أما بعــد:
فيا أيها الإخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنت وعدتكم في المجلس السابق أن يكون موضوع الحديث في هذه الليلة حول: توحيد كلمة المسلمين، أو الدعاة على وجه الخصوص، وأرجو أن أفي بما وعدت الآن بحسب ما يتسع له الوقت، فسوف تكون كلمتي بعنوان (قواعد في توحيد الكلمة).
وحقيقة.. لا أكتمكم حديثاً أني ما أجهدت نفسي في بحث هذا الموضوع وإعداده، كما نوهت بذلك مراراً، وأنا حين أقول ذلك أريد أن يكون هذا عذراً لديكم ولدى من قد يسمع هذا الحديث، فيما قد يراه من نقص أو خلل أو عدم اكتمال أو استطراد أحياناً؛ لأن الجلسات نريد أن تكون فيها نوع من الأخوة والمؤانسة والاسترسال في الحديث، بعيداً عن روتين الدرس أو المحاضرة وما فيه -أحياناً- من استمرارية معينة ورتابة في بعض الموضوعات.
فعلى سبيل المثال: إذا ألَّفت أنت كتاباً، وألَّفت أنا كتاباً في الرد على ذلك الكتاب، وأنت طبعت من كتابك عشرين ألف نسخة، وأنا لكي أضمن لكتابي أن يكون انتشاره أوسع طبعت أربعين ألف نسخة، وبذلت جاهي لدى المحسنين والمصلحين وفي دور النشر وغيرها من أجل تسهيل مهمة طباعة الكتاب وبيعه بأرخص الأثمان أو حتى توزيعه بالمجان.
إذاً: ستون ألف نسخة من كتاب كان يمكن أن يكون كتاباً مفيداً نافعاً يصبُّ في مصلحة الإسلام والمسلمين، فنتيجة ستين ألف نسخة من هذه الكتب، وما ترتب عليها من ضياع أموال، وأخطر من قضية ضياع الأموال ضياع الأوقات، لا يمكن أن يقول قائل: إن النتيجة صفر! بل أقل من الصفر وتحت الصفر! لماذا؟ لأن الثمرة التي يخرج بها معظم الناس؛ أن هؤلاء المتدينين دائماً يتهارشون فيما بينهم، وعندهم شهوة المخاصمة، فإذا لم يجد أحداً يخاصمه فإنه يخاصم نفسه في المرآة، لماذا؟ لأنه لابد أن يجادل أحداً، ولا بد -أيضاً- أن يخرج هو المنتصر والغالب والفائز.
فنتيجة لذلك لم يعد لدينا إمكانية أن نتحمل وجهة نظر أخرى، فعندنا شيء من الأحادية في الرأي وضيق الفهم، والمشكل أيها الأحبة -وأقولها بمرارة وصراحة- أننا -أحياناً- نظرياً قد نقول خلاف ذلك! وطالما سمعت من بعضهم وهو يقول: من خالفك بمقتضى الدليل عنده فإنه أقرب إليك ممن وافقك بغير دليل؛ لأن هذا الذي خالفك إنما خالفك للدليل، ويجب أن تكون العلاقة بينكم أمتن.
وهذا كلام نظري جميل، لكن دعنا ننظر في واقعنا العملي، وفي تعاملنا مع من خالفونا، فتجدني أنا ذلك الذي أردد دائماً وأبداً قضية الحوار والنقد البناء، وتقبل وجهات النظر المختلفة، وعدم إلزام الناس بالرأي الواحد، وجعل الناس يعيشون في بحبوحة الشريعة التي فتحها الله سبحانه وتعالى لهم، فأنا لا أحجر واسعاً، وأنا لا أفرض رأيي بثقله وبشريته وخصوصيته على النص الشرعي، أنا ذلك الذي يقول هذا الكلام تجدني أغظب بمجرد أن أرى شخصاً اختلف معي، وترتفع درجة الحرارة عندي، وتختلف نبرة الكلام، ويتغير مجرى الحديث، وتحتد اللهجة، ويبدأ القصف والقصف المضاد.
فهذا -أحياناً- يرجع إلى نوع من التربية الخاطئة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الحلقة العلمية أو الارتباط بالعالم وعلى مستوى الدعوة أو الارتباط بمجموعة من مجموعات الدعوة وحتى على مستوى الأسرة والأب، نوع من التربية التي جعلت الثمرة -حقيقة- ثمرة مرة.
وأنا أقول: إن هذا الأمر عام في طلبة العلم وغيرهم، ولكنني رأيت في بعض طلبة العلم حاجة إلى التنبيه على مثل هذا الأمر أكثر من غيرهم، فهم الأليق بأن يكونوا أوسع الناس أفقاً، وأبعد الناس نظراً، وأكبر الناس عقولاً، وأصبغ الناس، وأحلمهم، وأرحم الناس بالناس، والمنتظر منهم ومن غيرهم أن من أساء إليك أن تحسن إليه، ومن أخطأ في حقك أن تصيب في حقه، وألا تقابل الإساءة بالإساءة، بل تقابل الإساءة بالإحسان، وتعفو وتصفح وتلتزم بالأفق الأوسع الأمثل الذي ذكره الله عز وجل ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].
أقول أيها الأحبة: طالما سمعت من كثير من الإخوة الأحباب كلاماً قد يكون له تأثير في القلب، أقله تحزين النفس وانقباض الضمير وشيء من التوتر والقلق، ولكن العبد يحاول أن يلجم نفسه بلجام الإعراض والصبر، لماذا؟ لأن أقل ما نضحي به هو أن نضحي بشيء من أعصابنا، من أجل ألا يرانا الناس وقد تماسكنا بالتلابيب مع رجل من أهل الإسلام، ومن أجل ألا يقول قائل: لماذا أنت مختلف مع فلان؟
نعم، قد يختلف معي أي إنسان، وذلك من حقه، لكن لن تجدني -إن شاء الله- مختلفاً مع أحد، بمعنى أن لي منه موقفاً مبدئياً في كل ما يصدر منه، بل أحاول -أو يجب أن أحاول- أن يكون موقفي من الجميع، ماداموا إخوة في الإسلام والعقيدة الواحدة والمنهج الواحد والكتاب الواحد والسنة الواحدة والطريق الواحد في الجملة، أن يكون الأمر كما قال القائل:
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا |
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا |
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا |
وما أسهل وأجمل أن نتلفظ بهذه الكلمات الجميلة المعسولة الحلوة! وما أمر وأقسى أن نجرب ولو موقفاً واحداً فقط، تخلينا فيه عن انتصار لأنفسنا أو ثأر لشخوصنا أو غضب لذواتنا في سبيل الله عز وجل، وحرصاً على وحدة كلمة المسلمين!
فبمجرد ما يواجه الواحد منا موقفاً عملياً تقع القضية التي طالما تكلمت عنها أمامكم، وهي قضية أن الواحد يقول: ليس المقصود أنا، بل المقصود المنهج، والمقصود الدعوة، والمقصود الدين، ولذلك يجب ألا أسكت، ويحب أن أرد؛ لأن القضية لا تستهدف فلاناً، وإنما القضية قضية دين الله.
وهكذا ألبسنا أنفسنا لبوس أننا نمثل دين الله تبارك وتعالى، وأن من تناولنا فكأنما أساء إلى الدين، والواقع أن ذلك ليس بصحيح فيمكن أن يختلف معك شخص في قضية أو قضايا قليلة أو كثيرة من منطلقات شرعية أو عقلية، وما زال الناس يختلفون، ويرد بعضهم على بعض دون أن يفضي الأمر إلى تشاتم أو تراشق بالسباب أو تبادل تهم أو طعون.
فالمقصود أن جزءاً كبيراً جداً من المجهود الإسلامي يضيع في مهارشات بين الدعاة، ولا أقول: لا ثمرة لها، بل نتيجتها عكسية؛ لأن الشرخ الذي يحدثه اختلاف الدعاة فيما بينهم عند العامة والخاصة، وعند خصوم الإسلام من العلمانيين وغيرهم، هذا الشرخ ليس من السهل أن ينمحي أو يزال والناس إذا رأوا رجلاً خارجاً من الصف وآخر داخلاً فيه فإنهم لا يقولون: هذا خرج وهذا دخل، بل يقولون: الصف معوج، وخاصة إذا كانوا أهل غرض وأهل هوى، وما بالك بإنسان حديث عهد باستقامة والتزام، فوجد أن هذا الإنسان -مثلاً- يمثل رمزاً للخير والدعوة والاستقامة والصلاح، وقد يكون هو سبباً في هدايته ولو كان عنده خطأ أو تقصير أو مخالفات، لكنه فتح عيونه على الخير بواسطة فلان، ثم وجد أن فلاناً تتناوشه السهام والطعون والكلام، فهو بين أمرين: إما أن يدخل في هذه المعمعة، فهذه مشكلة؛ لأنه حديث عهد وطري العود، وإما أن يسمع هذا الكلام ولا يرد عليه، فقد يورث هذا الكلام عنده شيئاً من الشك في الرمز الذي فتح عيونه على الخير عن طريقة، فيكون ذلك سبباً في فساده وانحرافه وبعده عن الدين، وهكذا أصبحنا والعياذ بالله نخرب بيوتنا بأيدينا في بعض الأحيان، وأعيذ بالله كل مؤمن أن يكون هذا حاله، كما أني لا أحب أن يفهم من كلامي التعميم أو أن هذا حال كثيرين، بل هذا حال مجموعة قليلة بلا شك، ولكن مع ذلك أرى أنه ينبغي ألا نفرِّط حتى في القليل، حتى جهد الواحد منا يجب ألا يضيع.
إذاً: من أجل إنتاجية أكبر، ومن أجل فائدة أعظم للأمة، ومن أجل أن تكون جهود الدعاة كلها تتجه في الاتجاه الصحيح صوب التغيير للأفضل والأسلم، أطرح عشر قواعد لن يكون الوقت مسعفاً بالكلام عنها تفصيلاً، لكني سأذكرها إجمالاً إن شاء الله، أرجو أن يتسع الوقت لها، وكما ذكرت لكم فهذه القواعد كل ما فعلته فيها أنني دونتها من طرف الذهن ليس على سبيل الاستيعاب ولا على سبيل الاستقراء لكل القواعد، بل هناك مئات القواعد التي يمكن أن تذكر في هذا لكن هذه من طرف الذهن.
أي: ليس بالضرورة أن يكون الدعاة كلهم على قلب رجل واحد، أو يكون اجتهادهم متطابقاً، أو يكونوا قوالب مصبوبة متساوية في الطول والعرض والارتفاع، فهذا ليس لازماً، بل يمكن أن نفهم بعض جهود الدعاة تشكل خطوطاً متوازية لا تلتقي، ولكنها لا تتعارض ولا يطأ بعضها بعضاً، فإذا افتراضنا مثلاً أنك تقوم أنت بمجهود وأنا أقوم بمجهود آخر، أنت تقوم بفرض كفاية، وأنا أقوم بفرض كفاية آخر، والناس يحتاجون إلى كل ألوان الخير في المجتمع، حتى أمور الدنيا فإن الناس يحتاجون إلى ألوان من الخير، يحتاجون إلى النجار، ويحتاجون إلى الطبيب، ويحتاجون إلى المهندس، ويحتاجون إلى البقال، ويحتاجون إلى البائع، كما يحتاجون إلى البلدي الذي يقوم بتنظيف الشارع، وكل مهمة لا تقضي على المهمة الأخرى، فمهمة المسئول الكبير -على أهميتها- لا تغني عن مهمة الموظف الصغير، ولو بقيت القاذورات في الشوارع أسبوعاً لضاق الناس بها ذرعاً ولما استطاعوا أن يهنئوا بحياتهم.
إذاً: ضع في اعتبارك أنك قائم بجهد الدعوة مهم أو أهم أو أقل أهمية، وأن غيرك يقوم بجهد آخر، فاجعل ما تقوم به أنت موازياً لما يقوم به هو، وليس شرطاً أن تقر كل ما قام به أو توافقه على مجهوده، لكن اعتبر أنه يسد فراغاً ضعيفاً، وأنت تسد فراغاً قوياً مثلاً، فدع هذا الإنسان وما اختطه لنفسه، وقد يتبين أن الخير والبركة في شيء آخر خلاف ما كنت تظن.
وإذا لم اقتنع بشيء فعلي ألا أعمله، لكن ليس شرطاً للعمل المثمر أن يمر عبر قناعتي العقلية، فيمكن أن يكون عملاً مثمراً وأنا لم أقتنع به، وقد أكتشف بعد حين أن قناعتي كانت في غير محلها، أو حتى قد أموت بقناعتي غير عابئ بهذا الموضوع، لكن الناس المنصفين يعلمون أن هذا الأمر له ثمرة وله إيجابية، والعدل قد يدل على ذلك، وقد تكلم الإمام ابن تيمية كثيراً عن جهود بعض المتصوفة في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
ولأن يدخل الإنسان الإسلام على يد صوفي، ويصبح مسلماً مبتدعاً أحب إلينا من أن يبقى كافراً، وإلا فما هو رأيكم؟ إنها ولا شك معادلة لا تحتاج إلى تأمل، أي: إن استطعنا أن ندعوه ونهديه إلى الإسلام الصحيح السليم البعيد عن الشوائب والمخالفات والمغالطات والانحرافات فهذا هو المتعين، لكن أحياناً لا تستطيع ذلك ولا تملك الكفاءات له، بل قد تجد الجهل يعم حتى في أوساط المتعلمين في دول ومدن وأوضاع كثيرة، فتأتي القضية أن الجود من الموجود، ولأن يذهب داعية مسلم ولكن عنده تخليط وشوائب، فيهدي الله على يده يهوداً أو نصارى ويصبحوا مسلمين ولو على شاكلته وطريقته خير من أن يبقوا على كفرهم، وهذا لا يشك فيه عاقل.
بمعنى أنك فيما يتعلق ببيان الحق إذا سئلت عنه، سواء شفوياً أو كتابياً، في كتاب أو مقالة أو مناسبة أو أخرى؛ فإن الإنسان ينبغي أن يذكر الحق بأحسن ما يجد من العبارات وبأفضل ما يجد من الأساليب، ويسوق الأدلة ويحشد ما لديه من الوسائل للإقناع بهذا الحق الذي يعتقده هو، واضعاً في اعتباره أنه قد يوجد من يخالفه في هذه المسألة، إن كانت مسألة قابلة للاجتهاد، ويكون عنده أدلة وتأويلات فيما ذَكَر، فهذا شيء، لكن هذا غير الانشغال بالحكم على الناس، فليس كل من وقع في خطأ يكون قاصداً الوقوع في هذا الخطأ أو متعمداً أن ينسب إليه، حتى إن الإنسان قد يقع في الكفر ولا يقال له كافر، وقد يقع في البدعة ولا يقال له مبتدع، وقد يقع في المعصية ولا يقال له فاسق، ففرق بين الوقوع في الشيء وبين نسبة الإنسان لهذا الشيء، فقد يقع الإنسان في البدعة متأولاً مجتهداً.
حتى لو فرض جدلاً أني رجحت أحد الأمرين، فهذا لا يعني وصم الآخر بأنه مبتدع، بل حتى لا نوافق أصلاً على وصف العمل بأنه بدعة، لكن من باب التسليم والتوضيح بهذا المثال فقط، وقد يقع الإنسان في شيء نقر بأن هذا العمل بدعة أو مخالف للسنة، لكن لا يوصف الشخص بأنه مبتدع، بل قد يقع في الكفر ولا يوصف بأنه كافر إلا بعد وجود الشروط وزوال الموانع من هذا الإنسان، فقد يكون جاهلاً ومثله يُجْهل، وقد يكون متأولاً، أو قد يكون قاصداً شيئاً آخر غير ما ظننت؛ أنا ظننت أنه يسخر بالدين، ولما سألته تبين أنه يقصد معنى آخر لا علاقة له بهذا الباب إطلاقاً.
وقد يكون يسخر ولكن في حالة غياب عقله وإدراكه عنه، أو غلبه نوع من المواجيد عنده جعلته يقول ذلك.
حتى إني رأيت أن الإمام الذهبي رحمة الله عليه في مواضع كثيرة، يتأول لكلمات واضحة وضوح الشمس، أنها نقض لأصول الشريعة، حتى إنه -أحياناً- يتأول أنه ربما أن الإنسان قال هذه الكلمة في حالة غياب عقله، من أجل ألاَّ يصفه -مثلاً- بالكفر، لماذا؟ لأن أهل السنة هم أرحم الناس بالناس.
وبدون شك أنه يسرنا جميعاً أن يكون الناس أخياراً، ويسرنا أن يكون الناس صالحين وأهل تقوى وأهل سنة، فأي ضرر عليك وعليه إذا صار الناس على الخير؟! هل من جيبـي أعطيتهم شيئاً؟! وإذا دخل الناس الجنة هل هم سيأخذون مالي أو مال أبي أو جدي؟! كلا، بل كما قال الله تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].
إذاً: ينبغي أن يكون عندي هذه البحبوحة وهذه السعة وهذه الرحمة للناس، وهذه الفرحة بكل خير يصيبونه، والحزن لكل شر يقعون فيه، والحدب على إصلاحهم والتحري لهم؛ وفرق بين أن تكون مهمتي كأنني مقاتل في ميدان، أريد ألا يدخله أحد غيري أنا ومن يقع عليهم الاختيار، وبين كوني إنساناً يهمه أن يدعو الناس بكل ما أوتي من قوة إلى هذا الباب، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25].
فعلى الإنسان أن يحرص -فيما يتعلق بالحكم على الناس- ألا يتسرع بالحكم، وألا يعمم الأحكام، وألا يتكلم على الأشخاص بقدر المستطاع.
فإذا قام شخص بمجهود في الدعوة، أنت لك رأي غير موافق في هذا المجهود، فلماذا لا تتذرع بالصمت؟ هل هناك نص شرعي يلزمك بأن تعطي رأيك في كل مسألة وأن تعلن موقفك، وهل أنت جهة رسمية لا بد أن تعلن موقفك في كل قضية؟! لا، إذا اقتنعت بهذا الجهد فحبذا وساعد وأعن وأيد، وإذا لم تقنع فإنه يسعك الصمت، فإن كان هذا الجهد خيراً ونافعاً أصابك منه شيء، وإن كانت الأخرى فليس عليك غرم؛ لأنك لست مسئولاً عن هذا العمل، ولن ينسب إليك بحال من الأحوال، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى نوع من هذا المعنى أو هذه الحكمة قال: {يا ويح قريش! لقد حمشتهم الحرب، ماذا لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟! فإن انتصرت فعزي عزهم، وإن كانت الأخرى فقد كفوني بغيرهم} بمعني اترك المعركة يديرها غيرك، وأنت لست ملزماً بأن تتخذ موقفاً من كل قضية.
لكن افرض أن عندك تردداً في هذا الموضوع، ولست متأكداً من استخدامهم للوسائل الشرعية، ولست متأكداً أن تكون النتيجة النصر، فحينئذ ربما يأتي شخص ليشن هجوماً حرب بيانات ويقول: هؤلاء طائشون، خوارج، متسرعون، جهلة، أغبياء، حمقى... إلى آخر العبارات.
فهذا نتيجته -وهي أقل نتيجة- إيغار الصدور والطعن في الظهور.
فدع هؤلاء القوم ما داموا لم يستشيروك، والحمد لله أنت قد كفيت، دع هؤلاء وما اجتهدوا فيه، فإن وفقهم الله تعالى وحقق النصر على أيديهم فنصرهم نصر لك؛ لأنه لا تعنيك قضيتك الشخصية بقدر ما يعنيك أمر الإسلام، وإن كانت الأخرى فأنت لست مسئولاً عن هذا العمل، ولن تكون محاسباً عليه، ولن تكون مسئولاً عنه بحال من الأحوال ما دمت لم تشارك فيه برأي أو قول أو فعل.
وليس شرطاً كما يتوقع البعض أن العدو دائماً خلف ما يقع بين المسلمين!
فالآن -مع الأسف- إذا وقع شيء، قال بعض الشباب: هذه مؤامرة من العدو! وهذه خطة دولية مثل الذي يجري في أفغانستان مثلاً أو غيرها، وقد يكون هناك أصابع خفية دولية أحياناً، لكن في أحيان كثيرة بسبب غفلة المسلمين وسطحية تفكيرهم وضيق أفقهم وعدم قدرتهم على تقدير المواقف بشكل صحيح، وعدم قدرتهم على أخذ زمام المبادرة، وعدم قدرتهم على الحوار الموضوعي يجعلهم هذا أحياناً يتصرفون بالنيابة عن عدوهم وخصمهم من حيث لا يريدون ولا يشعرون، والعدو يؤيد هذا العمل ويشجعه.
فأسلوب طرح الأسئلة هو في نظري أسلوب قاتل في الدعوة.
مثال: أنت داعية مجتهد -جزاك الله خيراً- ذهبت إلى بلد من البلاد الإسلامية، فوجدت أن الناس هناك جهلة وبحاجة إلى التعليم، فأقمت مدرسة، لكنك وجدت مبنى ليس كما تحب فهو أقل مما تريد، وليس فيه فصل بين أقسام الرجال والنساء، وأتيت تبحث عن مدير فوجدت مديراً (50%) مما تريد، فهو أقل بكثير مما تريد، ثم بحثت عن المدرسين فجاءك المدير ببعض المدرسين، ومن هنا ومن هنا أوجدتم مجموعة مدرسين: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع! فإذا أتيت للمناهج الدراسية لم تجد مناهج على ما تريد لا كتب ولا مطبوعات ولا أشياء، فأتيت من هنا ومن هنا بمناهج ليست هي التي تتمنى، ولكن قلت: الجود من الموجود.
فأتيت أنا -وكأني عنترة بن شداد كما يقال- زائراً إلى هذا البلد، ومنطلقي منطلق الوصاية على الدين، وعلى الدعوة، وعلى المؤسسات والمشاريع، وأتيت بورقة وقلم وبدأت أدون الملاحظات: لماذا المدير كذا؟ ولماذا المنهج كذا؟ ولماذا المبنى كذا؟ ولماذا هؤلاء المدرسون والطلاب شأنهم كذا؟
قلت أنت: يا أخي تعال استلم المدرسة بارك الله فيك! واعمل فيها ما شئت! واختر لها المدير الذي تريد والمدرسين والمناهج والطلاب والمبنى، وتحت يدك من المال كذا وكذا، فإنك تجد أن هذا الإنسان يقف مكتوف الأيدي ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، لأن هذا هو المتاح وهذا هو الممكن.
وأنا أعتقد أن هذا من أسباب الخلاف أحياناً، فأنت عندما تنظر لهذا الواقع فإنك تنسب أخطاء هذا الواقع لي، أخطاء المدرسة ومديرها ومدرسيها وطلابها ومبانيها ومؤسساتها ومناهجها، والواقع أنني أنا أوافقك على نفس الملاحظات، لكن هذا الممكن؛ ولأن نعمل وفق المتاح ووفق الممكن أفضل من ألا نعمل.
دعنا نعود إلى مثال المدرسة، عندما ترسم المدرسة حبراً على ورق أو تضع لها -كما يقولون- صورة هيكلية شكلية، فإن الواقع الحقيقي لهذه المدرسة لا يمكن أن يتطابق مع ما رسمته في ذهنك أو على الورقة أو كصورة مصغرة، بل سيكون مختلفاً كثيراً أو قليلاً عن ذلك، فكيف لو كانت القضية قضية مؤسسة أو وزارة؟! فكيف إذا كانت القضية قضية دولة وأمة بأكملها؟! لا بد أن الأمور تأتي بالتدريج، ولا يمكن تصور دولة الخلافة الراشدة -مثلاً- سنرسم لها مخططاً نظرياً على الورق، ثم تطبق عملياً اعتباراً من الساعة السابعة صباحاً، فهذه خيالات، أما الذي يعيش الواقع فإنه يدري أن المسلمين ينتقلون بين الضعف والقوة والنصر والهزيمة والغنى والفقر والعلم والجهل والمجاهدة والصبر والمصابرة، حتى يأذن الله تعالى بالنصر لمن يشاء، بعد جهود وخطط ومحاولات وتقديم وتأخير.
إذاً: مسألة طرح الأسئلة مسألة سهلة، لكن الواقع العملي ومعايشته هو الأمر المرير الذي يحتاج إلى خبرة ودراية ومعايشة.
فالدين دين الله سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] والله تعالى تكفل بحفظ القرآن وحفظ أهله؛ ولهذا جاء الوعد النبوي الصحيح المتواتر بـالطائفة المنصورة المجاهدة في سبيل الله إلى قيام الساعة، فهذا وعد رباني، وأنا وأنت لسنا أوصياء على الدعوة أو الصحوة؛ فلماذا تجد أننا أحياناً نتكلم كما لو كنا أوصياء؟! لا نريد من أحد أن يتحدث أو يعمل إلا وفق قناعاتنا وآرائنا واجتهاداتنا، وقد نتكلم فنؤيد هذا ونعارض هذا ونمدح هذا ونذم ذاك، ونتكلم عن قضية الصحوة والدعوة على سبيل الخائف الحذر منها، مع أن الواقع أن الدعوة دين الله ودعوة الله، وهو المتكفل بنصرها، وأنا وأنت لسنا إلا بشراً ينبغي أن نبذل بعض الجهود، لكن علينا أن نكون متواضعين فيما يتعلق بتقدير حجم أنفسنا وشخوصنا وعقولنا، بحيث لا نظن أننا أوصياء على هذه الدعوة، ونعتبر أن الشيء الذي لا يمر عبر قناعتنا يحب ألا يكون.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن نتخلى عن الدعوة، بل يجب أن نبذل قصارى جهدنا في الدعوة، نعم تبذل قصارى جهدك، لكن دع الآخرين أيضاً يبذلون قصارى جهدهم، وجهدك يكمل جهدهم، فإن لم يكن مكملاً لجهدهم فعلى أقل تقدير ألا يكون معطلاً أو معارضاً لجهدهم.
لقيت مجموعات من الدعاة فوجدت أن كل واحد يتكلم عن الآخر أو عن الآخرين ويقول: عندي ملفات، فقلت: أي ملفات تعني؟ قال: ملفات الملاحظات والأخطاء والتجاوزات! يا أخي ليست هذه من سمات الأخوة ولا من شيم الأحرار والرجال أهل المروءة والكرم، أن أكون أنا مراقباً عليك وأخطط وأسجل وأدون!
يا ليتنا نستطيع أن نصنع هذا مع أعدائنا وخصومنا، فنستدرك خططهم وأعمالهم وأساليبهم، فنحن يجب ألا نسلك أسلوب الملفات والملفات المضادة؛ بمعنى أن كل فئة أو مجموعة أو جماعة تحاول أن تحتفظ بملفات عن أخطاء الآخرين وتجاوزاتهم في المركز الفلاني، وفي المدرسة الفلانية، وفي المسجد الفلاني، والشخص الفلاني، والمؤسسة الفلانية، والوظيفة الفلانية، والوزارة الفلانية، والعمل الفلاني، وهذا قال.. وهذا فعل.. وهذا فُصل.. وهذا لم يفصل.. وهذا أدخل.. وهذا أخرج.. وهذا قيل فيه كذا.. وهذا ضُرب... وهذا لم يضرب.
ويمكن أن نستخدم أسلوب التفويت، وأسلوب الدفع بالتي هي أحسن كما أرشد الله إليه، أسلوب أخذ العفو، وأسلوب الإعراض، أسلوب وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [الفرقان:72] وإذا لم نستخدم هذا الأسلوب مع إخواننا في الدعوة ومع إخواننا في الدين ومع أحبتنا، فبالله عليكم مع من سنستخدم هذا؟!
لقد رأيت أن كثيراً من الخلاف بين الأخيار سببه اختلاف التفكير، ولا أشك أبداً أن أنماط التفكير وأساليب التفكير والنظر في الأمور عندنا قد أدركها -كما يقول محمد إقبال- خمول كبير:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تعد العزائم في اشتعال |
فالتفكير عندنا -في كثير من الأحيان- تفكير ناقص محصور، ينظر من زاوية ضيقة متأثراً بالواقع ومقلداً، وليت القضية اقتصرت على أن هذه نظرتي! لا، بل تعدى الأمر إلى أنني أحاول أن أفرض هذه النظرة على الآخرين!
ونرجع إلى قضية الوصاية على الدعوة، فإذا كان هذا تفكيري، وهذا مستوى نظري، وذا مبلغي من العلم، ومع هذا أنا اعتقد نفسي وصياً على الدعوة، فكيف تتصور دعوةً ومثلي وصي عليها؟!
فلا بد من الاعتدال في التفكير، وأضرب لكم بعض الأمثلة:
على سبيل المثال: سقطت الشيوعية في أكثر من بلد، فقد يكون المسلم في البلد التي سقطت فيه الشيوعية مغلول اليد لا يصنع شيئاً ولا يبادر، لماذا؟ وهذه آخرها في عدن، لما سقطت الشيوعية كان يأتيني بعض الشباب من هناك ويقولون: نحن خائفون! خائفون من ماذا؟ قال: نخشى أن هذه مصيدة وخطة من أجل أن يظهر الشباب المسلم، فيتم القضاء عليهم!
صحيح أن الإنسان يحب أن يفكر، لكن أيضاً لم تفترض دائماً أن العقل والذكاء والدهاء هو وقف على العلمانيين وعلى الشيوعيين وعلى أعداء الدين وعلى الكفار وأن المسلم ليس له عقل؟! يا أخي: المسلم له عقل كغيره، وإضافة إلى ذلك فالمسلم عقله زكي مزكى بنور القرآن ونور السنة ونور الاستبصار ونور التفرس والتوسم، وحديث {اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله} هذا عند الترمذي، وعلمي أنه لا يصح فهو حديث ضعيف، ولكن معناه في الآية: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] والفراسة كانت موجودة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في عمر: {لأن يكون في أمتي محدثون فـ
وبهذه بالطريقة هذه سوف تقوقع نفسك!
نعم، قد تسلم لكن السلامة بحد ذاتها ليست مطلوبة، فأنت تسافر وفي السفر مخاطرة، وتركب الطائرة والأمر كذلك، وتفتح محلاً تجارياً فقد يفشل وتركبك الديون، نعم يجب أن تحتاط وتفكر تفكيراً صحيحاً في مثل هذه الأمور، فإذا كانت نسبة الخطر (1.5%) فلا تقم لها وزناً؛ لأن هذا خطر موجود في كل الدنيا، والواحد يمكن أن يأتيه الموت ويرحل أيضاً.
يا أخي سبحان الله! من أين نحن خرجنا؟! ومن أين هذا الكلام؟! ومتى يقال؟ ومن يقوله.؟ وهل هذا الكلام صحيح؟ والناس بمجرد أن تعتاد آذانهم سماع نوع معين من الكلام يصبح الأمر عادياً بالنسبة لهم؟ ولا يحدث الأثر الذي أنت تظنه في مثل هذا الباب.
بالله عليكم الآن ألا يوجد استقرار نسبي كبير في إسرائيل تفتقر إليه معظم الدول المجاورة؟ أقول بكل يقين: بلى! والعالم الغربي ينظر إلى إسرائيل على أنها نموذج للحضارة والديمقراطية في المنطقة، لكن نظرة الغرب لا شك أنها منحازة بسبب عدائهم للمسلمين، لكن أيضاً هذه النظرة لم تنشأ من فراغ.
بالعكس، الناس إذا وعوا وفتحوا ونظروا وعرفوا فإنك تضمنهم في هذه الحالة؛ لأن الخراج بالضمان، إن تعود الناس على معرفة الأمور على حقيقتها وجدت رجالاً إذا احتجتهم فزعوا معك، وإذا استفرغتهم أعانوك وأغاثوك، وأما إذا ربيت قطيعاً من الغنم فقد يهجم الذئب عليه ويأكله، وتصيح ثم تصيح ثم تصيح، ولا يغيثك أحد؛ لأنك هكذا اخترت لنفسك، فهذه الشعوب التي هجنت ودجنت وصودرت شخصياتهم، واعتبروا أنه لا يجب أن يعرفوا شيئاً، وأنهم ليسوا على مستوى أن يدركوا شيئاً، ولا أن يسمعوا شيئاً ولا ولا...إلى آخر قاموس الهجاء الذي حاولنا أن نخص به الأمة الإسلامية من بين أمم الأرض كلها، وهذا ولَّد أن هؤلاء القوم إذا استنجد بهم إنسان في حالة شديدة لا يستجيبون له لأسباب منها:
أولاً: أنهم ربوا على هذا الأمر.
ثانياً: أنهم يقولون: أنت كنت بالأمس تقول فينا كذا وكذا، ونحن كما تقول لا يمكن أن نفزع أو نقوم معك، مع أنه ما من مجتمع أو أمة أو دولة إلا وهي معرضة لأخطار في الداخل وفي الخارج، والخطر لا يخص شخصاً، فالعقوبة إذا نـزلت عمت الصالح والطالح، ثم يبعثون على نياتهم، ولذلك جاء في الوعيد للمجاهرة بالمعصية الشيء الكثير؛ لأن المجاهرة بالمعاصي هي ثمرة تخدير مشاعر الأمة ومنعها من الاحتساب الذي يقضي على المنكرات ويزيلها.
لكن الإنسان الذي يعيش في جو مغلق، همه أن يعيش فقط مع الكتاب أو يعيش مع الحلقة العلمية، وليس في قلبه هَم لنصر الدين، وهم التمكين للإسلام، وهم التعاطف مع الأمة المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، وهم إعادة القوة والعزة والوحدة للمسلمين في كل مكان، فالإنسان الذي لا يحمل هذه الهموم تكون نظرته نظرةً منغلقة ومحدودة؛ لأنه لا يعتبر نفسه معنياً بالموضوع، ولا يعتبر أن حكمه ذو بال على القضية، بخلاف ما لو أحس بأنه بجزء من هذه الأمة، وأن ما يعنيها يعنيه، فبدون شك أنه سيكون أكثر تحرزاً وانفتاحاً ويقظةً وأكثر مشاركةً.
فإن من أهم أسباب الخلاف والفرقة التعصب والتقليد للشيخ والفقيه والمعلم أو للجماعة التي قد ينتمي إليها الإنسان أو للداعية الذي قد يجلس إليه أو يجتمع إليه والذي ندعو إليه دائماً وأبداً أن نقول: يا أحبة افتحوا نوافذ عقولكم، دعوا الهواء الطلق يهب عليها، واقرءوا بعيونكم، واسمعوا بآذانكم، وفكروا بعقولكم، ثم اجتهدوا في الحكم، واحرصوا قدر المستطاع على العدل والاعتدال والإنصاف والتوسط، وسوف يوفقكم الله عز وجل، وإذا أخطأ الإنسان فلن يكون خطؤه بعيداً.
أما أن تكون القضية تقليداً، وقد رضي الإنسان منا عن نفسه وعقله بأن يقلد فلاناً، فإذا قال: شرقوا شرقنا أو غربوا غربنا، كما قال الشاعر الجاهلي:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ |
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ |
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم أو أنني غير مهتدي |
هذا ليس بصحيح وهذا منهج الجاهلية.
أما منهج الإسلام فإنه منهج المسئولية الفردية، ومنهج المحاسبة الذاتية، كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] فالله تعالى ما أعطاك العقل وهو يريد منك أن تقلد في دين الله تعالى الرجال.
نعم اقرأ وتعلم واستفد من العلماء ومن الدعاة ومن الناس، لكن -يا أخي- من الذي رهن عقلك لزيد وعبيد؟! ومن الذي جعل رأيك يدور مع فلان حيث دار،.
ولو أننا نبذنا التعصب والتقليد لانتهى جزء كبير جداً من الخلاف بين المسلمين ومن التباعد والتباغض بينهم، لأن هذا سيجعل الخلاف أقل مهما كان قد يكون الخلاف بيني وبينك حينئذ في مسألة أو مسألتين، لكن إذا كانت القضية قضية تعصب فسوف يكون الخلاف بيني وبينك خلاف منهج كما يقال، فكل ما يقوله فلان عندك صواب وأنا كل ما يقوله فلان عندي صواب، ولذلك تكون الشقة بيني وبينك بعيدة، لأنها سوف تنتظم مئات المسائل.
لا يكفينا أن يعيش الدعاة في خطوط متوازية كما قلنا، بل ينبغي أن يكون هناك قدر من التنسيق بينهم: التنسيق في الجهود، القيام بأعمال مشتركة، سواء في تجارة أو دعوة أو في تعليم أو في جهود إغاثية وإنسانية أو في أي عمل يمكن أن يحتاج الناس إليه، إضافة إلى ضرورة أن يكون هناك لقاءات وزيارات.
يا أخي أنت -أحياناً- تسمع عن إنسان فتسيء الظن به؛ لأنك سمعت كلاماً موحشاً، لكن إذا لقيته وحادثته وجلست إليه، ورأيت واقعه ومحياه وسيماه وكلامه بخلاف ما كنت تظن، وتبين أن الكلام الكثير الذي رُكن بعقلك وشحنت به نفسك أنه لم يكن له رصيد، قد يكون كلام رجل ساء ظنه به واجتهد، وقد يكون شخصاً مغرضاً أراد الحيلولة بينك وبينه، فلماذا لا نحرص على الاتصال والتنسيق بين الدعاة، واللقاءات بين الكبار والصغار في المنسبات المختلفة؟ ولماذا نجعل أن لقاء الدعاة فيما بينهم مرهوناً بالأزمات والمشكلات؟ فإذا حصلت حادثة أو نكبة أو طارئة أو مصيبة أو كارثة قلنا: تعالوا؟ لماذا نحن متفرقون؟ لماذا لا يرى بعضنا بعضاً؟ فينا كيت وكيت وكيت، فهذا الكلام لماذا لا يخرج إلا الآن؟!
فإذا كنت مصراً على العداوة فعلى أقل تقدير رتب العداوة، واجعل العداوة تتأخر بعض الشيء، واجعل جل همك في محاربة من لا شك في خطرهم على الإسلام، فأخوك هذا قد يوجد من يشك في خطره، وأنا من طبيعة الحال ممن يشك في خطري، لأن المسلم الصادق لا خطر منه على الإسلام -إن شاء الله تعالى- لكن ذلك اليهودي أو النصراني أو المنافق أو الفاجر المحارب المعلن بالعداوة والبدعة والبغضاء لا شك أن خطره على الإسلام كبير، ومتفق على خطورته، فلماذا لا نبدأ بالمتفق عليه ونترك المختلف فيه إلى إشعار آخر؟!
جزاكم الله خيراً، ووفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وتوفانا الله وإياكم على الإسلام، وجمعنا على كلمة التقوى والبر، ووحد قلوبنا على ما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على إمامنا وسيدنا وقدوتنا سيد الدعاة وقدوة الهداة محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر