون فيه الإيمان مستقلاً غير معطوف على شيء.

    أما إذا عطفت عليه بعض الأعمال فذكر الشارح أن العطف له عدة حالات، فتارة يقتضي العطف التغاير، أي: أن الثاني غير الأول، وهذا هو الكثير فيما إذا عطف بعضها على بعض، مثل قوله: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [البقرة:277]، فإن الزكاة غير الصلاة، فهي عطفت عليها للمغايرة.

    كذلك من أنواع العطف: العطف لأجل التنويع، مثل قوله: الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، هل هناك فرق بين الخلق والجعل في هذه الآية؟

    لا، فالعطف هنا للتنويع لا للتغاير.

    كذلك من أنواع العطف: أن الشيء قد يعطف على بعضه، فيذكر مجملاً، ثم يذكر بعض التفصيل فيه، ومن الآيات التي في هذا -وهي كثيرة- قوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98] فـ(جبريل وميكال) داخلان في الملائكة، فلماذا عطفا؟

    للتنويع، أو لبيان السبب.

    ومثله قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [الأحزاب:7] من النبيين كلهم، وَمِنْكَ [الأحزاب:7] أليس محمد صلى الله عليه وسلم (من النبيين؟!) وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] لم خص هؤلاء؟

    هذا عطف بيان، وليس عطف تنويع.

    ومن العطف -أيضاً-: الآية التي ذكرت في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] الشرعة والمنهاج واحد، فالعطف هنا للترادف، وذكر -أيضاً- قول الشاعر:

    فألفى قولها كذباً وميناً.

    الكذب والمين واحد، فالعطف هنا عطف بيان أو عطف إيضاح.

    إذاً: فقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] العطف هنا عطف بيان، لا أنه عطف مغايرة، فبذلك يعرف أنه ليس في هذه الآيات ما يدل على أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757402027